شيخوخة بدون جنون
في صباحٍ كهذا مات عم محمد.
والذي ضايقني أنَّ كل الناس كانوا يأخذون خبر موتِه على أنه مسألة مفروغ منها، مسألة لا تحتمل بكاءً ولا تأثُّرًا، أو حتى مصمصة شفاه.
يومها بدأتُ العملَ بالتصديق على شهادات الميلاد، وكلَّ يوم كنتُ أبدأ عملي بالتوقيع على هذه الشهادات حتى يُصبِح المولود من هؤلاء مواطنًا رسميًّا معترَفًا به من الدولة، والواقِع أن عملي كمفتش صحة طالَمَا ذكَّرني بسيدنا رضوان، فإذا كان عمله هو حراسة الآخِرة، فلا أحد يدخل فيها إلَّا بإذْنه ولا أحد يُغادِرها إلَّا بتصريح منه، فأنا الآخَر أحرُسُ الدنيا، لا يدخل فيها أحدٌ ولا يُقَيَّد واردٌ ومولود إلَّا بإمضائي، ولا يُعتَبَر الواحد قد خرج من الدنيا ومات إلَّا إذا وافقتُ أنا على هذا.
كنتُ أبدأ باعتماد الشهادات، ثم يقِفُ سِربٌ طويل من الأمهات أمامي لأكشف على أذرع أطفالهن وأرى إنْ كان التطعيم قد نجح أم لا، نفس الأطفال الذين كانوا من فترة لا تتجاوَزُ سِنُّهم الأربعين يومًا مجرد شهادات ميلاد، الآنَ أصبح لهم عُمر، وبدأتْ لهم مشاكل.
والحق أني كنتُ، رغم مضايقات العمل الكثيرة، أحسُّ بنشوة وأنا أُزَاوِل عملية «المناظرة» تلك، الأطفال كلهم صغار وفي عمر واحد كأنهم باقة من أزهار الفُل الصغيرة السن أشمُّها كل صباح، كلُّهم صغار، وكلُّهم حلوين، وصراخهم مهما علا فهو رقيق لا يؤذِي السمع، وأيديهم بضَّة صغيرة، وأظافرهم دقيقة تحبُّ أن تُقبِّلها، ورفساتهم فيها كل نزق الحياة وروعتها، والأمهات، أمهاتهم، كلُّهنَّ أيضًا حديثات الزواج وصغيرات، وكلُّهنَّ فرِحات بأطفالهنَّ، مبالِغات في الحرص عليهم، ولفِّهم في سبع لفائف، قادمات — لا بد — من الصباح الباكِر إلى مكتب الصحة وقد تجمَّعْنَ وارتدَيْنَ أحسنَ ما لديهِنَّ، وخططنَ حواجبَهُنَّ وتكحَّلْنَ، ووجوههن صابحة تلمع بالنظافة، وكلامُهنَّ صافٍ لا ضغائن ولا نقار ولا خناق، ولكنَّه أُنْثَوي عذبٌ، فيه كل دَلَع المصريات المؤدَّب الذي لا يزيد عن الحدِّ، وفيه كل خجلهن.
يقف الطابور أمامي، وعلى ذراع كلِّ أمٍّ صغيرةٍ طفلٌ صغيرٌ، ولا يستقيم الطابور أبدًا، فكل واحدة تنخلع منه لتختلس النظر إلى ملابس الأخرى، أو لتقارِن بين ابنِها — اسم الله عليه — وحجمه وسِمْنته، وابن التي أمامَها أو خلفَها، مقارنةً لا تحمل سوى حب الاستطلاع، ووالله، ليس فيها حسد، ومع هذا فكل واحدة تحاوِل إخفاءَ ابنِها عن الأخرى مخافة العين، فتزيد من عدد اللفائف، وتحيط عنقَه الأبيض بالأحجبة وأسنان الذئاب، ولا بدَّ أنها حين تعود إلى البيت ترقيه وتبخِّره، وحين تصل الواحدة أمامي ترتَبِك وهي تحاول أن تستخرج اليد الدقيقة من الكُمِّ الدقيق، وكم هو جميل ذلك الكم! ويبدو أنَّ كل شيءٍ صغيرٍ جميلٌ، ترتَبِك وهي تستخرج الذراع، ذراع طولها طول الإصبع، ولكنها مُشاكِسة، وقبضتُها مضمومة في إصرار، وكأنَّما تتوعَّد الدنيا وتتحدَّاها، ويرتفع الصُّراخ، صُراخ هذه المرة غاضبٌ أحمق، وحمقُه حبيب، وكم كان يؤلمني الجرح الحديث من التطعيم! الجرح البشع السخيف الذي يشوِّه البشرة الناعمة البضَّة.
وينتهي الطابور، وتنتهي المناظرة، ويخفُّ ازدحام المكتب، وتختفي أصوات النساء بكلِّ ألوانها ولهجاتها ونبراتها لتبدأ ضجَّة أخرى تعلو وتعلو، ضجَّة ليس فيها أنوثة النساء ولا رجولة الرجال، ضجَّة الفتيان الصغار والفتيات، الذين كانوا من سنين قليلة مجرد أطفال على أذرُع أمهاتهم في طابور المناظَرة، ولكنهم قادمون على أرجلهم هذه المرة وبأنفسهم؛ إذ هم التلامذة الذين يريدون شهادات من المكتب لتقْبَلَهم المدارس، والعمال الصغار والعاملات الذين جاءوا لإقرار أنَّ سِنَّهم تزيد عن الاثني عشر عامًا لينطبق عليهم قانون تشغيل الأحداث، وبهذا يمكنهم أن يبدءوا معركة أكل العيش بعرق الجبين، وطابور هؤلاء لا ضجَّة فيه ولا صخب، فهم يقفون صامتين، مستغربين، عيونُهم تحدِّق في الناس والأشياء بدهشة وذهول، وفي صدورهم خشوع الداخل إلى عالم ثانٍ مجهول.
وقبل أن ينتهي طابورهم تكون ثمَّةَ ضجَّة أخرى قد بدأتْ تتجمَّع في الخارج، ضجَّة فيها زعيق وعصبية، وأيمانات مغلَّظة، وكلمات مكتومة تتناثر عن الظلم والعدل والإنسانية والحكومة والوقت الضائع، ضجَّة الرجال، ضجَّة لا تهدأ حتى بعد أن يوقفهم التومرجي طابورًا، وتنكمش قبضته الواسعة على النفحات الضئيلة التي يجود بها البعض، ويهزُّ رأسَه مئات المرات وهو يؤكِّد لهم أن كله بالدور، وأنهم حتمًا سيأخذون الإجازات التي يريدونها وسينجحون بإذن الله في الكشف الطبي، وأن الدكتور خالد طيب وابن حلال، ومزاجه اليوم عال العال، وعلى العين والرأس أعمارهم ستُقَدَّر وحاجاتهم ستنقضي، بس شوية صبر، والصبر يا إخواننا من الإيمان.
ويدخل طابور الرجال، طابور عمره ما وقف طابورًا، طابور لا تلمح فيه سوى وجوه رجال قَلِقة تملؤها عجلة السباق المجنون للاستحواذ على الرغيف وانتزاعه من أفواه الآخَرين، وجوه خربشتْها الحياة وخشَّنتْها وجرحتها، والجراح لا تزال يقطر منها الدم.
وحين تبلغ الساعة العاشرة أنتهي من عالَم الأطفال والفتيان والكبار لأدخل في عالَم آخَر، عالَم الموتى، وللأموات هم الآخَرين عالَمُهم ومشاكِلُهم، والميت لا ينتهي أمرُه أبدًا بموته، فقد يُثِير بوفاته أضعاف أضعاف المشاكل التي أثارها بحياته، فإذا كان عقاب أهل المولود إذا هرَّبوه إلى الدنيا بلا تصريح أو شهادة ميلاد هو الغرامة جنيه، فعقاب أهل المتوفَّى إذا هرَّبوه من الدنيا ودفنوه بلا تصريح هو الحبس والسجن، وإذا كانت الحكومة لا يُهِمُّها كيف يعيش الإنسان طالَمَا هو حي، فهي تُولِيه العناية القصوى إذا مات، والقانون لا يسأل أبدًا كيف عاش، ولكنه يصرخ بأعلى صوته: كيف مات؟
وإذا كان المعروف أن بعض الظن إثم، فالمشرِّع يرى أن كلَّ الظن فضيلة عظمى؛ فأي إنسان يموت لا بد أنه مات مقتولًا ما لم يثبت عكس ذلك، وأنا الذي كان يقع على عاتقي إثبات ذلك العكس، فعليَّ أن أكشف على كل متوفًّى وأُعايِنه وأفحصه وأشمشم وأرتاب، حتى إذا ما اطمأنَّ قلبي خمَّنتُ السبب التقريبي لوفاته، وقيَّدتُ ذلك في الشهادة، وفي لحظتها فقط يصبح من حق الميت أن يُدفَن ويتوكَّل على الله إلى العالَم الآخَر.
في الساعة العاشرة كنتُ أبدأ عملي مع الموت، وأول مَن كنتُ أراهم في هذا العالَم هم صبيان الحانوتية حين يدخلون ويتجمهرون أمام المكتب، وكان عم محمد أحد هؤلاء الصبيان، وأول الأمر لم أكن أستطيع تمييزه من بينهم؛ فقد كانوا جميعًا متشابهين، وإذا كان الصبيان في العادة لا يمكن أن تتعدَّى أعمارهم مرحلة الصِّبا، فأولئك كانوا أغرب صبيان؛ إذ إنَّ أصغرهم لا بد قد تجاوز الخامسة والستين من زمن طويل، كلهم عواجيز، وكبرهم ليس من ذلك النوع الصحيح السليم، مثل الموظفين المحالين إلى المعاش مثلًا أو المتقاعدين، الذين تجدهم قد ابيضَّتْ شعورهم حقيقة، وتجد وجوهَهم فيها تجاعيد وظهورهم قد أصابها الاعوجاج، ولكنك تحس إذا نظرت إلى الواحد منهم أنه رجل كبير في السن ليس إلَّا، هناك نوع من الكِبَر يمسخ الكائن الحي، ويحيله إلى هيكل هشٍّ مرتجف، هذا الوجه الإنساني المتناسق التقاطيع، المرتَّب القسمات يستحيل إلى زبيبة، مجرد زبيبة جافة مكرمشة لا يمكن أن تقول أبدًا إنها كانتْ حبة عنب حمراء مملوءة بالدم والحياة في يوم من الأيام.
كان صبيان الحانوتية كلهم من هذا الطراز، الطويل فيهم قد زاده الكبر رفعًا وطولًا، والقصير قد زاده العمر الطويل قصرًا.
ودائمًا وجوههم ضامرة، غلبانة، جلدها خشن مجعَّد، وذقونها بيضاء نابتة، ونظراتها كليلة، والعين الواحدة لا بد مصابة بأكثر من داء، ولهم ملابس «شغل»؛ جلاليب قديمة ممزَّقة قد تختلف أنواعها وألوانها ولكنها قصيرة كجلاليب التلامذة لا تتعدَّى الركبة، ولهم غطاء رأس واحد، فلكل منهم عمامة عبارة عن خرقة، أي خرقة، ملتفة حول طاقية، أي طاقية، أو حتى يتعمَّم بها على اللحم.
كنتُ ما أكاد أراهم حتى يُخالِجني الضحك؛ فقد كانوا يبدون بأعمارهم تلك وعاهاتهم وملابسهم وعمائمهم ككائنات غريبة عن عالَمِنا هبطتْ لتوِّها من كوكب آخَر كلُّ ما فيه شائخ وعجوز.
وكان عمل هؤلاء «الصبيان» يبدأ من اللحظة التي تطلع فيها روح الميت، تمامًا كالملائكة؛ فإذا كان الملائكة يتولَّوْن حمل الروح إلى السماء «كَعَّابي» أو على مراكب الشمس، فصبيان الحانوتية يتكفَّلون بالجثة حتى يُغَيِّبوها في باطن الأرض، وقد يبدو للبعض أن عمل الحانوتية أسهل، ولكنَّه في الواقع أصعب مائة مرة من الصعود بالروح إلى السماء! ويبدو للبعض أنه عمل بغيض، والواقع أنه ليس بغيضًا ولا يحزنون، إنه مجرد عمل كغيره من الأعمال، وإذا كنا نعمل فقط من أجل أن نأكل، فكل عمل بغيض، وكل عمل شغل، وكل شغل كار، وكل كار له أصول.
والأصول أن معلم الحانوت الكبير هو الذي يجلس في الدكان يتلقَّى بلاغات الوفاة، ويقابل الزبائن، ويقبض العربون، وفي أحوال نادرة يتولَّى بنفسه غسل الكرام.
أمَّا الصبيان فهم الذين — حين يتم الاتفاق — يذهبون جريًا في جري، إلى بيت المتوفَّى، ويتولَّوْن معاينتَه وخلْعَ ملابسه، ثم يجري الواحد منهم إلى مكتب الصحة قبل فوات الميعاد، ثم يعود جريًا في جري مستصحبًا الطبيب، ثم يجري إلى الحانوت، وإلى الدكان أو العطار، وبأذرُعه النحيلة يحمل الميت إلى المغسلة ويُلْبِسه الكفن، ويسخِّن الماء ويدلقه، ويضع الميت في النعش، وقد يُساهِم بقسط كبير في حَمْل المتوفَّى إلى الجامع والمدافن، والنعش له ذراع خشبية طويلة غير ممسوحة أو مهذبة تستقر فوق عظمة الطوق العجوزة التي لا يغطيها لحم فتكاد تقطعها، والنعش ثقيل، والمسافة دائمًا طويلة، وما أفظع الصيف، والمصيبة الكبرى لو كان الميت من أصحاب الأوزان الثقيلة.
في الساعة العاشرة يدخل عليَّ صبيان الحانوتية ويتجمهرون أمامي وتمتدُّ أذرعهم الجافة العجوزة ببلاغات الوفاة، وكلٌّ منهم ينافِس الآخَر في إغرائي، وكلٌّ منهم يحاوِل أن أذهَبَ معه أولًا لأكشف على متوفَّاه وأصرِّح له بالدفن ليُنجِزَ عملَه قبل فوات النهار.
وكنتُ ما أكاد أراهم حتى تنتابني آلاف المشاعر والرغبات، أقواها جميعًا رغبتي في أن أضحك، ولم أكن أدري بالضبط لماذا يُراوِدني الضحك، ولكنَّ شيئًا ما في تركيب صبيان الحانوتية هؤلاء كنتُ لا أكاد أراه حتى أضحك، لا مِن الصبيان، ولا مِن تزاحُمِهم، ولكن من الحياة نفسها، ذلك الشيء الرائع الجميل الذي نتشبَّث به بكل ما نملك من قوة، تلك الحياة أحيانًا تُضِحْك، وكنتُ لا أكتفي بالضحك بل كان لساني يتحرَّك، أحيانًا يسخر، وأحيانًا يتفلسف، وأحيانًا يقول شيئًا تافهًا لا معنى له، وفي أغلب الأحوال كنت أقول «للصبي» الذي اكتسح زملاءه في سباق الأيدي وأصبح أمامي مباشرة: «وانتَ، ان شاء الله، ح نكتب شهادة وفاتك انت إمتى؟!»
وكان الصبي الشيخ حينئذٍ يضحك، وضحكهم ليس كضحكنا، فالواحد منهم ينظر إلى الأرض، ويمطُّ رأسَه، ويعض على نواجِذه، وتتَّسِع عيناه قليلًا، ثم تخرج: «هه، هه»، تخرج من حنجرة جافة شائخة لم تعُدْ تَقْوَى حتى على الضحك.
كانوا في العادة يضحكون كلَّما سألتُهم ذلك السؤال، غير أنِّي قلتُ لأحدهم شيئًا كهذا مرة فلم يضحك، واستغربتُ؛ فالعادة قد جَرَتْ أن يضحك الجميع لكلامي سواءً أرادوا أم لم يريدوا؛ إذ كلٌّ منهم كان يحاول إرضائي، استغربتُ وأمْعَنْتُ النظر في «الصبي»، ولم أجِدْه يختلف عن بقية زملائه في قليل أو كثير، فقد كانوا جميعًا متشابهين، كما يتشابه الأطفال حديثو الولادة في طابور المناظرة، وكأنما يبدأ الناس متشابهين، وينتهون متشابهين، كلُّ ما استطعتُ أن ألحظه من فرق أن عينيه الاثنتين كانتْ عليهما غشاوة رمادية داكنة كسحب الشتاء، وقلت له: «مالك؟!»
كان لا بد أن في الأمر شيئًا، فقال ووجهه إلى الأرض: «يا ريت الواحد مات بدالها!»
– «بدال مين؟»
– «مش بنتي تعيش أنت!»
– «ماتت؟!»
– «أيوه، امبارح، هب فيها الوابور وماتت في المستشفى.»
ولم أصدِّقْه، فقد قال هذا دون أن يتغيَّر الانفعال الذي لا يبرح وجهه، وسألتُ «معلمه» لأتأكد، ومعلمه لم يكن رئيسه فقط، ولكنه يرأس ثلاثة صبيان شيوخ آخَرين من صبيان حانوته، ولم يكن رجلًا ضخمًا له شوارب كعادة «المعلمين»، كان شابًّا في الثلاثين، حليق اللحية والشارب، لونه برونزي قاتم، وملامحه شديدة الخطورة، ومع هذا كان فهلويًّا مضاحكًا ورث الحانوت حين مات أبوه بعد أن لف ودار، وتجمَّعتْ له كل حداقة اللف والدوران، ومن حركاته وطريقة ابتسامته تحس أنه ولد لا تفوت عليه الواحدة، وإذا فاتتْ فبخطره فقط ورضاه، ورغم صغر سنِّه فقد كان يرتدي الزي التقليدي للمعلمين الكبار: طربوشًا وجيهًا فاقع الحمرة، وجلبابًا من الصوف تحته قفطان من الحرير يبدو قيطانه الأسود من فتحة الجلباب، وحذاء أسود أنيقًا، وفي يده سبحة كهرمان.
سألتُه فأكَّد لي أن ما قاله الرجل صحيح، وأنَّ بنته ماتت حقيقة في المستشفى، وقد أصبح بموتها وحيدًا مقطوعًا من شجرة.
وصعب على عم محمد جدًّا وهو واقف وقفته المنحنية المائلة، وكأنما تجذبه إلى الأرض قوة عاتية تستعجل اللحظة التي تواريه داخلها، واقف لا يبكي، ولا يدمع ولا يهز رأسه ولا ينهار.
وقلت له: «معلهش يا عم محمد! البقية في حياتك.»
وتنبَّهتُ وأنا أقول له هذا إلى أني أخمِّن فقط أنَّ اسمه عم محمد وأنني لا أعرف اسمه الحقيقي، ولا أعرف إن كان محمدًا أو عليًّا أو سمعان، كنتُ أناديهم جميعًا بيا عم محمد، وكانوا من فرْط تواضُعِهم وأدبهم يردُّون، وكأن لم يَعُدْ مهمًّا لدى الواحد منهم أن يمتلك اسمًا، وضغم عم محمد الكلمات وهو يرد ويقول: «يا ريت الواحد كان مات بدالها!»
ونحن كثيرًا ما نسمع تعبيرًا كهذا يردِّده الناس في مناسبات كهذه، ولكننا نأخذه على محمل التأثُّر الشديد لا غير، ولكن طريقة عم محمد في قوله كانتْ لا تقبل الشك، وكان واضحًا تمامًا أنه يعني ما يقول.
ومن يومها بدأتُ أهتمُّ بالرجل، بل بدأتُ أهتمُّ بكل عم المحمَّدات من أمثاله، وعرفتُ السِّرَّ في كبر السن الذي يبدو شرطًا أساسيًّا من شروط العمل كصبي حانوت، فمعظمهم كانوا فرَّاشين في مدارس، أو سُعاة في مصالح، أو عساكر بوليس، أو خدمة سايرة، ثم أُحِيلوا إلى المعاش والاستيداع بعد أن بلغوا السنَّ، وقضَوا السنوات التي أعقبت الإحالة يُزاوِلون أعمالًا أخرى، ثم حين تَنْهَدُّ قواهم تمامًا ويبلغون من العمر أرذَلَه، ولا يعودون يصلحون لأي عمل آخَر، لا يصبح أمامهم مجال لكي يأكلوا العيش إلَّا العمل كصبيان حانوتية، هذا إذا ساعَدَهم الحظُّ وكان هناك محلٌّ خالٍ؛ إذ هي صنعة لا تتطلَّب قوة كبيرة، وأجْرُها ضئيل لا يَرْضَى به أحد، لا يرضى به إلَّا عجوز على شفا الموت ضعفًا وجوعًا.
ومع هذا، ومع درجات العمر التي بلغوها، وفي تلك السن التي لا يستطيع العجوز فيها أن يفعل شيئًا إلَّا أن يستلقِيَ فوق فراشه وينتظر الموت، مع هذا فما أكثر ما كانوا يتعبون ويشقون!
وعشرات الرحلات قطعتُها مع عم محمد.
وقبل أن تبدأ الرحلة لا بد أن تحدث المسرحية التي تتكرَّر كل أسبوع، فعم محمد مستعجل ويريد أن ينتهي من أخْذ تصريح الدفن بسرعة ليتفرَّغ لغيره من المشاكل، وليُرْضِيَ المعلم ويُرِيَه، كأيِّ صبي، شطارَتَه، ولهذا فهو لا يُريد أن أكشِف على المتوفَّى لأنَّ معنى الكشف أن أذهب إلى بيته، والرحلة تستغرق وقتًا طويلًا، هو يريدني أن أمضي له التصريح ونحن في المكتب، ولكن الأوامر هي الأوامر، وعليَّ أن أكشِفَ على المتوفَّى قبل التصريح، ويتحمَّس عم محمد جدًّا وهو يُقْسِم بأغلظ الأيمان أنَّ الوفاة طبيعية، وألَّا جناية هناك ولا شبهة، وأنَّه بنفسه قد خلع ملابس المتوفَّى وفحَصَه وجذب شعره وحملق في عينيه وتحسَّس عظامَه، وأنَّه لا يريد سوى راحتي فقط، وأهزُّ له رأسي علامة الرفض، فيهزُّ رأسَه علامة اليأس، ويجري أمامي ويقول: «على كيفك يا بيه! اتفضل!» ونمشي قليلًا، ثم يتوقَّف عم محمد ويعود يقول: «والله يا بيه، دا راجل كبير في السن، وما فيه إلَّا شيخوخة بدون جنون.»
و«شيخوخة بدون جنون» تعبير اصطُلح على إطلاقه على سبب الوفاة حين يكون المتوفَّى كبير السن وليستْ هناك علامات مَرَضية أخرى تصلح سببًا للوفاة، وتُضاف كلمة: «بدون جنون» لأسباب قانونية تتعلَّق بميراث المتوفَّى والمشاكل التي تنشب بين الورثة حولَه، هذا، إذا كان قد خلَّف ثروة فعلًا وعقارًا.
وهذا الاصطلاح قد شاع وانتشر بين أطباء الصحة وموظفي المكاتب والحانوتية لدرجة أنه لم يكن من المستغرب أن يقترِحَها عم محمد كسبب للوفاة!
يتوقَّف عم محمد ويحاول محاولته الأخيرة تلك، ولا يجد لها صدًى عندي فيعود يجري ويسبقني ليُرِيَني الطريق إلى بيت المتوفَّى، والمنطقة آهِلةٌ بالسكان والبيوت والذباب، وكل شيء قد يخطر على البال، الناس أكثر من البيوت، والبيوت أكثر من الفضاء، والذباب بمعدَّل مليون ذبابة لكل قاطن، والأشياء مكدَّسة مزدحمة، وكأنما كوَّمها فوق بعضها مستعجلٌ لا وقتَ لدَيْه.
وعم محمَّد رجلاه رفيعتان مقوَّستان، وعرقه يسيل، وحجمه ضئيل أصغر من قرد عجوز، يكافح ليلاحق خَطْوِي، ويكافح ويكافح ليُصبِح أمامي، ويزيح الناس حتى يُدبِّر لي مكانًا محترمًا أمرُّ فيه، ويصنع من نفسه عسكري مرور ويوقِف عربات الكارو، ويأمر باعة الخضار بالكف عن تشويحات الأيدي والزعيق حتى يمر «البيه»، ويلهث، ويحدِّثني، ويسلِّيني، ويلعن الخلق والزحمة ومَن يخالفون أوامرَه ولا يُفسِحون الطريق، ويقول: إنَّ الخير زال، وأيام زمان كان الموتى على قفا من يشيل، وكانت الأشيا معدن، ويلهث، وأسألُه وقد بدأتُ أنا الآخَر ألْهَثُ، عن المتوفَّى وبيته، وهل لا يزال بعيدًا فيقول: «خطوتين بس»، وأخطو عشرات الآلاف من الخطوات، ولا يظهر بيت ولا ميت، وموكبنا الصغير يدلف من شارع إلى زقاق، ومن زقاق إلى خندق وحارة، أسوأ موكب، ما إنْ يرانا الناس حتى ترتفع الهمسات: «يا فتاح يا عليم! على الصبح! يا ترى مين مات النهارده؟!»
وعم محمد يجري أمامي ومِن خلفي وعلى جانبي، خائف خوف الموت أن أزهد وأزهق فأؤجل الكشف إلى ما بعدَ الظهر أو الغد، وتكون الكارثة.
وأخيرًا جدًّا نصِل إلى بيت المتوفَّى، وقبل أن نَصِلَه يستميت عم محمد وهو يأخذ ثوبه في أسنانه ويضاعف من جرْيِه ليسبِقَني ويوسِّع السكة.
وما أكاد أضَعُ قدمي على الباب حتى تدوِّي عدة أصوات ينخلع لها قلبي، ثم يرتفع تعديد: «جالك الحكيم يا ضنايا!» وكأن القادم هو عزرائيل! ولكن عم محمد لا يأخذ باله من هذا، يرتفع صوته صارخًا على ضعفه: «وسَّعِي يا بنت انتي وهيه! اتفضَّل يا بيه، ياللا بلاش لكاعة! يا خويا النسوان الكتيرة دي بتيجي من أنهي داهية؟! اتفضل يا بيه.»
وتتسلَّل أكوام السواد والملاءات التي كانتْ تملأ حجرة البيت، تتسلَّل إلى اليمين وإلى اليسار تنقِّب في وجه الحكيم وتتأمَّله وتعلِّق.
ولا بد أن تأتي اللحظة التي تخلو فيها حجرة المتوفَّى، ولا يبقى معه سوى القريب القريب وعم محمد وأنا.
فيندفع عم محمد وهو لا يزال يلهث من المشوار والجري ويكشف عن الميت غطاءه، ويقول وكأنه يُريد أن يُثبِت لي براءته وأنَّه كان على حقٍّ في أنَّ الوفاة طبيعية: «أهه يا بيه، زي الفل أهه، والله، ما فيه جنس حاجة، أدي صدره أهه، وأدي بطنه، وأدي بقه أهه، نضيف زي الصيني بعد غسيله، وأدي شعره أهه.»
ويجذب عم محمد شعر الميت ليُرِيَني أنه لم يَمُتْ مسمومًا، وإلَّا لتساقَط الشعر في يده، يجذب الشعر بقوة وعصبية فهو يريد أن يخلص، والظهر اقترب، ويقول له أهل المتوفَّى: «حاسِب!» فيقول: «حاضر، أحاسِب غصب عن عين أبويا أحاسب! وأدي الرجلين يا سعادة البيه.»
ويرفع ساقَي الميت ويقول: «والله، ما في إلَّا شيخوخة بدون جنون، وأدي ضهره.»
ويحاول عم محمد أن يقلب الميت لأرى ظهره، ويستعين بالسيدة والحسين وكل الأولياء، ولكنه لا يستطيع، فيكش فيه المعلم ويهب قائلًا: «إوعَ يا شيخ! جك تربة تلمك.»
ولكن عم محمد لا يتنحَّى، بل يظل في مكانه يساعد معلمه في قلب الميت ولو برفع ساق أو عدل يد.
وحين ينتهي الكشف ونخرج تبقَى أنظار عم محمد معلَّقة بملامحي وكأنه ينتظر نتيجة امتحان، ولا يتنفَّس الصُّعَداء إلَّا حين أمضي التصريح فيأخُذُه وكأنَّه نعمةٌ هبطتْ لتوِّها من السماء، ويعضُّ على نواجِذِه وتتَّسِع عيناه وكأنه يبتسم ويقول: «مش برضه شيخوخة بدون جنون يا بيه؟! مش قلتلك؟! أنا كنت بس عامل على تعبك.»
ثم تنطلق سيقانه المقوَّسة الرفيعة تجري وتسبقني إلى المكتب.
ومرة لمحتُ في عين عم محمد دمعة؛ دمعة صغيرة دقيقة وكأنها آخِر دمعة في حصالة عينيه، وكانتْ على أثر قلم سريع خاطِف نالَه من المعلم، كان قد ارتكب خطأً ما؛ إذْ حين ذهبتُ لأكشف على متوفًّى لم يكن قد خلع عنه كلَّ ملابِسِه، وقبل أن ألُومَ المعلم على هذا الإهمال أو أؤنِّبه، كان هو قد هوى بكفِّه على صدغ عم محمد في صفعةٍ سريعةٍ خاطفةٍ وكأنَّما ليقرِّر بها أنَّ الذنب ذنب صبيِّه، ويُريني أنَّ العقاب قد أُنزِل ولم يعُدْ هناك داعٍ لكلمةِ لومٍ واحدةٍ مني، وتولَّاني غضبٌ جامِحٌ، أمَّا عم محمد فالعجيب أنه لم يَثُرْ، ولم يحتجَّ، ولم يترك الغرفة، بل وقف ويدُه مثبَّتة فوق مكان الصفعة، وعلى وجهه إحساس بالذنب، تمامًا كما يفعل أي صبي صغير حين يُخطِئ ويعاقبه المعلم.
وذهبتُ إلى المكتب مرة فوجدتُ حشدًا كبيرًا من العم محمَّدات، وكانوا يبدون إذا وقفوا معًا وسط ما يحفل به المكتب من نساء صغيرات وأطفال ورجال، يبدون كقبضة من قش الأرز في وسط باقة من الزهور، وكانوا إذا وَقَفوا معًا لا يتحدَّثون كما تفعل جماعات الناس، بل يقفون ساكتين صامتين وكأنهم من طول ما تكلَّموا في أعمارهم الطويلة قد ملُّوا الكلام.
واستغربتُ؛ إذْ لم أتعوَّد وجودهم في جماعات كبيرة كتلك، وما إنْ رآني المعلم الشاب حتى أقبل هاشًّا باشًّا متهلِّل الوجه مصبِّحًا بالفل والياسمين والقشطة ومقبِّلًا الأيادي، ولم يسلم الأمر من ضحكة عريضة جوفاء ردَّدها، ثم بدا عليه تأثُّرٌ مفاجِئٌ وضمَّ قبضته على بطنه وقال: «اسكت يا شيخ!»
– «إيه؟!»
– «مش الراجل مات!»
– «راجل مين؟»
قلتُها وأنا أكاد أضحك، فقد كان من عادة المعلم أن يحدِّثني عن أشياء لا أعرفها وكأني أعرفها، ولكنه قال: «الصبي بتاعنا.»
– «عم محمد؟!»
– «تعيش انت.»
وفي الحال اتخذتْ سيماه طابع العمل وقال: «بس والنبي يا دكتور، عايزين تخلَّص لنا تصريح الدفن بتاعه بسرعة، إنت عارف، الدنيا صيف، وده راجل عضمة كبيرة.»
وضحكتُ، فلم أصدِّق أن عم محمد مات حقيقة، فقد كان معي بالأمس يجري أمامي وخلفي وعلى جانبي، ثم لَمَّا تصورْتُه ميتًا ضحكتُ، لا لأني لم أحزن، ولكن لأن هناك نوبات من الحزن تأتي على هيئة ضحكات، ثم إنَّ معلمه كان يستعجل تصريح دفنه بنفس الطريقة التي يستعجل بها تصاريح الزبائن!
وقال المعلم وهو يستحثُّني: «هيه يا بيه! قلت إيه؟»
فقلت: «بقى الراجل يعملها ويموت؟!»
فقال المعلم: «أيوه، ولولا ربنا بعت لنا صبي غيره كانت بقت وقعة النهارده!»
– «صبي غيره؟!»
– «أهه، تعال يا جندي.»
وجاء جندي، عجوز آخَر طاعِن في السن، ولكنَّه لم يكن قد ارتدى الزيَّ الرسمي بعدُ، فعلى رأسه كان ثمة طربوش قديم قد انهار وتكوَّم في كتلة لا شكل لها ولا معنى.
وقال المعلم: «امضي لنا التصريح بقى يا بيه.»
فقلت له: «لا، أنا لازم أروح أشوفه.»
فعاد يقول: «يا بيه، هو غريب؟! ما أنت عارفه! أنا بس عامل على تعبك، هو أنا ح أضحك عليك؟! دا راجل مسن، صرح لنا من هنا وخلاص، شيخوخة بدون جنون، والله، ما في غيرها.»
وتطوَّع أكثر من صبيٍّ من صبيان الحانوتية والواقفين بالرجاء والإلحاف ومساندة المعلم، كانوا زملاء الفقيد قد جاءوا بلا ريب تدفعهم الرغبة لعمل شيء للزميل الراحل.
غير أني أصررتُ على الذهاب ولو لأُلْقِي على عم محمد نظرة الوداع، فللرفقة حقٌّ، ولقد كان رفيق الطريق.
وبعد قليل غادَرْنا المكتب للكشف على عم محمد.
وكان موكبًا رهيبًا، كنتُ في المقدمة وبجواري المعلم وقد رفع ذيل جلبابه بيدٍ وراح يحدِّثني بيده الأخرى وبأصابعه وهزَّات رأسه عن «خرجة» عم محمد، وكيف سيُخْرِجه هو على نفقته مع أن الوقت غير ملائم والدنيا على كف عفريت.
وخلفنا كانت جمهرة العم محمَّدات.
وكان الموكب رهيبًا إلى الدرجة التي توقِف الحركة في الشارع وتدفع الناس إلى التساؤل عن الميت الهائل الذي يتطلَّب الكشف عليه هذا العدد العديد من الحانوتية وصبيانهم.
وكان البيت الذي يقطن فيه عم محمد بعيدًا عند سفح الجبل، وعبارة عن حوش واسع، في وسطه كومة هائلة من الزبالة وحولها حجرات أكثرها منهار، ومع هذا فلكل حجرة سكان وقاطنون.
ولم يُثِرْ مقدِمُنا ضجَّةً ولا صُراخًا ولا صَخبًا، كان كلُّ شيء هادئًا وكأنْ لم يَمُتْ أحدٌ، كلُّ ما حدث أنَّ بعض الكلاب هبْهَبَتْ فصرخ فيها المعلم وأبعدها.
وكانت الحجرة مظلِمةً لا يُضِيئها غيرُ النور الداخل من الباب، وكان عم محمد راقدًا بجوار الحائط ومغطًّى بأوراق جرائد ألمانية قديمة لا يدري أحدٌ كيف جاءت إلى هذا المكان.
وزعق المعلم في «الصبي» الجديد: «اكشف يا جدع.»
وانحنى الصبي الشيخ بسرعة، وأزاح الجرائدَ ويدُه تهتزُّ وترتعش، وبدا عم محمد ممدَّدًا وميتًا ووجهه إلى الحائط كالتلميذ المذنب، كان ممدَّدًا بنفس ملابس الشغل وجسمه الصغير يكاد يتكوَّر على نفسِه وقدماه اللتان طالَمَا لفَّتَا الدنيا جريًا في جري، كانتا مسكينتين وعليهما حذاء سميك من الطين الجاف والتراب.
وقال المعلم: «أهه، ما فيش حاجة بتاتًا، اقلب يا جدع، اقلبه على ضهره ورِّيه للبيه.»
ومد الصبي العجوز يدَيْه وحاوَلَ قلب الجثة ففَشِل وحينئذٍ رأيتُ وكأن عم محمد ينبري له من ميتته وينتفض مستديرًا بطريقته الخفيفة النشطة: «أوعى يا جدع، جك تربة تلمك! أنا هه، اتفضل يا بيه، أنا اللي أقلب نفسي، بس كان لزومه إيه تعبك يا بيه؟! أنا هه؛ نضيف زي الفل، ما فياش صنف حاجة، آدي يا سيدي، رجليَّه أهه.»
ومدَّ عم محمد رجلَيْه، فبدَتَا كجريدتين رفيعتين من جرائد النخل وقد نُزِع عنهما السعف.
– «وآدي جسمي أهه.»
وخلع ملابسه بسرعة، ووقف في وسط الحجرة عاريًا كما ولدتْه أمُّه، وبدا جسدُه جافًّا ناشفًا، ليس فيه درهم واحد من اللحم، ويبدو أن الإنسان كالنبات؛ يُولَد بذرةً ويظلُّ ينمو وتخضرُّ أوراقُه، ثم يزدَهِر في شبابه وتنفتَّح وُرودُه، ثم ينضج وتتكوَّن له الثمار في الرجولة، وبعد ما يخلِّف ويؤدي رسالتَه في الحياة ويصبح عجوزًا يحدث له ما يحدث للنبات بعد قطف ثماره فيجف، وتبرز عظامه، ويتناقص لحمُه حتى ينتهي إلى شيء كعود القطن الجاف بعد جمعه، ومضى عم محمد يقول وهو يستدير ليستعرض جسده: «مش قلتلك يا بيه! عضمة كبيرة، وآدي دراعه أهه.»
وحاوَل عم محمد جذب ذراعِه فلم يستطع؛ إذ يبدو أن الروماتيزم الذي كان يشكو لي منه دائمًا قد جفَّفها تمامًا وجمَّدها، فترَكها عم محمد يائسًا وانتقل إلى رأسه: «وآدي الراس.»
رأس قد صغَّر الكِبَرُ حجمَه حتى استحال إلى جمجمة كروية صغيرة، فكُّها الأسفل يلتوي إلى أعلى، والأعلى يلتوي إلى أسفل، وملامحها كلها تكاد تنشفط داخل الفم.
– «وآدي الشعر أهه.»
وجذب عم محمد بكلتا يدَيْه الشعرات القليلة المتبقية في رأسه.
– «وآدي رجليه أهه.»
ومدَّ أقدامًا شاحبة جدًّا، وكأنها ماتتْ من عشرات السنين.
ويبدو أن المجهود الذي بذَلَه في عرض نفسِه قد أنهَكَه، فقد قال وهو يعود إلى رقدته، ويعود إلى مواجهة الحائط: «كنت ريَّحْت نفسك يا بيه، ما قلتلك، والله، ما في إلَّا شيخوخة بدون جنون.»
وعدتُ إلى نفسي على قول المعلم: «هه، قلت إيه؟»
فقلت له: «غسِّل.»
وفي الحال بدأتْ حركة هائلة في الحجرة، وخلع المعلم جلبابه الصوف، ووقف كالقبطان تصدر منه الأوامر.
وبعد قليل كان عم محمد قد استقرَّ في النعش، وكان النعش محمولًا على أكتاف الزملاء «التُّرَبية»، وكانوا يتمايلون به وهم يغادرون البيت بلا صوتٍ واحدٍ يدوِّي ويُودِّع عم محمد، أو صرخة.
وما كاد المعلم يطمئنُّ إلى أنَّ كل شيء قد انتهى، وأنه قد قام بواجبه وأخرج صبيَّه على خير ما يُرام، حتى فوجئتُ به يتراجَع ويجلس على قرافيصه بجوار الحائط، ويُخفِي رأسَه بين ركبتيه، ويَخرُج صوتُه خشنًا مكتومًا يتخلَّله البكاء: «يا ولداه! يا عم محمد!»
وبعد أن ذهبتْ نوبةُ بكائه، رفع رأسَه وقال بعينين محمرَّتَيْن وقد تذكَّر الرسميات: «مش مضيت له التصريح يا دكتور؟»
وهززتُ رأسي، فعاد يقول: «مش برضه …؟»
فقلت: «أيوه، شيخوخة.»
ومسح دموعًا تكوَّنتْ في عينيه وهو يقول: «بدون جنون؟»
فأجبتُه: «أيوه، بدون جنون.»