١
يذكر برونيتيير في إحدى كتاباته أن الوثائق الرسمية مهما اختلفت أغراضها، لم يدونها
كاتبوها لكي يتخذ منها المؤرخون مادة كتبهم،
١ ويؤيد هذا ما تحققته من أن مسلك الناس وفعالهم تدل على أن تيسير عمل
المؤرخين في الأزمنة المستقبلة آخر ما يبالون به، فمثلًا لو أن هيوم نشر كتابه
«المحاورات في الدين الطبيعي»، وقتما أتم تصنيفه لأراحني من عناء كبير، فلو كان قد نشر
الكتاب لاستطعت أن أقول إن غيره من الفلاسفة — ديدرو وهولباك مثلًا — قرأه، أو أن
جفرسون اقتنى نسخة منه لخزانته، أو أن فرانكلين ذكر الكتاب في إحدى رسائله، وأنه تأثر
بتعمق البحث، ولكنت استطعت أن أتتبَّع بناءً على هذا وأمثاله ما يسمونه أثر محاورات
هيوم إلى أن أنتهي — وأنا راضٍ بما قدمت — إلى أن الفلسفة قد انصرفت — بعد أن بين لها
هيوم أن ما هي آخذة في سبيله لا مخرج منه — عن النظر العقلي المحض إلى دراسة التاريخ
والأخلاق والسياسة، ولو كان هيوم قد نشر الكتاب وقتما أتمه؛ لأتاح لي أن أعين بلا مشقة
تاريخًا محددًا لانصراف الفلسفة إلى تلك الدراسات، ولكن هيوم لم يبالِ بتيسير أمري،
فبمجرد أن أكمل المحاورات أودعها خزانته دون أن يطلع عليها سوى نفر من أخص أصحابه، وبقي
الكتاب مجهولًا في حياته.
وهكذا حرمني هيوم من تاريخ معين بسيط، أبدأ منه عملية استدلال تاريخي أنيقة.
وهذه مأساة، ولكنها لا تحدث كثيرًا، فمن البين أن أكثر المصنفين لا يفعلون مثل ما
فعل
هيوم، ولكن هل هي مأساة حقًّا؟ أظن لا، فلئن فوَّت علينا هيوم تعيين سنة لبدء اتجاه
جديد في الفلسفة، فقد عوضنا عن ذلك غنمًا كبيرًا؛ إذ إن عدم نشر الكتاب حال دون أن نقع
فيما يتوهمه السذج من أن فريقًا من الفلاسفة ساقته قراءة الكتاب للإلحاد، وهذا الضرب
من
الوهم شائع بين المشتغلين بتاريخ الأدب، فهؤلاء يجدون متعة أيما متعة في تسجيل انتقال
الأفكار من كاتب إلى كاتب، كما لو كانت الأفكار دراهم تنتقل من يد إلى يد، فإذا ما ثبت
لديهم مثلًا أن زيدًا من الناس قرأ كتاب عمرو، أو كان من المحتمل أنه قرأه، فلا بد أن
زيدًا أخذ عن عمرو الفكرة الفلانية، وهم إذ يفعلون ذلك يغفلون عن حقيقة أساسية هي أنه
لولا أن تلك الفكرة أو ما يقرب منها كانت تتشكل في ذهن زيد على نحو ما، لما اهتم بأن
يقرأ كتاب عمرو مطلقًا، أو لو قرأه لرماه جانبًا أو أصدر عنه نقدًا ليظهر أنه كتاب رديء
ضال، وكم من كتاب أثر في قارئه على عكس ما قصد الكاتب! وهذه مدام رولان قرأت كتب هولباك
وهلفسيوس، ولكن هذه الكتب لم تجعل منها امرأة ملحدة، بل — على الضد — ثبتتها في إيمانها
بالله، وصرفتها لكتب روسو تبتغي فيها شفاء، ولولا كتب الملحدين لصح جدًّا أن مدام رولان
ما كانت لتقبل على روسو على النحو الذي فعلت.
٢
وبعدُ فلا بأس بأن نعرف أن هيوم أخفى كتاب المحاورات، ولكن الأهم من هذا أن نعرف
لماذا اهتم بأن يصنف الكتاب، فإن إخفاءه في زمانه لم يقدم ولم يؤخر شيئًا، كما هو الحال
بالنسبة لإعادة طبعه في زماننا، ولنا أن نقرأ «المحاورات» اليوم إن شئنا، ولكن لن يقرأه
إلا القلة منا التي تهمها — تاريخيًّا — القضايا التي عالجها، وفي عصر هيوم لم يتمكن
الناس من الاطلاع عليه، ولكنهم لم يكونوا بحاجة إلى هذا؛ لأن القضايا التي عالجها كانت
من الخطورة والذيوع، بحيث تغنيهم عن قراءة الكتب، وما هي تلك القضايا؟ كانت حقًّا جدُّ
أساسية، تساءل عنها الناس، واختلفوا فيها كما لو كانت نبأ لا يعلم أحد متى بدأ، ولكنه
عظم واستقر، فلم يعد أحد يستطيع إغفاله، تساءل الناس: أحق ما يزعمه الملحدون والمبطلون
أن لا إله؟ وكان شعورهم شعور قوم من الوثنيين فارقهم معبودهم بليل إلى حيث لا يعلمون
وتركهم بلا راعٍ ولا نصير.
فالقضية — وينبغي أن ندرك هذا جيدًا — هي قضية العصر العقلية الكبرى، هي قضية وجود
الله، اهتزت لها العواطف على نحو يصعب علينا فهمه تمامًا، لم يكن الذي أزعجهم الإشكال
العقلي أو المنطقي الذي اهتم به هيوم وديدرو وباركلي،
٣ فالإشكال لم يهم في ذاته الجمهور كثيرًا، بل يهم جمهرة الفلاسفة عمومًا، إن
الذي أهم الناس — كتَّابهم وقرَّاءهم — هو الجواب عن السؤال، هل يوجد إله يرعى أنفسهم
الخالدة حق الرعاية، أو لا يوجد إله، ولا توجد نفس خالدة؟ هذا في نظر الجمهور هو وضع
الإشكال المنطقي الذي قام على مقدمات الفلسفة الجديدة، والذي حدثتكم عنه في محاضرتي
السابقة، وثمَّ وضع آخر: هل العالم الذي يعيشون فيه يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوة لا
تعرف خيرًا ولا شرًّا؟ سؤال حير الألباب في عصر زعموه عصر عقل متثبت من نفسه ومما حوله،
متعال ساخر، سؤال أخرج أهله عن صمتهم، سؤال كان موضوع جدلهم وخصامهم أينما كانوا، في
الكتب وعلى المنابر وفي سامرهم وحول موائد الطعام حين يطاف عليهم بالنبيذ وبعد انصراف
الخدم، وجملة القول أننا لا نتصور فيلسوفًا من فلاسفة ذلك العصر جهل السؤال أو تجاهله،
كما أننا لا نتصور فيلسوفًا من فلاسفة أيامنا يجهل أو يتجاهل نظرية الكوانتوم، وينبغي
علينا الآن أن نعرف كيف تصدي فلاسفة القرن الثامن عشر لسؤالهم هذا البعيد الغور، وكيف
فصلوا فيه.
وأولًا في الملحدين، كان هؤلاء في فرنسا فيما بعد منتصف القرن الثامن عشر شرذمة من
رجال شتى، قالوا أن لا حكم إلا للعقل وحده، وافتتنوا به أيما افتتان، وجهر هؤلاء
المفتونون «المسعورون» بإلحادهم، فذاع أمرهم أو افتضح إن فضلت، وكان أكبرهم اعتبارًا
هولباك وهلفسيون ولامتري
٤ وميلييه،
٥ ولم يخش «المسعورون» العواقب، بل ساروا وراء منطق مذهبهم أينما ساقهم
واقتضتهم الرجولة أو الاختيال ألا يذروا معبودهم العقل بعد أن انتفعوا به خير انتفاع،
لقد أخرجهم من ظلمات الخرافة إلى نور الحقيقة، وأسدى إليهم بهذا يدًا يشكرونها، ومهما
شكروا فلن يكونوا في الشكر مسرفين، أفينبغي لهم بعد هذا أن يعرضوا عنه، لا لسبب سوى أنه
أطلعهم على عالم ناقص لم يقهر بعدُ، ولم تعين تقاسيمه ولم تنتظمه في جملته صورة، وإن
كان النور قد غمر جميع جنباته؟ كلَّا! سيتبعون العقل حتى النهاية، سيتبعونه، ولو تبينوا
أنه ليس إلهًا يُعبد، بل ما هو إلا عقلهم، وسوف يدخلون تحت رايته عالمًا غير مأنوس، لا
يدل مظهره على أنه خير أو شر، بل يحمل معاني الخير والشر، وهو قابل لأن يكون خيرًا لو
عرف الإنسان كيف يسخره بجهوده وحده لمنافعه، وقابل لأن يكون شرًّا لو قصر في
ذلك.
وهنا نتساءل: هؤلاء الملحدون، ألم تقرأ كتبهم؟ ألم يكن لهم أثر في القارئين؟ بلى
لقد
قرأ الجميع مؤلفاتهم — أو بعبارة أدق سمعوا الناس يتهامسون في مذاهبهم، وماذا كان
الأثر؟ كان أن ملئ السامعون والقارئون رعبًا، وينبغي ألا ننسى أن الملحدين كانوا بمعزل
عن الجماعة، وأن الناس اعتزلوهم وأعرضوا عنهم مستنكرين، وكأنما كانت تقام تحت ستر
الظلام في دار هولباك سوق للكفر والفسوق، وبلغ من هذا أن كثيرًا ممن كانوا يحضرون
ولائمه المشهورة — ومنهم بعض الفلاسفة — كانوا ينصرفون منها كما ينصرف مستخفيًا
مستخزيًا من أقدم على لقاء قوم مسرفين، لا يزعهم وازع من خلق ودين، وإن شئنا شاهدًا على
تأثير الملحدين، فلنحاول أن نتصور — إن تيسر ذلك — ما استولى على قلب جيتة في شبابه من
استيحاش، عندما قرأ كتاب هولباك «نسق الطبيعة»،
٦ وتحدث فيه إلى إخوانه الطلاب، والكتاب — كما نعرف — خرج عن كل الحدود، وقد
أسرف فيه هولباك أيما إسراف، فأنكر وجود الله وخلود النفس، ويقول جيتة إنه وإخوانه
الطلاب استغربوا ما ذهب إليه الناس من أن الكتاب يفضي إلى فساد العقيدة، استغربوا هذا؛
لأن الكتاب لم يستدرجهم ولم يستهوهم، بل — على الضد — ودوا لو أن بينه وبينهم أمدًا
بعيدًا، قال: «وجدناه شيئًا أغبر لا ينفذ فيه نور ما، كليالي أمة الكمري لا تطلع عليهم
الشمس أبدًا، بل وجدناه أشبه بجثة أخرجت من قبرها، فكدنا ألا نطيقه في أيدينا وأخذت
فرائصنا ترتعد لرؤيته، كأن زائرًا طرقنا من عالم الأشباح.»
٧
هكذا كان تأثير كتب الملحدين، جعلت فرائص الناس ترتعد، ولكن هل كان الفلاسفة بدعًا
فيما فعلوه؟ إن كانوا قد تبعوا العقل، فالعقل لم يكن معبودهم وحدهم، بل كان أيضًا معبود
الفلاسفة جميعًا — فيما عدا روسو إن جاز استثناؤه، وقد وصف مورلي كتاب هولباك فقال: «إن
الكتاب لفت نظر الناس إلى إصبع معبودهم العقل يخط على الجدار أحكامًا قضى بها، قرءوها
(كما قرأ سنحاريب في حلمه المشهور ما قضت به الآلهة في شأنه)، قرءوها ويا لهول ما
قرءوا! قرءوا أن لا إله، وأن الكون ليس إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وأن ما يُسميه
الإنسان نفسه — وهذا أشنع ما قرءوا — تموت بموت الجسد، كما يموت النغم حين ينكسر العود.»
٨
نعت مورلي الأحكام — كما رأيت — بأنها تبعث الهول، وهي قد فعلت ذلك بلا شك — في قلوب
الكافة، ولكن الفلاسفة رفضوا أن يسلموا بما قرءوا على الجدار، ولم يخرج على إجماعهم هذا
إلا القليل الذي لا يُعتد به.
تظاهروا بأنهم لم يقرءوا ما هو مكتوب، أو أداروا ظهورهم نحوه، واتخذ كل واحد منهم
سبيله لشأنه متعللًا بما شاء.
ولا بد أن كان لكل واحد منهم عذره الخاص في تخليه عن المعبود، ففيما يختص بفرانكلين
مثلًا نعرف عنه أنه لما حطته الأسفار في إبان الشباب في مدينة لندن، نشر رسالة الحادية،
ثم ندم فيما بعد على هذه الفعلة من غرور الشباب وتطاوله، ولم يكتف بالندم، بل اعتقد أنه
قد فض الموضوع الخطير الذي أثاره في رسالته حينما قال عرضًا إن النظرية الآلية للكون
قد
تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، وهذا حق، فإن الاعتقاد بها والكتابة عنها
ليسا بلا شك في مصلحة فرانكلين، وقد استقر في مدينة فيلادلفيا طباعًا ذا اعتبار
ومواطنًا مشتغلًا بالسياسة، أو عندما ذاع صيته مناضلًا عن حرية بلاده لدى بلاط سانت
جيمس، ونحن نعلم فيما يختص بهيوم — وهذا مثل آخر — أنه استنفد جميع الوسائل الجدلية
المؤدية للمعرفة، وأنه لم يطمئن تمام الاطمئنان إلى أن النتائج التي حصل عليها تقوم على
أساس مكين، ونعلم أيضًا أن الرجل كان يحس بوحدة في مقره بعيدًا عن مراكز الحركة
السياسية والفكرية، وأنه كان يصبو إلى احتفاء الناس به، ونعلم أن كتبه الفلسفية خيبت
رجاءه، فهي من جهة لم تلق رواجًا، وهي من الجهة الأخرى لم تلق من أصدقائه حسن القبول،
وقد قال له صديقه هتشنسون عنها قولًا صريحًا، وصفها بأنها باردة لا تسري فيها حرارة
الانتصار للفضيلة، والانتصار للفضيلة هو ما يقدره الأخيار في المؤلفين،
٩ وكان آخر شيء يوده هيوم لنفسه أن يعتبره الناس رجلًا بارد الطبع، لا هم له
إلا تبديد الأوهام وإثارة الشكوك والشبهات، بل كان يفضل أن يشتهر بالانتصار للفضيلة على
شهرته كاتبًا جيد الذوق، ولما وجد أن مؤلفه في التاريخ نال من إقبال الجمهور الشهرة
التي كان تواقًا لها، زاده هذا يقينًا بأن من العبث أن ينبش الباحث حنايا الطبيعة التي
قد ينتشر منها الأذى فيما حولها، من أجل هذه الأسباب — بلا شك — أخفى هيوم كتاب
«المحاورات»، وثَم سبب آخر هو أن معاصريه لو أتيح لهم أن يطلعوا على الكتاب لوجدوا هيوم
ينتهي من استدلاله الرائع حقًّا إلى نتيجة محيرة للب غير متوقعة، ومؤداها هدم نظرية
الدين الطبيعي من أساسها.
وقد أوجز هذه الخاتمة في قوله:
إن أي إنسان ملم بقصور العقل الطبيعي يندفع متلهفًا متشوقًا نحو الدين
المنزل.
وهيوم لم يفعل ذلك تمامًا، فلم يندفع نحو الدين المنزل، ولكنه رفض أن ينشر الكتاب
وكان حريصًا ألا يخل — في العلانية على الأقل — بواجب التأدب الدقيق نحو موجد
الكون.
وفولتير؟ ماذا عنه، كان أخشى ما يخشاه أن يظنه الناس مخدوعًا؛ ولذا كان حريصًا أن
يجعلنا نعرف — تلميحًا — أنه مدرك تمامًا لتلك الأحكام المخطوطة على الجدران، يشير
إليها المعبود بإصبعه، يدرك أنه يشير إلى أن لا إله، ولكن لا يهمه إن كان هذا حقًّا أو
باطلًا في ذاته، أما الذي يهم حقيقةً، فهو أن نصدق بوجوده، فهذا أمر لا بد منه للناس
ولعامتهم على وجه الخصوص، فالعامة لن تحصل أبدًا على القدرة من الاستنارة الذي يمكنها
من أن تفهم أن الطبيعة — على عماها — إن هي جادت بفولتير وأمثاله من وقت لآخر، فإنها
بهذا محسنة إلى البشرية خيرة، ولا لزوم في رأيه لأن يشغل الفلاسفة أنفسهم بحل ما هو غير
قابل للحل، فليدعوا هذا لسبيله، وليعملوا فيما ينبغي لهم وفيما لهم به طاقة، وللفيلسوف
حرثه إن هو انصرف إلى تعهده — وأخلق به هذا — آتى أكله، وعلى الفيلسوف أن يستيقن من أنه
سيجد متعة أيما متعة — كما وجد فولتير نفسه — في اجتثاث ما قد ينبت فيه من خبيث
النبات.
وأما ديدرو فكان له شأن آخر، أكثر متعة وأجدر بالدرس، يحشره الرأي الشائع في زمرة
الملحدين، والظاهر أنه كان كذلك على الرغم من أنفه، وظاهر أيضًا أن رأيه في نفسه لم يكن
قاطعًا كما قطع الرأي الشائع حقيقة من مؤلفاته ما يشهد عليه بالإلحاد، فكان له — كما
كان لهيوم — مصنفات (مثل كتابه الفسيولوجيا ورسالته الحديث بين فيلسوف وماريشاله)
١٠ ذهب فيها إلى أن العالم نظام آليٌّ، وأن الإنسان حدث اتفاقًا محضًا، وأن
النفس لا توجد مفارقة للجسد، وأن إرادة الخير لا تعدو أن تكون آخر ما تبعثه الشهوة أو
الكراهية، وأن الإثم والفضيلة مجرد لفظين لا يفيدان شيئًا، حقيقة هذا كله كلام ديدرو
رجل العقل، ولكن كان هناك ديدرو آخر رفض أن يذيع هذا الكلام، وكان هذا هو ديدرو رجل
الفضيلة، الرجل الذي دله قلبه ذو الرأفة والرحمة دلالة أقطع من دلالة عقله على أن الإثم
والفضيلة حقيقتا الحقائق، وكان بين الرجلين — بين العقل الخصب والقلب الجياش — صراع
دائم يكشف عنه كتابه «ابن أخي رامو»،
١١ وهو أبدع ما كتب إطلاقًا، والكتاب عبارة عن حوار متألق في أسلوبه تألق
محاورات هيوم في أسلوبها، وكلاهما يدور على مشكلة واحدة، ولكن على خلاف المحاورات لا
ينتهي «ابن أخي رامو» إلى شيء محدد، لا ينتهي حتى إلى بساطة ما انتهى إليه ديكنز في صحف
بيكويك، وهو الإيمان بالقيم الخلقية الأولية، بالمحبة والمودة، بأن يسعد الإنسان بإسعاد
غيره.
١٢ هذا؛ ولم يكن لديدرو نصيب من رصانة هيوم، فبقي حتى آخر عمره مشتت الفؤاد
يلتمس عقله قاعدة كافية يبني عليها الفعل الفاضل، ولكنه لا يحصل عليها، ولا يستطيع قلبه
أن ينكر الإيقان بأن لا شيء في هذا الوجود يفضل أن يكون الإنسان رجل خير.
١٣
وإنَّا لنحس في كل ما كتب ديدرو أن الرجل كان قلقًا على مصير الأخلاق، وقد قال: إن
أكبر ما كان يتمنى أن يضع كتابًا جامعًا في هذا الموضوع، وإنه لو أتيح له ذلك، لكان هذا
أعظم ما يعتز به في آخر أيامه، وهاك وصفه لما حدث:
«لقد هبت الشروع، ولم أجرؤ على أن أسطر الكلمات الأولى من الكتاب، فقد قلت لنفسي:
إنني إن فشلت أو لم أخرجه للناس على أكمل وجه، كنت عدوًّا للفضيلة من حيث لا أحتسب،
وزينت لهم الرذيلة دون أن أقصد، ولم أرني أهلًا للقيام بهذا العمل الرفيع، وهكذا كانت
هذه أمنية شغلت خاطري دائمًا دون أن تتحقق.»
١٤
وديدرو يمثل قلق رجال عصره على الأخلاق واهتمامهم بها أتم تمثيل، فإن الفلاسفة عمومًا
كانوا حريصين على أن يعدهم الناس «رجال الفضيلة» حرص ديدرو وهيوم على هذا؛ ولهذا الحرص
علته، فهم جميعًا يدركون أن خصومهم يعتبرونهم أعداء للأخلاق والفضيلة، وأنهم إن عجزوا
عن أن يوجدوا بدلًا من المبادئ الأخلاقية المستندة إلى النصرانية، مبادئ تقوم على قواعد
جديدة أكثر توطيدًا كان هذا العجز إقرارًا منهم على أنفسهم بأن كل ما أتوه من سلب وطعن
في عقائد النصرانية كان مجرد عبث عابثين، وكان الفلاسفة يعرفون تمامًا أن أنفذ تهمة
وجهها إليهم أولياء المسيحية هي أن الكفر يهدم أسس المبادئ الخلقية والنظام الاجتماعي،
ولذا ذهب ديدرو إلى أنه يجب على الفلاسفة أن يواجهوا هذا الاتهام، وأنه لا يكفيهم أنهم
أعلم من رجال اللاهوت، بل يلزمهم أن يثبتوا أنهم أفضل منهم، وأن الفلسفة أقدر على تكوين
الأخبار من النعمة الإلهية الموصوفة بالغناء والنفوذ.
١٥
وكيف تثبت الفلسفة أنها أقدر من النعمة الإلهية المستغنية النافذة، إن كانت كل
بضاعتها ما قررته من «أن المبدأ الأول للوجود سيان لديه الخير والشر، كما هو سيان لديه
الحرارة والبرودة»؟ ولذا كان ديدرو بعيد النظر سديد الرأي حقًّا، حينما أحجم عن وضع
كتابه الجامع في الأخلاق خشية الفشل، فالفشل أسوأ أثرًا من ترك الموضوع، والفيلسوف الذي
يهدم قواعد الأخلاق المستمدة من الدين، ثم يعجز عن أن يحل محلها مبادئ مستمدة من
الطبيعة يستحق أن يُسمى «ولي الشر»، وقد قامت الأخلاق، وقام النظام الطبيعي منذ أن عرفه
الإنسان على الإيمان بالله، واقترنت الحياة الطيبة في يقين الناس بالعناية الإلهية
العلية على كل شيء، فإذا ما قيل للناس أن لا إيمان ولا عناية إلهية ماذا يكون الحال؟
ماذا يكون الحال إذا ما تُرك الإنسان لأحكام تقديره لا يقيه واقٍ شر جبلته، إن دنيا هذا
حالها لا يستطيع إنسان عاقل أن يتصورها بلا جزع؛ ولهذا كله — وبغض النظر عن الاعتبارات
الشخصية والبواعث الخصوصية — أحس الفلاسفة أن إعلانهم الكفر، لا يقل اعترافًا بالفشل
عن
عودتهم للجماعة النصرانية عودة الخراف الضالة لحظيرتها، فأشفقوا جد الإشفاق من أن
ينعتوا بالإلحاد، والنعت «ملحد» يفيد في الجو الفكري إذ ذاك كل ما هو منذر بسوء، كل ما
هو فحش، كل ما هو بغي، كل ما يفضي للفتنة وشق عصا الجماعة، ولكن ألا يتنافى إشفاقهم هذا
مع كونهم مستنيرين؟ لا يتنافى قطعًا، فجوهر الاستنارة هو اطمئنان الضمير، وأثمن ما
يطلبه الفيلسوف هو المعرفة اليقينية، وكيف يستقيم هذان مع الكفر.
وما الكفر إلا الاعتراف بالجهل! وإن شئت برهانًا على هذا، فإنك لواجده فيما أخفاه
هيوم في خزانته، وها هو ذا المتصوف النصراني ديميا، والشاك فيلو،
١٦ آثرا أن يسير في ركب العقل مهما كان المآل، وماذا كان المآل؟ إن العقل عاجز
عن أن يجيب عن أي مسألة أساسية تتعلق بالله أو بالأخلاق أو بكنه الحياة، وهل يخلق
بالفلاسفة أن يسلموا بهذا؟ أخليق بهم أن يفعلوا هذا بعد أن مضى عليهم ما يزيد على خمسين
سنة، وهم يرشقون بسهام العقل والإدراك السليم معاقل الجهل والخرافة، ويملئون الدنيا
ضجيجًا لكي ينبهوا الغافلين، ولكي يقيموا المجتمع الإنساني على أسس أثبت بنيانًا، ولكي
يجعلوا الأخلاق والفضيلة في حصن أمين؟ ألا يكون فشلهم ذريعًا إذا ما جاءوا بعد عجيج هذه
الحرب كله، فألزموا أنفسهم بأن ينفضوا عنها تفاؤلهم، وأن ينبذوا دعواهم، وأن يبطلوا صخب
الشكوى والطلب، وأن يعلنوا لعالم مترقب بصوت خافت: «أيها الناس، إن العقل ينبئنا بعد
كل
ما كان بأن لا إله، وأن الكون ما هو إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وبأننا — معشر
الفلاسفة — لا ندري شيئًا، ومثلنا مثل القسيسين الذين فضحنا جهلهم.»
على أنني لا أود أن أجعلكم تظنون أن الفلاسفة قد فتر ولاؤهم للعقل المحض؛ لأنهم
اصطدموا بإشكال منطقي حال دون متابعة السير، فلم يكن هذا الاصطدام السبب الوحيد
لفتورهم، بل لم يكن أهم الأسباب، كذلك لا أود أن تظنوا أن ولاءهم للفضيلة زاد اتقادًا؛
لأن العقل لم يدلهم على علة مبدئية لوجود شيء اسمه الفضيلة، لا أود أن تظنوا هذا، لا
لأن هذه الأسباب لم يكن لها تأثير فيهم، فالواقع في رأيي أنها كان لها تأثير، ولكنني
لا
أريد أن أغلو في قدرها، ويكفيني في شأنها أن أقول: إن الفلاسفة أحسوا بلا شك حاجتهم إلى
سند عقلي إضافي يدعم وعود البشرى التي وعدوها للناس، ويحفظ لصناعة الفلسفة سمعتها، فلا
يقولن عنها أحد إنها أفلست، فإذا ما سلمنا بهذا القدر من التعليل، وجب علينا أن نتجه
اتجاهًا آخر لفهم موقفهم، وهذا نستطيع أن نتبينه إذا عرفنا أن التيارات الاجتماعية التي
كانت تدفع الناس في ذلك العصر نحو أهدافها دفعت الفلاسفة أيضًا.
وإنَّا لنجد في ترك هيوم للنظر الفلسفي وإقباله على دراسة التاريخ والاقتصاد والسياسة
ما يدل على حدوث تغيير في الجو الفكري، وعلى ازدياد انصراف العناية نحو شئون الأمم
العملية اجتماعية كانت أو سياسية، هذا بشرط أن تعالج تلك الشئون على نحو يجمع بين الجد
وتدفق العاطفة، ويمثل روسو هذه الحالة الفكرية الجديدة، وإن لم يكن هو الخالق لها، وإن
شئنا برهانًا على هذا فلنا أن نلتمسه في صحيفة الأخبار الأدبية التي كان يشرف على نشرها
فيما بين ١٧٥٣ و١٧٦٨ — ملشيور جريم، فلنقف هنيهة خلف هذا الرجل الكادِّ الجَلد الشديد
العزم، وهو يقلب ما ظهر من الكتب بعد منتصف القرن بقليل، لنقرأ ما يدونه عن بوالو
١٧ في سنة ١٧٥٥، يقول: إن قراءه قليلون، فالناس قد أصبحوا قليلي الإقبال على
مطالعة الهجاء، وأهم من تقرير هذه المشاهدة تعليق جريم عليها؛ قال: إن الهجاء يتطلب
استخدام أخس ملكات الذهن، وهو في نفس الوقت لا يؤدي إلا إلى الهدم؛ ولذا كان في حقيقته
قليل الفائدة،
١٨ ودون في نفس السنة أن كتاب كوندياك «في الإحساسات»
١٩ لم يتقبله الجمهور قبولًا حسنًا، وعلل هذا بأن الكتاب فضلًا عن سوء ترتيبه
بارد الطبع ينقصه «الخيال الفلسفي»،
٢٠ وأسف جريم في موضع آخر لقلة العناية بعلم السياسة، مما أدى إلى تأخر
٢١ هذا العلم، ولكنه اغتبط؛ لأن العناية بالعلوم النافعة الأخرى، (الزراعة
والتجارة والتاريخ والأخلاق) لم يسبق لها أن نالت من إقبال الجمهور ما تناله الآن،
٢٢ وهكذا كانت سمات الاتجاه الجديد: دراسة الأشياء النافعة، ومعالجتها معالجة
جدية تليق بالفلاسفة، وإكسابها قدرًا من حرارة الخيال، أليس هذا أجدى من أن نفضح قصور
العقل وضعف دعائم المعرفة!
وهكذا لم يجاوز عصر العقل منتصف عمره، إلا وقد أقر الفلاسفة بقصور العقل، واستنكروا
الخفة وانصرفوا إلى دراسة العلوم النافعة — أو بعبارة أخرى — العلوم التي تقبل الإحصاء
والملاحظة، وكلما تقدم العصر نحو نهايته تأكدت هذه الاتجاهات، فزاد الاهتمام الواقعي
العملي، وزاد انشغال المفكرين بشئون الإصلاح السياسي والاجتماعي، وارتفعت حرارة الجو
الفكري كل عام عن ذي قبل، وانقضى زمان استطاع رجال الحكم فيه ألا يفعلوا شيئًا، فلا
يوقظوا نائمًا ولا يحركوا ساكنًا، وانقضى زمان استطاع الملوك فيه أن يقولوا: «أنا
الدولة» دون استحياء، ولكن جاء زمان آخر، وبعد أن كانت فلك الملوك «تجري بهم بريح طيبة
وهم بها فرحون، جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان»، فلا عجب أن وجدوا أنفسهم
ملزمين بأن ينادوا بما نادى به فردريك الأكبر: «أنا خادم الدولة الأول»، وانقلب الملوك
«ملوكًا خيرين»، تلطيفًا لذلك الحكم المطلق الذي حيل بينهم وبينه، وكثر كلامهم في
«الإصلاح»، وإن هم لم يصلحوا شيئًا واستحثوا أولياء عهدهم الأمراء الفتيان أن يدرسوا
التاريخ طبقًا لما رسمته مناهج مؤدبيهم الفلاسفة؛ وذلك لكي يتعلموا من تجارب الإنسانية
ما هو «لازم لأمير عهد إليه بإصلاح حال المجتمع.»
٢٣
ولما كان إصلاح حال المجتمع أقرب شيء لقلوب الفلاسفة، فقد كان عملًا مناسبًا أن
يختارهم الملوك مؤدبين لأبنائهم، مدربين لهم في فنون الإصلاح، ولكن الاختيار وقع في وقت
غير مناسب؛ ذلك لأنهم اختيروا لأداء هذه المهمة العملية في الوقت الذي أدركوا فيه عجز
العقل المحض عن التوفيق بين العادة والطبيعة، وهو التوفيق الذي طالما دعوا الناس موقنين
إلى اعتبار الغاية الخليقة بسعي الإنسان، فإن قال الفيلسوف المؤدب لتلميذه الفتى
الأمير: «ينبغي أن يقوم الدين والأخلاق والسياسة على القانون الطبيعي، وينبغي أن تكون
هذه الأشياء كلها منسجمة مع طبيعة الإنسان»، حق للفتى الأمير أن يجيب إن كان قد حفظ ما
تعلمه من فلسفة: لقد أنبئت أن الكون ما هو إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وأن الإنسان
أحدثته الطبيعة إحداثًا آليًّا؛ وبناءً على ذلك فكل ما هو كائن منسجم فعلًا مع الطبيعة،
يستوي في هذا إذن القسيسون والفلاسفة، والخرافة والاستنارة، الطغيان ومحكمة التفتيش من
جهة والحرية ودائرة المعارف
٢٤ من الجهة الأخرى، فماذا يقول الفيلسوف في هذا؟ عليه أن يسعى أولًا لإصلاح
العقل المحض، قبل أن يسعى لإصلاح المجتمع، فإن مجتمعًا ظاهر الاعوجاج إلى هذا الحد لا
يمكن تقويمه إلا إذا تيسر التمييز بين العادة الصالحة بالطبع والعادة الفاسدة
بالطبع.
وصلنا إذن للتمييز بين الصالح والفاسد، بين الطيب والخبيث، أو بالأحرى عدنا إلى ذلك،
فالفكرة قديمة جدًّا دينية مسيحية تمامًا، وهل يفيد ذلك وجوب عودة الفلسفة للدين المنزل
— على حد تعبير هيوم؟ ربما لم تبلغ الضرورة إلى هذا، ولكن كان لا بد من إجراء حركة
ارتداد من تلك المواقع الأمامية التي احتلها العقل المحض، كان لا بد من العدول عن ذلك
الرأي القائل بأن الطبيعة سيان لديها الفضيلة والرذيلة، كما هو سيان لديها الحرارة
والبرودة، فإن لم يعدلوا عن هذه، فالأولى بهم أن يتركوا الميدان، فالمعركة لبعث مجتمع
جديد خاسرة حتمًا، والمشروع العظيم لجعل الأمراء مواطنين نافعين مجرد حلم، فهم روسو هذا
كله خيرًا من غيره، ولعل ذلك يرجع إلى أنه أفهمه بالذوق وبلا كبت من العقل، وبذا كان
روسو هو الواضع لخطة الارتداد التي أشرنا إليها، قال: «إن لم يعيِّن الفلاسفة حدودًا
للطبيعة امتلأت بعجائب الكائنات: وحوش بشعة وعمالقة وأقزام وسائر ما هو عجيب من أمثال
ذلك الحيوان ذي رأس الأسد وجسد الجدي وذيل الثعبان، وهكذا يصبح كل شيء فيها ممسوخًا،
ولن نجد فيها مثالًا مشتركًا للإنسان، وأعود فأقول: إن الصورة الحقة للطبيعة الإنسانية
هي الصورة التي يجد فيها كل إنسان شبيهه، وبعبارة أخرى ينبغي أن نفرق بين أفراد النوع
الإنساني، وبين ما هو مشترك بين الأفراد.»
٢٥
معنى هذا أن المعاني الغريزية التي أخرجها لوك بلطف من باب الدار الأمامي، أعادها
غير
خلسة من نافذة المطبخ، وأن النفس التي سلبها المنطق الديكارتي من الفرد عادوا يلتمسونها
في الإنسانية، وقد تكون نفس الفرد شرًّا، وقد تكون شيئًا زائلًا، بل وقد تكون وهمًا،
ولكن النفس الإنسانية ذلك الشيء الأصيل في الطبيعة الإنسانية، ذلك «المثال المشترك
للنوع الإنساني»، ثابتة وعامة، فهي يقينًا خالدة، أَوَليس هذا هو المذهب الواقعي الذي
عرفته العصور الوسطى قد بُعث من جديد؟ فحق على الفلاسفة إذن أن يضربوا في الأرض
ملتمسين، وفي يدهم مصباح يستمد نوره من استنارتهم، الإنسان المثالي، كما فعل مونتاني
من
قبل، والوسيلة لذلك هي أن يعينوا ويحصوا ويصفوا الصفات المشتركة لبني الإنسان عمومًا؛
وذلك لكي يحددوا أي الأفكار وأي العادات وأي النظم في زمنهم لا تتفق مع النسق الطبيعي
العالمي، وشرط السعي للحصول على هذا العلم الثمين أن تملكهم الرغبة فيه، كما ملكت أولئك
الذين ابتغوا في مشارف الأرض ومغاربها الحصول على الصحفة المقدسة التي تناول منها السيد
المسيح «العشاء الأخير»، والشرط الآخر أن يضيفوا إلى النور المستمد من العقل المحض
النور المستفاد من التجارب، ويقول قائلهم بريستلي في هذا: «ما نفيده من ملكاتنا العقلية
وحدها دون التاريخ قليل.»
٢٦ وليس التاريخ المقصود من هذه العبارة مطلق التاريخ، بل كان ما طلبه
الفلاسفة تاريخًا جديدًا، كانت الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال.
٢
«والتاريخ الجديد» إنما هو قصة قديمة؛ ذلك لأنه لما كان التاريخ لا يعدو أن يكون
تأليفًا خياليًّا لأحداث ماضية، وليس حقيقة ذات ماهية ثابتة، فإن التاريخ الذي يعده عصر
من العصور نافعًا وممتعًا، قد لا يكون كذلك بالنسبة لعصر آخر، وقد سبق أن أشرنا إلى
ما
تحتويه نكتة فولتير من صدق عميق: «ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الأموات»،
ولا أظن أن هذا الاحتيال مما يؤذي الموتى، ولكني أوقن أنه ينفع الأحياء، فهو في أحسن
الظروف معين على قهر صعوباتنا، وفي أسوئها معين على احتمالها بما يبعثه فينا من الأمل
في مستقبل أزهر، ويتوقف نوع الاحتيال الذي نختار على موقفنا من حاضرنا، فإن كنا راضين
عن هذا الحاضر، فالمحتمل أننا لا نحفل كثيرًا بأسلافنا، بل المحتمل أن نتعمد إظهار ذلك،
وهكذا نجزيهم عما قدموا لنا إن كان هذا جزاء، وإن كنا ساخطين على حاضرنا، فإما أن نعد
أسلافنا مسئولين عما أصابنا فنلومهم، وإما أن نتخذ منهم مثلًا يُحتذى، وننسب إليهم
فضائل لم يتحلوا بها، وربما لو بلغهم أمرها لما عدوها فضائل مطلقًا.
«التاريخ الجديد» تاريخه قديم، وتاريخ التاريخ الجديد في الوقت الحاضر معروف لنا
جميعًا، ولا حاجة لأن نعود في حديثنا عنه لأبعد من عشرين عامًا، حين أعلن جيمس هارفي
روبنسون شكواه وأسفه للوقت الذي يضيعه المؤرخون في تحقيق أحداث من نوع: «أين كان تشارلس
السمين في اليوم الأول من يوليو سنة ٨٨٧؟ أكان في أنجلهايم أو في لستناو؟» وأضاف إلى
أسفه اعتقاده أن المؤرخين يعرفون الكثير عن الماضي، ولكنهم لا يعرفون عن الإنسان إلا
القليل، وأن ما يعانيه زماننا من الارتباك والاضطراب يقتضي منهم أن يقبلوا على دراسة
العلوم الإنسانية الجديدة، وأن ما يصرفونه من وقت في تحديد مقام تشارلس السمين كان أجدى
عليهم أن يصرفوه في تأمل فك «رجل هيدلبرج»
٢٧ مثلًا، إنهم لو فعلوا هذا لأحسنوا استغلال الماضي في سبيل تقدم
الإنسانية.
وقد قلنا: إن «للتاريخ الجديد» تاريخًا قديمًا؛ ولذا فلا لزوم لأن نشير إلى أن
روبنسون لم يكن أول المتحدثين في التاريخ الجديد، فقد سبقه القديس أوجسطين في القرن
السادس — أي في ظروف ظاهرة الاختلاف عن ظروفنا — إلى تبين فوائد تاريخ جديد، ولم يتبين
القديس الفوائد فحسب، بل كتب فعلًا «تاريخًا جديدًا» — وإن سماه الدار الإلهية، «والدار
الإلهية» أحذق وأتم احتيال أتاه حي على موتى، وقد ظلت تفي بما يطلبه الناس من التاريخ
حتى القرن الخامس عشر والسادس عشر، حينما طلب الناس «تاريخًا جديدًا» آخر، فطلب الإنسانيون
٢٨ تاريخًا يخدم دراسة الحضارة اليونانية الرومانية، وطلبت العصبية القومية
تاريخًا يمجد الملوك أو الشعوب، وطلبت البروتستنتية تاريخًا يثبت صحة المذاهب الجديدة،
وطلبت الكاثوليكية تاريخًا يؤيد المذهب القديم، ثم بعد أن خفت حدة ما بين الأمم والفرق
من شقاق، قلَّت الحاجة إلى استغلال التاريخ على هذا الوجه المكشوف.
وظهر في القرنين
السابع عشر والثامن عشر مؤرخون من طراز جديد، غزيرو العلم حقًّا، ولكن — ويجب أن نقولها
— فاتِرون كليلون، كانت تلك أيام مابيون وديكانج واليسوعيين البولانديين والرهبان
البنديكتيين أيام فريريه الذي نشرت أكاديمية النقوش مباحثه الدقيقة وتحقيقه في ثمانية
عشر مجلدًا طواها الناس طوعًا في زوايا الإهمال، وهل يُلامون؟ أنا لست قطعًا ممن
يُلومونهم بعد أن رجعت إلى بعض ما وضعه المؤرخون الثقاة من رجال ذلك العهد، وبعد أن
قرأت منها ما قرأت لم أعجب لسخط الفلاسفة عليها، فإنهم لم يجدوا فيها ما ابتغوه، فلا
أثر بالمرة لنداء القلب في تحقيقات فريريه وديثو ومزراي،
٢٩ هذا من جهة، وأما من الجهة الأخرى فإن المثال الإنساني المشترك الذي صوره بوسويه
٣٠ في مقاله في التاريخ العام كان بالنسبة لهم مثالًا باطلًا، فنادوا كما نادى
جيمس هارفي روبنسون فيما بعد، واستعملوا نفس الألفاظ التي استعملها تقريبًا أن لا بد
من
«تاريخ جديد»، وكان فينيلون بلا شك من أوائل الذين قالوا بهذا
٣١ على أنه كان فيلسوفًا بالولاء فقط إن صح التعبير، أخذ فينيلون على من سماهم
«صانعي الحوليات المكتئبين اليابسين» أنهم لا يعرفون نظامًا في التأليف سوى نظام
التسلسل الزمني، وكان من رأيه أن الأولى بالمؤرخ أن يتتبع التغيرات العامة في تاريخ
الأمة، من أن يسجل الأحداث الفردية
٣٢ هذا ما نادى به فينيلون، ولكن صرخته ذهبت في وادٍ زمنًا ما.
ثم حينما اقترب القرن الثامن عشر من نصفه، قام آخرون يرددون آراء فينيلون فقال
فونتنيل: «أن تكدس الحقائق في الذهن حقيقة فوق أخرى، وأن تحفظ تواريخ الأحداث بالضبط،
وأن يشرب الإنسان في قلبه روح الحروب ومعاهدات الصلح والمصاهرات والأنساب — هذا كله ما
يسمى «العلم بالتاريخ»، وعندي أن هذا لا يفضل بالمرة حصول الإنسان على تاريخ الساعات
التي تطلع أهل باريس على الوقت.»
٣٣ وقال جريم: «تتكون مادة كتب مؤرخينا من تحقيقات ثقيلة متحذلقة لأحداث هي في
الغالب تافهة بقدر ما هي مشكوك في أمرها، وأما براعتهم فتنحصر في أن يظهر الواحد منهم
بمظهر الظافر بتفنيد ما ذهب إليه الآخر.» وقال أيضًا: «يجب ألا يتولى كتابة التاريخ أحد
سوى الفلاسفة مهما قال المتحذلقون.»
٣٤ وقال فولتير: «أنت تفضل ألا يكتب التاريخ القديم إلا الفلاسفة؛ لأنك تريد
نوعًا من التاريخ يستطيع الفيلسوف أن يقرأه، أنت تطلب الحقائق النافعة، بينما لا تجد
في
معظم ما قرأت سوى الأباطيل التي لا تُغني شيئًا.»
٣٥ وقال ديدرو: «أي فولتير! غيرك من المؤرخين يروي الوقائع بلا غرض سوى
إطلاعنا على الوقائع، أما أنت فترويها لتثير في صدورنا بغضًا شديدًا للكذب والجهل
والنفاق والخرافات والطغيان، وإن نار الاستنكار التي أوقدت لتبقى متقدة في صدورنا حتى
بعد زوال ذكرى الوقائع المنكرة.»
٣٦
ويردد الفلاسفة جميعًا نفس المأخذ على المؤرخين الثقات المعتمدين، وهو أنهم يجمعون
الوقائع لغرض الجمع فقط، ويبتغي الفلاسفة جميعًا نفس المطلب، وهو أن يتولوا هم كتابة
التاريخ ليستخرجوا من رواية الوقائع تلك الحقائق النافعة التي «تهدينا إلى معرفة أنفسنا
وغيرنا من بني الإنسان.»
٣٧ ولم يذهب هذا المطلب سدى، ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر انقلب
الفلاسفة مؤرخين — أو المؤرخون فلاسفة إن شئت — وأحاط المؤرخون الجدد من أولئك وهؤلاء
بالبشرية جمعاء ما بين الصين وبيرو، كما كانوا يقولون ترى إذن أن لا صحة لما زعمه
المؤرخون في القرن التاسع عشر من أن القرن الثامن عشر كان (عصرًا لا تاريخيًّا)، وقد
بنوا زعمهم هذا على أن القرن الثامن عشر، كان يعمل على قطع صلته بالماضي ليبدأ
بالإنسانية من جديد، بيد أن هذا الزعم لا يستقيم مع ما هو ثابت من كثرة ما صنفه رجال
القرن الثامن عشر في التاريخ، ومن إقبال القراء على تلك المصنفات، مما دعا إلى إعادة
طبع بعضها عدة مرات، ومما نسبه زعماء العصر للتاريخ من فضل وقيمة، وإنَّا لنستطيع دون
أن نكلف أنفسنا شيئًا من عناء التذكرة، أن نذكر عددًا غير قليل من المؤرخين المشهورين
المبرزين: جيبون وهيوم وروبرتسون من البريطانيين، رولان وفولتير ومنتسكييه ومابلي
ورينال من الفرنسيين، وهردر من الألمان
٣٨ — وهؤلاء أشهرهم.
وإذا ما رجعنا لصحيفة الأخبار الأدبية التي كان يؤلفها جريم، تبيَّنَّا أن التاريخ
لقي من عناية العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر كتابة عنه وقراءة ما لم يلقه أي علم
آخر، وقد قلتُ: كتابة عنه، متعمدًا، لأبين لكم أن جل الفلاسفة — سواء أوضعوا مصنفات
تاريخية أم لم يضعوا — عنوا بأن يتحدثوا للناس في الغرض من كتابة التاريخ، وفيما يجب
اتباعه في كتابته، وقد أجمعوا بلا استثناء — فيما أعرف — على أن التاريخ مضافًا إلى
الأخلاق من أهم ما يدرس من العلوم.
وقد يصح أن الفلاسفة عملوا على قطع الصلات بالماضي، والبدء بالإنسانية من جديد، وأنا
أسلم بهذا على وجه معين، ولكن هذا لا يفيد أنهم لم يهتموا بالتاريخ، فالإنسان يضيق
بالأغلال في عنقه ويديه، ولكن ضيقه بها يمنعه من أن يغفل ولو لحظة عن مصدره، وعلى هذا
النحو كان إحساس الفلاسفة بالماضي، فابتغوا من درسه أن يعرفوا لِمَ لا تزال البشرية —
بالرغم عما مرت فيه من التجارب خلال عدة قرون — مغلولة بأغلال من حماقات السلف
وأباطيلهم، ولفولتير أن يقول — إذا أراد — إن تاريخ الأحداث الكبرى التي وقعت في هذا
العالم لا يزيد كثيرًا على أن يكون تاريخ جرائم، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكلف نفسه
مشقة كتابة تاريخ العالم في ستة مجلدات، ولم يكن أحد أسوأ رأيًا في ماضي الإنسانية من
شاتلو، الذي ذهب إلى أن الأفكار والعادات السائدة بين أهل زمانه، لا تعدو أن تكون كتلة
متراصة من الجهل المكتسب، وقال: «من يروم السعادة يحتاج إلى النسيان أشد مما يحتاج إلى
التذكرة.» «فإن الغاية الكبرى التي يسعى إليها المستنيرون هي إقامة صرح العقل فوق حطام
الظنون»، ولم ينس شاتلو أن يقوم بنصيبه من هذا المسعى، فكتب تاريخًا عامًّا في مجلدين
بعنوان «في سعادة الأمم»، قال فيه:
إن هذه السعادة ستكون من حظ الأجيال المستقبلة، ولا سبيل للحصول عليها إلا
بقطع الصلة بالماضي، ولكنه اعتقد في نفس الوقت أن لا شيء يغري الناس بالتبرؤ من
ماضيهم، إلا بأن يظهرهم المؤرخ على مقدار فساده، وبناء على هذا الاعتقاد وجد
شاتلو حينما كتب في «السعادة» أنه يتحتم عليه أن يتتبع تاريخ «شقاء» الإنسانية.
٣٩
على أن شاتلو لم يلتزم هذا التحديد الضيق، فلم يقصر عرضه على إظهار فساد الماضي فقط،
بل أفسح لنفسه بعض الشيء؛ ذلك لأنه كان أيضًا يرى أن من العبث أن يُدون المؤرخ تاريخ
عدد كبير من الوقائع الفردية دون أن يستخرج منها حقائق عامة جديدة أكبر صحة من تلك التي
عُني الرواة بنقلها لنا.
٤٠
وبينما لم يبلغ أكثر الفلاسفة الآخرين في سوء الظن بالماضي الحد الذي بلغه شاتلو،
فإنهم يقرونه على ما ذهب إليه من وجوب استخراج تلك الحقائق العامة التي يمكن الاعتبار
بها والانتفاع منها، ونستطيع أن نجد شواهد عديدة تؤيد هذا في كتابات كل من فونتنيل
وبريستلي وبولينجبروك وكوندياك وجيبون وروسو ورولان على ما بينهم من اختلاف فيما عدا
ذلك، ولكن ليس هناك ما يدعو لهذا كله؛ إذ هي جميعًا تتفق في المعنى، وتختلف في المبنى،
وشاهد واحد منها يغني عن سائرها، ولنقتبسه من مقدمة ديكلو لكتابه في تاريخ لوليس الحادي
عشر؛ إذ هي تعبر عن مقصدهم خير تعبير،
٤١ قال:
لن أتولى إثبات فائدة التاريخ ففائدته حقيقة نالت من اعتراف عموم الناس ما يجعلها
بلا حاجة لبرهان، (والمطلع على التاريخ) يقع بصره على عدد معين من المناظر، تتوالى على
مسرح العالم متكررة تكرارًا مستمرًّا، فإذا ما شهدنا نفس الأخطاء تتبعها حتمًا نفس
المصائب كنا على حق إن بنينا على تلك المشاهدة هذا الحكم، إننا لو تجنبنا الأخطاء
لتجنبنا المصائب المترتبة عليها، فالتاريخ إذن ينير المستقبل أمامنا، ومعرفة التاريخ
إذن ما هي إلا معرفة المتوقع حدوثه.
ويجمل هيوم هذا كله في جملتين: «بلغ من مماثلة بني الإنسان — أيًّا كان زمانهم
ومكانهم — بعضهم البعض الآخر أن التاريخ لا يطلعنا أبدًا على جديد أو غريب يتعلق بهم،
فتكون الغاية الكبرى منه إذن
٤٢ الكشف عن المبادئ الثابتة العامة في الطبيعة الإنسانية.»
ونعود للسؤال، أصحيح ما زعمه المؤرخون في القرن التاسع عشر من عمل الفلاسفة على (قطع
الصلة بالماضي)، مما لا شك فيه أنهم رغبوا في التخلص من الآراء والعادات الفاسدة التي
أورثهم إياها الماضي، ومما لا شك فيه أيضًا أنهم رغبوا في التمسك بالصالحة منها إن
وجدت، ولكننا أعدنا إثبات السؤال لغير هذا، أثبتناه لأنه ما كان ينبغي أن يُسأل؛ وذلك
لأنه ينسب إلى جو القرن الثامن عشر فكرة لم تكن قد وجدت فيه بعد، فهذه العبارة (قطع
الصلة بالماضي) تجري من تلقاء نفسها على ألسنة المؤرخين في القرن التاسع عشر؛ لأن نظرية
اتصال التاريخ، وتطور النظم كانت مما شغلهم كثيرًا، ولهذا تعليل نفهمه إذا تذكرنا حاجة
الشعوب الأوروبية إلى الاستقرار الاجتماعي بعد ثورات وحروب دامت خمسة وعشرين
عامًا.
وتكفل المؤرخون والفقهاء المشتغلون بدراسة الأصول الاجتماعية في القرن التاسع عشر
بتشكيل تلك الحاجة تشكيلًا عقليًّا على النحو الآتي: تساءلوا: كيف تطور المجتمع عمومًا،
والمجتمع في هذه الأمة أو تلك خصوصًا، إلى أن صار ما هو عليه الآن؟ وينطوي السؤال على
فكرة باطنة سابقة لوضعه، ألا وهي أن الناس لو فهموا كيف تتطور عادات شعب من الشعوب إلى
أوضاعها الراهنة؛ لأدركوا الحمق الذي تنطوي عليه أي محاولة من جانبهم لإعادة تشكيلها
جملة ودفعة واحدة طبقًا لخطة مرسومة، وهذا ما دعا المؤرخين والفقهاء في القرن التاسع
عشر، لتقرير نظرية اتصال التاريخ، وعلى هذا كان طبيعيًّا أن يعتبروا الاعتقاد في إمكان
قطع الاتصال التاريخي عملًا لا تاريخيًّا، وأن يعدوا محاولة ذلك عملًا وخيم العاقبة،
كما لو قطعت شجرة طيبة ما يصلها بالجذور التي تمدها بالغذاء، وهكذا كانت نظرية اتصال
التاريخ لازمة لحاجات القرن التاسع عشر، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لفلاسفة القرن
الثامن عشر إلا قليلًا، على أنهم لم يكونوا بها جاهلين، فكانت موجودة فعلًا، وكانت تحت
تصرفهم إن صح التعبير، فمثلًا فكرة تفوق المحدثين على الأقدمين بحكم أن المحدثين لديهم
كل ما كان للأقدمين من علم وتجارب، هذه الفكرة تتضمن اتصال التاريخ، كما يتضمنها ذلك
الحلم البراق، قابلية الإنسان للكمال المطلق، ونجدها كذلك في كتابات فيكو
٤٣ وجرين وترجو وديدرو وهاردر ومنتسكييه وليبنتز، وأكثر من هذا عثر ديدرو على
جميع العناصر التي تكونت منها نظرية داروين في التطور، قلت: «عثر»، وكان التعبير الصحيح
أن أقول: إنه «تعثر بها» لا عثر عليها، كما لو كانت عقبات في سبيله لا معابر لغاياته،
وفي الواقع كانت هي كذلك بالنسبة له، وقد لاحظ الأستاذ فون
٤٤ أن منتسكييه اعترضت بسط قضاياه صعوبات كان يسهل عليه التغلب عليها، لو أخذ
بفكرة «تفتح» النظم تفتحًا مطردًا، ولا يدري الأستاذ فون لِمَ لم يفعل منتسكييه هذا،
فجميع عناصر الفكرة بين يديه، بل هي تحدق إليه من أوراقه، وهذا صحيح، فالفكرة حقيقة في
مخطوط كتابه، ولكن الشيء الذي له دلالته هو أنه أغفلها إغفالًا يكاد يكون تامًّا، وأن
غيره من الفلاسفة فيما عدا «ليبنتز» لم يستعملها كثيرًا، وهكذا كانت الفكرة موجودة في
القرن الثامن عشر، ولكن أحدًا لم يرحب بها، حامت وحيدة يائسة بائسة حول أطراف الشعور،
واقتربت متهيبة من مدخله، ولكنها لم تدخل فيه تمامًا أبدًا.
وأصل هذا كله أن فلاسفة القرن الثامن عشر — على خلاف نظرائهم في القرن التاسع عشر
—
اهتموا بالتغيير لا بالمحافظة، كانوا رجال «حركة» لا رجال سكون، فلم يهمهم أن يسألوا
لِمَ تطور المجتمع إلى ما هو عليه بقدر ما أهمهم أن يبتغوا سبل جعله أفضل مما هو، ولا
أجد خيرًا لإيضاح اتجاههم الفعلي هذا من الجمل المشهورة التي افتتح بها روسو عقد
الاجتماع «يولد الإنسان حرًّا، ولكنه أينما كان مكبل بالأغلال، كيف حدث هذا؟ لا أدري،
كيف نجعل المجتمع نظامًا مقبولًا؟ أعتقد أنني قادر على أن أجيب عن هذا السؤال»، فلا
تسألن إذن الفلاسفة ذلك السؤال الذي أولع به القرن التاسع عشر «كيف تطور المجتمع إلى
ما
هو عليه؟» فإنك لو فعلت لأجابوك كما أجاب روسو: «إنا لا ندري»، ويقولونها كما لو كانوا
على وشك أن يضيفوا إليها: «ولا يهمنا الموضوع في قليل أو كثير» أي انصرف يرحمك الله،
وبعدُ فكأني بهم يقولون، وما جدوى البحث عن كيفية تطور المجتمع؟ ها هو ذا أمام أعيننا،
لا يستطيع أحد أن يخطئه أو يراه على غير ما هو: قائم على غير المعقول مرهق ظالم مضاد
لطبيعة الإنسان، معوج لا بد من تقويمه وتقويمه سريعًا، وكل ما يلزمنا أن نعلمه كيف
نقومه، ولا نرجع للماضي إلا لنهتدي بما يعين على العمل، نرجع للماضي لا للعلم بأصول
المجتمع بل بمستقبله، ولا يهمنا من الماضي إلا هذا فقط، فلا نريد أن نتصل به، ولا أن
ننفصل عنه، وإنما نريد أن نفيد منه نريد أن نستخرج من ذلك الماضي تلك الأفكار، وتلك
العادات، وتلك النظم الواسعة الانتشار الثابتة بدلالة التجارب الإنسانية التي يمكن أن
نعتبرها متفقة مع المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، فإذا ما حصلنا على ما
التمسناه في التاريخ أعاننا هذا على إنشاء نظام أفضل مما هو قائم.
هذا هو موقف الفلاسفة
من التاريخ، وأعتقد أننا لو فهمناه على وجهه لأقبلنا على قراءة مؤلفاتهم التاريخية دون
سآمة أو ضجر، فإن مصنفاتهم تخلو من السرد المحض والتحقيق الخالص، والسر في ذلك — كما
شرحنا — أن الاهتمام ببيان الاتصال التاريخي وتطور النظم وتفتحها وتفرقها، لم يكن
المبدأ الذي بدءوا منه؛ ولذا نجدهم يغفلون رواية الوقائع لذاتها، ولا يشعرون بأن واجب
الذمة يقتضي منهم أن يبذلوا في تحقيق التواريخ ما يبذله المحدثون، وأن يشعروا نحوها بما
يشعر به بعض رجال التاريخ في زماننا من عناية تدليل وولع، بل كان شغلهم الشاغل أن
يعثروا على الإنسان «مطلق الإنسان»، ولا يحق لنا أن ننتظر منهم ألا يلتمسوه إلا في
أنجلهايم أو في لستناو أو في اليوم الأول من يوليو سنة ٨٨٧، إنهم إن التمسوه في أحد
المكانين أو في أي مكان آخر، وفي ذلك اليوم من تلك السنة أو في أي يوم آخر ما وجدوه
قطعًا، فهو — مثل الرجل المثالي للاقتصاديين — لا يوجد إلا في عالم التصورات، وإن شئت
أن تعثر عليه، فلا بد لك من أن تبدأ بأن تستخرج من بني الإنسان، أينما كانوا ومتى كانوا
الصفات المشتركة بينهم.
ولا شك أنك عندئذ لن تغفل تشارلس السمين، فهو إنسان مثل سقراط،
وهو سواء أكان في أنجلهايم أو في لستناو يشارك سقراط في بعض الصفات، والمهم هو تبين تلك
الصفات وتسجيلها، وليس المهم أنه شارك فيها غيره من بني الإنسان في أثناء وجوده
بأنجلهايم أو بلستناو أو في اليوم الأول من يوليو أو في يوم آخر، فالمكان أو الزمان
الذي كان فيه من الأغراض الزمنية، وتستعمل على الأخص على سبيل الإيضاح، وعلى هذا فمنهج
الفلاسفة المؤرخين لا يقتضي مراعاة الترتيب الزمني بالمرة، وإن كان منهم من راعاه
استسهالًا واختيارًا، فعل ذلك هيوم وجيبون وفولتير ومابلي، إن تمامًا أو بعض الشيء،
ولكن كان للفيلسوف المؤرخ أن يغفل مراعاته إن شاء، دون أن يعرضه ذلك لأن يفقد لقب
المؤرخ، وقد أغفل الترتيب الزمني منتسكييه ورينال، بل إن المنهج الذي اتبعه منتسكييه
اعتبر المنهج الخليق بالفيلسوف المؤرخ أو المنهج المثالي لكل فيلسوف مؤرخ، ويتلخص
نظريًّا في ملاحظة جميع ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم،
ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما يبدو منها خاصًّا بمكان واحد أو بعصر واحد، والحاصل هو
المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهذا القدر المشترك هو زبدة التجارب الإنسانية،
ونستطيع إن شئنا أن نستخرج منها على حد تعبير هيوم «المبادئ الثابتة العامة للطبيعة
الإنسانية»، وعلى أساس هذه المبادئ يبنى المجتمع الجديد، فكان المنهج المثالي للفيلسوف
المؤرخ إذن منهجًا مقارنًا، وهو على وجه التدقيق الطريقة الموضوعية الاستقرائية
العلمية.
بيد أن هذا المنهج المثالي الذي وصفنا لم يجاوز أن يكون منهجًا مثاليًّا، فلم يتبعه
الفلاسفة، بل إن منتسكييه تكلف جهدًا ليُظهر أنه متبعه، ومما تنبغي الإشارة إليه لعظيم
دلالته أن تلك الأقسام من «روح الشرائع» التي وفق فيها منتسكييه أكبر توفيق في استعمال
طريقة المقارنة والاستقراء، فجاءت فصولًا موضوعية علمية حقًّا، كانت بالضبط أقل ما في
الكتاب إرضاءً للفلاسفة، بل إن «روح الشرائع» عمومًا تركت قراءته في فم الفلاسفة طعمًا
مريرًا؛ لأن منتسكييه يؤكد في أكثر من موضع أن المبادئ الثابتة العامة للطبيعة
الإنسانية في جوهرها «نسبية»، وبناء على ذلك فما يُوافق الطبيعة الإنسانية في بعض
الأقاليم لا يُوافقها في أقاليم أخرى، ومن هذا وأمثاله أحس الفلاسفة بأن صاحبهم مولع
هو
أيضًا بتحقيق الوقائع لذاتها، وأنه أولع بها إلى حد جعله يتجنب الحكم على بعضها بما
تستحق من صرامة، وقد ساءهم منه حقًّا أنه مس مسًّا خفيفًا أحداثًا لم تكن خليقة بأن
يحسن بها الظن أو يلتمس لها العذر، ثم يأتي فولتير فيأخذ على منتسكييه الخفة، وفولتير
آخر من يجوز لهم أن يأخذوا على الآخرين الخفة، ويأخذ عليه أيضًا أنه أكثر ميلًا لإثارة
الإعجاب في قرائه منه لإفادتهم، وينكر عليه إنكارًا شديدًا أنه سمى الملوك والأمراء
الإقطاعيين «آباءنا» وأما كوندرسيه فكان ما أخذه على منتسكييه أنه عُني بتعليل ما هو
كائن أكثر مما عُني بالبحث عما يجب أن يكون، وكان الأولى به أن يعكس.
٤٥
وروسو نفسه — مع أنه كان أكثر إعجابًا بمنتسكييه من أقرانه الفلاسفة — عابه بالإسراف
في إقامة الحق على الواقع، وهو عيب وقع فيه جروتيوس من قبل.
٤٦ وإن هذه المآخذ لتوقعنا في حيرة؛ لقد أعلن الفلاسفة مرارًا وتكرارًا أنهم
يطلبون التاريخ ليقيموا الحقوق المناسبة لطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية،
وها هم أولاء حينما أقام منتسكييه الحقوق على الواقع ينكرون عليه هذا! فكيف نعلل
التناقض؟ أيرجع إلى أن الفلاسفة كانوا في حقيقة الأمر يبطنون غير ما يظهرون، وأنهم لم
يهمهم أن يقيموا الحقوق الملائمة للطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية؟ أيرجع
إلى أنهم على النقيض مما زعموه لم يحيدوا مطلقًا عن السنة المنكرة التي اتبعها رجال
العصور الوسطى؛ ألا وهي تحريف التاريخ بحيث يتفق واقع التجارب الإنسانية مع تلك الحقائق
المفارقة له، والتي كشفت لهم على نحو ما؟ وبعدُ أيمكن أن يكون هذا صحيحًا أو
معقولًا؟
٣
وهذا وا أسفاه، كان الواقع! فإن الفلاسفة كان لديهم ما كان لدى المدرسين في العصور
الوسطى، مادة من العلم نالوها عن طريق الكشف، ورفضوا أن يتعلموا من التاريخ إلا ما
استطاعوا بحيلة بارعة من احتيال الأحياء على الموتى أن يجعلوه متفقًا مع ذلك العلم الذي
كشف لهم، وكان وجه تمسكهم بهذا العلم، وجه الإيمان به — وهم في هذا لا يختلفون عن أي
جيل من الأجيال — كونه ينبعث من تجاربهم، وكونه يفي بحاجاتهم، ولما كانت تجاربهم
وحاجاتهم في حرب حياة أو موت مع النظرية السائدة التقليدية للدولة والكنيسة، وكانت بعدُ
لا تزال محتفظة بقوتها وقع التعارض بين عقيدة الفلاسفة وتلك النظرية في كل حرف منها،
وهذه هي أهم مبادئ الإيمان عند الفلاسفة: «أولًا» أن الإنسان ليس آثمًا خسيسًا بالفطرة.
«ثانيًا» أن غاية الحياة هي الحياة نفسها، غايتها الحياة الطيبة في الدنيا لا حياة
الغبطة والرضوان بعد الموت. «ثالثًا» أن الإنسان قادر بهدى العقل والتجربة وحدهما أن
يبلغ بالحياة الطيبة في الدنيا حد الكمال. «رابعًا» أن الشرط الأول الضروري للحياة
الطيبة في الدنيا إطلاق العقول من أغلال الجهل والخرافة، والأجساد من قهر السلطات
الاجتماعية وجورها. ويجب أن تتفق المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية التي أشار
هيوم بالتماسها من دراسة التاريخ مع هذه المبادئ الأربعة، ومن أجل إيضاح هذه المبادئ
الأربعة يجب أن نعرف «بالإنسان مطلق الإنسان»، وليس هناك ما يدعو لتكلف أي مشقة في سبيل
البحث عن «المبادئ الثابتة العامة»، فها هي ذي جلية معروفة، ولا عن «الإنسان مطلق
الإنسان»، فها هو ذا موجود فعلًا، وقد خلقوه من أنفسهم، فلا حاجة بهم لأن يعرفوه أو
يعرفوا به، وهم يعرفون أنه طيب بالفطرة، سهل الاستنارة، ميال لاتباع العقل والإدراك
السليم، كريم رءوف سمح، قيادته بالإغراء أسهل من قيادته بالقسر؛ وبالجملة هو مواطن
صالح، ورجل فضيلة، فهو يدري تمامًا أن الحقوق التي يطلبها لنفسه ما هي إلا حقوقه وحقوق
غيره من بني الإنسان، وأنها حقوق طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه
أن
ينزل طوعًا على حكم الحكومة العادلة، فيلزم نفسه بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرض
من حدود من أجل الصالح العام.
فكان المؤرخون الفلاسفة إذن يخدعوننا، وكانوا يفعلون غير ما كانوا يقولون، فها قد
عرفنا أن ما زعموه من أنهم رجعوا للتاريخ ليجدوا فيه المبادئ الثابتة العامة للطبيعة
الإنسانية كان لا أصل له، ولكننا نستطيع أن نغفر لهم خداعهم لنا، إذا ذكرنا أنهم خدعوا
أنفسهم أولًا، وأنهم نالوا من أنفسهم أكثر مما نالوا منا؛ إذ كانوا في الواقع لا يدرون
حقيقة ما يصنعون، كانوا لا يدرون أن الإنسان مطلق الإنسان الذي ابتغوا العثور عليه كان
الإنسان كما صوروه وفق ما اشتهوا، وأن المبادئ التي سعوا للكشف عنها هي المبادئ التي
بدءوا سعيهم بها، فهم إذن لا يدرون أنهم «يتحايلون» على الماضي وعلى الموتى، وهم قد
كشفوا أنفسهم دون أن يقصدوا حين أسرفوا في توكيد ما بين الأخلاق والسياسة من اتحاد،
وعند روسو أن من يفصل بينهما يثبت أنه لا يفقه شيئًا من السياسة أو من الأخلاق على حد
سواء، وعند فونتنيل: «لا فائدة من التاريخ مطلقًا إن لم يقرن بالأخلاق، فقد يكون المؤرخ
عالمًا بكل ما عمله بنو الإنسان، ولكنه قد يظل جاهلًا بالإنسان.»
٤٧ ويقول منتسكييه في مقدمة كتابه الجليل: إن الحصول على «الوقائع» لم يفده
شيئًا إلى أن اهتدى إلى المبادئ التي توضحها تلك الوقائع، وقال: «بدأت الكتابة أكثر من
مرة، وهممت أكثر من مرة أن أعدل عن تأليف الكتاب، بل إني مرارًا ألقيت صحائف كاملة له،
فلم أستطع التمييز بين القواعد والاستثناءات، يظهر لي الحق ثم يختفي، ولكن حينما اهتديت
إلى المبادئ، انتظم كل شيء، وحصلت على كل ما طلبت.» وعند ديدرو: «يظن البعض أن العلم
بالتاريخ يجب أن يسبق العلم بالأخلاق، ولست من هذا الرأي، فإني أرى أن التمييز بين
العدل والظلم يجب أن يسبق العلم بمن سنصفهم بالعدل أو بالظلم من الرجال وبأفعال الرجال،
وأعتقد أن هذا هو الإجراء العلمي الوحيد المؤدي للغرض.»
٤٨ وهكذا نرى أن ما بين الفلاسفة والتاريخ جلي، هم على بينة من العدل والظلم،
وهم على بينة من المبادئ العامة، وهم على بينة من الإنسان مطلق الإنسان، هم على بينة
من
كل هذا قبل أن يرجعوا للتاريخ لارتياد مجال التجارب الإنسانية.
وخرجوا للارتياد تحت راية نزاهة القصد والأبواق تؤذن باكتمال ما تزودوا به من علم
كأنهم على سفر إلى بر مجهول، خرجوا فعلًا، ولكنهم لم يجاوزوا القرن الثامن عشر أبدًا،
ولم يدخلوا أبدًا في عصر من عصور الماضي، ولا في بر غير برهم، ومهما كانت رغبتهم في
هذا، فإنهم خشوا الابتعاد عن عصرهم وإقليمهم، وكيف يجوز لهم أن يبتعدوا عنه والمعركة
بينهم وبين الفلسفة المسيحية، وكل ما يدعمها من ممقوت الخرافة والتعصب والطغيان دائرة
الرحى؟
والمعركة معركة حياة أو موت، ولقد سلط الفلاسفة على عدوهم كل ما أوتوه من عقل وحجا،
ولكن العدو كان في موقع حصين، فكان لا بد لهم من الاستعانة بأسلحة أخرى تزيد العقل
والحجا بأسًا على بأس، وهذه قالوا إنهم يلتمسونها في حقائق التاريخ الإنساني، ولكنهم
كانوا في حقيقة الأمر يقصدون شيئًا آخر، كانوا في الواقع يقومون بحركة التفاف حول
عدوهم؛ لكي يوسعوا ميدان المعركة، ولكي يكبسوا عليه من علٍ، ومعنى هذا كله أنهم عملوا
على أن يكسبوا المعركة وضعًا آخر، فلا تكون مجرد مماحكة بين قسيسي القرن الثامن عشر
وفلاسفته، بل تسمو إلى أن تكون جزءًا من حرب شغلت تاريخ العالم، من الصراع المستديم بين
الأصلين: الخير والشر، بين دار النور ودار الظلام، أيهما يستأثر بالنفس الإنسانية، لقد
أثبت العقل والحجا على الفلسفة المسيحية صبغة الشر التي صبغتها، وعلى التاريخ أن يطلعنا
عليها تلافيًا لشرها، وأن يفضح أسوأ ما كان من آثارها، وقد اطمأن الفلاسفة المؤرخون كل
الاطمئنان إلى أن التاريخ سوف يؤيد العقل والحجا فيما ذهبا إليه، ولكن كان مما لا بد
منه أن يعينوا التاريخ على أداء هذا، ومن أجل ذلك غمروا بعض عصوره بالضوء وتركوا البعض
في ظلام دامس، وجعلوا للبعض نصيبًا من النور، فكان أقل عتمة، كما حكَّموا بعض عصور
التاريخ على البعض الآخر، فحكَّموا الرشيد منها على الضال، وفرقوا بين عصور طيبة وأخرى
خبيثة، ولسنا بحاجة إلى أن ندل على أيها كان الحكم.
هذه طبعًا كانت ما عرفوه باسم العصور المظلمة عصور الجهل والخرافة والطغيان، عصور
تسودها الفلسفة المسيحية بلا منازع، عصور تضاد العقل والحجا، وأما العصور التي نعمت
فيها البشرية بالسعادة حقًّا، فهي أيضًا معروفة تمامًا، وليس هناك ما يدعو لبذل أي جهد
في سبيل تعيينها، وهذه أقاموها بجانب العصور الوسطى؛ لكي يسطع نورها متألقًا بإزاء ظلام
الأخرى، وأشهر العصور السعيدة عندهم عصرا بريلكيس وأجسطوس الذهبيان، ولا بدع في هذا،
فالفلاسفة جميعًا — أو تقريبًا جميعًا — قرءوا في صباهم في دور التعليم كتب الأقدمين
من
يونان ورومان (وفي الغالب على معلم يسوعي أو بندكتي!)
٤٩ وتعلموا من كتب الأقدمين، مما لفقه رولان من أشتات تواريخ الأقدمين أو من
بلوتارك على وجه أخص، منه ومن التعليقات التهذيبية التي عشرها في المتن مترجمو بلوتارك
وناشروه، تعلموا من هذه كلها أي الأبطال اليونان والرومان يحتذون، وأي الفضائل
الأسبرطية أو الرومانية يبارون.
٥٠
هذان العصران الذهبيان سبقا العصور المظلمة، وثم عصور ذهبية أخرى جاءت بعدها، من هذه
حركة «البعث» أو النهضة الأوروبية، ومنها عصر لويس الرابع عشر والقرن الثامن عشر نفسه،
ولا يخفى على أحد ما قدم هذا العصر الأخير إلى ما خلفه، والعصر اليوناني والعصر
الروماني وعصر النهضة من نور وعلم، ومن حرية وفضيلة، وحصل بهذا الفلاسفة المؤرخون على
ما سماه فولتير «العصور الأربعة السعيدة» يقابلون بها العصور المظلمة، فيظهرون الناس
على ما جنت الفلسفة المسيحية على العقل الإنساني، حين كبلته في أغلال لا يجد منها
فكاكًا، وحين نالت منه ما ينال الكائن الطفيلي من النبات يتعلق به حتى يميته، هكذا كانت
جناية الفلسفة المسيحية على العقل! ألا ترى إذن كم غنمت البشرية حين كسرت أصفادها،
وانطلقت حركة «البعث الأوروبي»؟ على أن الغنم كان أكبر من هذا كثيرًا؛ إذ إن حركة الكشف
الجغرافي فتحت آفاقًا أخرى جديدة، فلم تعد التجارب الإنسانية مقصورة على أقاليم البحر
الأبيض المتوسط، ولم يكتف المؤرخون بالتاريخ الأوروبي فقط، وحصل المؤرخون الفلاسفة بهذا
على عصور سعيدة أخرى وأمم سعيدة أخرى، وأضافوا هكذا إلى محصولهم ما أصابته إنجلترا
ومستعمراتها الأمريكية من حظ أوفر من السعادة، كما أضافوا إليه ما كان للشعوب غير
المسيحية في الأقطار البعيدة في آسيا، وفي الهند وجزائر الهند الشرقية.
وقد تبين للفلاسفة المؤرخين من روايات رحالة القرن السادس عشر والسابع عشر أن أكثر
الشعوب البشرية عاشت مددًا عديدة عيشة أهنأ وأليق بالإنسانية من عيشة الشعوب الأوروبية
على عهد سلطان الكنيسة، وكانت شرائع تلك الشعوب غير الأوروبية أدنى للحرية وأكثر
اتفاقًا مع الدين الطبيعي والأخلاق من نظائرها لدى الأوروبيين في العصور الوسطى، هؤلاء
الآسيويون نكبوا بفقدان استقلالهم ووقوعهم تحت نير الدول المسيحية، فشقوا وفسدوا، فإذا
ما أخرجنا مدة السيادة الأوروبية من حساب السنين كان لنا أن نقول: إن غير الأوروبيين
هؤلاء حظوا بالسعادة الجزء الأكبر من مدة التاريخ الإنساني المسجل؛ وهكذا تجمع لدى
الفلاسفة المؤرخين بينات تؤيد حجج العقل والحجا وتثبت على العصور المسيحية البطلان
والخزي، فها هي ذي العصور السعيدة الأربعة، حظ إنجلترا، حظ «أصدقائنا الأمريكيين
الأفاضل»، حظ «الصينيين الحكماء» «والهنود النبلاء»، «والمتوحشين الطيبين».
فمهمة التاريخ الجديد هي أن يؤدي إلى التمييز، الذي عجز العقل المحض عن أدائه، بين
ما
هو صالح بالطبع، وبين ما هو فاسد بالطبع، بين العادات التي تلائم طبيعة الإنسان وتلك
التي لا تلائمها.
٥١
وكانت مهمته أيضًا أن يؤيد ما قضى به العقل، وهو أن الفلسفة المسيحية والخبائث التي
دعمتها كانت عدوة لخير الإنسانية، ويبقى عليَّ في ختام هذا الفصل أن أنتقل لشيء من
التخصيص فأشير في إيجاز إلى الطرائق التي اتبعها فريق من المؤرخين في «توجيه التاريخ
واستغلاله؛ لكي يؤدي المهمة الأساسية التي طلبوها منه.»
ولنبدأ بكتابين لقيا إقبالًا كبيرًا من الناس: تاريخ فرنسا تأليف مابلي وتاريخ
إنجلترا تأليف هيوم، فأما تاريخ فرنسا تأليف مابلي، فأول ما نقول عنه: إنه لم يكن
تاريخًا لفرنسا، بل «ملاحظات على تاريخ فرنسا»، وكان ما لاحظه هو أن الشعب الفرنسي كان
يملك منذ زمن بعيد — منذ أيام شارلمان في الواقع — جميع العناصر التي يتكون منها دستور
سياسي ملائم لروح الشعب، ولكن حدث في الأزمنة التالية — في أزمنة الفوضى الإقطاعية
وطغيان القسيسين والوزراء — أن طغت على ذلك الدستور أحكام لا تلائم الشعب بالمرة، وقد
أخذ مابلي على عاتقه أن يستخرج ذلك الدستور الأصلي مما طغى عليه من عرف وأحكام، ثم بعد
أن يستخرجه يدل مواطنيه على أنه قابل للتهذيب والصقل والتطبيق ببذل قليل من العناية،
وما هذا بعزيز عليهم بعد أن استناروا، فصاروا يدرون ما يفعلون، وأما كتاب هيوم فلا يحمل
في ظاهره ما يحمل كتاب مابلي من معاني الإرشاد والتعليم، بل إن أول أثر تتركه قراءته
لأول مرة، أنه رواية للأحداث غير مختلفة ألوانها، حتى إن القارئ ليعجب كيف لقي قبولًا
من جيل من القراء كان يطلب إلى المؤرخين أن يعنوا بوصف «العرف والعادات»، بدلًا من
رواية الوقائع، ولكن القارئ إذا ما رجع لقراءة الكتاب فإنه يستطيع أن يتبين أسباب
شهرته؛ ذلك أن هيوم توصل بلباقة خفية إلى أن دخل في نسيج الرواية كل ما شاء من استهجان
للأشياء التي أنكرها القرن الثامن عشر: الطغيان، الخرافة، التعصب. وإذا كان الكتاب في
جملته رواية، فهو رواية جيدة السبك، وهو فوق أي اعتبار آخر، رواية فيلسوف، فيلسوف يروي،
لا يقصد إثبات تتالي الوقائع أو تعليلها بشرح أصولها وتوابعها، ولكن ليحكم عليها طبقًا
للتمييز بين العدل والظلم، وليقيسها بمقاييس الحكم التي اعتد بها عصر العقل، فكانت
حاضرة بين يديه، وأن قارئ هيوم يكون حقًّا رجلًا بليد الفهم إذا انتهى من القراءة دون
أن يتبين فكرة هيوم ونظراته، وهذه الفكرة أنه لولا طغيان الملوك ورجال الحكم، ولولا
دسائس القسيسين وغلبة الدنيا عليهم، ولولا جموح المتعصبين وإسراف عواطفهم، ولولا أوهام
السفلة الجاهلة من عامة الشعوب؛ لولا هذه الشرور، وهي كما ترى — لا يمكن أن يخفى أمرها،
ولا يمكن أن يستعصي علاجها — لكان تاريخ أي شعب مماثلًا لتاريخ إنجلترا، هذه فكرة هيوم،
وهي بالضبط ما أراده القرن الثامن عشر من المؤرخين.
ننتقل من كتابي مابلي وهيوم لثلاثة كتب أخرى، عالمية النطاق، أو على الأقل دوليته؛
هذه هي مصنفات رينال وفولتير ومنتسكييه، فأما مصنف رينال — التاريخ الفلسفي والسياسي
للهند والهند الشرقية،
٥٢ فعلى الرغم من أن أغلبه من نسج الخيال، فإنه لا يمكننا إغفاله لشدة ما لقي
من إقبال؛ نقح ثلاث مرات وطُبع أربعًا وخمسين مرة قبل نهاية القرن الثامن عشر،
٥٣ وحق لهوراس والبول أن يسميه «إنجيل العالمين»، والقول فيه إغراق، ولكن
نغفره لهوراس والبول،
٥٤ فقد كان يضطر إلى الإغراق ليرسل الجملة الوجيزة المحكمة أو النكتة، ومهما
يكن فقد رحب الجمهور بالكتاب؛ إذ وجد فيه خلاصة ما كتبه الرحالة عن «الصينيين الحكماء»
«والمتوحشين الطيبين» في القالب الخليق بالفلاسفة، وكأن رينال استصحب قارئيه في رحلة
كبرى حول العالم، وتركهم أحرارًا في الانضمام إليها أو مغادرتها أينما شاءوا، واخترق
بهم بلاد الشعوب غير المسيحية، ولفت نظرهم — كما يلفت مرشد كوك الكفء نظر الصحب — إلى
ما هو جدير بالإعجاب من عادات الناس في تلك الأقاليم، وإلى ما جلبه عليهم المتغلبون
المسيحيون من مفاسد وبؤس، وهذا كله خليق بالفيلسوف أن يثبته ويأسف له، كان قصد رينال
إذن، أن يثبت على الحضارة المسيحية الأوروبية أنها وليدة الصناعة لا الطبيعة؛ وذلك
بمقارنتها بالفضائل الطبيعية التي كانت لدى الأقوام السذج، فشارك في قصده هذا أو في شيء
منه كتَّابًا آخرين، منتسكييه مثلًا في «الرسائل الفارسية»، وبين الرجلين فرق، فلا يبلغ
رينال مبلغ منتسكييه من دقة النظر وإحكام الصناعة، ولكن كتاب رينال في نوعه كان أوفى
بحاجات القراء المتوسطين؛ ولذا كان بلا شك أكبر هذا النوع من الكتب تأثيرًا.
هذا؛ وليس ما يدعو للإسهاب في وصف مصنف فولتير الجليل «مقال في السنن والآداب والعادات»
٥٥ وهو كتاب في التاريخ العام، يتناوله منذ أقدم ما عُرف من الأزمنة، ويقصد
إلى إيضاح «مغزى» للتاريخ من نوع ما فعل ويلز في زماننا في كتاب «المجمل في التاريخ»،
٥٦ وقد وضع فولتير المغزى الذي قصد في صيغة أحكام: أن تاريخ الأحداث الكبرى في
العالم لا يعدو أن يكون تاريخ جرائم، وأن العصور المظلمة فيما خبر الإنسان هي بالضبط
العصور التي كانت فيها الكنيسة المسيحية أتم سيطرة على بني الإنسان، وأنه لا توجد في
الغالب عصور انتشر فيها النور والمعرفة، وارتقت فيها الفنون والعلم، سوى «العصور
الأربعة» السعيدة، حين خفت حدة شر الكهنوت إلى حد ما، فانطلقت العقول من عقالها بعض
الانطلاق، واهتدى الناس بهدى العقل؛ هذا — بلا شك — بعض قليل مما في المقال، ولكن هذا
البعض هو أهم ما كان القرن الثامن عشر مستعدًّا لتلقيه وحفظه، ويصف ديدرو أول أثر
للكتاب في قوله: «إنه يثير في قلوب القراء مقتًا شديدًا للكذب والجهل والنفاق والخرافة
والطغيان.»
وأما روح الشرائع لمنتسكييه، فنقده أدعى إلى تفصيل أوفى؛ إذ إن الكتاب أصابه من
تعليقات شراحه من رجال القرن التاسع عشر ما مسخه وأخرجه عن معناه، وذلك يرجع إلى أنهم
اختاروا منتسكييه ليدحضوا به «الفلاسفة» كما اختار الفلاسفة فنلون ليدحضوا به بوسويه،
ودفع ذلك رجال القرن التاسع عشر إلى «تصوير» منتسكييه وفق ما اشتهوا، ووصفوه في طليعة
أولئك المؤرخين الموضوعيين العميين الذين يهتمون أولًا بالوقائع، ويذهبون عن طريق
استعمال المنهج الاستقرائي المقارن إلى «نسبية» النظم، وإلى أن العادات يشكلها المناخ
والجغرافيا تشكيلًا جبريًّا؛ وبعدُ فهل نستطيع أن نجد في منتسكييه ما يؤيد تصوير القرن
التاسع عشر له؟ لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الفلاسفة أنفسهم أخذوا على منتسكييه إسرافه
في تعليل ما هو كائن فعلًا، وأنه يغلب عليه الميل لإقامة الحق على الواقع، وقد سلمنا
بما في هذا النقد من صحة، ونضيف إلى هذا أن الناقد يستطيع إذا تعمد أن يجد في هذا الفصل
أو ذاك من روح الشرائع نصوصًا يبرهن بها على ما يريد، ويرى الأستاذ فون أن «الكتب
الخمسة الأخيرة» تُثبت أن منتسكييه كان مثال المؤرخ الذي لا يُعنَى إلا بتحقيق الوقائع
وتعليلها،
٥٧ ويحتمل أن يكون هذا صحيحًا بالنسبة لهذه الكتب الخمسة، ولكن أين كتب خمسة
من واحد وثلاثين كتابًا تكون منها المصنف جميعه؟ ولنذكر أيضًا طريقة منتسكييه في
التصنيف، فالفصل عنده أحيانًا لا يجاوز جملة واحدة، وقد رجع الأستاذ فون نفسه فخفض عدد
الكتب التي استشهد بها من خمسة إلى أربعة، فلنسلم بهذا كله، ونقول: إن منتسكييه في كتب
أربعة من روح الشرائع، وفي قطع أخرى تماثلها مثال «المؤرخ الخالص» الذي لا يُعنَى إلا
«بتحقيق الوقائع».
وبعد أن سلمنا بهذا علينا أن نأخذ في قراءة الكتاب مغفلين الفواصل التي تفصل هذا
العدد الكبير من الكتب والفصول وأرقام الفواصل، ولنذكر دائمًا في أثناء القراءة أن
الكتاب من وضع منتسكييه لا من وضع مؤرخ من رجال القرن التاسع عشر، أو دارس متخصص في علم
السياسة المقارن، وأن منتسكييه كان من نبلاء القرن الثامن عشر، وأنه كان مباشرًا لشئون
عامة؛ «كان من أصحاب القلانس على شكل الهاون — أي من رؤساء القضاء»، وأنه كان رجلًا
أريبًا في تصريف الشئون، وأنه كان واسع الاطلاع، وأنه فكر طويلًا في مسائل الإنسان
والعالم، وأنه كان يُدون أفكاره وتأملاته ويأتي بما يوضحها ويدعمها من شواهد وأمثلة
مناسبة، يستحضرها من مطالعاته وتجاربه، فلو قرأنا روح الشرائع على هذا النحو، لأمكننا
أن ندرك أننا لسنا بصدد رسالة متصلة منظمة في علم السياسة، «ولا جديد في ملاحظاتنا هذه،
فقد قالها كل من اطلع على الكتاب»، وإنما نحن بصدد أفكار وتأملات منفصلة أو بعبارة أدق،
بصدد مجموعة مقالات، وقد نخرج من قراءتنا أيضًا بفكرة عن المؤلف نفسه، وهي أنه من بعض
نواحيه مونتاني القرن الثامن عشر أو هو مونتاني مطعم بقليل من بيل.
٥٨
وإذا ما أضفنا إلى مونتاني وبيل هذين «عرقا» من سخط القرن الثامن عشر على أحواله،
ومن
عزم القرن الثامن عشر على تقويمها حصلنا على مؤلف روح الشرائع. هذا؛ ولو عرفنا طريقة
منتسكييه في جمع مادته لعجبنا من قول كوندرسيه عنه: إنه شغله ما هو كائن عما ينبغي أن
يكون، فهذا القول يفيد فيما يفيد أن منتسكييه كان شديد الحرص على استيفاء مادته
وتمحيصها، والواقع غير هذا؛ إذ كان الرجل يتقبل كل ما يقع بين يديه، ويستعمل كل ما
يحضره من كتب الأقدمين والرحالة والروايات الشفوية، والمادة في أكثر الأحوال سطحية
جدًّا، لم يُعالجها بأي تمحيص إلا فيما ندر؛ ولذا فإن الأولى بمن يطلب مادة خليقة
بالثقة أن يرجع إلى فولتير مثلًا، هذا إن لم يرجع إلى جيبون، وحقيقة الأمر أن الوقائع
في ذاتها لا تحظى كثيرًا بعناية منتسكييه، وقيمتها في نظره تنحصر في مقدار الإيضاح الذي
تملكه، فليست إذن شيئًا أساسيًّا، وهي ليست صحيحة أو باطلة بصفة مطلقة، ولكنها إحداهما
تبعًا لما تتضمنه، وعلى هذا، فليس من المهم دقة المؤرخ في تدوينها، إنما المهم كيفية
استعماله لها، وهذا على اعتبار أنها ممكنة الوقوع في أحوال معينة وبشروط معينة، وأنها
من الوسائل التي يتخذها المؤرخ ليجعل وصفه للسياسة العامة لحكومة من الحكومات حيًّا
واقعيًّا.
وليوضح بها المبادئ العامة التي ينبغي لكل حاكم أن يتبعها في أحوال معينة، وهذه
الكلمة الصغيرة «ينبغي» من الكلمات الأساسية في روح الشرائع، فأينما تفتح الكتاب تجدها،
مثلًا «ينبغي للدين والقانون المدني أن يتجها لجعل الناس مواطنين صالحين.»
٥٩ «قوانين الحصانة مصدرها قوانين الطبيعة، وينبغي أن تكون مطاعة عند جميع الشعوب.»
٦٠ «القوانين السياسية والمدنية لكل شعب ينبغي ألا تعدو أن تكون تطبيقًا
خاصًّا لقانون العقل الإنساني.»
٦١ مبدأ النظام الجمهوري الفضيلة، ولكن «هذا لا يستتبع حتمًا أن يكون
المواطنون في أي جمهورية فضلاء، إنما ينبغي أن يكونوا كذلك.»
٦٢ والشواهد المماثلة لا تُحصى؛ وهكذا تتكرر كلمة «ينبغي» بحيث لا يمكن لأحد
أن يغفلها، وهذا يجعل حكم دالمبير على منتسكييه أصدق من حكم كوندرسيه حين قال: «إن
اهتمامه بالقوانين التي وُضعت فعلًا أقل من اهتمامه بالقوانين التي كان ينبغي لها أن
تُوضع.»
٦٣
ويجب على كل من ينقد كتابًا أن يقرأ عنوانه بعناية، فما هو عنوان كتاب منتسكييه؟
لم
يطلق عليه منتسكييه اسم «الشرائع»، بل سماه «روح الشرائع»، وهذا في ذاته دليل على أن
قصده لم يكن الشرائع كما هي، بل البحث عن الحق المثالي الذي ينبغي أن تقوم عليه
الشرائع، مع مراعاة ظروفها المختلفة من طبيعية وبشرية، وعلى ذلك فإن أولئك الذين يسعون
بالطريقة الاستقرائية لإقامة علم للسياسة على أساس «حقائق» التجارب الإنسانية، لا يجدون
إلا القليل مما يلزمهم في روح الشرائع، ولكن رجال حركات الإصلاح في القرن الثامن عشر
وجدوا فيه الكثير مما يلزمهم، فالكتاب مشحون بعتاد الدك والهدم، ولم يكن بين يدي أي
«مصلح» يعمل في تقويض دعائم الكنيسة والدولة ما هو أنفع لغرضه منه، أو خيرًا منه
إثباتًا لأصول نظرية الحكم الدستوري في فرنسا، أو تثبيتًا لها على مبادئ مشتركة بين
الشعوب عمومًا، وهل كان يمكن أن يجد أي مصلح كتابًا آخر يحتوي على ما احتواه روح
الشرائع من تنوع المادة وتعدد المشابهات والمماثلات والمفارقات، ومن دحض حجج الخصوم
بالأسلوب غير المباشر، ومن توجيه الطعنات الماكرة في قالب المدح، ومن تظاهر بالانحناء
الساخر؟ وقد ألف منتسكييه بين هذه الأشياء كلها تأليفًا دقيقًا محكم الصنعة يرمي إلى
إظهار سخافة الدين «الوحيد الحق» «المنزل» عقائده وسننه، وقد دلنا منتسكييه نفسه على
الرأي الحق في كتابه حين روى لنا رأي أحكم رجال العصر، وأكثرهم استنارة في الكتاب فقال:
«إنهم عدوا روح الشرائع كتابًا نافعًا، واعتقدوا أنه سليم خلقيًّا، وأن مبادئه عادلة،
وأنه يفي بما سعى إليه من تكوين المواطنين الصالحين، ومن دحض المعتقدات الخبيثة ومؤازرة
المعتقدات الطيبة.»
٦٤
وجيبون العظيم! جيبون الذي يُقرن اسمه كثيرًا باسمي توكيديدس وتاسيتوس،
٦٥ المؤرخ المثالي، المؤرخ الذي لا تشوب طريقته في التحقيق شائبة ما، المتجرد
عن الغرض أو — بتعبير أدق — المتصنع التجرد عن الغرض، المتحري الدقة على الأقل في إثبات
الوقائع، فماذا يمكن أن يقال فيه؟ نقول وبكل بساطة: إنه كان الرجل الذي هجم على العدو
في عقر داره، وإنه هو الذي هاجم العصور المسيحية وجهًا لوجه، خطر له وهو بين أطلال
الكابيتول أن يروي قصة تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ليصور بذلك مشهدًا
تاريخيًّا لعله أعظم وأروع ما في التاريخ البشري كله، وعمل في الموضوع الذي اختار عشرين
سنة متواصلة إلى أن أتم كتابه، ويا له من كتاب! فكم من براعة بذل، وكم من تفصيل دقيق
وافر جمع، لكي يروي قصة سقوط الحضارة من أعلى ما بلغت في القرن الثاني، أسعد وأهنأ ما
رأت البشرية في تاريخها إطلاقًا، وكم كان سمحًا لاهيًا، وفي الوقت نفسه أسيفًا، ولكن
غير باخع نفسه، بل مترفعًا حين يكتب عمن يكره وعما يأسف له! وكم كان مرحبًا بالفرص
القليلة التي سمح له بها سياق الحديث ليعود «لاستنشاق هواء الجمهورية الرومانية النقي
الباعث للقوة!» وكم كان رجلًا متحضرًا مهذبًا ساخرًا سخرية الرجل الراقي الرزين، عالمًا
مستنيرًا حقًّا كثير الاطلاع، وفي الوقت نفسه محرفًا سيئ الفهم، حين وصف انتشار الدين
المسيحي وانتصاره، وحين عرض إلى ما دار من المناظرات والمحاورات بين الفرق حول التثليث
والتجسد، وحين حكى قصص الأفعال الصبيانية المأثورة عن رهبان العمد،
٦٦ وعن القديسين المترهبنين، وما إلى هذا من «أفعال» عديدة جلبت الخزي على
الكنيسة والضرر على الدولة، وأخلق بها أن تثير «ازدراء الفيلسوف ورثاءه لها».
هذا؛ وقد يخيل لقارئ التدهور والسقوط أنه قد سير به في سفر بعيد، ولكنه — في حقيقة
الأمر — يظل حيث هو مع جيبون بين أطلال الكابيتول يطل منه على عالم طيفي زاخر بأشباه
الرجال ولا رجال، يتحركون متخبطين، ويأتون غرائب الأفعال، وهكذا صور جيبون أحداث ألف
سنة من التاريخ، فلا القارئ قد دخل في العصور الوسطى بالمرة، ولا هو عاش عقلًا وشعورًا
فترة من التاريخ، وأدرك حقيقة تجاربها في نفسه، بل ظل في مقعده بين أطلال الكابيتول
يصغي متململًا ضجرًا خدر الجسم، متقلص العضل لهذا الراوي الذي لا يكل، يقص في حزن
وترجيع أنباء الكارثة التي حاقت بالبشرية، وما نكبت به قوى الشر عقل الإنسان. «والتدهور
والسقوط» تاريخ، بل هو شيء أكثر من تاريخ، هو خطبة رثاء، جيبون يرثي الحضارة القديمة
ويذكر بموتها، كتب لكي يعلم الأجيال المقبلة كيف انتصرت «البربرية والديانة».
انتصار البربرية والديانة، تكشف هذه الجملة تمامًا عن موقف الفلاسفة المؤرخين من
الماضي، من ماض ذهبت فيه البشرية ضحية غواية البربرية والديانة لها، فأخرجتاها من فردوس
الطبيعة، ثم أقبلت العصور الوسطى المسيحية، وكانت عصور شقاء بعد نعيم الجنة، عصورًا
عقيمة هامت البشرية أثناءها على وجهها، يرهقها القهر، وقد أفسدتها الغواية وأضلتها
وجعلتها خسيسة القدر، ولكن ها هو ذا الفرج قد جاء، وأخذت البشرية تخرج من ظلمات الماضي
وضلالاته لتدخل في نور القرن الثامن عشر ونظامه، فكان القرن الثامن عشر بذلك فاصلًا بين
عصرين، ينظر منه الفلاسفة إلى الماضي ويتنبئون بالمستقبل، فكانوا إذا ما ذكروا الماضي
وشقاءه وضلاله تحدثوا عنه حديث الرجال عن إسراف الشباب وأزماته، حديثًا قد لا يخلو من
مرارة الذكرى، ولكن تصحبه ابتسامة سمحة وتنهد الرضا وشعور الاطمئنان، وأما حاضرهم فهو
خير قطعًا مما سبقه. والمستقبل؟ أما والحاضر خير من الغابر، ألا ينبغي أن يكون المستقبل
خيرًا من الحاضر؟ فليولوا وجوههم إذن نحو المستقبل، نحو أرض الميعاد، نحو عصر البعث
الجديد.