الكلمة والكتاب
من القرن الرابع قبل الميلاد فصاعدًا، أكمل المفكرون البرهميون التقليديون تراثَ أعمالِ القواعد اللغوية والتأويلية لمجموعة نصوص الفيدا التي وضعها شخصيات مثل بانيني وباتانياجالي، وجايميني، وبادارايانا. ومع تطوُّر فروع مختلفة من الفكر الهندي، سعى كثير من هذه الفروع إلى الحفاظ على هيمنة الممارسات والنظرات العالمية شديدة التقليدية — سواء كان هدفها الأساسي هو طقوس وواقعية الكارما كاندا (القسم الفعلي) من الفيدا، أو كان هدفها هو المعرفة والجوهرية الكونية التي تقول بها كتابات الأوبانيشاد، التي مثَّلت كلًّا من نهاية الفيدا (فيدانتا) وجنيانا كاندا (القسم المعرفي منها). ورغم ذلك، لم يُقدَّم أسلوبٌ نحويٌّ جديدٌ ومختلفٌ على نحوٍ مميز إلا في القرن الخامس الميلادي، وأيضًا تأسَّست في وقت لاحق أهم فروع الدارشانات الفلسفية وهما ميمانسا وفيدانتا. ومع مرور الوقت، ضمَّت كلٌّ من دارشانا ميمانسا ودارشانا فيدانتا تحت مظلتهما بعض التطورات المميزة التي قدَّمها مختلف المفكرين المهمين في تراثيهما، بالإضافة إلى أفكار تلك الشخصيات الرئيسية المذكورة فيما يلي.
بهارتريهاري، النحو مرَّة أخرى
خلال القرن الخامس الميلادي، قدَّم النحوي بهارتريهاري وجهة نظرٍ تمثَّلت في أنَّ فهم العلاقة بين اللغة السنسكريتية الكلاسيكية وبين الواقع ليس فقط طريقةً للدفاع عن المبادئ الأساسية — يقصد في حالته هذه صحة الفيدا والعالم الذي تُمثِّله — لكنه أيضًا طريقة لاكتساب البصيرة المُحررة. ورأى بهارتريهاري في الجمع بين هذين العاملين أن النحو ودراسة اللغة هما أسمى الأنشطة الدينية الفلسفية كلها، وزعم أنه من خلال فهمِ طريقة ارتباط اللغة السنسكريتية بالعالم الظاهر، من خلال الألفاظ الفيدية، يمكن للمرء التوصل إلى معرفة المطلق الشامل (براهمان)؛ فاللغة نفسها، بالمعنى الواقعي للغاية، هي صوت الحقيقة.
تأريخ زمني
كان بهارتريهاري يعمل في وقت كان فيه الشاغل الأساسي للنحويين هو تحليل طبيعة مكونات الجملة بوصفها وسيلة تُكتسب من خلالها المعرفةُ. ووفقًا لبهارتريهاري، فإن الجملة الكاملة تتضمَّن وحدة معنًى؛ فنطق الجملة ينقل على الفور معرفة صحيحة على نحوٍ لا تستطيع فعله الكلمات والعبارات المستقلة؛ فتلك الكلمات والعبارات تنقل فحسب أجزاءً جزئية وغير كاملة من المعرفة، وتلك الأجزاء سهلة التحريف ومخادعة. علاوة على ذلك، فنظرًا لأن المعنى والكلمات موحَّدان في الطريقة التي نفهمهما بها من خلال الجمل؛ فلا يمكن أن تُوجد معرفةٌ إلا من خلال اللغة؛ فمعرفة أحد الأمور تعني معرفته بالطريقة التي تعبِّر بها اللغة عنه؛ ومن ثَمَّ يمكن رؤية أن الحقيقة نفسها قابلة للمعرفة من خلال فهْم طريقة التعبير عنها في الجمل، بل طريقة التعبير عنها في جملة واحدة. وقال بهارتريهاري إنه على الرغم من أن المرء يستطيع تقسيم اللغة إلى وحدات تتكوَّن من جُمَل ومن الأجزاء المكوِّنة لتلك الجمل، بغرض تحليلها نحويًّا، فإن اللغة في واقع الأمر، بصفتها صوت الكون، هي في حدِّ ذاتها مستمرة وغير قابلة للتقسيم. وفي هذا الصدد فإنه يستنتج ما يرى أنه نتيجة منطقية للنظرة الفيدية التي ترى أن الكون يستمر على نحوٍ فعَّال من خلال الأصوات المنطوقة في الطقوس المرتبطة بالقربان. ويقول إن التبصُّر في هذا «الصوت الواحدي» («شابدا براهمان») هو الهدف الذي يجب أن يسعى المرء لتحقيقه.
ذلك الواحد، المقسَّم بطرق مختلفة بسبب اختلافات البناء؛ إنه البراهمان، الواحد الأعلى، الذي يُعرف عندما يكتسب المرء فهْم النحو.
ونظرًا لأن تعاليم بهارتريهاري سعَت لفهم طريقةِ تَوافُق اللغة مع الواقع، فقد كانت محطَّ اهتمام جادٍّ من قِبَل علماء المنطق البوذيين، لا سيما دينَّاجا. واختلفت النظرة الكونية التي يتعامل بها كلٌّ منهما مع جدل اللغة والواقع؛ وكانت وجهة نظر بهارتريهاري تتضمَّن فكرة أن الكون يستمدُّ بقاءه من الطقوس الفيدية، بينما كان يعتقد البوذيون أن البناء اللفظي يُخلِّد عالم الجهل والاستمرارية المتكررة. وعلى الرغم من اختلاف رؤية التعامل، فإن موضوع الجدل نفسه ظلَّ واحدًا بالنسبة لكلا الجانبين، وما يمكن أن نطلق عليه توحيد بهارتريهاري للنشاط الصوتي للطقوس الفيدية مع الواحدية الظاهرية لكتابات الأوبانيشاد جعله شخصية مهمة في التقليد البرهمي، ذلك التقليد الذي مالَ إلى الفصل بين المدرستين الفكريتين وبين الممارسة نفسها. وعلى الرغم من أنه لا أحد من مفكري ميمانسا أو مفكري فيدانتا تبنَّى آراءه على نحوٍ كامل، فإن كلتا المدرستين تشتركان معه في عدة نقاط، وبعض مفكري ميمانسا المتأخرين على وجه الخصوص تأثَّروا بما قاله بهارتريهاري عن النتائج الوجودية للطريقة التي تعمل بها اللغة.
ميمانسا: فلسفة الطقوس
بالنسبة لمفكري ميمانسا أمثال كوماريلا وبرابهاكارا، وهما مؤوِّلان لنصوص الطقوس الفيدية أكثر من كونهما نحويَّيْن، كان الهدف الأساسي من عملهم هو الفهم الصحيح لطبيعة الطقوس، لا سيما أوامر القربان. وفي الواقع، كان من الضروري بالنسبة للأتباع المتعصبين أن يفهموا طبيعة الطقوس؛ حيث كان هذا جانبًا أساسيًّا في «سفا دارما» خاصتهم («واجبهم»)؛ لأن دراسة الفيدا هي جزء أساسي من النظام لضمان توريثه عبر الأجيال. وقَبِل مفكرو ميمانسا، كحقيقة مُسلَّم بها، فكرةَ التعددية الواقعية للعالم من حولنا الذي فيه يُؤدَّى القربان، واعتبروا القربان وسيلة للحفاظ على استمرارية ذلك العالم. وعلى نحو أكثر تحديدًا، كان القربان وسيلة للحفاظ على استمرارية الدارما؛ أي الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء؛ فهذا كان الهدف الأساسي لأوامر طقوس القربان. ونظرًا لأن الأوامر نفسها كانت موجودة في النصوص التي تمثِّل حقيقة أبدية، فقد اعتُبرت صحيحة لذاتها، واعتُبرت جزءًا جوهريًّا من الدارما بكل متعلقاتها، إن جاز التعبير.
وفي محاولةٍ لفهم طبيعة الطقوس على نحوٍ أكثر فلسفية، وجد مفكرو ميمانسا المتأخرون (الذين جاءوا بعد جايميني) أن أعمال النحويين التقليديين وثيقة الصلة على نحوٍ قاطع بالطريقة التي ترتبط بها اللغة بطبيعة العالم، ورأَوْا أن نطق إحدى الكلمات يدلُّ على وجود الشيء الذي تشير إليه، وساعدهم هذا الاعتقاد؛ لأنهم سعَوا إلى إظهار حقيقة وطبيعة العالم المتعدِّد، ذلك العالم الذي ضمَّ تعدديةَ «ذواتٍ» مستقلة وذاتية متمثلة في الأشخاص الذين يؤدون القربان. وأنكروا مزاعم الواحدية التي قدَّمها مؤوِّلو كتابات الأوبانيشاد القدماء، متعلِّلين بأن تلك المزاعم فشلت في مراعاة خصائص الأفراد وعاداتهم الغريبة فضلًا عن الجهل والشر والفضيلة لديهم، كما قالوا إن أوامر كتابات الأوبانيشاد التي تحضُّ على معرفة المرء لذاته لم يكن هدفها التحرر، بل كان تحسين أداء الطقوس الفيدية. وبالمثل، فقد أنكروا موقف فلسفة سانكيا القائل بالذوات الخاملة التي «تضيع» هويتها عند اتحادها ببراكريتي، وبدلًا من ذلك قال مفكرو ميمانسا إن طبيعة الذات تتمثَّل في أنها فاعلة واعية (ولذلك فإنها مؤديةُ طقوسٍ نشطة). وكما قال كوماريلا في تفسيره المعروف باسم «شلوكافارتيكا»: «إن الأمر الذي ينص على أن من واجب المرء فَهْم ذاته لا يهدف إلى تحرير المرء؛ فمعرفة المرء لذاته هدفها الواضح هو تحفيز أداء الطقوس.»
التعددية والواقعية: نظرة أخرى على الفئات
دافَع مفكرو ميمانسا أيضًا عن تعددية وواقعية العالم من خلال تأكيد طبيعة سماتهما، وفعلوا ذلك بطريقة مماثلة للتحليلات التي قام بها مفكرو فايشيشيكا والتصنيف الفئوي الذي أجرَوْه، كما وصفنا في الفصل الخامس. وقَبِل مفكرو ميمانسا الفئات الخمس التي تمثَّلت في: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والغياب. وأضافوا إلى الأنواع التسعة للمادة التي حدَّدها مفكرو فايشيشيكا (الأرض، الماء، النار، الهواء، الأثير، المكان، الزمان، الذات، العقل) كلًّا من الظلام والصوت. وخضعت العلاقة بين المادة والصفات والفئات الأخرى إلى تحليلٍ أسفر عما يُسمى مبدأ «الهوية في الاختلاف»؛ فعند اجتماع فئتين معًا، مثل اجتماع فئة اللون ممثَّلة في الأحمر وفئة المادة ممثَّلة في هيئة الزهرة، فإنهما تختلفان فقط في قدرِ إسهام كلٍّ منهما في الهوية المتمثلة في الزهرة، فلا يمكن أن توجد الفئتان على نحوٍ منفصل. وفي الواقع، لا شيء من الأمور القابلة للإدراك يمكن وصفه بأنه مختلف تمامًا أو متطابقٌ تمامًا، بل إن كل الأشياء إما أنها مختلفة من حيث علاقتها بعضها ببعض، أو أنها متطابقة بعضها مع بعض رغم انتمائها لفئات مختلفة. وكل الأشياء التي ندركها تتضمَّن مبدأ «الهوية في الاختلاف» المتعلق بالجوانب المتعددة للفئات المندمجة في هذا الشيء.
النظرية المعرفية (الإبستيمولوجية) لمفكري ميمانسا
بالنسبة لمفكري ميمانسا، مثَّل الإدراك وسيلةَ معرفةٍ صحيحة وموثوقة في حدِّ ذاتها للعالم المحيط بنا و«لذواتنا» كأفرادٍ عارفين. وفِعْل المعرفة «يكشف» الوجود الخارجي «الواقعي على نحوٍ متسامٍ» لكلٍّ من المعروف والعارف؛ وهذا يعني أنه لا أحد منهما يعتمد بأية طريقة على عملِ العملية الإدراكية. وبدلًا من ذلك، فإن المعرفة تحقِّق حالةً «معلوميةً» للشيء المعلوم، وتؤكد وجود العارف المستقل؛ ولذلك فإنَّ عملية المعرفة تكشف «الحقيقة»، وفي هذه الحالة تؤكد رؤية العالم الخاصة بالفيدا الأبدية.
وتبنَّى مفكرو ميمانسا أيضًا نظريةً أخرى تقضي بأن كل المواد يمكن اختزالها إلى جزيئات ذرية. لكنْ على النقيض من الذرات المجهرية التي قال بها مفكرو فايشيشيكا، تلك الذرات التي كان من غير الممكن إدراكها على حدة ويُعرف وجودها فقط من خلال الاستنباط، فقد أولى مفكرو ميمانسا أولوية كبرى للاعتماد على الإدراك، واعتقدوا أن الذرات ليست أصغر مما يمكن رؤيته بالعين المجردة، مثل ذرة الغبار في شعاع الشمس. وعلى هذا النحو، فقد تمسَّكوا بنظرةٍ للواقع تعتمد بقوة على الحسِّ العام، وهذه السمة يؤكدها قبولهم للإدراك في حدِّ ذاته كوسيلة مشروعة وموثوقة في حدِّ ذاتها لاكتساب المعرفة المتعلقة بالعالم، ذلك العالم الخارجي والمستقل عن ذلك الإدراك، فالمعروف موجود، والمدرَكات يجب أن تُفهم باعتبارها أفعالًا تنتج صفة المعلومية في أشيائها، وبذلك تكشف أفعالُ المعرفة حقيقةَ العالم التعددي فقط بموجب حدوثها.
الفيدا حقيقية
لم تكن هذه النظرية المعرفية تتطلَّب ضرورة إثبات صحة الإدراك — على غرار المنهج المتَّبَع من قِبَل الآخرين، الذين كان أبرزَهم البوذيون — بل كانت تقضي بضرورة إثبات زيف ذلك الإدراك عند خضوعه للتشكيك من قِبَل أحد الخصوم. وهذه النظرية وضعت مفكري ميمانسا في موقفٍ قويٍّ فيما يتعلَّق بصحة كتابات الفيدا وتعاليم الطقوس التي سعَوْا للدفاع عنها. وبالمثل فقد ثبتت صحة موقف المؤدِّين للقربان؛ حيث قيل إن فعل المعرفة يوضِّح وجودَ الذَّات الأبدية بصفتها عارفةً بالعالم التجريبي، وهذا يعني أنه ليس فقط إدراك أداة القربان هو ما يكشف الوجود المستقلَّ لهذه الأداة، بل إن ذلك الإدراك أيضًا يكشف وجود الشخص المدرِك؛ حيث إن الإدراك المتمثِّل في جملة «أنا أعرف س» هو الوسيلة التي من خلالها يُعرف أن كلًّا مِنْ س والذات لديهما وجودٌ مستقلٌّ.
وكانت هاتان النقطتان الأخريان المرتبطتان إحداهما بالأخرى — إثبات الذات وإثبات العالم من خلال الإدراك — تحتلَّان أهمية كبرى لدى مفكري ميمانسا؛ نظرًا لاعتقادهم أن الفيدا كانت حقيقة أبديَّة مجسَّدة في اللغة. وتمسَّكوا بالرؤية التقليدية القائلة إن الفيدا ليس لها مؤلِّف، وبدلًا من الاعتقاد بوجود مؤلف، اعتقدوا أن الفيدا حقيقةٌ ذاتيةُ الوجودِ، وأن معرفتها هي عمليةُ كشفٍ لصحتها؛ لأن الإدراك في حدِّ ذاته موثوق على الإطلاق. وعلى غرار طبيعة الفيدا بصفتها مجموعةً من التعاليم متعلقة بالأفعال الواجب تنفيذها، فإن المعرفة في حدِّ ذاتها نشاطٌ كاشف — والذات، بصفتها عارفة، ترتبط بالعالم الخارجي، بصفته معروفًا، من خلال مثل هذه الأفعال الإدراكية. وبالإضافة إلى إثبات صحة الفيدا، فقد سعى هذا الموقف إلى تمييز عارف الفيدا بصفته وسيلةَ الحِفاظِ على ديمومة الواقع؛ ذلك الزعم الذي طالما كان ذا أهمية حاسمة بالنسبة لهذا التقليد الأصيل.
عدم الثنائية في فكر شانكارا
أما المفكرون الأصوليون الآخرون، الذين اتبعوا منهج بادارايانا واستعانوا بتلخيصه لكتابات الأوبانيشاد في «براهما سوترا»؛ فقد رأَوْا تعاليم الفيدا في سياقِ ضرورةِ اكتسابِ المعرفة المتعلقة بجوهر الكون، براهمان، بدلًا من أداء طقوس القرابين. ويوجد دليلٌ على سلالة طويلة من هؤلاء المفكرين الذين يُطلق عليهم المفكرون «الفيدانتيون» (كتابات الأوبانيشاد هي فيدانتا، أو «نهاية الفيدا»). إلا أن أكثرهم تأثيرًا كان شانكارا، الذي عاش في القرن الثامن الميلادي، وجمع فكر فيدانتا على نحوٍ منظَّم بقدرٍ يكفي للاشتراك في الجدل الهجومي الجاد ضد الآخرين. وكان أبرز أعمال شانكارا تعليقه على «براهما سوترا» لصاحبها بادارايانا، مفسرًا ما رأى أنه تأويل قاطع لرسالة الأوبانيشاد. أما أهم أعماله التي لا تنتمي لفئة التعليقات فهو «أوباديشا ساهاسري»؛ أي «التعاليم الألف». واستخدم شانكارا «براهما سوترا» وكتابات الأوبانيشاد نفسَها و«بهاجافاد جيتا» كثلاثة نصوص رئيسية، وسعى هذا العمل التأويلي إلى تقديم تعاليم هذه المصادر الثلاثة في هيئة موحدة، يُطلق عليها «الأساس الثلاثي» للحقيقة المكشوفة.
في البداية، كان هذا الكون مجردَ وجودٍ [أي براهمان] — واحد فقط، دون ثانٍ — وقال لنفسه: «لأُصبحْ متعددًا؛ لأضاعِفْ نفسي.»
من خلال قطعة صلصال واحدة فحسب، يمكن معرفة كل شيء مصنوع من الصلصال؛ فأية تعديلات هي مجرد فروق لفظية، أسماء؛ فالحقيقة هي فقط الصلصال.
هاتان الفقرتان تثبتان نقطتين أساسيتين بالنسبة لشانكارا؛ أولاهما: وجود كونٍ غير مثنوي، كون واحدي، جوهره البراهمان، وثانيتهما: حقيقة أن كلَّ أشكالِ التغيير ظاهريةٌ فقط؛ فالبراهمان لا يتغيَّر في واقع الأمر. وهذا النوع من الواحدية هو شكل من أشكال «النتيجة الموجودة مسبقًا في المسبِّب» («ساتكاريافادا») يختلف عما رأيناه في سياق سانكيا في الفصل السابع. وفي هذا الصدد، لا تتضمن النتيجة أية تحولات فِعْليَّه في المسبِّب المادي، لكنه مجردُ تجلٍّ ظاهرٍ للتعددية. ويُطلق على هذا «فيفارتا فادا»: «التجلي» عن طريق المظهر.
ورغم ذلك، بذلَ شانكارا قصارى جهده لإثبات أن مظهر التعددية لديه حقيقةٌ اصطلاحية حتى وإن لم تكن حقيقيةً على نحوٍ مطلق. وقدَّم «نوعين من الحقيقة» — حقيقة اصطلاحية وحقيقة مطلقة — وأثناء فعل ذلك جعل نفسه عرضة لاتهام الآخرين له بأنه «بوذيٌّ مستتر». وأنكر شانكارا هذه الاتهامات إنكارًا قاطعًا، واستنكر مبدأ الخواء ومبدأ عدم الجوهرية اللذين تقول بهما البوذية، وأعلن أن الحقيقة الأساسية للبراهمان، جوهر «تشاندوجيا أوبانيشاد»، هي المادة المكونة للكون. وقال شانكارا إن معرفة البراهمان الموجود هي الهدف التجريبي المطلق للإنسان وليس (فقط) معرفة عدم واقعية العالم التجريبي المؤسس بناءً على الإدراك.
عدم ثنائية شانكارا
إن تأويلات «أدفايتا» المتعلقة بمدرسة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا تمثِّل تفسيرًا لكتابات الأوبانيشاد، ذلك التفسير الذي يقدم وجودية «غير ثنائية» أو وجودية واحدية؛ فكل شيء براهمان، ومن هذا المنطلق فإن ذات المرء، أتمان، هي أيضًا براهمان. ومن هنا جاء التعبير الشهير: «أتمان هي براهمان.» وبالنسبة لشانكارا، فإن براهمان هو جوهرٌ مطلق غير متغير. وكل أشكال التعددية هي ظاهرية فحسب، وليست فِعلية. ورغم ذلك، فهذا لا يعني أنه من الصحيح قول إن تعددية العالم التجريبي هي تعدديةٌ غير واقعية أو غير موجودة على الإطلاق، بل هي واقعية «تقليدية» فحسب. ومن التشبيهات شائعة الاقتباس ذلك التشبيه المتعلق برؤية ثعبان في حين أنه حبلٌ ملفوف في واقع الأمر. إن الرؤية المزيفة «حقيقية» بالنسبة لنا عند حدوثها، ولها آثار «حقيقية» علينا، إلا أن الحبل الملفوف ظلَّ كما هو لم يتغير، ويمكن إدراكه على النحو «الأكثر واقعية» عند إدراك طبيعة الإدراك الزائف. ويوجد تشبيه آخر مرتبط على نحوٍ أكثر تحديدًا بالذات باعتبارها جزءًا من البراهمان غير المتغير، وهذا التشبيه على النحو التالي:
… إن فكرة أن الذات تتعرَّض للميلاد المتكرر والتغيير تُشَابه التجربة «الزائفة» التي يشهدها المرء عند الانتقال عبر النهر في قارب ويعتقد أن الأشجار الموجودة على الضفة تتحرك. ومثلما تبدو الأشجار متحركة على الجانب المقابل للشخص الموجود في القارب، يبدو أن الذات أيضًا تُولَد مرات متكررة.
وانتقد شانكارا بشدة ثنائية سانكيا، واصفًا إياها بالزائفة، واستطرد قائلًا إن الواقعية التعددية التي قال بها مفكرو نيايا وميمانسا نشأَت عن اعتقادهم على نحوٍ خاطئ أن التعددية التقليدية هي الحقيقة المطلقة. علاوة على ذلك، فإن كل هذه المواقف الخاطئة تتعارض مع التفسير الصحيح للأوبانيشاد (أي تفسير شانكارا)؛ وأيًّا كانت الحجج التي قد يسوقها الآخرون دعمًا لموقفهم، سواء كانت منطقية أو غير منطقية، فكلها تصبح غير صحيحة في مواجهة تفسير شانكارا لكتابات الأوبانيشاد.
دعمًا لعدم ثنائية شانكارا
الذات (أتمان)، هي حقًّا هذا العالم كله.
براهمان حقًّا هو هذا العالم كله، هذا المدى الأوسع.
يجب ألا يشكِّك المرء اعتمادًا على قوة المنطق فحسب في أحد الأمور اللازم تأكيدها من كتابات الفيدا.
ويرى شانكارا أن تجربة الحقيقة التقليدية تنشأ بسبب الجهل بالطبيعة الحقيقية للحقيقة المطلقة؛ فليس براهمان غير المتغير هو مصدر وسبب التعددية التجريبية بل الجهل. والتغلب على الجهل واكتساب معرفة هوية الذات الجوهرية للمرء (أتمان) والجوهر الشامل (براهمان) يؤديان إلى التحرر من دائرة الميلاد المتكرر الناشئة عن الجهل. وعن سؤال: «من أين يأتي الجهل إذا كان كل شيء براهمان؟» يقول شانكارا إنه من ناحية المعرفة لا يوجد شيء اسمه جهل كي نسأل عن مصدره؛ فالمعرفة في حدِّ ذاتها «تلغي» كل الأفكار المتعلقة بالجهل، ومن ناحية الجهل، فلا يمكن الإجابة عن السؤال؛ لأن فكرة بداية الجهل تصبح مطروحة وذات معنًى فقط من خلال الجهل نفسه.
ويحظى العالم التقليدي بأهمية بالغة لدى شانكارا لسببين؛ أولًا: في هذا المستوى تكشف الفيدا الحقيقة الأبدية، وثانيًا: في هذا المستوى يمكن للمرء أن يسعى لاكتساب البصيرة المحررة. وعلى نحوٍ مشابه، وإن كان أكثر توضيحًا من الناحية العملية، لتشبيهات الحبل والثعبان وضفة النهر التي قدَّمها شانكارا (انظر المربع التالي)، فإن مفكري أدفايتا فيدانتا المعاصرين يفسِّرون ذلك العالم التقليدي على النحو التالي: افترض أنك تحلم بأنك مطارَدٌ من قِبَل نمرٍ آكلٍ للبشر، وأنك في خوف شديد وتجري لتنجو بحياتك. وأثناء شعورك بما يبدو خوفًا حقيقيًّا للغاية سوف يخضع جسمك لكل أنواع التغيرات الفسيولوجية بما فيها زيادة نبضات القلب والتعرق، وبعد ذلك، في أثناء حلمك سيأتي أحد أصدقائك غير المطارَدين ويطلق النار على النمر ويقتله، وسوف يوقظك صوت الطلقة في الحلم، وعند هذه النقطة سوف تدرك أن مستوى الواقعية في الحلم ليس على مستوى واقعية حالة اليقظة. ورغم ذلك، فإن التجربة على صعيد المطاردة وعلى صعيد التحرُّر من المطاردة نابعة في الحالتين من مستوًى «أقل واقعية».
مايا — الوهم — ومُسْتَويَا الحقيقة لدى شانكارا
يُستخدم مصطلح «مايا» في بعض الأحيان في سياق أدفايتا فيدانتا على نحوٍ يشير إلى أن الحقيقة الاصطلاحية «غير حقيقية» أو «وهمية». وعلى الرغم من أن بعض مفكري أدفايتا استخدموا هذا المصطلح، فإن شانكارا لم يستخدمه، وبدلًا من استخدام هذا المصطلح، افترض شانكارا وجود «مستويَيْن من الحقيقة»؛ أحدهما مطلق والآخر اصطلاحي. والحقيقة الاصطلاحية هي نتيجة الجهل، «أفيديا». وهذا يعني أن العالم الذي نعيش فيه ونحن جهلاء هو عالم «حقيقي» عند هذا المستوى، لكن عندما تحلُّ المعرفة محلَّ الجهل، فإننا نرى أن الحقيقة تختلف عن العالم الاصطلاحي.
وبلغة كتابات الأوبانيشاد — إذ ينبغي أن نتذكر دائمًا أن شانكارا كان مؤوِّلًا في المقام الأول — فإن الحقيقة الاصطلاحية هي «براهمان ذو صفات» («ساجونا براهمان») والحقيقة المطلقة هي «براهمان بلا صفات» («نيرجونا براهمان»). ويوجد هذان التعبيران في كتابات «شفيتاشفاتارا أوبانيشاد». ووفقًا لهذه الأوبانيشاد فإنه بالإضافة إلى «البراهمان ذي الصفات»، وكذلك العالم الاصطلاحي، فإنه يوجد إله شخصي. وكثيرًا ما تُغفَل حقيقة أن شانكارا كان مؤمنًا بالواحدية؛ فقد كان يعبد إلهًا شخصيًّا وفي الوقت نفسه يعتقد بوحدة الوجود في نهاية المطاف. إن افتراض وجود إله شخصي لا يمثِّل مشكلة كبيرة بالنسبة لشخص يؤمن بالواحدية أكثر مما تمثِّله له التعددية الموجودة حولنا؛ ففي نهاية المطاف، الإله الشخصي والناس والأشياء كلها براهمان.
إن فلسفة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا هي على الأرجح أشهر «الفلسفات» الهندية؛ فلقد كانت أولى الفلسفات التي صُدِّرَت وقُدِّمت إلى الغرب؛ حيث قدَّمها الممارس الفيدانتي فيفيكاناندا في المجلس العالمي للأديان في شيكاجو في عام ١٨٩٣ تحت مسمى «الهندوسية»، وأصبحت فيما بعدُ رائجةً في مراكز مختلفة، مثل «بعثات راماكريشنا» في العديد من البلدان الغربية. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت شهرة كبيرة في أنحاء العالم، لدرجة أنه ليس الغرباءُ وحدَهم هم الذين لا يدركون في الغالب أنها مجردُ واحدةٍ من بين العديد من مدارس الفكر الهندي، بل في بعضِ الأحيان تروج داخل شبه القارة الهندية نفسها على أنها «التراث الديني الفلسفي التقليدي للهند».
رامانوجا: المؤمن والفيلسوف
في واقع الأمر، يُعد فكر رامانوجا، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، أكبرَ تجسيد للمعتقدات المعاصرة لكثيرٍ من الهندوس. وكان رامانوجا عضوًا متحمسًا في إحدى الطوائف شديدة التعبُّد تُعرف باسم طائفة شري فايشنافا، وكان معبودهم هو الإله الشخصي الممثَّل في النصِّ المقدَّس الخاص بالطائفة، ذلك النص الذي يُسمى «بهاجافاتا بورانا». إلا أن رامانوجا أراد أيضًا تأسيس مكانة أرثوذكسية لطائفته، بموجبها تكتسب الهيمنة على الطوائف الأخرى و«يوثِّق» بها معتقداته وممارساته الدينية، وسعى لفعل ذلك من خلال مطابقة العقيدة الدينية للنص المقدس «بهاجافاتا بورانا» مع النظرة الوجودية والتعاليم الفلسفية «للأساس الثلاثي» للنصوص المرجعية التي استخدمها شانكارا وهي: «براهما سوترا» لصاحبها بادارايانا، وكتابات الأوبانيشاد، وكتابات «بهاجافاد جيتا».
كان رامانوجا في هذا الصدد ليس مؤوِّلًا فحسب، بل كان أيضًا مدافعًا عن موقفٍ ديني محدد؛ ولذلك كانت تعاليمه في حاجة إلى التوفيق بين هذين الجانبين لهذا المنهج المُتَّبع. ويُعرف نظامه الفكري، الذي يُعتبر فرعًا من فروع دارشانا فيدانتا في مجملها بسبب الموقف المحوري الذي خصَّه لكتابات الأوبانيشاد، باسم فيشيشتادفايتا فيدانتا؛ أي فيدانتا غير ثنائية (أدفايتا) لكنها محدودة («فيشيشتا»). وعلى النقيض من الواحدية المطلقة التي قال بها شانكارا، فإن وحدة براهمان لدى رامانوجا هي وحدة محدودة؛ حيث توجد ضمن هذه الوحدة علاقة بين براهمان بصفته إلهًا (الواحدية ذات طبيعة إيمانية قوية في أدبيات فيشيشتادفايتا فيدانتا) وبين الذات الفردية بصفتها متعبدًا. واعتمادًا على مثال الزهرة واللون الأحمر المستخدَم من قِبَل الأسلاف، قال رامانوجا إن من طبيعة البراهمان أن يوجد «محدودًا» على النحو التالي: إن مَثَلَ الزهرة لحمرتها كمَثَلِ البراهمان للذوات الفردية، وكما أن الزهرة لا يمكن أن تُوجد دون حمرتها (أو دون أي لون آخر)، فإن البراهمان لا يمكن أن يُوجد دون الذوات. إن كلًّا منهما متأصل في الآخر تمامًا مثل طبيعة البراهمان. علاوة على ذلك، فهذان الجانبان، على الرغم من أنهما لَيْسَا الأمرَ نفسه على وجه التحديد، لا يختلفان أحدهما عن الآخر، ولم يفصل رامانوجا بينهما فصلًا فئويًّا كما فعل مفكرو فايشيشيكا وميمانسا. وبدلًا من ذلك، قال رامانوجا إنهما متلازمان على نحوٍ متأصل وأبدي، على الرغم من أنهما مختلفان أيضًا. وهذا هو معنى فيشيشتادفايتا؛ أي «عدم الثنائية المحدودة».
ساتكاريافادا، «النتيجة موجودة مسبقًا في المسبِّب»
«ساتكاريافادا» هي نظرية تقول إنه لا شيء يأتي من العدم؛ أي إن «الخلقَ من العدم» مستحيل. علاوة على ذلك، أيُّ شيء موجود لا بد أن يكون موجودًا مسبقًا في مسبِّبه المادي؛ لأنَّ المسبِّبات المادية لا تستطيع أن تخلق أيَّ شيءٍ خلافًا لما كان موجودًا في المقام الأول. ويمكن تفسير هذه النظرية بطرق مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، تقول سانكيا إن براكريتي الظاهر موجود مسبقًا في براكريتي غير الظاهر، لكنها تقول أيضًا إن تعددية البوروشات موجودة أيضًا على نحوٍ منفصل عنه. هذه هي ساتكاريافادا مرتبطة بالثنائية الوجودية. أما بالنسبة لشانكارا، المؤمن بالواحدية المطلقة، فلا شيء ليس براهمان غير متغير، وكل أشكال التجلي والتعددية ما هي إلا مظهرٌ من مظاهر المادة وليس تغيُّرًا في المادة. ويُعرف هذا الرأي بنظرية «فيفارتا فادا»؛ أي نظرية التجلي عن طريق «المظهر». وعلى النقيض من النظريتين السابقتين، فإن نظرية ساتكاريافادا لصاحبها رامانوجا على الرغم من أنها تُقرُّ بالواحدية مثل نظرية شانكارا، فإنها تقول إن براهمان يحوِّل نفسه في واقع الأمر إلى العالم المتعدِّد. ويُعرف هذا الرأي باسم «باريناما فادا»؛ أي نظرية التجلي عن طريق «التحوُّل».
ومرة أخرى، على النقيض من شانكارا، يرى رامانوجا أن براهمان ليس لديه جانب خالٍ من الصفات، بل إنه كله صفات. والسبب في هذا الموقف يعود جزئيًّا بلا شك إلى أن ضروريات الطائفة تستلزم التأكيد على صفات مثل الشفقة واللطف وغيرهما، كجوانب في البراهمان. وذِكْرُ مثل هذه الصفات واردٌ في بعض كتابات الأوبانيشاد، وقد ضمَّها شانكارا في مستوى الإيمان «التقليدي» في إطار واحديةٍ مطلقة للغاية. إلا أن رامانوجا رأى أنها صفاتٌ حقيقية ونشطة من النوع المكوَّن منه الكون؛ فالعالم التجريبي هو تحوُّل حقيقي للبراهمان، والصفات والظواهر المتعددة الظاهرة وغيرها كلها من المادة نفسها من الناحية الوجودية. وانتقد رامانوجا بشدة نظرية فيفارتا فادا لصاحبها شانكارا (نظرية التجلي عن طريق المظهر)، وقال إن براهمان في واقع الأمر هو المسبِّب المادي للعالم التجريبي، وإنه الموصوف في إحدى الفقرات في كتابات «تشاندوجيا أوبانيشاد» على هذا النحو: «لقد فكَّر في نفسه وقال: لأجعَلْ نفسي متعددًا»، وهو التجلي عن طريق التحول المعروف باسم «باريناما فادا». إن براهمان يتغيَّر في واقع الأمر، وهو نَشِطٌ، ولديه علاقة بالأفراد.
إن أولئك الذين يتبنَّون معتقدًا يقوم على أساس عدم التفريق (يشير رامانوجا هنا إلى شانكارا) لا يمكنهم تقديم أيِّ دليل صحيح حول ذلك الاعتقاد؛ لأن كل الأشياء الممكنة معرفتها بوسائل صحيحة يختلف بعضها عن بعض … ولذلك فالواقع مختلفٌ ولديه صفات … (وبالمثل) فإن وجهة النظر القائلة إن كل أشكال الاختلاف غير واقعية هي وجهة نظر خاطئة تمامًا … والتعبيرات على شاكلة «تات تفام أسي» (أنت كل ذلك) الواردة في النصوص ليس الهدف منها أن تعني وحدة مادة غير متمايزة، بل الأمر نقيض ذلك؛ فكلمة «أنت» وكلمة «ذلك» توضحان أن براهمان يتَّسم بالاختلاف.
إنَّ براهمان الأعلى — ذلك النبع الزاخر بصفاتٍ واضحة على نحو فائق لا تُعد ولا تحصى، ذلك الذي لا تشوبه نقيصة، ويمتلك عالمًا هائلًا لا حدود له يظهر فيه مجده، ذلك الفيض من التعطف فائق الكرم، والجمال والحب المتسامح — هو الكيان الأساسي، والذات هي الكيان التابع.
منطق المؤوِّلين
كل مؤوِّلي النصوص الفيدية، سواء أكانوا مهتمِّين في المقام الأول بطبيعة وأفضلية الطقوس أو كانوا مهتمِّين بتعاليم كتابات الأوبانيشاد، واجهوا مشكلة عدم الاتساق في هذه المجموعة الهائلة من النصوص التي كانوا يعملون على تأويلها. وعلى الرغم من أن المؤوِّلين اعتقدوا أن تلك النصوص سجلات لحقيقة أبدية، فإن مخطوطات الطقوس وأطروحات الأوبانيشاد قد تكوَّنت على مدار فترة كبيرة من الزمن، من الممكن أن تزيد عن الألف سنة؛ ولذلك سيبدو من الغريب ألا تحتوي تلك النصوص على اختلافات كبيرة، بل إن مجرد دراسة خاطفة لهذه النصوص ستؤكد أن الحالة تبدو كذلك بالتأكيد. وهذه الحقيقة سمحت بقبول مناهج تأويل مختلفة، ومنحت تفسيرات مختلفة القدرة على إقناع الآخرين في مناطق مختلفة. كما أن نَسْب مكانة اليقين المعرفي (من خلال الشهادة) لتلك النصوص على يدِ كلِّ أمثال هؤلاء المؤوِّلين أدى إلى إظهار جانب مهم يتمثَّل في أن معظم أفكار الفكر الفلسفي الهندي لا يمكن أن ينفصل عما يمكن تسميته في الغرب الرؤية الدينية للعالم. وفي أغلب الأوقات قدَّم الآخرون انتقاداتهم من ناحية منطقية، لكن تلك الانتقادات كانت في الغالب تقوم على منطق خاص بنظامِ فكرٍ معين، وكانت الحجج متوجهة للدفاع عن وجهة نظرٍ تجاه العالم (تُعرف باسم دارشانا) ذات أهداف خلاصية في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن الحجج المنطقية المختلفة من الممكن استنباطها وحذفها من سياق التقليد ككلٍّ من أجل المصلحة الفكرية ولأهداف المقارنة بأنماط المنطق الغربي؛ فإن السياق الهندي الكلاسيكي كان واحدًا من السياقات التي لم يكن بها مثل هذا النوع من الفصل الرسمي.