١
حينما ترد عبارة «فلاسفة القرن الثامن عشر» يتجه الفكر أول ما يتجه — وهو على حق
في
اتجاهه هذا — لأسماء أشخاص فرنسيين بالذات، وهذه الأسماء أصبحت بسبب كثرة الكتابة عن
أصحابها مألوفة معروفة في كل مكان، منتسكييه، وفولتير، وروسو، ديدرو وهلفسيوس والبارون
دولباك، ترجو وكينيه وكوندرسيه، هذا إن قصرنا الذكر على أشهرهم،
٢ وكذلك يجوز لنا نحن ألا نلتفت إلا لفرنسا وحدها، لو كنا نُعنَى بفلسفة
القرن الثامن عشر، أو بالاستنارة (كما يطلق عليها أحيانًا) من حيث كونها سبقت ومهدت
للثورة الفرنسية، يجوز لنا في هذه الحالة أن نتخفف فنغفل حقيقة يغفلها أكثر الكتَّاب،
وهي أن فرنسا لم تكن البلد الوحيد الذي نعم (أو شقي إن شئت) بوجود الفلاسفة، ولكنني لا
أُعنَى بآثار الاستنارة بقدر ما أُعنَى بالأفكار التي سبقتها وأوجدتها؛ وعلى هذا فإنه
يخلق بنا أن نلاحظ أن تلك الحركة لم تكن حركة فرنسية بالذات، بل كانت جوًّا فكريًّا
عمَّ فرنسا وغيرها من البلاد، فكان من أبنائها حقًّا ليبنتز ولسنج وهردر وجيتة في شبابه
إلى حد ما، وفي بعض من أحواله المتغيرة،
٣ ولوك وهيوم وبولنجبروك وفرجوسون وآدم سميث وبرايس وبريستلي،
٤ وفي العالم الجديد جيفرسون ذو العقل الحساس المرهف، يلتقط وينقل أي هزة
تحدث في جو الأفكار، وفي العالم الجديد أيضًا فرانكلين
٥ الطباع صديق بني الإنسان — هؤلاء جميعًا ينتسبون لحركة الاستنارة، على
الرغم مما بينهم من تغاير، يرجع إلى خواصهم الذاتية أو القومية، فكانت دولة الفلاسفة
إذن دولة عامة، وما كانت فرنسا منها إلا البلد الأم، وما كانت باريس إلا حاضرتها
الكبرى، وأنَّى ذهبت: إنجلترا، هولندا، إيطاليا، إسبانيا، أميركا وغيرها، فأنت تلقاهم
—
أي الفلاسفة — يتكلمون نفس اللغة، ويعيشون في نفس الجو الفكري، ينتمون للبلاد جميعًا
لا
لبلد بعينه، فولاؤهم للإنسانية وحدها، ولا مطمح لهم إلا أن يُعَدُّوا ضمن «أولئك الرجال
القليلين الذين استحقوا شكر الإنسانية لما بذلوه في سبيلها من فطنة وعمل صالح.»
٦ هم المواطنون العالميون المتحررون، يقع نظرهم على عالم يخيل للرائي أنه
جدُّ حديث، وما ذلك إلا لأن النور قد انتشر منذ زمن قليل في أرجائه، وهو عالم يجدون فيه
كل ما هو جدير بالتفاتهم ظاهرًا مرئيًّا، وكل ما هو ظاهر ألفوه صافيًا واضحًا لأقصى
حدود الوضوح، على الرغم من كل ما قيل، ولا شبهة في أن عقل الإنسان يستطيع فهمه — أو قل
عقل الفلاسفة.
وهناك أمر آخر عن الفلاسفة له شيء من الأهمية يقتضينا إنصافهم أن نذكره ولو عرضًا؛
وخصوصًا لأن قليلًا فقط من الكتَّاب كلف نفسه ذكره، هذا الأمر هو — أن الفلاسفة لم
يكونوا فلاسفة، بمعنى أنهم لم يتخذوا من الفلسفة صناعة تعليم، مثل أولئك الذين يرون من
واجبهم أن يطلعوا على الناس في أوقات متلاحقة برسائل في نظرية المعرفة وما إليها من
موضوعات، رسائل مرتبة ولو أنها تولد ميتة، حقيقةً أن من فلاسفة القرن الثامن عشر من كان
فيلسوفًا بالمعنى الذي عرفناه، فكتابات ليبنتز ولوك وهيوم، ويصح أن نلحق بها كتابات آدم
سميث وهلفسيوس، مما يندرج تحت عنوان الفلسفة، ومما يعرض له في كتاب تاريخ الفلسفة، إلا
أن أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر كانوا أدباء يكتبون الكتب ليقرأها الناس، ولينشروا
فيهم آراء جديدة أو آراء قديمة في ثوب جديد، وحسبي أن أذكر أن فولتير كتب قصصًا للمسرح
وحكايات، وألَّف في التاريخ، ووضع كتابًا في أصول فيزيقا نيوتون للسيدات والسادة الذين
لم يُرزقوا حظًّا من معرفة الرياضيات، وأن فرانكلين كان من رجال العلم والاختراع، وكان
سياسيًّا وسفيرًا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا، وأول الأمريكيين اشتغالًا بفن المقالة
الصحفية القصيرة، وأكثرهم توفيقًا في ذلك الفن، وأن ديدرو كان بالإضافة إلى عمله في
الإشراف على تحرير دائرة المعارف وكفالتها، صحفيًّا يكتب في كل موضوع خطر على ذهنه
المتوقد، فمن معارض الفنون إلى ما تضمنته نظرية الكون الآلية من اللوازم الاجتماعية،
إلى ما يترتب على كبت العواطف في الراهبات من سوء الأثر، وأن روسو وهو في مجال إثبات
أن
الفن كان وبالًا على بني الإنسان استعمل أرفع درجات الفن في كتبه في الدعوة السياسية،
وفي قصصه التهذيبية، وأن مابلي وضع مؤلفًا تاريخيًّا مطولًا ليثبت أن فرنسا كان لها
فيما مضى دستور سياسي خليق جدًّا بالإعجاب، وإن لم يتيسر لها — لسبب غير ظاهر — أن تفيد
منه.
٧
ومع هذا ومع كون فلاسفة القرن الثامن عشر غير فلاسفة، فقد كانت لهم كما لنظرائهم
اليوم رسالة فلسفية نهضوا لإبلاغها وحملوا إلى بني آدم أنباء البشرى بما هو آتٍ، وإن
تساءلنا: أنزهوا أنفسهم عن الغرض؟ أأخلصوا للفكرة وحدها؟ قلنا قطعًا: لا، فلا تفتشن إذن
عن تلك الصفات السامية في كتاباتهم، وخصوصًا عندما يدَّعونها، لقد تجدها أحيانًا هنا
وهناك مثل عرض نيوتون وزملائه لنظرياتهم العلمية عرضًا علميًّا خالصًا، وربما صدق هذا
أيضًا على بعض آثار فرانكلين وهيوم، أما أن الفلاسفة عمومًا كانوا قومًا اعتزلوا الناس
واكتفوا بمعاينتهم والتلهي بهم، فإن هذا لم يكن من خصائصهم، حقيقةً تفيض آثارهم دقة فهم
وبراعة حديث وسخرية، وكان فولتير كما نعرف جميعًا مبرزًا في هذا، بيد أن السخرية لم
تعرض للأشياء في صميمها، ولم تمس إلا المثالب الظاهرة التي يسهل على أي إنسان أن يطلع
الناس على سخفها، وعلى ذلك لم تكن في أيديهم الدواء الشافي، بل كانت فقط ذلك النوع من
الدواء الذي يهيج الجسم لعله يقضي على الداء، وإنَّا لنرى أيضًا أن فلاسفة القرن الثامن
عشر لم يمسهم التشاؤم إلا مسًّا خفيفًا، ولم يستقر في نفوسهم كما فعل في «إباحيي»
٨ القرن السابع عشر، فإن قيل إن عدم اغترار هيوم وفرانكلين بالدنيا كان شيئًا
عميقًا حقًّا، أجبنا أن هذا صحيح، ولكن الرجلين استطاعا أن ينفسا عنه باتخاذ أسلوب من
التهكم الخفيف يمر دون أن يزعج أحدًا، بل دون أن يزعج صاحبيه على وجه ما، ولقد استخف
فولتير بكل شيء، ولكن أين استخفافه من استخفاف فردريك الأكبر،
٩ لقد كان استخفاف فريدريك شيئًا سرى في الدم، حتى صار جزءًا لا يتجزأ منه،
وأين هو من استخفاف لاروشفكو،
١٠ وكان هذا استخفاف نبيل من سراة القوم، لا يشعر نحو بني الإنسان قاطبة إلا
بعدم الاكتراث المجسم، وأين هو من استخفاف بسكال،
١١ لقد كان هذا أثر داء روحي قتَّال، أثر هَمٍّ في الفؤاد، والواقع أن استخفاف
فولتير لا يدل على أكثر من عبث عقل مرن طليق، أو على ضجر رجل مثالي ضاق ذرعًا بما هو
قائم في زمانه، وكان فولتير رجل تفاؤل حقًّا، وهذا على الرغم من «كانديد»
١٢ وأخواتها، ولكنه لم يكن من المتفائلين السذَّج، هبَّ للذب عن قضايا وعن
مبادئ، على أنه لم يختر القضايا الخاسرة، كان في زمانه كالصليبيين في زمانهم، مجاهد
أقسم ليسترد للدين الحق دين الإنسانية مدائنه ومعابده ومنازله، فولتير رجل شك! يا للخطأ
الغريب! كلا، إن فولتير رجل إيمان، ورسول دعوة وكفاح لم تفتر له همة حتى النهاية، وهذه
مؤلفاته في سبعين مجلدًا، فيها بلاغ للناس، فيها الحق الذي سيجعل من بني الإنسان رجالًا
أحرارًا.
والآن وقد بلغت هذا الموضوع، يخلق بي أن أذكر الكلمة الكثيرة الاستعمال «الحمية»،
ما
رأي القرن الثامن عشر فيها؟ إني أعلم أن كتَّاب هذا العصر وبصفة خاصة كتَّاب صدره،
يحرصون عمومًا على التزام القسط والهدوء، وعلى ألا يشردوا بعيدًا عن نداء الإدراك
الفطري السليم، وإني أعلم أن مشاهد الحمية تهيجهم وتدفعهم للسخرية، ولكن ألا يدل هذا
على أن التزامهم الهدوء، كان شيئًا متكلفًا من جانبهم؟ فمعنى أن يسخر الإنسان من شيء
أنه مهتم بذلك الشيء، وكان إذن نفور الفلاسفة من الحمية أبعد شيء عن عدم الاكتراث، أو
أن هذا النفور كان في ذاته الحمية، كان دليلًا على عزمهم ألا يسلموا إلا بما هو ظاهر
للحواس، وعلى مجاهدتهم الحميدة ليفتحوا للعقل نوافذ تتطهر بها حناياه العفنة الموصدة،
وإن جاز لواحد منهم أن يقنع بمشاهدة دنيا بني الإنسان دون أن يشغل قلبه بقليل أو بكثير
من أمرهم، كان هيوم الخليق بهذا؛ إذ كان له من أصالة الرأي النصيب الأوفر، كما كان
يختال بقدرته على ضبط نفسه وصيانتها من الانفعال كما لو كان زفس بعينه، كان كذلك بطبعه،
وكان ينبغي أن يكون كذلك بحكم فلسفته، فإن نظره فيها قاده إلى القول «بأن السبب الأول
للأشياء يستوي في اعتباره الخير والشر كما تستوي لديه الحرارة والبرودة.»
١٣ فقائل بهذا لا يمكن أن يخضع لوهم ما، ومع ذلك فقد رأى هيوم — على الرغم مما
اصطنعه من برود الطبع — أن رأيًا كهذا لا يدع مجالًا لاهتمامه بشيء ما قد جاوز في
الإسراف حدًّا بعيدًا، فأدرك وجوب تلطيفه نوعًا ما، فكتب في سنة ١٧٣٧:
أعمل الآن في تهذيب مؤلفي، أو بعبارة أخرى، أحاول أن أقلل ما استطعت من
إغضابه للناس، وهذا جبن، ولكني لا أستطيع أن أغلب الحمية على نفسي في كتبي
الفلسفية، بينما آخذ على الغير خضوعه لأنواع أخرى منها.
١٤
وأظن أن اعتذار هيوم عن عدم السير بحجته المتشائمة حتى نهايتها المنطقية بسبب رغبته
في تجنب الظهور بمظهر الحمية ينطوي على شيء من الدهاء المكشوف، وأعتقد أن السبب الحقيقي
الذي جعله يخفف من شكه هو شعوره بأن النتائج السالبة لا تنفع، يؤيد هذا قوله: «من سوء
الخلق أن ينشر الإنسان رأيًا يفضي بالناس إلى ارتكاب ما هو خطر أو ضار، ولِمَ التنقيب
في خفايا الطبيعة التي لا ينبعث منها إلا ما يشيع في الناس القلق، ولا ريب أن الحقائق
التي تؤدي إلى إيقاع الضرر بالمجتمع — إن صح أن هناك حقائق من هذا النوع — سوف تتراجع
أمام الأباطيل إن كانت طيبة نافعة.»
١٥
ومهما يكن فقد ترك هيوم عند منتصف عمره المباحث الفلسفية لغيره، واشتغل بعلوم أخرى
كالتاريخ، والأخلاق؛ أي بعلوم يمكن العمل فيها بلا مواربة دون أن يغضب أحدًا، فضلًا عما
فيها من عبر وعظات، وهكذا انحرف أمير المتشككين المبغض للحمية بغضًا حادًّا خالصًا عن
جادته، ليتخذ سبيلًا آخر في صحبة أولئك الذين نفعوا الإنسانية، فاستحقوا عنها خير
الجزاء.
وما كان هيوم في هذا إلا ممثلًا لعصره، يمثله في أن خاصية العصر لم تكن عدم الاكتراث
الناشئ من معرفة الدنيا على حقيقتها، بل كانت السعي المتلهف لوضع أمورها في نصابها،
وهاكم كلمتين قيل إنهما من اصطلاح القرن الثامن عشر: «فعل الخير والإنسانية»، صاغهما
فلاسفته للتعبير عن مثل أعلى مسيحي قديم هو السعي في مصالح الخلق، وفي هذا السياق نتذكر
على وجه الخصوص الأب دي سان بيير، كان رجل جد ووداعة، جمَّ النشاط على غير كبير طائل،
«يضحكون منه، ولكنه لا يرى في جده ما يستوجب الضحك.»
١٦ وكم من مسعى لهذا القديس في حرث الدنيا وفي مصالح الناس الدنيوية، وكم من
مشروع وضع، وكم من فكرة اقترح، لتحسين أحوال الإنسان: «مشروع لتمهيد الطرق في فصل
الشتاء»، «مشروع لإصلاح الاستجداء»، «مشروع لجعل الأمراء رجالًا نافعين»، وذات يوم خطر
بباله بغتةً مشروع بهت لجماله، وقضى خمسة عشر يومًا كاملة في درسه وصياغته
١٧ ثم طلع باقتراحه المشهور «مشروع لإقرار سلام أبدي في أوروبا».
وبعدُ فلنا إن شئنا أن نضحك نحن أيضًا من الأب مع الضاحكين، ولكن ألا يذكرنا كلفه
بالمشروعات برجل منا نحن الأمريكيين، بجيفرسون وشغفه بالإصلاح، وبأمريكي آخر هو
فرانكلين، وبالفوائد التي ملأ بها التقويم الذي سماه تقويم ريتشارد المسكين،
١٨ ولنضحك منه ما شئنا على أن نكون واثقين من أننا لا نضحك منه وحده، بل من
العصر كله، فما كان الأب دي سان بيير إلا مثلًا لعصر شغله صلاح أمر الإنسانية، وولع
بوضع مشروعات عديدة لخيرها، ولن نستطيع أن نجد رجلًا ما في ذلك الربيع المزهر من تاريخ
الإنسانية لم تكن له يد في تدبير مشروع أو في تخيل مشروع، بل وماذا كانت تصنع أكثر
الأكاديميات العلمية في فرنسا سوى بحث المشروعات والتخاصم على المشروعات والتمتع
بالمشروعات، بل وماذا كانت دائرة المعارف، وماذا كانت الثورة الفرنسية نفسها؟ مشروعات
كبرى ولا شك، وفي الجملة وفي لب الموضوع ماذا كان يشغل ذلك القرن الثامن عشر المستنير؟
وما هي أهميته بين العصور سوى أنه وقف كل ما ملك من جهد لتوطئة السبل لبلوغ بني الإنسان
السعادة والتمتع بنعم الحرية والإخاء والمساواة، وأن رجاله آلوا على أنفسهم أن يحققوا
ذلك، وأنهم واصلوا البحث في وسائله مواصلة لا تنقطع، ودعوا الناس إليه دعوة تفيض حرارةً
وإيمانًا، وأنهم حين قدروا أن الأجيال المقبلة ستعرف لهم جميل صنعهم سعدوا بذلك، وسكبوا
دموعًا لم تكن دموع محزون، وكان من أمرهم أنهم لم يغفلوا شيئًا ما حتى ذلك المشروع
البسيط بساطة السذاجة لجعل الأمراء رجالًا نافعين، ولك أن تسأل هل كانت مشروعات العصر
في جملتها أكثر غناءً من مشروعات الأب دي سان بيير، أو هي كذلك في الظاهر فقط؟ ومهما
يكن فمنبعهما جميعًا كان ذلك المثل الأعلى المسيحي، وهو السعي في مصالح الخلق، وذلك
الدافع الإنساني نحو تقويم المعوج.
هذا وإني لست بغافل عما حدث من تغيير خلال القرن الثامن عشر في مظاهر التعبير عن
ذلك
الدافع التقويمي لإصلاح الفساد، وذلك أنه منذ حوالي عام ١٧٥٠ بدأت العاطفية تطغى على
الإدراك السليم، وبلغ من قوة تأثيرها في السلوك أن كانت دموع القوم تنهمر لأي انفعال،
وقد قيل إن روسو هو المسئول عن تلك الظاهرة العجيبة، والظاهر أن الرجل مظلوم، فالثابت
أن ديدرو — مثلًا — عرف البكاء قبل أن يتصل بروسو، وبقي يسكب الدموع حتى بعد أن تخاصما
وانفصلا، والثابت أيضًا أن الظاهرة كانت أمرًا ذائعًا من زمن، ففي عام ١٧٦٠ حينما اعترف
القسيس الصغير الأب جالياني
١٩ لديدرو بأنه لم يبك في حياته قط، وقع ذلك أسوأ وقع في نفس صاحبه، وقبل هذا
بأعوام حين قال فونتنيل إنه يستبعد العواطف من كل شيء إلا من الشعر الوصفي للحياة الريفية
٢٠ أثار هذا القول في نفس جريم شعورًا يقرب من الكراهية، وهذا على الرغم مما
كان عليه جريم من برودة الطبع واستقامة النظر، هذا على أنه لا ينبغي لنا أن نبالغ في
أمر هذه المظاهر، والمهم هو أن ندرك أن كتمان رجل كفونتنيل ما في نفسه، واستفاضة عواطف
رجل كديدرو كانا كلاهما آية انشراح صدر الرجلين لنوع من الإيمان جديد يفوق في نظر العصر
انشراح الصدر للدين قوة وتأثيرًا، بيد أن الفلاسفة كانوا إلى روح الدين أدنى مما علموا،
كانوا حملة الرسالة التي خلفها المذهب البروتستنتي والمذهب الجانسنيوسي
٢١ وإن جردوها من صبغتها الدينية، وما كان نفورهم من الحمية في حقيقة الأمر
إلا علامة الغيظ، لقد غاظهم وهم جماعة المستنيرين أن الإنسانية ظلت دهرًا طويلًا يضلها
القسيسون وبطانة القسيسين من الدجالين الذين تولوا عن القسيسين قضاء مآربهم، وما زالوا
بعد يتولونه، ووسيلتهم إلى هذا أن يختموا على عقول العامة وأن يجعلوا عليها غشاوة
فيمتنع عنها نور العقل، وتبقى ناعمة في ضباب العاطفة. ويصرخ جريم من أعماق نفسه: «لقد
استغرق إخضاع بني الإنسان لجبروت القسيسين أزمانًا، وسوف يستغرق خلاصهم منه أزمانًا،
ويقتضي جهدًا موصولًا ونجاحًا بعد نجاح.»
٢٢ فيتعين علينا إذن ألا يحملنا عبث القوم وظروفهم وأدب أسلوبهم ورصانة نثرهم
على ألا ندرك ما وراء هذا كله من نار تتقد ومن أسى يملأ الجنوب، وما أحراهم بأن تجري
على لسانهم صيحة اليأس التي فاه بها القديسون من قبل طلبًا للفرج والخلاص: «إلى متى يا
رباه! إلى متى!»
ولو قدر الفلاسفة أن تجري الأمور وفق ما اشتهوا لما طال أمد انتظار الفرج، على أنهم
عكفوا على تحقيق ما تصبو نفوسهم إليه، فهبوا ينشدون الحقائق في ذاتها، وقاموا يفسدون
على المضلين ناشري الغموض تدبيرهم، بيد أنهم خشوا الظهور بمظاهر الحمية فأخفوها وراء
حجاب من الهدوء المتكلف، كان مطلبهم الحق، ولكن أي حق يطلبون؟ ذلك الحق الذي تستقيم معه
دعوتهم، ويستطيعون أن يتخذوا منه منافع شتى، فقد حذرهم إدراك فطري سليم من أخطار معرفة
كل شيء، ألا يقول المثل السائر: «من يفهم كل شيء يعف عن كل شيء»، وكانوا بعدُ على قرب
من العهد بسلطان الأباطيل، لا يطيقون معه صبرًا على ترك باطل ما وشأنه، وكان جهدهم في
نشر النور قد استنفد قواهم، فحال بينهم وبين لذة إرجاء الحكم على الأشياء، وما إن تحررت
نفوسهم من رق الأوهام حتى أدركوا أن عليهم رسالة يخلق بهم أن يؤدوها، رسالة خلاص
البشرية بأسرها، والرسالة تحمل خصائص الحركات المهدوية، بذلوا في سبيل أدائها قدرًا من
قوة اليقين والإخلاص والحمية لا يُقدر، وكلما تقدم القرن الثامن عشر نحو نهايته، زادت
الحمية تأججًا وزاد ولههم بالحرية والعدل، وبالحق والإنسانية، إلى أن برح بهم الوجد
فكان ذلك المشهد التاريخي الرمزي يوم ٨ يونيو ١٧٩٤، حين نهض المواطن روبسبير في محفل
من
قومه حاملًا في يد باقة من الأزهار، وفي الأخرى مشعلًا، وأشعل النار رمزًا لتطهير
العالم من الجهل والإثم والسفه، وكان هذا إيذانًا بقيام دين جديد، دين الإنسانية، وكان
مشهدًا خليقًا بالإعجاب والأسى معًا!
٢٣
لقد أسرف الكتَّاب في تأكيد جانب السلب من كفاح أولئك المجاهدين في سبيل نصرة العقل،
أسرف هذا الإسراف كتَّاب القرن التاسع عشر؛ لأنهم كرهوا رجال عصر الاستنارة، وأسرفنا
نحن في القرن العشرين؛ لأننا لا نحب رجال العصر الفيكتوري، والواقع أن هذا السلب من
جانب رجال القرن الثامن عشر لم يَعْدُ في أكثر الأحايين أن يكون حكمًا تهكميًّا على
قشور الأشياء، وأنه لم يجاوزها إلى اللب، خذ مثلًا تلك النفثة الخاطفة البراقة من نفثات
ذكاء فولتير: «ما التاريخ في نهاية الأمر، وبعد أن نقول كل ما يمكن أن يقال فيه، إلا
حاصل احتيال الأحياء على الأموات.» نسمع هذا فنقول: ما أصدقه! ونعجب لعمق فكرة فولتير،
ثم يهدينا بعد ذلك قليل من البحث إلى أن نرى أنه لم يَعْنِ بالضبط ما نعنيه نحن، أما
هو
فإنه لم يرد أكثر من أن يدمغ بأسلوبه الظريف المؤرخين غير الأمناء، وأما نحن فإنَّا نرى
أن فولتير قد عبَّر بأوجز عبارة عن حقيقة خطيرة ألا وهي أن أي تاريخ مهما كان أمينًا
لا
بد أن يكتسب شيئًا من ذاتية كاتبه، حتى ولو لم يتعمد هذا ذلك، وأن كل جيل من الناس لا
يجد محيصًا إذا ما شاء أن يحصل على نوع التاريخ الذي يرضيه من أن يحتال على الأموات،
فينسب إليهم الأفعال والأقوال التي تكون نوع التاريخ الذي يريد، وخذ مثلًا آخر قوله:
«لا شيء أدعى لحنق الإنسان من أن يُشنق سرًّا.» تُرى هل فهم فولتير جميع ما انطوى عليه
هذا القول الوافر؟ تُرى هل أدرك ما ندرك نحن الآن — أو ما نظن أننا نُدرك — وهو أنه هو
وزملاءه الفلاسفة قد استمدوا غير قليل من التشجيع على مواصلة الجهاد في سبيل الحرية
والعدل من توقعهم أن يكون جزاء سفاهاتهم أن يشنقوا (أو في الأغلب تماثيلهم فقط) علانيةً
لا سرًّا.
ولكننا إذا كنا قد فهمنا من سالبهم معاني تزيد كثيرًا على ما أرادوا، فقد تقبلنا
موجبهم وإشهادهم على أنفسهم طبقًا لما أرادوا، خذ مثلًا تحديد فولتير للدين الطبيعي:
«أفهم من الدين الطبيعي مبادئ الأخلاق كما هي مقبولة لدى بني الإنسان عمومًا.»
٢٤ وإذا لم يتطرق إلينا كثير من الضجر فلنلق هذا السؤال العابر: «وما
الأخلاق؟» دون انتظار للإجابة على سؤالنا؛ إذ قد ثبت بالاختبار أن تقريرات الفلاسفة
تحير، وخذ مثلًا آخر: تحديد فولني للقانون الطبيعي، وأقرنه بتحديد الحبر الملائكي (أي
القديس توماس الأكويني) الذي سبق لنا ذكره، قال فولني: «(القانون الطبيعي) هو النظام
المطرد الثابت للحقائق، وبه يدبر الله الكون في النظام الذي اقتضت حكمته أن يُظهره
لإدراك الإنسان الحسي والعقلي، لكي يكون لبني الإنسان قانونًا موحدًا مشتركًا، يضبط
تصرفاتهم، ويهديهم جميعًا دون اعتبار ما لألوانهم وألسنتهم وشيعهم نحو الكمال والسعادة.»
٢٥
عبارات هذا التحديد في ذاتها لا غرابة فيها، ولكن لو نفذ نظرنا إلى الفكرة نفسها،
فهلَّا نرى أنها غريبة عنَّا، بعيدة بعد فكرة توماس الأكويني، ولا بأس بتحديد فولني إن
استطعنا إثباته فلنسأله: كيف اكتسبت هذه المعرفة التامة بالله وبشئونه؟! ومن أنبأك أيها
الرجل الشاك — اسمح لنا أن ننعتك هكذا؛ إذ إنك أنت الذي حملتنا على أن نتصورك شاكًّا
—
من أنبأك أن هناك نظامًا ثابتًا مطردًا في الطبيعة؟ وهذا الحيوان الإنسان (ذلك النوع
الممقوت كما وصفه فردريك الأكبر) كيف استطعت أن تثق — كما أنت واثق — من أنه يفهم معنى
الكمال أو أن الكمال — بفرض أنه يبلغه — يجعله سعيدًا؟
على هذا النحو من البساطة كانت تقريرات الفلاسفة تدعي صحة كل ما هو محتاج أشد الحاجة
لإقامة الدليل على صحته، فكانت كما في اصطلاح علم المنطق مصادرات على المطلوب، على كل
مطلوب يمكن أن يخطر ببالنا أن ننكره أو نتشكك فيه أو نثيره، فلا عجب أن يكون أول ما
تتصور عقولنا المتصنعة عن أولئك الشاكين المسلمين بالكثير أنهم كانوا قومًا سريعي
التصديق سهلي الاقتناع جدًّا، وأنهم بالرغم عن كل شيء كانوا بسطاء جدًّا، وأن عواطفهم
الإنسانية ساقتهم دون تفكير وروية إلى الترحيب بكثير من الكلام المعاد، وتقبل أنواع
هزيلة من الدواء الذي يشفي من كل داء. ويحملنا رأينا هذا فيهم على أن نستشف — نحن
المولعون باستجلاء كل سقيم — حقيقة حالهم، نريد أن نعرف علة هذا التفاؤل الهش، نريد أن
نعرف سر قوام هذا الإيمان الصبياني وسر هذه الأهواء التي جعلتهم يرون فوضى هذا العالم
المعقد نسقًا واضحًا بسيطًا متماثلًا. ترى هل جاءهم الوحي بنبأ فاستمدوا منه سلطانًا
للكلام باسم الله؟ والظاهر أنهم ادعوا شيئًا من هذا، فهذا — مثلًا — شريد جنيفا تراه
على هوان قدره على نفسه يتحد كبيرًا من كبراء الأساقفة بصوت متهدج النبرات قاصف كالرعد،
وبعبارة أسرف فيها علوًّا: «أسألك أهو الطريق المستقيم، أهو الشيء الطبيعي أن يجد الله
في البحث عن موسى ليكلفه إبلاغ أمر إلى جان جاك روسو.»
٢٦
سؤال لا نستطيع نحن أن نجد له جوابًا، وظاهر أن روسو كان يخفي في جيبه الجواب الذي
يراه هو ويراه أصحابه الفلاسفة كافيًا شافيًا، وها نحن أولاء قد بدأنا نشعر أن أصحابنا
هؤلاء اعتقدوا أن لهم وحدهم سببًا يرتقون به للسماء أو مدخلًا خفيًّا يلجون منه إليها،
بابًا موصدًا دوننا، ولكنه يُفتح لهم وحدهم حين يقرعونه قرعًا متعارفًا عليه بينهم،
وإنَّا لنريد أن ندخل منه، نريد أن نعرف ماذا كان في صدر جان جاك روسو حينما طلب أن
يعرف — رأسًا ودون وسيط — رسالة الله له.
٢
إن شئنا أن نحصل على المداخل الخفية الخلفية التي يلج منها أهل عصر من العصور خفيةً
إلى دار المعرفة، فيحسن بنا أن نبدأ بالتفتيش عن كلمة السر بين كلمات معينة مبهمة
المعنى، خفية المنزلة، تدور على الألسنة، وتجري بها الأقلام، دون تردد واستقصاء، كلمات
فقدت بالتكرار المستمر معناها المجازي، فتوهمها الناس حقائق — ذات ماهيات ثابتة، كان
للقرن الثالث عشر من هذا النوع من الكلمات: الله – الإثم – النعمة – النجاة – الجنة –
وما إليها. وللقرن التاسع عشر: المادة – الحقيقة – الحقيقي – التطور – التقدم المطرد.
وللقرن العشرين: النسبية – تعاقب الظواهر الملاءمة – الوظيفة – المركب. وللقرن الثامن
عشر كلمات لا يستغني عنها مستنيرٌ ما، يبغي نتيجة يمكنه الوقوف عندها هي: الطبيعة –
القانون الطبيعي – العلة الأولى – العقل – العاطفة – الإنسانية – القابلية للكمال. ولعل
الثلاث الأخيرة كانت ألزم الكلمات لأصحاب القلوب اللينة منهم.
ومن خواص هذه الكلمات السحرية أنها تظهر وتذيع ثم تغيب وتختفي، وهي تفعل هذا وذاك
خلسةً، ولعل العلامة الوحيدة التي تنبئ باقترابها منا أو ابتعادها عنا، أننا نشعر أول
ما تُذكر بشيء قليل من الحرج، بشيء من الارتباك الذي يصحب الإتيان بما ليس مألوفًا،
فمثلًا كلمة «التقدم المطرد»، نعمت بمنزلة طيبة منذ زمن طويل، ولكنا قد بدأنا نشعر
حينما نستعملها بين الخاصة بضرورة التهوين من أمرها بعض الشيء، فنضعها — مثلًا — بين
علامتي حصر، والعلامتان كما نعرف هما الاعتذار التقليدي الذي يخلصنا عادةً من الارتباك،
أما الكلمات الأعرق نسبًا، فإنها تسبب لنا عنتًا أكبر، وإنَّا لنذكر كيف كان الرئيس
ويلسون في خطبه في أثناء الحرب العالمية الأولى يسبب لنا ارتباكًا غير قليل، حين كان
يتحدث عن «الإنسانية» حديث صحبة وألفة، وحين كان يجهر صراحةً بحبه لبني الإنسان. فإذا
ما انتقلنا للكلمات: الإثم – النعمة – النجاة، كنا كمن يستحضر أشباحًا من عالم الموتى،
ولا عذر مطلقًا لمن يفعل ذلك، فإن الالتقاء بأولئك المحضرين في مشهد لا عهد لأحد بشهوده
مفزع حقًّا يعقل اللسان مهما كانت ظروف الالتقاء مواتية.
وهذه الكلمات السلطانية الكبرى لم تختف تمامًا في القرن الثامن عشر، ولكن استعمالها
بدأ يبطل عند أرقى المثقفين على الأقل، حقيقةً ظل اللاهوتيون — كما هو لازم — يكثرون
من
استخدامها، ولكن حتى هؤلاء شعروا بالحاجة إلى تبرير ذلك الاستعمال تبريرًا عقليًّا، ومن
الأمثلة على هذا كتاب الأسقف بطلر المشهور: تمثيل الدين طبيعيًّا ومنزلًا (١٧٣٧)،
٢٧ وما كان هذا الكتاب إلا محاولة من محاولات عديدة للتبرير بالعقل، وإن كانت
من أكثرها بسطًا وأوفرها جهدًا، هذا ما كان من أمر اللاهوتيين، أما غيرهم من رجال الأدب
أو من رجال الطبقة الراقية، فإن عقولهم المتصنعة مجت تلك الكلمات الأساسية، كما لو كانت
لا تتفق مع حسن الذوق، اجتنبها المستنيرون العقلاء واستخدموا عوضًا عنها مترادفات أو
كتابات أقل تحديدًا وإثارةً للشبهة، فجعلوا من صورة الإنسان ناجيًا ناعمًا في الدار
الإلهية، تخيلًا مبهمًا «للحياة المستقبلة» أو «لخلود النفس»، أو «للسعادة الدنيوية»
أو
«للكمال الإنساني» في اجتماع دنيوي بحت، وأما النعمة الإلهية فيرادفها عندهم «الفضيلة»
بالمعنى الذي عرفه الرومان إلى حد ما — فهي في تعريف مارمونتيل «جماع الاستقامة والطيبة
الخلقية — هذا هو أساس الفضيلة»،
٢٨ وعلى هذا فإن ما اعتبر إنسان «رجل فضيلة» كان هذا كفيلًا بتزكيته
اجتماعيًّا دون أن يكلف نفسه عناء استطلاع خفايا قلبه، ليعرف حقيقة حاله، بل يجوز لنا
أن نقول: إن «رجل الفضيلة» قد يبلغ درجة القديسين إن اشتهرت حاله الشهرة الكافية، وفي
ظني أن هيوم وفرانكلين حينما كانا في فرنسا كان لديهما من الدلائل على أنهما قد بلغا
من
هذه الدرجة مثل ما بلغ أي قديس من قديسي الكنيسة تمامًا.
وهكذا أقام الفلاسفة مدينتهم الفاضلة على دعائم ترتكز على هذا الثرى، وجعلوا «تزكية
الإنسان» من شأن الإنسان نفسه، وتصوروا «الربوبية» على ما يشتهون، ثم استحوذ عليهم ما
أنساهم الله، ومنهم من قسا قلبه فجحده، إلا أن أكثرهم لم يُهْوِ إلى هذا الحد، وقد حال
دون انحدارهم أنهم نشئوا وعاشوا في مجتمع مستقر ناسه بعضهم فوق بعض درجات، ولآداب
المخالطة والمعاشرة فيه أوضاع، ولفنه قواعد وضوابط، فلا بدع أن نفروا من الجحود المطلق،
فالجحود المطلق معناه كون بلا نظام لا يطيقون أن يتصوروه، فالأسلم إذن — حتى في نظر
المستنيرين — أن يبقى للكون رب أو شيء ما يقوم مقامه، يكمل للكون صورة يطمئن لها
الإدراك الفطري السليم، على أن كونًا على هذه الصورة لا تلزم ربه الصفات الفاخرة
البشرية التي نسبها أهل العصور السابقة للرب الأب، وما حاجة رجال العصر إليها وخالق
الكون عندهم ما هو إلا مبدؤه الأول! وما دام هذا المبدأ الأول قد أدى ما ينبغي لمبدأ
أول أن يقوم به فبدأ الأشياء، فلا ينبغي بعد ذلك أن يكون له بها شأن، بل حسبه أن يأوي
حيث الوجود المطلق، وإذن فلا يدبر للناس أمرًا ولا يرهقهم، ولا حاجة به إلى قرابينهم
وزلفاهم، وحسب ذوي الألباب منه أنه العلم أو الخير، يتأملونه مقدسين، ولكن غير خاشعين
أو قانتين، وكان لا بد لأولي الألباب أن يطلقوا عليه اسمًا يغنيهم عن اسم الرب الأب،
ولكنهم لم يتفقوا على شيء، فأحيانًا هو الكائن الأعظم، وأحيانًا موجد الكون، وأحيانًا
المقتدر الكبير، وأحيانًا المحرك الأول، وأحيانًا العلة الأولى، وهي جميعًا تؤدي
المعنى، وإن كان عدم اتفاقهم على اسم منها يُحيرنا كثيرًا.
وبعد أن فعل الفلاسفة فعلتهم، وجعلوا من الرب الأب تجريدًا رقيقًا سموه العلة الأولى،
كانوا على استعداد للاستغناء عما نزل الله في كتبه، وعما أبلغ الناس عن طريق الكنيسة،
والواقع أن هذا الاستغناء كان مدار فعلة الفسوق التي فعلوا، فشرط الاستنارة عندهم هو
إنكار ما أنزل إلى السلف، والاستنارة هي أن يرى الإنسان النور في تمامه، والنور في
تمامه يكتشف حقيقتين بسيطتين بديهيتين، إحداهما أن ما زُعم عن إظهار الله خلقه على
مشيئته في كتبه المنزلة، وعن طريق كنيسته زور وبهتان، أو — إن أُحسن الظن — وهْم منشؤه
الجهل، ألقاه القسيسون في روع الناس، أو — على الأقل — زينوه لهم لكي يزيدوهم هواجس،
فيبقى لهم السلطان عليهم، وهذه الحقيقة تجمع المسائل التي أنكروا، وقد قلنا: إن فهمنا
لها ليس بالشيء العسير، وأما الحقيقة الأخرى فهي أن الله أظهر الخلق على مشيئته عن طريق
أعماله، وهو طريق أكثر بساطة واستقامة وأقل غموضًا وإشكالًا من طريق الوحي، وهذه
الحقيقة تجمع المسائل التي أثبتوا، وقد قلنا: إن فهمنا لها أصعب من فهمنا لصاحبتها،
والمستنير هو الرجل الذي يُدرك هاتين الحقيقتين، وأن سنة الله مسطرة لا في الكتب
المقدسة، وإنما في كتاب الطبيعة الأكبر، وهو كتاب منشور للعالمين، هذا هو التنزيل
الجديد، وهكذا ظهر لنا باب المعرفة بعد أن كان خفيًّا وآن لنا أن نلجه.
وهكذا عرفنا أن جان جاك روسو وأصحابه الفلاسفة، حينما خرجوا يبتغون معرفة رسالة الله
إليهم، كان مقصدهم الحصول على هذا الكتاب، كتاب الطبيعة المنشور.
الطبيعة والقانون الطبيعي، ما أشد ما سحرت هذه الكلمات ذلك العصر الفلسفي، وأيما
أثر
لذلك العصر تطلع عليه، فإنك لواجد لأول نظرة الطبيعة والقانون الطبيعي مرقومتين في كل
سطر من سطوره، لقد قرأت عليكم في موضع آخر مختارات من آثار هيوم وفولتير وروسو وفولني،
وفي كل ما قرأت عليكم تشغل كلمة «الطبيعة» مكان الصدارة لا ينازعها فيها منازع، كما لو
كانت أخلق الضيوف جميعًا بالحفاوة، وحينما ابتغيت عنوانًا يليق بموضوع محاضرتي هذه، كان
حسبي أن أرجع لإعلان استقلال الولايات المتحدة، فأقرأ في ديباجته هذه العبارة:
لكي تشغل (أي الولايات المتحدة الأمريكية) بين دول العالم ذلك المكان المستقل
المكافئ غيره من الأمكنة، والذي تؤهلها لشغله قوانين الطبيعة، وقوانين رب
الطبيعة.
وإذا ما انتقلت إلى النص المقابل له، وهو إعلان الجمعية الوطنية الفرنسية حقوق
الإنسان الطبيعة، فإنك لتقرأ فيه:
إن الغاية من كل اجتماع سياسي، هي صون حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة
للتقادم.
وإذا ما تركت هذين النصين إلى المصنفات في علم ناشئ إذ ذاك، هو علم الاقتصاد، فإنك
لواجد الاقتصاديين أيضًا يطالبون بإزالة القيود المصطنعة التي قيدت حركة التجارة
والصناعة؛ وذلك لكي يصبح الإنسان حرًّا في أن يتجه حسبما يوجهه قانون طبيعي آخر، هو
قانون المصلحة الذاتية، وإذا ما تحولت من الاقتصاديين إلى ذلك الحشد المؤلف من كتب
ورسائل، وضعها أناس من أهل العصر في الدين والأخلاق، ثم صارت نسيًا منسيًّا، فإنك لواجد
فيها حججًا لا تنتهي إلى شيء وآراء تتضارب، ونتائج تتغاير، ولا تقبل فيما هو ظاهر أن
يوفق فيما بينها، تجد هذا فيها جميعًا، ولكنك تجد أيضًا اتفاقًا بين هؤلاء المتجادلين
المختلفين المتشيعين لشيع متعددة، على شيء واحد هو تحكيم الطبيعة، لتفصل بينهم فيما هم
فيه مختلفون، وها هو ذا الأسقف النصراني بطلر يقرر في وثوق «أن التمثيل بالطبيعة يؤيد
تمامًا أن لا شيء غير قابل للتصديق في العقيدة الدينية العامة (النصرانية) الخاصة
بإثابة الله الناس، وعقابهم في الدار الآخرة على أعمالهم في الحياة الدنيا.»
٢٩ وها هو ذا الإلهي فولتير يرفض النصرانية، ولكنه يؤكد في جزم مماثل لجزم
النصارى «أن القانون الطبيعي وهو ما تلقاه الناس عن الطبيعة هو دعامة الإيمان بالأديان.»
٣٠ وها هو ذا الملحد هولباك يرفض الإيمان الديني بجميع أنواعه، ولكنه يعتقد
«أن الأخلاق الملائمة للإنسان يجب أن تُستمد من طبيعته.»
٣١
وهكذا يشترك النصراني والإلهي والملحد في الاعتراف بسلطان كتاب الطبيعة، وإن كانوا
قد
اختلفوا فيما بينهم في هذا الشأن، فإن اختلافهم كان على مدى حجية هذا السلطان، أهو مضاف
ومؤيد بسلطان التنزيل؟ أم هو ناسخ له؟ ففي كلتا الحالتين للطبيعة شأن، وفي كلتا
الحالتين هي المحك والمقياس، وهكذا هيَّأ الجو الفكري في القرن الثامن عشر لقادته
الاعتقاد بأن ما من فكرة أو عادة أو سنة من سنن الإنسان ببالغة الكمال، إلا إن اتفقت
اتفاقًا تامًّا على تلك القوانين التي «تطلع الطبيعة البشر كلهم عليها في جميع الآباد.»
٣٢
ولم تكن فكرة الطبيعة أو القانون الطبيعي شيئًا طرأ على القرن الثامن عشر،
فأرسطاطاليس يقرُّ الرِّق على اعتبار أنه يطابق الطبيعة،
٣٣ والقيصر الروماني الرواقي ماركوس أورليوس يرى أن «أي شيء يجري على سنن
الطبيعة لا يمكن أن يكون شرًّا.»
٣٤
والفقهاء الرومانيون بذلوا الجهد لكي يوفقوا بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي
(وقانون الشعوب الذي اهتدى بنو الإنسان إلى ضرورة خلقه بمحض عقولهم.)
وتوماس الأكويني كان يرى «أن إشراق القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو الذي يُسمى
القانون الطبيعي.»
٣٥
وكالفن يذهب إلى أن «النصفة الطبيعية تقتضي أن يتخذ الأمير ما استطاع من عدة القتال
ليحمي الرعية الموكولة إلى رعايته من أي اعتداء يقع عليها.»
٣٦ وروبرت باركلاي المنتسب لجماعة الخلان أو «الكويكرز» يقول: «إن حمل الناس
على اعتقاد ما لا ترضاه ضمائرهم مضاد للقانون الطبيعي بالذات.»
٣٧
وفيتوريا وهو معلم دومينيكي يحدد قانون الشعوب بأنه: «القانون الذي سنه العقل
الطبيعي، ليسري على جميع الشعوب.»
٣٨ وسواريز الفيلسوف اليسوعي يرى «أن نور الفهم الطبيعي حينما يبين من تلقاء
نفسه ما هو واجب الفعل يمكن أن يُسمى القانون الطبيعي.»
٣٩
وجروتيوس أقام الاجتماع المدني والاجتماع الدولي، كليهما على الطبيعة الإنسانية «وهي
أم القانون الطبيعي»،
٤٠ وأصحاب الحركة المعروفة في التاريخ الإنجليزي في القرن السابع عشر بحركة
المسوين بين الناس، استندوا في تبرير حركتهم إلى «قوانين الله والطبيعة»،
٤١ وهوبز احتج بقوانين الله والطبيعة في تقرير أن الحكم المطلق نظام مشروع»،
٤٢ ولوك احتج بها نفسها في تقرير أنه باطل، ومنتني — وكان رجلًا مولعًا دائمًا
بأية فكرة تخطر — يرى أن ليس من العقل في شيء «أن تتحكم الصناعة في الطبيعة أمنا
الكبيرة القوية.»
٤٣ وأخيرًا ولكيلا أزيد صبرك احتمالًا أذكر رأي باسكال، هدته صحبته الطويلة
للطبيعة وسننها إلى أن يقرر في شأنها هذا الحكم: «وبعد فما هي الطبيعة؟ ولِمَ لا تكون
العادة أمرًا لا طبيعيًّا؟ إني أخشى كثيرًا ألا تكون الطبيعة إلا العادة الأولى، وألا
تكون العادة إلا الطبيعة الثانية.»
٤٤
وإذن فلم تكن هذه الصورة المثالية للطبيعة شيئًا خاصًّا بالقرن الثامن عشر وحده، ولكن
كان للطبيعة في ذلك القرن شأن لم يكن لها فيما سبقه من العصور، كانت صورتها في القرن
الثامن عشر أتم وأوفى مما كانت من قبل، خليقة بأن تستهوي أهله حقًّا، كانت صورتها في
العصور السابقة له أقرب لتمثيل «شبح» الطبيعة — إن جاز القول — منها لتمثيل الأصل نفسه،
وكان الإدراك الفطري يشعر الناس حتى القرن الثامن عشر بأن مظهر الطبيعة يدل على أنها
ليست سلسة القياد، بل على أنها غامضة محفوفة بالمكاره، أو في أحسن الأحوال — شيء متنافر
مع بني الإنسان، فاحتاج الناس إلى توكيد جازم مصدق بأن لا داعي يدعوهم للخوف، وأتاهم
اللاهوتيون والفلاسفة بهذا التوكيد؛ قالوا لهم: إن الله خير وعقل، فكل ما يخلقه لا بد
أن يكون على نحو ما خيرًا وعقلًا، حتى ولو ظهر لعقلنا المحدود أنه ليس كذلك، واستنبطوا
بناءً على هذا نظام الطبيعة من الصفات التي نسبوها للخالق؛ ولذا كان القانون الطبيعي
عندهم متعلقًا بكون تصوري مفارق للكون الحقيقي؛ أي بتركيب منطقي مثاله في العقل الإلهي،
ينعكس انعكاسًا أقل جلاءً في عقول الفلاسفة، فلا علاقة إذن للقانون الطبيعي بالظواهر
الطبيعية؛ أي بما يحدث فعلًا في الطبيعة.
ومهما كان من أمر توكيد اللاهوتيين والفلاسفة القدامى أن منظر «شبح» الطبيعة أسوأ
من
مخبره، فإن الناس اطمأنوا حقًّا في القرن الثامن عشر إلى أنه لم يعد يطرقهم ليخيفهم؛
إذ
قد تحول إلى ما هو أثبت من خيال، صار ذا ماهية ثابتة، وتكرر طروقه فألفوه وعرفوه، وإن
شئت أن تدرك حقيقة أمر الطبيعة في ذلك العصر فلا خير من الرجوع إلى «هيوم»؛ وهذا لأن
الرجل أنعم النظر فيها أكثر مما فعل أي رجل آخر من معاصريه؛ وهذا أيضًا لأنه أدرك قبل
غيره أنها وهم، وعلى ذلك فقد صدر عنه، على لسان كليانتيس أحد الأشخاص الخياليين الذين
أدار هيوم بينهم المحاورات في الدين الطبيعي، وصف للصورة المثالية للطبيعة، لا نجد
خيرًا منه في آثار الفلاسفة.
يقول كليانتيس في معرض الانتصار للدين الطبيعي: «انظر فيما حولك من العالم، تأمله
كُلًّا، وتأمل كل جزء من أجزائه، ألا تراه يزيد في نظرك عظمة، وأن هذه الآلة العظيمة
تتكون من آلات أصغر، وكل من هذه الآلات تتكون من أصغر منها، وهكذا على نسق وإلى حد تعجز
الملَكات البشرية عن متابعته وحصره وتفسيره، وكل هذه الآلات كبيرها وصغيرها تدخل في
تراكيب دقيقة تخطف أبصار المتأملين حقًّا، وثم حقيقة أخرى، هي أن ما نشاهده في الطبيعة
من تجاوب بين الغايات والوسائل له ما يماثله تمامًا فيما يوجده ذكاء الإنسان، مع مراعاة
ما بين النوعين من تغاير في المقدار، وعلى ذلك فلنا أن نقول: إنه بما أن المعقولات
تتماثل، فلنا أن نذهب إلى أن عللها تتماثل، أو بعبارة أخرى — إلى أن موجد الطبيعة مماثل
على نحو ما لعقل الإنسان، مع مراعاة ما بينهما من فرق في القدرة يتناسب مع ما بين
أفعالهما من فرق العظمة.»
٤٥
ولهذا النص دلالتان؛ نلاحظ أولًا أنه يدل على أن عملية الاستدلال المنطقي قد عكست،
فكليانتيس لا يستدل على أن الطبيعة يجب أن تكون عاقلة بكون الله عقلًا أزليًّا، بل هو
يعكس ويقول: إن الله لا بد أن يكون مهندسًا؛ لأن الطبيعة آلة؛ أي إنه جعل من القانون
الطبيعي، ومما يحدث فعلًا في عالم الطبيعة شيئًا واحدًا، ويؤيد هذا التأويل للاتجاه
الجديد أن الذي يثير في نفس كليانتيس الإعجاب، لم يكن جمال الصورة المنطقية للعالم، بل
كان دقة التركيب وانسجام الأجزاء الكلية التي شاهدها فعلًا فيما هو قائم، فالطبيعة هذه
ليست إذن تصورًا منطقيًّا بل حقيقة مادية، والقانون الطبيعي ليس تركيبًا من تراكيب
المنطق القياسي، بل هو الأفعال المنتظمة المشاهدة الملاحظة التي تفعلها الأشياء
المادية.
وهكذا استحالت الصورة المثالية للطبيعة صورة أخرى، وهذه الاستحالة — كما نعرف جميعًا
— من أثر مكتشفات القرن السابع عشر العلمية وأساسها الملاحظة، لاحظ جاليليو فعلًا
معينًا للبندول، واستنبط من ملاحظاته قانون البندول وصاغه في حدود رياضية، وكان نيوتون
رجلًا مؤمنًا يُوقن حقًّا بأن السموات تُسبح بجلال الله، ولكنه آثر لتحقيق أغراض البحث
في أفعالها أن يتأملها بعدسة التلسكوب، وأن يسجل تأملاته في صيغ رياضية، وقد هداه هذا
إلى أن كل جسيم في السموات وفي غير السموات يفعل كما لو كان يجذب إليه كل جسيم آخر بقوة
متناسبة طرديًّا مع حاصل ضرب الكتلتين وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما. كان هذا نوعًا
جديدًا من قانون الطبيعة، ويعبر عن هذا التطور الناشر للطبعة الثانية من كتاب «المبادئ»
لنيوتون في قوله: إن الفلاسفة فيما مضى شغلتهم تسمية الأشياء عن البحث في ماهياتها.
ويعبر عنه نيوتون نفسه في قوله: «إن هذه المبادئ ليست خاصيات خفية تنشأ عن صورة الأشياء
بالذات، بل هي قوانين طبيعية عامة تشكل الأشياء على ما هي عليه.»
٤٦
كان هذا مدخلًا جديدًا للعلم فتحته الفلسفة الطبيعية، فعبر عنه بالعبارتين «البحث
في
ماهيات الأشياء»، ثم صياغة «القوانين الطبيعية العامة التي تشكل الأشياء على ما هي
عليه.»
وحق لهذه الفلسفة الجديدة أن تبهر الأنظار إعجابًا، وكان أعجب ما كان من أمرها أن
الطرائق التي اتبعت للكشف عن الحقائق العظيمة التي اكتشفت كانت في حد ذاتها بسيطة عادية
جدًّا، فمثلًا أن يكتشف نيوتون طبيعة الضوء، كان في ذاته أقل إثارة لإعجاب معاصريه من
كونه توصل إليه بتحريك منشور بين يديه، فكأن الطبيعة قد غدت لأول مرة قريبة جدًا من بني
الإنسان يستطيعون أن يلمسوها بأيديهم، وأن يطلعوا على دقائقها العجيبة بأعينهم، وأنها
ليست في حقيقة الأمر إلا تلك الأشياء العادية التي يراها أي واحد من الناس بعينه،
ويلمسها بيديه كل يوم، وأن القانون الطبيعي ما هو إلا الكيفية المطردة التي تقع بها
أفعال تلك الأشياء، البخار يدفع بعضه بعضًا من بزبوز غلاية الماء، الدخان صاعدًا خفيفًا
خفيفًا من المدخنة، ضباب الصباح منقشعًا عن المرعى، ها هي ذي الطبيعة في كل ما حولنا
تجري على سنن لا غموض فيها لتأتي بعجائبها، تطلع آحاد الناس جاهلهم وعالمهم على حد سواء
على قوانينها النافذة في كل شيء معقولية وخيرًا، وإلى حد ما غرابة وتعقيدًا
أيضًا.
وحينما أضحت الفلسفة تستخدم أنابيب الاختبار بدلًا من فن الجدل كان لأي إنسان —
بالقدر الذي يسمح به ذكاؤه واهتمامه — أن يصبح فيلسوفًا، ويقول جيتة: «أقنع كثير من
الناس أنفسهم بأن الطبيعة وهبتهم فعلًا قدرًا من الإدراك السليم المستقيم، يكفيهم فيما
يظنون لكي يكونوا رأيًا واضحًا عن مختلف الأشياء، وأنهم بهذا قد أصبحوا قادرين على
تسخيرها لمنفعتهم ومنفعة أبناء جنسهم، دون حاجة إلى عناء التفكير في القضايا الكونية،
ولم يقفوا عند حد الاقتناع، بل طبقوا فعلًا منهجهم البسيط الذي وصفت، ففتحوا أعينهم
وتوجهوا بأبصارهم نحو الأشياء لا يتلفتون عنها يمنةً ولا يسرةً ملاحظين مجدين
نشيطين.
وبلغ من هذا أن ادعى كل إنسان لنفسه الحق، لا في التحدث في الفلسفة فحسب، بل في أن
ينتحل شيئًا فشيئًا اسم «الفيلسوف»، وبلغ من ذلك أيضًا أن صارت الفلسفة لا تختلف في
الكثير ولا في القليل عن مجرد الإدراك السليم البسيط العلمي، ولم يتردد واحد من الناس
في أن يعالج القضايا الفلسفية العامة والتجارب الباطنة والظاهرة بهذه الأداة التي
يملكها الناس جميعًا، وكانت خاتمة المطاف أنك تجد الآن الفلاسفة في جميع الكليات
الجامعية، وليس فيها فقط، بل في مختلف الطوائف وبين أصحاب مختلف الحرف.»
٤٧
ويذكِّر كلام جيتة بقول أفلاطون المشهور: «إلى أن يصبح الفلاسفة هم الملوك، فلن ينقطع
للمدائن فساد.» أما وقد صار كل زيد من الناس فيلسوفًا، فقد حق للفلسفة أن تُحدث أثرًا
سواءً للخير أو للشر؛ وذلك لأن زيدًا ونظراءه لا يصطنعون الفلسفة — إذا هم اصطنعوها —
حبًّا فيما تكسبه عقولهم من مرانة في الجدل، ولكنهم يفعلون ذلك أملًا في الحصول عن
طريقها على حياة أفضل، وهم حين تروقهم فلسفة ما ينزعون إلى إضافتها لعظيم من عظماء
الرجال يستهويهم حبًّا أو كرهًا إن أخرج الناس مذهبًا جديدًا، وهم حينما يأخذون بهذا
المذهب ينسبون له من المعاني ما لم يخطر على بال صاحبه، ولنا في شيء حدث في الخمسين سنة
الأخيرة شاهد بهذا عندما قرن الجمهور «فلسفة التطور» باسم داروين،
٤٨ وجعل الداروينية تفيد إما «القردية» أو تسلسل البشرية من فصيلة القرود أو
تحميل الرجل الأبيض أعباء البشرية (أو تبرير استعباد الأوروبيين للشعوب الأخرى)،
والمعنيان يدهش لهما داروين لو أتيح له أن يطلع عليهما، فقد كان الرجل مستغرقًا في
علمه، ومثل هذا حدث في القرن الثامن عشر، ربط الجمهور الفلسفة الجديدة باسم نيوتون، على
اعتبار أن الرجل بكشفه عن «القانون العام للطبيعة»، رفع حجاب الغموض، وأثبت بالبرهان
أن
لا شيء فيها غير معقول، وغير قابل لأن يفهم، وأنها تبعًا لذلك قابلة لأن تسخر لمنافع
الناس، وبرهن هو على هذا فيما ظن الجمهور على حين أن غيره من العلماء لم يتعد فيما يظن
الجمهور حد تقريره فقط.
وأصبحت الفلسفة النيوتونية — على هذا النحو — شيئًا مألوفًا لدى الجمهور في منتصف
القرن الثامن عشر، مثل الفلسفة الداروينية في زماننا، ويقول فولتير: إن آثار نيوتون لا
يقرأها إلا قليل من الناس، وسبب ذلك أن فهمها يقتضي من القارئ أن يكون عالمًا، ولكن في
الوقت نفسه يتحدث في نظريات نيوتون كل إنسان، ولم يقرءوا كتبه، هم لا يهمهم كثيرًا ما
قرره من أمثال أن «رد الفعل مساوٍ دائمًا ومقابل للفعل»، بل الذي يهمهم حقًّا هو
الفلسفة النيوتونية، وهذا شيء آخر، وليس هناك ما يدعوهم إلى أن يرجعوا لكتابه «المبادئ»
لكي يجدوا الفلسفة النيوتونية، بل الأفضل لهم ألا يفعلوا ذلك، وأولى بهم أن يتركوا هذا
لناشري آراء نيوتون بين الجمهور، هؤلاء أقدر من العامة على أن يحصلوا من الكتاب على ما
شاءوا من الفلسفة، بل لعلهم أقدر على هذا من نيوتون نفسه! فليرجع إذن من شاء إلى الكتب
من أمثال «تمهيد مبسط سهل للفلسفة النيوتونية في ستة فصول، وتوضيحه ستة ألواح نحاسية»،
(من وضع بيامين مارتن ونشر في ١٧٥١ وطبع خمس مرات)، أو «علم الفلك مقامًا على مبادئ
السير إسحاق نيوتون، وميسرًا لمن لم يدرسوا الرياضيات»، (من وضع جيمس فرجوسون ونشر في
١٧٥٦ وطبع سبع مرات)، أو «أصول فلسفة نيوتون» من وضع فولتير، ونشرت له ترجمة إنجليزية
في ١٧٣٨، أو «النيوتونية للسيدات»، من وضع الكونت الجوروتي، وطبع بالإيطالية ثلاث مرات،
ونشرت له ترجمة بالفرنسية في سنة ١٧٣٨، وأخرى بالإنجليزية في ١٧٣٩ بعنوان «نظرية الضوء
والألوان»، أو لمن يفضلون العلم نظمًا — «النظام النيوتوني للكون — الصورة المثالية
للحكومة – قصيدة رمزية»، (من إنشاء ج. ت. دساجلييه وتاريخها ١٧٢٨).
٤٩
يجد الناس في هذه كلها وأمثالها ما كانوا يبتغون من الفلسفة النيوتونية، وهم لم
يبتغوا من هذه الفلسفة النظريات العلمية لذاتها، وإنما لعلاقتها بقضية القضايا، بالقضية
الأساسية، ألا وهي علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان والطبيعة كليهما بالله،
ويبسط الموضوع على خير وجه كولن مالكورين أستاذ الرياضيات في جامعة أدنبرة في كتابه
«عرض اكتشافات السير إسحاق نيوتون الفلسفية»، ولعل هذا الكتاب أحسن ما أخرج بالإنجليزية
لتقريب فلسفة نيوتون من الأذهان، (وقد نشر في ١٧٧٥)، قال:
موضوع الفلسفة الطبيعية وصف الظواهر الطبيعية وشرح عللها، وبحث النظام العام
للعالم، وقد دفع حب الاستطلاع الإنسان في جميع الأذهان دفعًا قويًّا نحو النظر
العلمي في الطبيعة، ولا توجد صناعة نافعة للإنسان إلا ولها ارتباط بهذا النظر
العلمي، وللموجودات جمال لا ينفد، ولها فيما بينها اختلاف وتنوع وتعدد، وهذا
الجمال وهذا التنوع يكسبان النظر العلمي في الطبيعة متعة وطرافة وجدَّة
دائمة.
ولكن الفلسفة الطبيعية تخدم غايات أسمى من هذا، وأسمى هذه الغايات هي أنها
تضع أساسًا للدين الطبيعي وللفلسفة الأخلاقية؛ وهذا لأنها تهدينا بطريقة مرضية
لمعرفة موجد الكون ومدبر أمره، وأن أداء الفلسفة الطبيعية لهذا لهو أهم ما
يكسبها اعتبارًا.
إننا يجب علينا أن نلتمس معرفة الله عن طريق النظر في صنعه، وليس خليقًا بنا
أن نتخذ مما أوتينا من العلم القليل القاصر عن هذا الكائن العظيم الباطن مادة
لتعليل قضائه وقدره ووصف أفعاله.
وإن ما نراه في الطبيعة على كل ما يشوب نظرنا من نقص لكفيل بأن يدلنا دلالة
محسوسة على تلك القدرة النافذة في كل شيء الفعالة بقوة وسداد، ولا يعييها أعظم
أبعاد الفضاء أو الزمان، وتلك الحكمة الجلية — على حد سواء — في تركيب الأشياء
جليلها ودقيقها التركيب الرائع وفي إحكام حركاتها، وهذه القدرة والحكمة توجههما
— على ما هو مشاهد — إرادة الخير المطلق.
ومن هذا جميعه يتكون المقصد الأسمى لنظر الفيلسوف، وإن الفيلسوف حين يتأمل
هذا النظام الكامل ويعجب به لا يلبث أن يهتز حمية وشوقًا ليماثل في نفسه
الانسجام العام السائد في عالم الطبيعة.
٥٠
والكلمات التي اختتمت بها هذه القطعة تعبر تعبيرًا صادقًا عن حالة الشعور عند منتصف
القرن الثامن عشر، ونستدل بها على أن مريدي الفلسفة النيوتونية ما زالوا بعدُ أهل عبادة
وتهجد، بيد أنهم خلعوا على ما يعبدون شكلًا آخر واسمًا جديدًا، فهم إذ نزهوا الله عن
الطبيعة، اتخذوا من الطبيعة ربًّا، ولهم — إن شاءوا — أن يرددوا دون تكلف وبيسير من
التعديل دعوة صاحب المزامير: «أرفع عيني إلى الطبيعة من حيث يأتي عوني.»
٥١
فإذا هم رفعوا أبصارهم نحو السماء وتأملوا هذا النظام الكامل وأعجبوا به، اهتزوا
حميةً وشوقًا ليماثلوا في أنفسهم الانسجام العام السائد في عالم الطبيعة.
٣
وللرغبة في أن تماثل النفس الانسجام الطبيعي العام منبع دائم في قلب الإنسان، ولقد
هوت أفئدة القديسين في جميع عصور التاريخ إلى الاتحاد بآلهة أزمانهم، وكان الطريق إلى
الاتحاد بالله في العصور الوسطى الصوم والصلاة وحرمان الجسد من ملذاته وقهر «الإنسان
الطبيعي».
وجاء في الآثار:
من ذا الذي سيخلصني من الجسد الحالِّ فيه هذا الموت! والجسد — مقام الروح
إلى حين — كل ما فيه متنافر، هو لباس من البلى دنس ملوث مطبق على الروح حاجب
لها، فلا تجد في أثناء رحلتها الدنيوية وسيلة للاتحاد بالله إلا بعناء، هذا إن
وجدت، ولكن أصحابنا أهل الاستنارة اعتقدوا شيئًا آخر؛ وذلك أنهم حينما كشفوا عن
أعينهم الغطاء، رأوا أن الإنسان الطبيعي والإنسان الروحي ما هما إلا مظهران
متباينان لكائن واحد منسجم في ذاته.
وقد تولى جون لوك وضع إرادة الإيمان هذه في قالب عقلي، وتم له هذا في كتابه التاريخي
«مقال في موضوع الفهم الإنساني»، الذي أصبح المرجع الأساسي للقرن الثامن عشر في علم
النفس، وكان أهم ما أفاده أهل العصر من الكتاب بسطه لقضية المعاني الغريزية، وقد جاء
فيه أن العقل لا يحصل على شيء ما من المعرفة بالوراثة، فليست هناك معانٍ غريزية، ولكنه
يحصل على المعرفة من وجوده في بيئته، ومن الإحساسات التي تتوالى وتتدفق، ويقول أحد
النقاد المحدثين: «إن نظرية المعاني الغريزية التي أثبت لوك فسادها ليست إلا صورة ساذجة
ممسوخة من المذهب الحقيقي للغريزية، لدرجة أنه يصعب أن نتصور أن أحدًا من رجال الفكر
الجادين اعتقد في الغريزية على الوجه الذي عرض له لوك.
٥٢
وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن الذي يهم تاريخيًّا هو وجود تلك الصورة الساذجة الممسوخة
فعلًا، وذيوع أمرها وتصديق الناس لها. والواقع أن الشيء الذي سعى لوك لهدمه، ونال بذلك
تهليل القرن الثامن عشر كان العقيدة النصرانية التي تقرر أن الإنسان آثم خسيس بجبلته،
وقد تتابعت الأجيال وهذه العقيدة جاثمة على صدر الإنسان، تنقض ظهره كأنها السحابة
السوداء تطبق الجو، ثم جاء لوك وقرر أن النفس عند الميلاد تخلو من أي معنى مغروس فيها،
وليست في الحقيقة عندئذ إلا كالصحيفة البيضاء من الورق، الخالية من أي نقش، ثم ينقش
العالم الخارجي الطبيعي والإنساني على هذه الصحيفة البيضاء جميع المعاني والمبادئ،
خيرها وشرها المرقومة في النفس، فإن كان المحيط الخارجي مضطرب النغم، متنافر الألحان،
فالنفس تكون كذلك، ولو تحقق ما ينبغي أن يتحقق — وليس ذلك بعزيز — فاستقام النغم وانتظم
اللحن، فإن النفس تستقيم أيضًا. هذا ما انتهى إليه لوك، وبه نال ما نال من علوم الصيت
في عصره، وقد قدر له معاصروه أنه هيأ لهم أن يصدقوا ما كانت أنفسهم تواقة لتصديقه دون
أن يخدعوها أو يكلفوها ما لا تطيق، هيأ لهم أن يصدقوا أن الإنسان ونفس الإنسان تسويهما
وتصورهما الطبيعة، والطبيعة خلقها الله فلبني الإنسان إذن المقدرة على أن ينشئوا بين
النظام الطبيعي العام وأفكارهم وأفعالهم توافقًا وانسجامًا لا يقتصر على الأفكار
والأفعال فحسب، بل يمتد أيضًا إلى مختلف أنظمة الحياة، «ولا يحتاجون لبلوغ هذا لأكثر
من
استعمال ملكاتهم الطبيعية.»
٥٣
وقد رحب عصر الاستنارة بهذا المذهب أيما ترحيب، وآمن به إيمان بساطة وتصديق، ونهض
الناس شجعانًا متسامين وتنادوا: هلموا إلى العمل، فقد صار في الإمكان أن نشكل كل شيء
من
جديد طبقًا لقوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة.
والصيحة: «هلموا إلى العمل» شيء والعمل شيء آخر، فالعقبات كثيرة جدًّا لا حصر لها،
هذا من حيث العمل، ولكن الأمر ليس أمر عمل فحسب؛ فسلامة الفكرة ذاتها كانت موضع شبهة،
فإنك إن دققت النظر في استدلالات لوك الطويلة العريضة، فلن تستطيع أن تخفي عن نفسك
ملاحظة تبعث على القلق والحيرة، هي هذه: بما أن الطبيعة صنع الله، وبما أن الإنسان صنع
الطبيعة فكل ما يخطر ببال الإنسان، وكل ما يفعله الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل،
لا بد أن يكون شيئًا طبيعيًّا ومتفقًا مع قوانين الطبيعة وقوانين رب الطبيعة، جال شيء
من هذا في صدر باسكال حينما ساءل نفسه: «لمَ تكون العادة أمرًا لا طبيعيًّا؟» ومهما يكن
الجواب فإننا لا يزال عند السؤال: إن كان كل شيء جرى ويجري وسيجري طبيعيًّا، فكيف يتأتى
أن يكون للإنسان أفعال وعادات متنافرة مع الطبيعة؟ وهل يجوز لنا أن نعتبر مخرجًا من
الإشكال ما ذهب إليه الشاعر إسكندر بوب من عدم وجود تنافر؟ إذ جاء في قصيدته المشهورة
«الإنسان» ما يأتي:
ما الأشياء جميعها إلا أجزاء من كل واحد ترد عظمته الطرف كليلًا
هذا الكل الطبيعة جسده والله روحه
وما يظهر لأبصارنا شقاقًا هو ائتلاف خفيت عنا حقيقته
وما الشر إلا شيء جزئي غايته الخير العميم.
وعلى الرغم مما يذهب إليه الغرور، وعلى الرغم من العقل الضال، فإن هناك حقيقة واحدة
واضحة كل الوضوح هي: أن كل شيء كائن حق.
٥٤
والشاعر يخاطب العقل، ولكن كلامه ليس جوابًا، بل هو هروب من الإجابة، هو مصادرة على
المطلوب، فإن تقرير الشاعر أن كل شيء كائن حق سلب كلمة حق أي معنى تفيده، اللهم إلا أن
عندنا سيرتنا الأولى، فجعلنا على أعيننا غطاء من الإيمان النصراني، وهذا ما فعله الشاعر
بوب في الواقع، تأثر خطا القديس توماس حين كتب عشرين مجلدًا، لينزل السكينة على عالم
كان على شفا جرف هار من الشك، عشرين مجلدًا ليُعلن للناس أن وجود الباطل حق، هكذا
الدنيا، وعلم ذلك عند الله وحده.
وللشاعر رخصته، له إن أراد إرسال المثل السائر أو التماس راحة الضمير أن يرجع إلى
اللاهوتيين السالفين، ولكن هل يستطيع الفلاسفة أن يفعلوا هذا دون أن ينكروا مقدمات
استدلالاتهم وشهادة الإدراك الفطري، وكيف يتأتى لهم هذا وقوام فلسفتهم أن وجود الله
وإرادته الخير يستدل عليها المؤمنون بما يشاهدون من أحوال العالم، لقد قالوا في هذا ما
قاله نيوتون، وكرروا القول حتى صار حديثًا معادًا، وشارك الفلاسفة فيه اللاهوتيون
المسيحيون المستنيرون، حين سعوا جهد سعيهم للإتيان بحجج ترد لليقين المفرطين في الشك،
٥٥ وهل يستطيع الفلاسفة أن يقولوا إن كل شيء خير في نظر الله، دون أن يقولوا
أن لا شر مطلقًا في عالم الطبيعة والإنسانية يقع عليه الحس؟ وكيف يمكن أن يقولوا أن لا
شر مطلقًا في هذا العالم؟ ألم يبلغهم نبأ الزلزلة التي دكت مدينة لشبونة العامرة
الآهلة، وجعلتها أثرًا بعد عين، ونبأ الباستيل وما يجري فيه،
٥٦ ونبأ الحشود من بني الإنسان تشهد عذاب رجال تفكك عجلة العقاب أوصالهم
وتميتهم موتًا بطيئًا متمهلًا، فيطول كربهم إلى أن تزهق أرواحهم، والناس من حولهم
حاشدون شاخصة أبصارهم، لكيلا تفوتهم فائتة مما هم به مستمتعون؟ أبعد هذا يقال أن لا شر
في الدنيا؟ إن من يقول بهذا يشهد على نفسه بأن لا ذرة لديه من الإدراك الفطري، وجملة
القول أن لوك مهما كان فضله، لم يأت بحل مقبول لمشكلة وجود الشر في العالم، هذا إن لم
يكن قد زادها إشكالًا على إشكال، بالنسبة لغير الحذرين من قرائه.
ولم يفت هيوم أن يُعالج تلك القضية القديمة قدم العالم نفسه، فعل هذا قبل منتصف القرن
الثامن عشر، وقلبها على جميع وجوهها، ثم سلط عليها في «محاوراته في الدين الطبيعي»،
جميع ما ملكته الفلسفة الجديدة من وسائل الجدل، وأنفذ فيها نظرًا ثاقبًا، تزينه الرجاحة
وأدب المتحضرين، وانتهى إلى أن قرر في غير هوادة ولا لين عجز العقل عن إثبات وجود الله
وإرادته الخير، قال: إن الأسئلة التي سألها أبيقور قديمًا ما زالت بعدُ بلا جواب، سأل
أبيقور: أيريد الله أن يمنع حدوث الشر ولكنه لا يقدر؟ إذن هو غير قادر، أيقدر على منعه
ولكنه لا يريد؟ إذن هو غير مريد للخير، وإن كان قادرًا ومريدًا، فمن أين جاء الشر؟
٥٧ وحشر هيوم المتصوفة المسيحيين والملحدين في فرقة واحدة بناء على اتفاقهما
التام على المسألة الأساسية، وهي عجز العقل عجزًا كاملًا عن تعليل المسائل الأساسية،
وختم كلامه بكلمة جمعت كل ما أوتيه من تهكم: «لكي يصير الأديب مسيحيًّا متين الإيمان
سليم العقيدة، يجب عليه أن يبدأ فيلسوفًا شاكًّا.»
٥٨ فلو انتقل الإنسان لمحاورات هيوم من قراءة فهم وتقدير لكتب الإلهيين
المخلصين والفلاسفة المتفائلين الذين كتبوا في العقود الأولى من القرن الثامن عشر، فإنه
ملاق عند هيوم ما تبرد به حميته، وما يبعث في نفسه القلق والذعر.
وكان مثل الناس في عصر الاستنارة، وقد هبوا مذعورين مثل قرية أوى أهلها للقيلولة
آمنين مطمئنين، وفجأة أحسوا بدعائم مساكنهم تتخلخل، وبالرجفة قادمة من بعيد لتزلزل
أقدامهم.
طلعت إذن على الناس من ثنايا المقدمات البديعة للفلسفة الجديدة مشكلة نكراء حاروا
بين
طرفيها، فإن هم قالوا: إن الطبيعة خير، اقتضى هذا ألا يكون في العالم شر، وإن هم قالوا:
إن العالم فيه شر، اقتضى هذا ألا تكون الطبيعة خيِّرة بقدر ما في العالم من شر، وماذا
فعل أصحابنا المستنيرون والحال كذلك، وماذا كان من أمرهم بعد أن هبوا — والعقل رائدهم
وهاديهم — واثقين بأنفسهم راضين عن ألمعيتهم ليسووا عالمًا غير متناسب القسمات طبقًا
لما رسمت الطبيعة، كانوا بين حالين، إما أن يغضوا بصرهم عن وجود الحقائق الغفل، فيزعموا
أن لا شر في العالم، وعندئذ فلا معوج يقومونه، وإما أن ينظروا بأعينهم فيسلموا بوجود
الشر في العالم، وعندئذ لا يجدون في الطبيعة معيارًا للإصلاح، لقد تبعوا العقل حيث
وجههم، أهم تابعوه حتى النهاية؟ والنهاية وجهتان لا ثالثة لهما، إحداهما العودة للإيمان
المسيحي، والأخرى التقدم نحو الإلحاد، فأي الوجهتين يختارون؟ وسواء اختاروا هذه أو تلك،
فإن العقل سوف يختفي عن أنظارهم، ويتركهم يواجهون الحياة بلا سند، سوى الرجاء أو عدم
المبالاة أو اليأس.
ولكن الفلاسفة وجدوا بعد ضيق فرجًا، وعثروا على مخرج من مأزقهم، شأن بني الإنسان
دائمًا، فهم حينما يضيق عليهم الخناق يلتمسون الخلاص عن طريق تطويع العقل، وقد طوع
الفلاسفة العقل بأن أضافوا العواطف إليه، فجعلوا الحكم لا له وحده، بل له وللقلب معًا،
وبأن قيدوه بقيود من التجارب، فجعلوا للتجارب القول الفصل، وبأن استمهلوه مناشدين إياه
أن يرجئ أحكامه إلى أجل، متعللين بأن أقرب الظن أن العالم لا يعدو بعدُ أن يكون رواية
لم تتم فصولًا أو آلة لم يكمل صنعها، هو بعدُ شيء ناقص آخذ في سبيل الاكتمال، وتعللوا
عند اللزوم «بأقرب الظن هذا»، كما لو كان هو الواقع، وسيكون همنا في المحاضرتين
التاليتين، أن نزيد هذا كله بسطًا، وأن نطلعكم على ما كان من أمر الفلاسفة، وكيف آثروا
اتباع العقل، ولعلهم أحسنوا عندما اختاروا سبيله، وإن كانوا لم يُحسنوا العمل تحت
لوائه، وكيف ساروا قدمًا لبناء صرح المدينة الفاضلة التي خطرت على قلوبهم، وجعلوها آية
التمام والبهاء والكمال.