الجو الفكري في مختلف العصور
ما أيسر أن تفقد الخرافة سطوتها حين تعترض غرورنا بدلًا من أن تتملقه! وشأن الخرافة في هذا شأن وهميات أخرى كثيرة.
١
لي — مثل الكثيرين من الناس — آراء معينة أتمسك بها، وأومن بصوابها؛ لأنها تستند استنادًا منطقيًّا إلى حقائق مشهورة بيِّنة، وكثيرًا ما أضيق بالصديق الحميم الذي لا يُسلم لي برأي أعتز به، قد أجده يصر على الإنكار حتى بعد أن أعرض عليه جميع الحقائق المتعلقة بالرأي الذي يرفض، وحتى بعد أن أُظهره المرة بعد المرة على خطوات الاستدلال المنطقي التي ينبغي لها أن تُقنع أي رجل منصف معتدل، والذي يزيد في ضيقي به أنه في الغالب لا يستطيع تفنيد حجتي، ومع ذلك، ومع أنه يُسلم بها رغم أنفه، فإنه يبقى متمسكًا برأيه، وينتهي بي الأمر إلى أن أعتقد أن صديقي، وا أسفاه، قد ختم الله على عقله أو أغشى على بصيرته الانفعال أو الانقياد للهوى، والانسياق وراء الخيالات، فصار بهذا كله لا يُبصر الحق.
وقد أغفر لصديقي الانقياد للهوى وانحرافه عن الطريق المستقيم، أفعل ذلك لأني أعرف أثر الهوى في سوء الحكم، ولأني أراها هنة هينة وخطأ كان يصح جدًّا أن أقع فيه أنا نفسي، لولا أن الله سلَّم.
والواقع أني وصاحبي هذا لسنا دائمًا على هذه الدرجة من الاختلاف، بل على العكس، إن آراءنا في القضايا الكبيرة جدُّ متقاربة؛ وذلك لأننا — كما شاءت لنا المقادير — أستاذان جامعيَّان، اكتسبنا نفس التجارب واهتممنا بنفس الأشياء، وهو وأنا نتفق عادةً على نوع الحقائق التي يصح اعتبارها مكونة لقضية ما، وعلى نوع الاستنباطات التي يصح أن تقبل التصديق، فأكثر المقدمات التي يستخدمها كلانا والعبارات التي تدور على لسانينا بحكم العادة، هي مما ألف استعماله رجال التعليم في المدارس. ومع ذلك، ومع اتفاقنا التام على الأساسيات، فقد أقضي أنا وصاحبي الليل كله نتجادل متفقين على كل شيء سوى الرأي، على حد تعبير كارليل.
وهكذا نستطيع نحن الأستاذين أن نقضي ليلة بأسرها في جدل؛ وذلك لأننا متفقان، والحال غير ذلك إن اجتمعت أنا واجتمع هو برجال لا ينتمون إلى طائفتنا؛ برجال السياسة مثلًا أو برجال الدين، والذي يحدث حينئذ أن ينقطع حبل المجادلة بحكم عدم وجود الاتفاق على الأساسيات، فما يعده رجل السياسة أو رجل الدين حقيقةً جوهرية، قد لا نعدها نحن كذلك، فهي — في نظرنا — مشكوك في صحتها أو في أهميتها، وعمليات الاستدلال التي نراها مؤدية إلى الاقتناع يرفضها صاحبانا بشيء من الاستخفاف والعناد، وما هي في نظرهما إلا كلام النظريين الجامعيين، وهكذا لا تكاد جلسة السهرة تبدأ إلا وقد آن لها أن تنتهي؛ لأننا لا نجد ما نصل به سير المجادلة، وكيف نستطيع أن نُواصلها وصاحبانا قد أفسد عليهما التفكير ما يعانيانه من تحكم الأهواء، وما يشاطران فيه أبناء طائفتيهما من استسلام بلا وعي لأفكار ومعانٍ يتداولها الناس دون تثبت منها، فليس قصورهما إذن ذلك الأمر السطحي، الذي يرجع إلى قصور الذات فحسب، بل هو أعمق وأعمُّ.
هذه عبارة لازمة جدًّا، ومؤداها أن ما تملكه حُجةٌ ما من قوة الإقناع أو عدمه لا يتوقف على المنطق الذي تُعرض به بقدر ما يتوقف على الجو الفكري الذي تجد فيه قوام حياتها، وعلى ذلك فإن الذي يجعل حجج دانتي أو تحديدات القديس توماس عديمة المعنى في نظرنا، ليس سوء الاستدلال أو سقم الفهم، إنما هو كونها تنسب للجو الفكري الذي ساد العصور الوسطى، أو بعبارة أخرى، كونها ترتبط بأفكار فطرية معينة، وبنسق عالمي تصوري خاص، وهذا كله فرض على دانتي وعلى القديس توماس استعمالًا خاصًّا للفهم، واستعمالًا خاصًّا لنوع من المنطق، فإذا أردنا إذن أن نعرف علة عجزنا عن متابعة الرجلين في حججهما يلزمنا أن نفهم بالقدر الذي نستطيع طبيعة الجو الفكري في العصور الوسطى، فأقول:
من المعلوم تمامًا أن نسق العالم الذي عرفته العصور الوسطى له مصدران، منطق اليونان والتاريخ كما روته الكتب المقدسة النصرانية، ومعلوم أن الكنيسة هي التي تولت تشكيل ذلك النسق؛ إذ كانت هي الهيئة التي فرضت سلطانها خلال تلك العصور على المجتمع الأوروبي الغربي النازع إلى الفوضى والتفكك، وليس مما يصعب علينا أن نصف الجو الفكري إذ ذاك. لا يصعب ذلك؛ لأن العقل الحديث يُجيد الملاحظة بما طُبع عليه من حب الاستطلاع، كما يُجيد العناية بدقة الوصف، ولكنه إذ يسجل ويصف لا يستطيع أن يحيا في جو العصور الوسطى، ومما كان يُوقن به الناس إذ ذاك إيقانًا لا يتطرق إليه الشك، أن الله الأب خلق العالم، بما فيه الإنسان، في ستة أيام، وأن الله عقل خير أحاط بكل شيء علمًا، وأنه خلق كل شيء لغاية، وإن كانت لا تُدرك، وأنه خلق الإنسان كاملًا، ولكنه عصى ربه فهوى من نعمته ورضاه إلى الإثم والضلال، واستحق بذلك المقت الأزلي، إلا أن الله أتاح له سبيل التفكير والنجاة بأن ضحَّى ابنه الوحيد بنفسه تقربًا وزلفى، وبينما الإنسان في ذاته عاجز عن أن يتقي جزاءه العادل من غضب الله، إلا أن الله رحمةً منه بعبده فتح للإنسان باب مغفرة الإثم والضلالة، إن هو تواضع وخضع لمشيئة ربه، وما الحياة الدنيا إلا طريق المغفرة، يمتحن الله فيها مخلوقاته، وعندما يأتي أمر الله، تكون نهاية الدنيا ويبيد العالم لهبًا، وعندئذ يكون يوم الفصل، فأما العاصون المتمردون فيعذبون العذاب الأبدي، وأما المخلصون فيحظون بلقاء ربهم في جنة الخلد حيث الكمال والسعادة السرمديان.
فكانت الحياة، كما تصوروها في العصور الوسطى «دراما» تامة السبك، تدور حول فكرة رئيسية، ومسرحها الكون، صدرت عن مؤلف مهيمن، محيط، وتجري أحداثها ووقائعها طبقًا لخطة معقولة، والدراما كاملة في عقل المؤلف قبل أن يُخرجها بالفعل، مسطرة من قبل بدء الخلق لآخر حرف من حروف آخر كلمة تقع عند انتهاء الزمان، ولا يتطرق إليها تغيير ما، لا للخير ولا للشر، وليس للإنسان إلا أن يُحاول فهم الحكمة أو العلة أو الغاية الإلهية بالقدر الذي يستطيع، ولكن لا سبيل له إلى تفادي واقعة من الوقائع أو حادثة من الأحداث جرى بها القضاء، إلى أن يحين الأجل المسمى، وواجب الإنسان جلي، هو أولًا التسليم بأحكام القضاء؛ إذ هو لا يملك لها دفعًا أو تبديلًا، وهو ثانيًا، أن يقوم بنصيبه في هذه الدراما الكونية العظمى، وهنا السؤال: كيف يتيسر له إحسان الأداء على الوجه الذي أراده المؤلف؟ لكي يتيسر له ذلك، تتولى السلطتان الخاضعتان لله والمستمدتان من مشيئته السلطان الشرعي على عباده — وهما الكنيسة والدولة — إلانة قلب الإنسان واجتذابه للخضوع الذي ينبغي للعبد، وتلقينه ما يلزمه لأداء العمل الذي قُسم له، وهذه الغاية هي سر إقامة الكنيسة والدولة، ولا ينبغي بحال أن نتصور الحياة أمرًا آليًّا، على الضد، لقد منح الله الناس نعمة العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ولكن كيف يستعملونه، ينبغي أن يكون ذلك في حدود، وأن يجري في نظام، فمثلًا من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك؛ لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضًا، بل ومن العصيان، أن يُحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وبعدُ فما هو عمل العقل؟ هو أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهي، وأن يُوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية، وبين النسق العقلي للعالم المسلَّم به بالإيمان.
هذه كانت مهمة العقل في جو العصور الوسطى، وكانت المهمة عظيمة، شحذت القوى العقلية، فانطبع تفكير أفضل رجال تلك العصور بطابع عقلي تام، وأنا أعرف أنني حينما أقول هذا أُخالف ما جرى عليه العرف الشائع، أعرف أن العرف جرى بتسمية القرن الثالث عشر عصر الإيمان، تمييزًا له بهذا الوصف عن القرن الثامن عشر، الذي نسبوا إليه أنه كان قبل كل شيء عصر العقل، والتمييز إلى حد ما صحيح، فإن كلمة «عقل» تفيد كغيرها من الكلمات أكثر من معنى، فدلت في الاستعمال الشائع على «غير المؤمن» أو «الملحد» الذي يكفر بالنصرانية، ويرجع ذلك إلى أن الكتَّاب في القرن الثامن عشر استعملوا حججًا عقلية لإثبات بطلان العقيدة المسيحية، وبهذا المعنى الشائع كان فولتير — مثلًا — رجل عقل، والقديس توماس رجل إيمان، ولكن هذا الاستخدام لكلمة «عقل» سقيم لسبب بيِّن، فالعقل قد يُستخدم لدعم الإيمان كما يُستخدم لهدمه، والواقع أن بين فولتير والقديس توماس — على عظم ما بينهما من فوارق — اتفاقًا تامًّا على أن معتقداتهما يمكنهما إثبات صحتها عقليًا، ويصح لنا إذن أن نقول: إن القرن الثامن عشر كان عصر إيمان، كما كان أيضًا عصر عقل، وإن القرن الثالث عشر كان عصر عقل، كما كان أيضًا عصر إيمان.
وهكذا أمكن للقرن الثالث عشر — بفضل ما استخدم من جدل دقيق للغاية، يشد أزره أحيانًا تأويل رمزي — أن يظهر الإنسان على عجائب صنع الله، وكان محور فكرة الحياة الإنسانية: كيف هبط الإنسان من الجنة ففقدها، وكيف أُتيح له أن يعود، فيستحقها، ولجلاء هذه الفكرة اتجهت أفضل العقول في ذلك العصر، فكان شرح تاريخ الإنسانية من عمل رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ وتنسيق ما بينهما في نسق عقلي من عمل رجال الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب البحث والمناهج يقدمه المنطق، وأثمر اللاهوت والفلسفة والمنطق مؤلفات عديدة منها «الخلاصة اللاهوتية» للقديس توماس، ويصح أن يقال عنها قطعًا: إنها من أعجب وأضخم ما أنتج عقل الإنسان، ولم يرَ التاريخ مؤلفًا مثيلًا لها فيما سبقها، ولا فيما لحقها، أحاط بالعالم الواسع إحاطة تامة على هذا النحو الأنيق من الفهم الدقيق المطمئن، وفي الخلاصة اللاهوتية تستقر كل جزيئة في مكانها اللائق بها بلطف الصانع الحاذق ودقته، بحيث يتركب منها ومن أخواتها نسق كامل متماسك مقنع للناظرين.
أراني قد طال مكثي وإياكم في جو العصور الوسطى، وإن طال أكثر من هذا قد تكون العاقبة وخيمة، فلننزل من قمم القرن الثالث عشر إلى منخفضات القرن العشرين، حيث يوجد جو أثقل مما كنا فيه في علٍ، جو يثقله ما يزخر به من حقائق، فنجد فيه تنفسنا أيسر وأقل نصبًا.
٢
وبعدُ فأي معنى نستطيع نحن أن نستخرج، وإلى أي رأي نستطيع نحن أن ننتهي — نحن رجال العلم ورجال التاريخ ورجال الفلسفة في القرن العشرين — من ذلك المركب من اللاهوت والتاريخ ومن الفلسفة والعلم، ومن الجدل ومناهج البحث الذي صنعه رجال القرن الثالث عشر؟ إننا نستطيع دون شك أن نقرأ كلمة كلمة ما احتوته المجلدات الثقيلة المتراصة صفًّا صفًّا من أمثال «الخلاصة» وما إليها من مؤلفات تُعنَى بحفظها دور الكتب، نستطيع حقًّا أن نقرأها، بل إن أساليبنا الدراسية تُوجب علينا ذلك، ومن المؤكد أننا سنبذل قطعًا في فهمها ما نملك من تدقيق وجهد، بيد أننا — مهما حاولنا — لن نستطيع أن نزعم لأنفسنا أننا نهتم حقيقةً بما لها أو عليها من الحجج، وقد تبعث فينا قراءة تلك النصوص شيئًا من العجب والإعجاب، بما تجلى فيها من كلف لا يفتر وصبر لا حد له، وتفنن وفطنة عديمي المثال، وإنْ كنا في زمان قلَّ فيه أن يستولي علينا تعجب ما، فقد أصبح كل شيء معروفًا لدينا مألوفًا عندنا، وقد نستطيع أيضًا أن نفهم تلك النصوص بحيث يمكننا أن نُعيد صياغتها في عبارات زماننا، وإن بدت الصياغة سيئة الصنعة، قد نقرأ وقد نتعجب وقد نفهم، ولكن الشيء الذي نعجز عن فعله هو أن نقابل حجج القديس توماس بحجج من نوعها، إننا في الواقع عاجزون عن قبولها وعن تفنيدها، بل لا يخطر ببالنا أن نقوم بالجهد الذي يقتضيه القبول أو الرفض؛ وهذا لأننا نشعر بالغريزة أن الجو الذي نمت فيه آراء القديس وترعرعت هو بالنسبة لنا جو خانق، نحاول فيه التنفس ونكاد ألا نستطيعه، وموقفنا من استدلالاته لا علاقة له بكونها صحيحة أو باطلة، فليست في نظرنا هذا أو ذاك، ولكنها — لا أكثر ولا أقل — غير ذات موضوع، وقد صارت كذلك؛ لأن النسق العالمي الذي استخدمت في تأليفه لا يثير فينا ما يُحرك الوجدان أو الشعور بالجمال؛ ولذا صرنا لا نستجيب له.
ومهما راجعنا أو أوَّلنا — بكل ما أوتينا من رفق — النتائج التي وصل إليها العلم الحديث، فلا سبيل إلى اعتبار الإنسان ابن الله، خُلقت الأرض لتكون مستقرًّا له إلى حين، بل يُقرر العلم أن الاعتبار الأصدق هو أن نرى في الإنسان كائنًا لا يختلف كثيرًا عن شيء استقر على سطح الأرض اتفاقًا، شيء أحدثته فيما بين عصرين من عصور الجليد نفس القوى التي تُبلغ القمح تمام نموه وتسبب الصدأ في الحديد، أحدثته دون أن تُلقي بالًا إلى ما تفعل، بيد أن ذلك الشيء كان كائنًا حساسًا وهبته صدفة سعيدة أو غير سعيدة قوة الذكاء، ولكن ذلك الذكاء تُشكله وتُكيفه نفس القوى الكونية التي يحاول هو أن يُدرك كنهها وأن يسيطر عليها، وأما العلة الأولى لهذه العملية الكونية التي حدث عنها الإنسان فلا ندري أهي الله أو الكهرباء، أو «قوة دفع الأثير». ومهما يكن من حقيقة هذه العلة — إن صح أنها علة، وليست مجرد فرض من الفروض ذهب إليه الفكر اضطرارًا — فظاهر في معلولاتها أنها ليست خيرة أو شريرة، وليست رحيمة أو قاسية، بل هي لا تُبالي بنا في كثيرٍ أو قليل، وما الإنسان في نظر الإلكترون؟ ما هو إلا لقيط نبذته القوى التي صنعته، يتيم لا يعينه ولا يرشده إلى سواء السبيل وإلى عالم خير، فلا بد له إذن من أن يدبر أمر نفسه كأحسن ما يقدر، وأن يلتمس السبل حوله في عالم لا يكترث له، مستمدًّا العون من ذكائه المحدود.
ولعل أهم ما نتج عن هذا الانقلاب أننا نتطلع عبثًا إلى سند من سلطان أو نحوه يشبه على وجه من الوجوه ما كان للسلف، ولكننا لا نحصل عليه ولا نجد مثل ذلك المبدأ المطلق القديم، لنثبت به أقدامنا كيما نأخذ في السير من جديد، لقد خلعوا زفس فأصبح لا يصلح لأن يتخذ منه الفكر مقدمة لاستدلال ما، ولكن هذا لا يفيد أن الإيمان بزفس قد بطل؛ إذ لا يزال هناك من يؤمن به، بل إن من العلميين والمؤرخين والفلاسفة من لا يزال يعبده وفقًا لما وجدوا آباءهم عليه، ولكن عبادة زفس الآن لا تعدو أن تكون من جانب العابدين مسألة شخصية واستعمالًا خاصًّا لحق من حقوقهم، وشأنهم في هذا شأن المواطنين الكاثوليك حينما تحولت أممهم للبروتستنتية، كان يرخص لهم أحيانًا بإقامة القداس بصفة غير علنية في بيوتهم، هذا كل ما في الأمر، فلن تجد اليوم عالمًا جادًّا يجعل نقطة البدء في شرح نظرية الكوانتوم أو تاريخ الثورة الفرنسية مبدأ وجود الله أو كونه خيرًا، ولو جرؤت أنا في موقفي هذا منكم — كما جرؤ مؤرخون من قبل — وعرضت عليكم فكر القرن الثامن عشر كما لو كان أمرًا قضى الله أن يعاقب به جيلًا فاسقًا عنيدًا من الناس، لو فعلت لكان في ذلك إحراج مني لكم غير قليل، ولتحركتم في مقاعدكم وأبديتم ما يدل على ارتباككم وخجلكم من أجل زميل لكم خيب ثقتكم به، فارتكب من سوء الذوق ما ارتكب.
والواقع أن ليس لدينا مبدأ أول، ومنذ أجلسنا الأعاصير على عرش الربوبية فلا بد أن تكون نقطة البدء هي الأعاصير، أو بعبارة أخرى، ذلك الخليط من كل شيء الذي نعيش فيه، وأول ما نواجه من مادة هذا الخليط هي الحقائق التي وصفناها بأنها غير ذلول وغير قابلة للترويض، وهذه لا بد من أن نقبلها كما هي، فلا يمكننا اليوم أن نتلطف بها، وأن نداهنها لتقبل الانطواء في إحدى المقولات الفكرية التي تقوم على افتراض نسق منطقي للعالم، وماذا نفعل بها إذن؟ نلاحظها، نستخدمها في الاختبارات، نحققها، ننسقها، نقيسها إن أمكن، نستخدمها في الاستدلالات العقلية أقل ما يمكن، وتكون أسئلتنا مما يبدأ بما وبكيف، كأن نسأل ما الحقائق وكيف تتصل؟ فإذا ما حدث مرة في لحظة من لحظات شرود الفكر أو لهو الفراغ أن نسأل: «لمَ» أعيانا الجواب، وجملة القول أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه لا أن نفهمه.
وبما أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه، فاللاهوت والفلسفة والمنطق القياسي لا تنفعنا كثيرًا لبلوغ هذه الغاية، وبعد أن كانت هذه الدراسات العريقة أبواب مدينة العلم كما تصورها العقل في العصور الوسطى فإنها نزلت في خلال القرون الثمانية الماضية من عليائها، وأجلس المحدثون على عروشها التاريخ والعلم الطبيعي وأساليب الملاحظة والحساب، حقيقة لا يزال اللاهوت — أو ما يُسمى باسم اللاهوت — حيًّا عند المؤمنين به، ولكنه يحيا بالتنفس الصناعي، وأما وظيفته، وأما ما كان يؤديه في عصر القديس توماس، فقد أصبح يتولاهما التاريخ لا الفلسفة كما يتوهم الناس؛ وذلك لأن موضوعه عند المحدثين هو الإنسان وعالم الإنسانية على مر الزمان، وهو بالضبط ما تكفل به اللاهوت في القرن الثالث عشر، عندما عرض رجاله صورة لتاريخ الإنسان والعالم تتفق مع ما دبر الله لنجاة عباده، وقد وجد أهل العصور الوسطى في تلك الصورة فلسفة للتاريخ جديرة حقًّا بهذا الاسم أغنتهم فعلًا عن النظر في تجارب الأمم؛ إذ ما الداعي لهذا وهم مطمئنون كل الاطمئنان إلى ما جاءهم من علم عن العلة الأولى للأحداث التي تصيبهم وعما تدلهم عليه.
وإني بالطبع أستعمل كلمة تاريخ في هذا السياق بمعناها الواسع، أستعملها على أنها تدل على منهج من مناهج البحث، فضلًا عن كونها تطلق على موضوع قائم بنفسه، فالآداب واللغات ونظم الحكم والشرائع والاقتصاديات والعلوم والرياضيات، بل والحب واللعب، كل هذه وجدت من يؤرخها بحيث يمكن السؤال: أي شيء في زماننا بقي دون أن يُؤرَّخ؟ وفي الواقع أن معظم ما يُقال عنه إنه علم هو في الحقيقة تاريخ؛ إذ ما هو إلا تاريخ ظاهرات حيوية أو طبيعية، فالجيولوجي يأتينا بتاريخ الأرض، والمشتغل بعلم النبات يقص علينا قصة حياة النبات أو تاريخ فرد من أفراد مملكة النبات، وقد أنار الأستاذ وايتهد منذ عهد قريب علم الفيزيقا عمومًا بتتبع تاريخ النظريات الفيزيقية؛ ولهذا كله يرى المحدثون أن النظر في الأشياء متصلة بأوضاعها التاريخية إجراء مفيد، ونحن المحدثين نجري على هذا دون تكلف، بل إن عملية التفكير اليوم تكاد تكون مستحيلة إلا إذا فكرنا تاريخيًّا؛ ذلك لأن الجوهر الفكري الراهن جو لا نستطيع فيما يظهر أن نفهم دنيانا فيه إلا إذا تصورناها متحركة متطورة، فلا يمكننا اليوم أن نعرف ماهية الأشياء إلا إذا عرفنا «كيف صارت إلى ما هي عليه.»
على أن هذه المعرفة لا تنحصر في استقصاء مجرد التعاقب للأحداث، فالتعاقب في ذاته ليس أهم ما في الموضوع، وهو أيضًا لم يجهله الأقدمون، فالقديس توماس — مثلًا كان يُدرك تمامًا بلا شك أن الأشياء تتعاقب، أما الذي يختص به العقل الحديث فهو توجهه إلى اعتبار الأفكار والتصورات لا الأغراض الخارجية فحسب — كائنات تتغير بحيث لا تفهم طبيعتها ولا معناها في وقت ما إلا إذا حسبناها نقطًا في عملية تفرق ونشر وتلاشٍ وتكوُّن لا تنتهي، فعلى هذا لو فُرض وطلب منا توماس أن نُعَرِّف له شيئًا ما، وليكن مثلًا القانون الطبيعي، لو فُرض وسألنا: «ما هو؟» لما أمكننا أن نُعَرِّفه، ولكننا نستطيع أن نقص عليه تاريخ القانون الطبيعي، هذا إذا سمح لنا بالوقت الذي يكفي لذلك، فإذا ما قبل عرضنا عليه جميع الأطوار والصور التي اتخذها القانون الطبيعي حتى الآن؛ ذلك أن الفكر الحديث قد ملكه منهج التفكير التاريخي، بحيث لم يعد في استطاعتنا أن نتحقق من هوية شيء ما إلا إذا تتبعنا الأشياء المتعددة التي كانها بالتعاقب قبل أن يصير الشيء الذي هو كائن الآن، والذي سيكف توًّا عن أن يكونه.
وإلى جانب التاريخ يوجد لدينا طريق آخر لاكتساب المعرفة هو طريق العلم الطبيعي، ونحن أكثر التزامًا له من طريق التاريخ، وكما أن التاريخ قد حل شيئًا فشيئًا محل اللاهوت، فقد فعل العلم الطبيعي ذلك بالنسبة للفلسفة، بيد أن الفلسفة اختلف حظها عن حظ اللاهوت بعض الشيء، فتجلدت وأظهرت أنها لم تتضعضع كما فعل صاحبها اللاهوت، وهناك من العلائم ما يدل على جهد يبذل الآن في عمارة بيتها القديم الخرب بعض الشيء، ومهما يكن من أمر هذا الجهد فواضح أن ما كان للفلسفة في الماضي من سلطان غير منازع قد غصبه العلم الطبيعي منذ زمن طويل، وبعد أن كانت الفلسفة وآلتها للضبط الدقيق المنطق القياسي عند القديس توماس الوسيلة لتكوين نسق عقلي للعالم من أجل التوفيق بين الواقع المجرب والحق الذي أظهره الوحي الإلهي، فإن المؤثرات التي وجهت بني الإنسان جيلًا بعد جيل، إلى تحري حقائق التاريخ الإنساني، وجهتهم أيضًا نحو تفحص حقائق الظاهرات الطبيعية، وعلى هذا كان ظهور التاريخ، وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لدافع واحد أو — بعبارة أخرى — مظهرين لاتجاه واحد للفكر الحديث، وهو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها تفحصًا نزيهًا.
وهذا التحول الدقيق في كيفية النظر إلى الأشياء الذي مثلنا له بجاليليو ربما كان أخطر ما حدث في تاريخ تكوين الفكر الحديث، بيد أن الناس لم يدركوا في مبدأ الأمر جميع ما أضمره هذا التحول من معانٍ، وبقيت الفلسفة متبوئة عرشها، بل إنها حينما أضافت في القرن الثامن عشر لقبًا جديدًا إلى ألقابها، وأسمت نفسها الفلسفة الطبيعية، لم يلحظ أحد أن الاسم الجديد سيكون له ما بعده، والذي أخفى على الناس حقيقة ما حدث أن جاليليو ومن جاء بعده كانوا هم أيضًا فلاسفة، بل هم الأحق باللقب؛ إذ إن النتائج الباهرة التي أقاموها على الملاحظة والتجربة قد كشفت كثيرًا من المحجوبات، وبعثت الأمل في أنها سوف تبدد كل ما يحيط بالعالم من غموض، فلا عجب أن توهم الناس أن صورة العالم العاقل كما خرجت من أيدي الفلاسفة الملاحظين المجربين أوضح دلالة من الصورة التي وضعها أسلافهم في العصور الوسطى؛ أي إن قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة هما اسمان لشيء واحد، وأن كل شيء مما صنع الله سوف يُفسره العلم إن قريبًا وإن بعيدًا، وبناءً على ذلك فللبيب أن يكتفي بحد أدنى من التصديق المطلق، وله أن يفعل ذلك، ولكن بتحفظ واحد، تحفظ بالغ الخطورة، وإن خفيت في مبدأ الأمر خطورته؛ هو أنه لا بد له من الإيقان بأن الطبيعة تجري على نظام مطرد، وأن عقل الإنسان قادر على أن يكشف طريقتها في العمل.
ولا شك في أن ثمرة جد العلماء في طلب هذه الغاية المحدودة واستعمال المنهج العلمي على هذا الوجه المتناهي في التواضع كانت مما يخطف الأبصار عجبًا، وبعد فكيف نقدرها؟ نعرف أننا نعيش في عصر الآلات، ونعرف أن فن الاختراع هو أعظم ما اخترعنا من الفنون، وأن ظروف الحياة في مدة وجيزة لا تزيد على خمسين سنة قد تبدلت تبدلًا تامًّا، ولكن الذي لا نُدركه على ما ينبغي له من الوضوح أن ذلك التبدل المحير للألباب أثَّر في عقولنا فانحرفت نحو وجهاتٍ جديدة، ولم تعد اليوم الاكتشافات والاختراعات وليدة الصدفة السعيدة نترقبها بين اليأس والرجاء، بل هي الآن شيءٌ آخر مختلف تمامًا، هي جزء من علمنا الاعتيادي نتوقعها ونتعمد إيجادها، بل نوجدها في الوقت المحدد لذلك، ولا يثير جديدٌ دهشةً ما، فليس شيءٌ يبقى جديدًا، بل على العكس، لقد اعتدنا الغريب حتى انعدم الفرق بين الشيء غير المألوف والشيء المعتاد، ولا جديد في السماء أو في الأرض لم نتخيله في مختبراتنا، وإنَّا ليدهشنا حقًّا ألا يأتي المستقبل القريب أو البعيد بجديدٍ يتحدى به قدرتنا على مواجهته، وقد علَّمنا العلم أن لا ثمرة تُرجى من وراء محاولة إدراك ماهية العامل الخفي المحدث للأشياء التي نستعملها، أفلا يستطيع أي أنسانٍ أن يسوق السيارة دون أن يفقه شيئًا من أثر الكاربوريتر في حركتها، أو يسمع ما يذيعه جهاز الراديو دون أن يفهم سر الإشعاع؟ والواقع أن ليس لدينا من الوقت فضلة تسمح حتى بمجرد التعجب من السماء بنجومها فوقنا، أو بما في نفوسنا من عقد فرويدية، فوقتنا تشغله بأكمله الأشياء العديدة التي نستعملها في قضاء حاجتنا، بحيث لا نملك فراغًا نشغله في طلب تفسيرٍ معقول للقوة التي تُحرك تلك الأشياء، فتؤدي عملها على هذا الوجه الكامل، بل ولا نشعر بالرغبة في معرفتها.
ويقول العلم الحديث لنا إننا إذا نسبنا لشيءٍ ما مكانًا معينًا، فإن هذا الشيء لا يمكن أن ننسب له سرعة قابلة للتعيين، وإذا استطعنا أن نتبين سرعته، فلا يصح أن ننسب له مكانًا قابلًا للتعيين، ويقول لنا العلم الحديث أيضًا: إن الكون يتكون من ذرات، وإن الذرة تتكون من نواة مركزية تدور الإلكترونات حولها في مداراتٍ قابلة للتعيين، بيد أن التجارب قد أظهرت فيما يبدو أن من هذه الإلكترونات ما يتحرك بناءً على أسباب لا يعرفها إلا هو، في مدارين في نفس الوقت! هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن بفضل جاليليو، اتبع الذوق والإدراك السليم؛ فقصر نظره على الحقائق التي يمكن ملاحظتها وحدها، ثم حذونا حذوه فصرنا نواجه «حقيقة» ينكرها الإدراك السليم.
ولعلي قد قلت ما يكفي لأدلكم على أن أخص ما يميز الجو الفكري في زماننا هو كونه واقعيًّا أكثر منه عقليًّا، فالفكر الحديث جوه مشبع بالواقعي، فيكفيه القليل من النظري؛ ولنزد هذا بيانًا: إننا بحكم الضرورة ننظر إلى عالمنا إما بعين التاريخ وإما بعين العلم، فإذا نظرنا بعين التاريخ، رأيناه في تكوين مستديم، وهو بناءً على ذلك لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، فهو لم يكمل تكوينه بعد، وإذا نظرنا بعين العلم، رأيناه شيئًا ينبغي أن نسلم به كما هو، على أن نبدل أنفسنا لتستقيم فيه حياتنا بقدر الإمكان، وعلى أن نعالج منه ما يمكن أن نعالج، ونسخِّر لمنافعنا ما يمكن أن نسخِّر، وطالما نحسن استعمال الأشياء فإننا نستطيع أن نتجاهل الدافع الملح لسبر غورها وكشف أسرارها.
وهذا بلا شك أهم ما يفسر تلك الظاهرة العجيبة، وهي راحة العقل الحديث في هذا الكون الغامض.
٣
على أننا لو فحصنا أصول مذهبهم لتبيَّنَّا عند كل خطوة أثر فكر العصور الوسطى فيه، وإن كانوا هم عن هذا التأثير غافلين، فعندما فضحوا مثالب الفلسفة المسيحية، فعلوا ذلك بمقدار من الغلو يثبت عليهم أنهم ما فتئوا بعد في غل «الخرافات» التي هم بها يستهزئون، وهم حينما طرحوا عن أنفسهم خشية الله، كانوا يحافظون على ما ينبغي للربوبية من تأدب، وحينما سخروا من فكرة خلق العالم في ستة أيام، كانوا يرون في الكون آلة بديعة التركيب صنعها الكائن الأعظم بتدبير خبير حكيم، لتكون الأرض لبني آدم مستقرًّا، وحينما أيقنوا أن جنة عدن أسطورة من أساطير الأقدمين كانوا يتلفتون عبر السنين، متلهفين متحسرين على أيام المروءة الرومانية في أوجها الذهبي، أو عبر البحار إلى بنسلفانيا في العالم الجديد، حيث الناس في نعيم جنة لا تشوب طهارته شائبة من دنس، وهم حينما خرجوا على سلطان الكنيسة والإنجيل كانوا يثقون ثقة ساذجة بسلطان الطبيعة والعقل، وحينما احتقروا الميتافيزيقا كانوا يعتزون بأن يسموا فلاسفة، وجردوا السماء من جنة المأوى، ولكنهم — فيما يظهر — كانوا في فعلتهم هذه عجولين؛ لأنهم بقوا على إيمانهم بخلود النفس.
ولم يهابوا الخوض في الإلحاد، ولكن على غير مسمع من أتباعهم، وذادوا عن السماحة في شئون العقيدة الدينية، ذود المستبسلين، ولكنهم لم يستطيعوا مع القسيسين صبرًا إلا بشق الأنفس، وأنكروا حدوث الخوارق، ولكنهم آمنوا بقدرة الإنسان على بلوغ الكمال، وبعد أفلا تشعرون بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا في نفس الوقت سريعي التصديق كثيري الشكوك؟ وأنهم استهواهم الوقوف عند حد ما هو مدرك إدراكًا معاينًا متعارفًا فأضلهم، وأنهم على الرغم من مناهجهم العقلية وميولهم الإنسانية، ومن نفورهم من الشعوذة والحمية والغموض، ومن اندفاعهم نحو الشك والارتياب، ومن كونهم لا يقدسون شيئًا (وإن جرى هذا في أسلوب جذاب) ومن تطاولهم بالتجديف على المقامات السامية، (وإن جرى هذا على نحو ما يجري على ألسنة الشباب النزق)، ومن مثل وعيدهم بأنهم سيستخدمون في خنق آخر الملوك أمعاء آخر القسيسين، على الرغم من كل هذا، فلا يزال في كتاباتهم من الفلسفة المسيحية أثر أكبر مما تصوره مؤلفو كتبنا التاريخية حتى الآن.