١
الماضي والمستقبل حيزان من الزمان نفصل بينهما عادة بثالث هو الحاضر، ولكن الحاضر
على
وجه التدقيق لا وجود له، أو على أحسن الفروض لا يجاوز إلا برهة ضئيلة جدًّا من الزمان،
برهة تزول قبل أن نُسجل أنها حاضرة، ومهما يكن فيجب أن يكون لدينا زمان حاضر، ويمكننا
أن نحصل عليه بأن نسلب الماضي شيئًا منه، ونعتبر ما سلبناه حاضرًا — أو بعبارة أخرى —
بأن ندعي للحاضر الأحداث الحديثة الوقوع، وندرجها في سلك محسوساتنا الحاضرة، وعلى سبيل
المثال أرفع ذراعي، «الرفع» سلسلة من حركات، الأولى منها وقعت في زمن مضى، في زمن سبق
الأخيرة، ولكنني أعتبر «الرفع» عملية كاملة واحدة حدثت في برهة واحدة، وإدخال الأحداث
المتتالية في لحظة حاضرة واحدة على هذا النحو يطلق عليه الفلاسفة اسم «الحاضر الكاذب»،
وإني لا أدري أي حدود حددوها له، ولكني سأترخص وأقول: إن لنا أن نمد في الحاضر الكاذب
كيف نشاء، وهذا في الواقع هو الاستعمال الجاري، فإننا نتحدث مثلًا عن الساعة الحاضرة
والسنة الحاضرة والجيل الحاضر؛ وهكذا، وإني لا أدري أللكائنات الحية جميعًا حاضر كاذب
أم لا، ولكن مما لا شك فيه أن أهم ما يفرق الإنسان عن سائر الحيوانات هو أن حاضره
الكاذب قابل للامتداد والتنويع والوفرة كما يشاء، بيد أن قدرة الإنسان على حاضره هذا
وتنميته تتوقف على مقدار علمه عن الماضي، وعن البلاد البعيدة، أو بعبارة أخرى مقدار ما
تستطيع حافظته أن تستوعب عن الماضي، وعما هو بعيد عنه، وهكذا يستطيع المتعلم أن يستحضر
حينما يشاء صورة تمثل ماضي البشرية البعيد على وجه ما من التقريب والدقة، وبذا يجعل من
هذا الماضي كله حاضرًا بالنسبة له.
ولا يفعل الناس هذا في المعتاد، فالشخص السليم العقل لا يحاول عادةً أن يأتي بماضي
البشرية كله حاضرًا بين يديه، ولكن الناس لا يستغنون تمامًا عن الإتيان به أو ببعضه
حينًا ما، فمتى أراد أحدهم مثلًا أن يحقق غاية من الغايات، فإنه يستعيد ذكرى طائفة من
أحداث ماضية معينة، سواء أكانت حدثت حقيقة أم توهمًا؛ أي يستحضر ذلك القدر من الماضي
الذي يعده لازمًا لتوجيهه لقضاء ما هو بسبيل قضائه، والتوجيه يحمل معنى الاستعداد
لمواجهة ما هو مقبل، ويقتضي الاستعداد بناء على هذا شيئين: يقتضي استحضار أحداث مضت،
كما يقتضي توقع حدوث أخرى مستقبلًا، ولاحظ أنني قلت «توقع كذا» ولم أقل «التنبؤ بكذا»،
وحاصل الكلام أن الحاضر الكاذب يحمل دائمًا قدرًا صغيرًا أو كبيرًا من الماضي كما يحمل
حتمًا في الوقت نفسه قدرًا من المستقبل، بل كلما زاد مقدار الماضي فيه، تشكل فيه مستقبل
متوقع حدوثه، فبين الاثنين إذن علاقة بحيث إنه إن كانت ذكرياتنا عن الماضي قصيرة المدى
هزيلة ضئيلة، فإن نوع المستقبل الذي نتوقع يكون أيضًا قريبًا هزيلًا، وعلى العكس إن
كانت الذكريات زاكية وافرة متنوعة، فإن المتوقعات يغلب أن تكون كذلك تقريبًا، وأهم ما
في العلاقة بين هذين الشيئين الماضي والمستقبل ليس مقدار الامتداد والنماء فحسب، بل
توقف صفة نسق الواحد منهما على صفة نسق الآخر، وإذا ما تساءلنا أيهما يسبق الآخر، أيهما
العلة وأيهما النتيجة، أو هل نحن نكون نسقًا معينًا استجابة لرغائبنا ورجائنا، أم يتكون
النسق بموجب من الخبرة والعلم، ومنه تصدر الرغائب والرجاء؟ ولن أحاول أن أجيب عن هذا،
وأكبر ظني أن ذكرى الماضي وتوقع المستقبل يعملان معًا متآزرين، لا يختلفان في أيهما
يتقدم الآخر أو يتزعمه، ومهما يكن فالثابت أنهما يعملان معًا، وأن أي حاضر كاذب يعيه
الفرد في وقت معين هو نسق يتكون في لحظة واحدة من ماضٍ يُستذكر ومحسوس يُدرك ومستقبل
يُتوقع، فهو قطعة واحدة نسيجها من خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
وإذا كان هذا صحيحًا بالنسبة لعقل الفرد في معتاد أحواله، أليس هو صحيحًا أيضًا
بالنسبة إلى العقل معممًا لجيل من الأجيال في عصر من عصور الزمان أو في جو فكري معين؛
أي بالنسبة إلى عقل عام نصنعه صناعة، أو نتوهم له وجودًا للزومه لأغراض الجدل
الأكاديمي؟ ومهما يكن فلنفرض أن ما هو صحيح بالنسبة لعقل الفرد هو أيضًا صحيح بالنسبة
لعقل الجيل، وقد نجد في هذا الافتراض نفعًا، وعلى هذا فإننا ننسب للقرن الثامن عشر
«عقلًا» وننسب لهذا العقل شعورًا بحاضر كاذب يتكون من ماضٍ مستذكر ومحسوسات بأحداث
حاضرة ومتوقعات مستقبلة، وأما فيما يتعلق بالماضي المستذكر، فقد حاولت في المحاضرة
السابقة أن أُبين أن عقل القرن الثامن عشر، كما تدل عليه كتابات الفلاسفة تصور الماضي
زمان جهل وشقاء أخذت البشرية تخرج منه إلى حاضر أفضل فيما هو ثابت عيانًا، هذا بالنسبة
للماضي والحاضر، وأما بالنسبة للمستقبل المتوقع، فسأحاول في محاضرتي هذه أن أبين أن
الصورة التي كانت لدى القرن الثامن عشر عن ماضيه وحاضره حدت به إلى أن ينظر للمستقبل
نظرة المتطلع إلى «أرض الميعاد»، إلى «أوتوبوس» أو «لا أين»؛ أي الدار التي يبنيها
الخيال. هذا ما سأحاول أن أبينه، وقبل أن أفعل ذلك أحب أن أُعيد ما سبق لي أن قلته —
ولعلي قد قلت هذا أكثر من مرة — إن فلاسفتنا هؤلاء لم يكونوا فلاسفة بالصناعة؛ أي لم
يكونوا رجالًا مقيمين في بروج عاجية ظليلة، لا يشغلهم شاغل عن التأمل، بل كانوا مجاهدين
كأولئك الذين نفروا تحت راية الصليب لاسترجاع الآثار المقدسة، فخرجوا هم كذلك تحت راية
دين الإنسانية؛ لينتزعوا من الفلسفة المسيحية ومن المنكرات التي آزرتها سيطرتها على
العقول، وكانت الفكرة التي استحثتهم — أن البشرية أفسدتها وغدرت بها العقائد الباطلة،
فهبوا لسحق تلك العقائد الباطلة، ولكي يسحقوها تعين عليهم أن يقابلوها بعقائد تضادها،
ولكن على أن تكون مشتقة من نفس أصل العقائد الباطلة، وكان هذا شرطًا أساسيًّا، فإن
القتال بين عدوين لا يقع إلا إن كان المتقاتلان في مستوًى واحدٍ، والقتال بين المعاني
كالقتال بين الرجال، فالمعاني إن لم تكن في مستوًى واحدٍ استحال عليها أن تتقابل في
قتال، فلا بد من أن تتلاقى وتتصادم وتتماس لكي تتقاتل، وإلا لا ينفع انقضاض وكر وفر،
ويستمر كل منها يسبح في فلكه؛ وعلى هذا إن أراد الفلاسفة أن يدحضوا الفلسفة المسيحية،
فقد وجب عليهم أن يقابلوها في مستوى أفكار معينة مشتركة بينهما، فإذا ما أنكر الفلاسفة
مثلًا أن الحياة البشرية تدبير محكم ذو معنى وغاية، استحال عليهم أن يتلاقوا وخصمهم،
وفوق هذا كيف السبيل إلى إنكار هذه الفكرة، وهي تكاد تكون غريزية تعيها الصدور جميعًا،
بما في ذلك صدور الفلاسفة أنفسهم، فيتعين على الفلاسفة أن يعدلوا إلى خطة أخرى لمهاجمة
خصومهم، كأن يقولوا: إن الصورة التي صورتها المسيحية للتدبير العالمي خاطئة ضالة. وأن
يجيئوا لهم بأخرى أفضل منها؛ أي يجيئوا بتأويل آخر لماضي البشرية وحاضرها
ومستقبلها.
ولم يدر الفلاسفة أن الموقف الذي اتخذوه من اللاهوتيين النصارى، هو موقف اللاهوتيين
النصارى من الوثنية؛ وذلك أن آباء الكنيسة نالوا ما نالوا من انتصار على الوثنية بفضل
انتحالهم النظرية اليونانية المشهورة، نظرية الكون والفساد المتكررين في أكوار إلى ما
لا نهاية،
١ ثم تعديلها لتفي بحاجات العالم اليوناني الروماني وتجاربه عندما أخذوا على
عاتقهم أن يقوموا اعوجاج هذا العالم، وكان يماثل في حاجته للتقويم القرن الثامن عشر،
اقتبس الآباء فكرة اليونان والرومان عن وجود عصر ذهبي في الزمان الغابر من إنشاء أبطال
أو شارعين أفذاذ ملهمين من قبيل ليكرجوس وصولون،
٢ ثم أولوها وصاغوها طبقًا لعقائد الكتاب المقدس وعباراته، فجعلوا العصر
الذهبي للإنسانية عند بدء الخليقة، عند بدء الإنسان والعالم، وأضفوا عليه بذلك بهاء أي
بهاء، وعينوا له مكانًا في جنة عدن، فصار بذلك أبين حقيقة وأثبت وجودًا، ونسبوه إلى
الله الواحد الحق العالم المريد للخير، بدلًا من البطل أو الإنسان الشارع الملهم،
فأكسبوه بذلك سلطانًا وكمالًا، ثم انتهى ذلك العصر الذهبي المسيحي بالهبوط من الجنة
وشقاء البشرية، وهذا يُقابل ما ذهب إليه الكُتَّاب الأقدمون حينما اعتبروا حاضر البشرية
فسادًا طبيعيًّا منشؤه القضاء والقدر، والضعف البشري لا مخرج منه إلا بصدفة سعيدة أخرى،
فيظهر الشارع الملهم أو الملك الفيلسوف الذي ينهض بالبشرية من كبوتها، ثم يكون الفساد
بعد هذا؛ وهكذا دواليك، فالزمان عندهم عدو الإنسان، والتاريخ عندهم يتكرر فسادًا وكونًا
أكوارًا إلى ما لا نهاية، ويقول ماركوس أورليوس: «النفس العاقلة تجوب آفاق الكون كله
والفراغ الذي يحيط به، وتعي شكل بنيته وتوغل في أعماق الزمان اللامتناهي، وتفهم حقيقة
كون الأشياء المتكرر وتحله محل الاعتبار، وتستبين حينئذ أن أبناءها لن يروا شيئًا
جديدًا، كما أن آباءنا لم يروا غير ما نرى نحن؛ وعلى هذا وبموجب هذه المماثلة لنا أن
نتصور أن الرجل في سن الأربعين إن كانت لديه حبة من فطنة، يكون قد رأى كل ما كان وكل
ما سيكون.»
٣
والحياة البشرية في صورتها اليونانية الرومانية تبدو كأنها ملحمة حقيقية أساسها أن
الحياة البشرية يتحكم فيها قضاء جبار لا تفلت منه أبدًا، ولكن الملحمة كانت بلا خاتمة
سعيدة أو بلا خاتمة بالمرة، وهذا سر ضعفها، فإذا جاز للنفس العاقلة أن تتسلى عند
الأربعين وبعد اختراقها الزمان اللا متناهي بالعلم بأن لا جديد تحت الشمس، وأن لن يكون
جديد تحتها أبدًا، فإن بني الإنسان عمومًا لا يقنعهم هذا الأجر الهزيل، وكيف يرضون به
أجرًا؟ ألا يحق لهم وحياتهم على ما هي عليه من قصر وخشونة وضنك وخوف أن يتطلعوا إلى ما
يعوضهم عن الشقاء الذي منوا به في الحياة الدنيا؟ ألا يحق لهم أن ينعموا، ولو بالرجاء
والأمل فيما هو خير فيما بعد؟ أجل كان لا بد من أن يكون للمسيحية خاتمة سعيدة، وهذه
وجدوها في الصورة المسيحية للحياة الإنسانية، ولا بدع في ذلك، فرسالة المسيحية كانت
للمعذبين والمحرومين ومن إليهم من عامة الخلق، والمسيحية لم تزعم أن حياة الإنسان في
الحاضر أقل شقاءً مما هي، أو أقل خيرًا مما هي، ولكنها جعلتها أيسر فهمًا وأجمل
تأويلًا، وسقوط الإنسان إذا ما نسب إلى عصيان الإنسان أمر ربه كان تعليله مقبولًا،
والبأساء والضراء والعذاب في سبيل الله يحتملها الإنسان صابرًا، بل تتبدل أنعمًا إذا
ما
اعتبرت جزاءً وفاقًا، أو تكفيرًا ثوابه النعيم السرمدي في الجنة، ومحت المسيحية عالمًا
بائسًا عاجزًا ليس فيه من جديد أبدًا، وأقامت مقامه عالم الأمل والرجاء، ووعدت
الإنسانية عصرًا ذهبيًّا مستقبلًا بدلًا من حلمها بآخر كان في زمان قد انقضى، فيتكفل
المستقبل بذلك بإنصاف الإنسانية من حاضرها، ولم يكلف الدين الناس، لكي يستحقوا هذا
شططًا، ولم يقتض منهم لكي يدخلوا الجنة الموعودة سوى أن يكونوا راضين بقضاء الله
طائعين، وما ذلك على الناس عامة بعسير.
وملك هذا التأويل على الناس لبهم، وتعليل هذا يسير، فإننا مهما بحثنا لن نجد تأويلًا
أكبر اتفاقًا منه مع ما يدل عليه واقع التجارب الإنسانية أو أعظم استجابة منه لدواعي
الرجاء في صدور الناس، وبعد فما الذي تدل عليه تجارب الفرد من بني الإنسان؟ إنها تدل
على حاضر يتعرض فيه الإنسان لأنواع شتى من البلاء والنوائب، وعلى شباب مضى تداعب الفؤاد
ذكريات هنائه أو على الأقل هنائه المتوهم، أو على شيخوخة آمنة هادئة يتطلع إليها
الرجاء، أليست هذه أدوار الحياة كما يمر فيها بنو الإنسان عمومًا؟ وجاءت المسيحية،
فجعلتها أطوار التاريخ الإنساني، فللبشرية شبابها ونعيمها في جنة عدن تحلم به، وللبشرية
حاضرها من الشقاء تعانيه، وللبشرية الأمن في المستقبل ترجوه، أمور جليلة لا غموض فيها
ولا إبهام، ولا يقتضي فهمها من أي إنسان أن يفقه علمًا لاهوتيًّا، ثم هي لا يقدر
الإنسان على فهمها فحسب، بل يقبل عليها ويرحب بها؛ إذ هي تكسب وجوده في الدنيا قدرًا
وقيمةً ومعنًى، فيرى أن وجوده على ضآلته وضيقه وعمقه أخرط وأجل في حقيقته منه في مظهره،
وأنه جرم صغير، ولكن يتمثل فيه العالم الأكبر، يتمثل فيه جميع ما قضى به الله بالنسبة
للخلق كافة، وأخرى أحبوها، أنه ستكون هناك خاتمة، وأن الله سيقضي بينهم، وأنه سيكون
حساب، وأن الأشرار سيُعاقبون والأخيار سيُثابون، وملأ الإيمان باليوم الآخر القلوب،
وزكاه في كل قلب ما ذكر وما شاهد من صنوف البغي وما عانى من ظلم، وصحب الإيمان الرجاء
في أنه سيلحق بالصالحين ويدخله الله دار المقام الأمين، دارًا لا عوج فيها ولا
أمتا.
هذا؛ وإن نحن نظرنا للتأويل نظرًا سطحيًّا، فاعتبرناه رواية أحداث تخضع لأصول النقد
التاريخي الحديث، ما انطبق عليها هذا، وإن حاول تطبيقها طبقات المفسرين والنقاد، وقد
أضافوا إلى محاولة تطبيق الأصول الحقائق التي جمعها العلماء عن أحوال العالم اليوناني
الروماني وتاريخ نشأة الكنيسة وأحوال الشعوب البدائية والشعوب غير المسيحية، مما أدى
إلى إضعاف ثقتهم بالتأويل المسيحي باعتباره عرضًا تاريخيًّا، وأدى هذا أيضًا إلى حركة
أخرى، وهي الحركة التي بدأها الإنسانيون منذ القرن الخامس عشر أو فيما قبله، وذلك أن
هؤلاء وقد بهرتهم حضارة العالم اليوناني الروماني عندما كشفوا عنه الغطاء، جعلوا منها
ذلك العصر الذهبي للإنسانية الذي عينته العصور المسيحية في جنة عدن، وهكذا فعل
الإنسانيون ما فعل اللاهوتيون النصارى حينما جعلوا عصرهم الذهبي جنة عدن بدلًا من ذلك
العصر الذهبي الذي تخيله اليونان، وكان أمرًا مفهومًا أن يولي الإنسانيون وجوههم نحو
العالم القديم، وأن يتتلمذوا لليونان والرومان وأن يتعلموا منهم كل ما علموه، بل أن
يعدوهم أفضل ما أخرجت البشرية من مثل تحتذى، وعودتهم هذه تأتيهم بالعتاد الذي يلزمهم
لمهاجمة عدوهم؛ إذ هي تمكنهم من الاطلاع اطلاعًا صحيحًا على نشأة الرواية المسيحية،
وتظهرهم على «العلم» الجاف الممل الذي نما حولها خلال العصور، وتكاثف عليها حتى أخفى
حقيقة معناها، ولكن هل يكفيهم هذا لكي ينالوا من عدوهم؟ إن قوة الرواية المسيحية
وصلابتها منفصلتان عن الأحداث التاريخية لا تتوقفان عليها، والنقد التاريخي مهما بلغ
لن
ينال منها، وكان سر قوة الرواية المسيحية أنها أعلنت للناس بما لها من سلطان (ولا يهم
في هذا إن كان الإعلان صادقًا أو غير ذلك) أن حياة الإنسان لها معنى وغاية، وأن دلالتها
تتعدى حياة الفرد إلى الوجود كله، تتجاوزها لتشمل كل ما يعرض لها وما تكسبه في الزمان،
سرُّ قوتها الباقية أبدًا هو في هذا، في إشراق الرجاء من خلال التشاؤم، في إطلاق عقل
الإنسان من ربقة الأكوار التي عقدتها الفلسفة القديمة حوله، في إحلالها — حينما نقلت
العصر الذهبي من الماضي للمستقبل — فكرة مستبشرة عن مصير الإنسانية محل أخرى قانطة؛
وهكذا يتبين لك أن مهاجمة الإنسانيين للرواية المسيحية بسلاح التاريخ، كان لا غناء فيه
اللهم إلا لافتتاح المعركة.
وكان هذا ما لاحظه فلاسفة القرن الثامن عشر، لاحظوا أنهم قد يقولون في جنة عدن ما
يشاءون، وقد يقصون سيرة الإنسان وبدء الخليقة على الوجه الذي يعتقدون، وقد يعدون
التنزيل الصحيح ما قرءوه في كتاب الطبيعة لا في الأسفار المقدسة، وقد يذهبون إلى أن
سلطان العقل يؤيده الإجماع الإنساني كما هو مسطر في التاريخ أكثر عصمة من سلطان الكنيسة
والدولة، قد يفعلون هذا كله، ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا المعركة لا تزال في مبتدئها،
وأن النهاية لا تزال جد بعيدة، وأن أي عودة للماضي يدعون الناس إليها وأي إحياء يتولونه
للفلسفة القديمة مهما طلوها بطلاء من المثالية والإنسانية، وأن عبادة الأسلاف الذين
بادوا، وأن محاكاة الإغريق في نشأتهم تلك المحاكاة الباردة، أن لا شيء من هذه يقنع
ويرضي، ويكفي الناس بعد أن علمتهم المسيحية أجيالًا فأحسنت تعليمهم أن يتطلعوا إلى عالم
أفضل، فحق على الفلاسفة إذن أن يتولوا إنشاء عالم أفضل، ولكن من طراز آخر، وأن يدلوا
الناس على سبيل آخر للنجاة ولبلوغ الكمال، وإن هم لم يفعلوا ذلك، فإن دين الإنسانية
سيظل يدعو الناس ولا من مجيب، وهذا العالم الأفضل، وهذه الجنة الجديدة يجب أن تكون في
حيز الدنيا نفسها؛ لأن مما قررته عقيدة الفلاسفة أن غاية الحياة تلتمس في الحياة ذاتها،
في حياة دنيوية أفضل وفي المستقبل؛ لأن الحياة الدنيوية الحاضرة لا تزال بعيدة عن
الكمال، ثم تعين عليهم شيءٌ آخر، تعين عليهم بعد أن ظنوا أنهم هدموا جنة السموات
ليعيدوا بناءها في الأرض، أن يعلنوا أن الإنسان لن ينجو بفعل قوة مفارقة خارقة، مُقلبة
للأشياء رأسًا على عقب، «من قبيل قوة إله أو ملك فيلسوف»، وإنما ينجو بجهده ومجاهدته
وبما تبذله الأجيال المتعاقبة في سبيل الإصلاح المطرد، وللخَلف نصيبٌ في هذا الجهد
المشترك؛ إذ عليه أن يُكمل ما شرع فيه الغابر والحاضر، ويعبر عن هذا شاتلو بقوله: «لقد
صار إعجابنا بالسلف أقل مما كان، بينما زاد حبنا لمعاصرينا ورجاؤنا الخير في خلفنا.»
٤
فكأنهم استغنوا بإشراك الخلف عن جنة المسيحية وعن عصر القدماء الذهبي، واستبدلوا حب
الإنسانية بحب الله، وقابلية الإنسان للمجاهدة للكمال المطلق بفداء إنسانٍ واحد
الإنسانية جمعاء، ورجاء خلود الذكر لدى الخلف بالخلود في الدار الآخرة.
٢
وقد شعر فريق من الأدباء العظام بأن للخلف نصيبًا في بناء الحاضر قد يدعى لأدائه،
ويرجع هذا الشعور إلى ما قبل القرن الثامن عشر بزمنٍ بعيد، إلا أنه كان في مبدأ أمره
شعورًا غامضًا، من ذلك ما لاحظه سنكا من أنه سيأتي يومٌ يَعجب فيه الخلف من جهلنا أشياء
معلومة له حق العلم.
٥
ودانتي في أوج العصور الوسطى يفتتح كتابه «دي موناركيا» بجملة لعلها تضمنت أكثر مما
يقصد؛ إذ هي تضمنت في حقيقة الأمر وجهة نظر القرن الثامن عشر في موضوع السلف والخلف
بتمامها، قال دانتي: «يجب على من طبعتهم الطبيعة العليا على حب الحق أن يشتغلوا — على
وجه الخصوص — بالعمل من أجل الخلف، وهذا لكي تغتني الأجيال المقبلة بفضل جهودهم كما
اغتنوا هم بفضل جهود من سبقهم.»
٦
وانقضت أربعة قرون قبل أن يكون لهذه الفكرة المثمرة أثرها في شئون العالم، ولا يصعب
تعليل طول هذه المدة، فمعاصرو دانتي لا يعدون الاشتغال من أجل الخلف أمرًا ذا جدوى،
وكيف يكون ذا جدوى ومصير الخلف ومصيرهم هم — مصير بني الإنسان عمومًا — قد قُضي فيه
القضاء المبرم، وفي يوم القيامة يكون الفصل والأنباء، وقد كان خليقًا بالفكرة أن تستهوي
أراسمس ومعاصريه
٧ بما لها من قيمة إنسانية، لولا أنها دعتهم للتفكير في المستقبل، وهم
بالإعجاب بالماضي مشغولون.
ولقد بلغ من عرفان الإنسانية فضل اليونان والرومان عليهم؛ إذ أطلقوهم من ربقة
الخرافات، أنهم رفضوا أن ينسبوا لحضارة عصرهم أي فضل على الحضارة القديمة، فكيف يحق لهم
والأمر كذلك أن يوازنوا حضارة يتذوقونها ويعجبون بها بشيء مستقبل مجهول؟ وكيف ينصرفون
عن تلك إلى هذه؟ وقد فاتهم إدراك حقيقة بسيطة «كما لا يزال يفوت الكثير حتى في زماننا
هذا»، وهي أن الطريقة الحقة لمحاكاة اليونان هي عدم محاكاتهم؛ لأن اليونان لم يحاكوا
أحدًا ما، فعلى الفيلسوف إذا شاء أن يفهم فكرة التقدم الحديثة، وإذا شاء أن يشتغل
صادقًا بأمر الخلف أن يبدأ بنبذ عبادة الآباء وتحليل شعور النقص الذي يشعر به نحو
الماضي هباءً، والإيمان بأن جيله الحاضر يفضل أي جيل مما عرفوا.
وكان بين السابقين إلى توجيه الفكر نحو هذا فرنسيس بيكون، وقد وردت في «الأورغانون
الجديد» العبارة المشهورة التي يعترض فيها بيكون على تسمية اليونان والرومان
«الأقدمين»، وقال: إنهم ليسوا بالأقدمين، فقد عاشوا في شباب العالم، وما الأقدمون حقًّا
إلا المحدثون، وهؤلاء يجب أن يكونوا أعلم من اليونان والرومان بحكم أنهم جاءوا بعدهم،
فتعلموا كل ما أضيف للعلم حتى زمنهم.
٨
وإني لا أدري أقرأ بسكال ما قاله بيكون أم لم يقرأ، ولكنه من المحقق على أي حال أنه
أدى فكرة بيكون خيرًا من أداء صاحبها، قال: «يجب أن نعد جميع أجيال البشر التي تتعاقب
على مر العصور كما لو كانت إنسانًا واحدًا لا يموت أبدًا، مستديم التعلم، وعلى هذا فلا
مبرر يبرر الإذعان الذي نذعن للفلاسفة القدماء، وبيان هذا على الوجه التالي: لما كانت
الشيخوخة أبعد أدوار العمر عن الطفولة، فواضح أنه يجب أن تلتمس شيخوخة الإنسان المشخص
للإنسانية في أبعد أدوار عمره من ميلاده لا في قربها إليه، وأولئك الذين نسميهم
«الأقدمين» كانوا الذين عاشوا في شباب العالم وفي طفولة الإنسان الحقة، ولما كنا قد
أضفنا إلى ما علموه ما تعلمناه على مر العصور بينهم وبيننا، فيجب أن نلتمس في أنفسنا
ذلك القدم الذي نجله في غيرنا.»
٩
وحينما كتب باسكال هذه الكلمات كانت المعركة المشهورة بين الأقدمين والمحدثين دائرة،
بل كان قد مضى على نشوبها زمن، وقد أرخ مبادئ تلك المناظرة المشهورة الأستاذ بري في
كتابه القيم جدًّا «فكرة التقدم المطرد».
١٠
وكانت سنة ١٦٢٠ أقدم سنة اتخذت لتحديد تاريخها، ففي تلك السنة يتحدث الساندرو تاسوني
كأن المناظرة تجري من زمن، ويعلن أنه على العموم في صف المحدثين،
١١ وفي سنة ١٦٢٧ نشر اللاهوتي الإنجليزي جورج هيكويل كتابًا في ستمائة صفحة،
عنوانه شرح أو بيان قوة الله وعنايته في حكم العالم، وفيه أنكر الرأي الخاطئ الشائع
القائل بأن الطبيعة في فساد مستديم عام، وذهب هو إلى أن العالم الحديث أفضل من القديم،
وعلى هذا فلا ينبغي لهذا الفساد العام المتوهم وما يلقيه في روعنا من أوهام باطلة، أن
يثنينا على الاعتداد بأسلافنا العظماء، ولا عن الإعداد لخلفنا، وكما أن سلفنا ادخر لنا
ادخارًا حميدًا، فلندخر لخلفنا ما يستوجب منه الحمد.
١٢
وبعد هيكويل بنصف قرن يأتي جلانفيل، ومما يؤثر عن جلانفيل هذا أنه جمع بين الدفاع
عن
نظريات السحر والدفاع عن نظريات العلم.
«وكانت هذه منه مقدرة لها ما يماثلها في أيامنا.»
وذهب فيما يتعلق بموضوعنا إلى أن العالم الحديث أفضل كثيرًا من العالم القديم بما
حصل
عليه من وفرة المعارف النافعة، وعلى هذا فيجب على الأجيال الحاضرة أن تسعى لتجمع وتفحص
وتهيئ ذخيرة من المعارف تدخرها كما يدخر المال في المصرف لمنفعة العصور المقبلة.
١٣
وكان من معاصري كاتبنا هذا رجل اسمه ديماريه دي سان سورلان، وكان يبغض اليونان، ويرجع
بغضه فيما يقول الأستاذ بري إلى سببين: أولًا، إلى أنه كان مسيحيًّا مسرفًا في التعصب،
وثانيًا، إلى أنه كان شاعرًا رديئًا، وكان خليقًا به إذن أن يزعم أن العالم القديم كان
دون العالم الحديث في كل شيء، في العلم، في الهناء، في الغنى، في الأبهة، وكان خليقًا
به أن يزعم أيضًا أن الشعراء يجدون في المسيحية موضوعات خيرًا مما يجدون في الأساطير
الكلاسيكية، وقد شاء له نحسه أن يحاول إثبات زعمه فنظم موضوعين: «كلوفيس» «ومريم
المجدلية»، ولم يقدر للمنظومتين بعد — لسبب ما — أن ينالا من الشهرة ما ناله شعر
هوميروس وسوفوكليس.
١٤
وقد عهد سورلان بأمر الدفاع عن المحدثين إلى رجل أصغر منه سنًّا هو شارل برو.
١٥
وتاريخ المعركة بين الكتب بعد ذلك أشهر من أن يحتاج إلى تفصيل منا، ويمكن لمن يشاء
أن
يتتبع أدوارها في كتاب برو «المقارنة بين المحدثين والأقدمين» (١٦٨٨–١٦٩٦)، وفي كتاب
فونتنيل «الأقدمون والمحدثون» (١٦٨٨)، وبالإنجليزية في كتاب السير وليم تمبل «مقال في
معارف الأقدمين والمحدثين» (١٦٩٠) وكتاب وليم وتن «خواطر عن معارف الأقدمين والمحدثين»
(١٦٩٦)، وكتاب سويفت «حرب الكتب»،
١٦ ويكفي هنا أن نلاحظ أن أقدر المنتصرين للمحدثين وهو فونتنيل أقام دفاعه على
النظرية الديكارتية في اطراد الطبيعة، فالسؤال: هل الأقدمون أفضل من المحدثين؟ يُجاب
عنه بالسؤال: هل كانت الأشجار في العصور القديمة أكبر مما هي في العصور الحديثة؟ فإن
كانت أكبر إذن فلن يظهر سقراط آخر، وإن لم تكن فهناك احتمال لظهوره، والطبيعة لا تُحابي
عصرًا دون عصر، وإذا حدث أن بعض العصور خلت فعلًا من ظهور العظماء — ومثال هذا ما كان
من انحطاط العصور التالية لغزوات القبائل المتبربرة في العصور القديمة — فإن ذلك يرجع
لا إلى أن الطبيعة كانت أقل قوة في عصور الانحطاط، بل إلى علل طارئة غير مواتية، ومثل
هذا الانحطاط ليس أمرًا محتومًا، وليس أمرًا لا يمكن منع وقوعه، بل هو شيء عرضي ومؤقت،
وهو عيب الزمن كفيل بإصلاحه، والزمن عنصر أساسي في موضوع الحكم بين الأقدمين والمحدثين،
فهو فيما يرى فونتنيل في صف المحدثين (أو على حد التعبير الإنجليزي في صف
الملائكة).
والتاريخ خير شاهد، فها هو ذا العالم الحديث يسترد بعد عصور خيم عليها الجهل
والخرافات معارف العالم القديم، ويخرج من البربرية إلى الحضارة والنظام، وخليق به أن
يبلغ مرتبة العالم القديم، بل أن يفوقه، وهنا أضاف فونتنيل لموضوع المناظرة أمرًا لم
يُسبق إليه، ذلك أنه فرق بين العلم والفنون، وقال: إنه بالنسبة للشعر وسائر الفنون قد
يبلغ المحدثون فيه وفيها شأو الأقدمين، ولكن لا يحق لهم في الغالب أن يتطلعوا إلى أن
يفوقوهم، ويرجع ذلك إلى أن الشعر والفنون مبعثهما الشعور الوجداني والخيال، وأما
بالنسبة للعلوم فهذه تعتمد على المعارف وعلى الاستدلال الصحيح؛ ولذا فإن الأحدث زمنًا
يفوق الأقدم منه، وهذا لسبب ظاهر هو أن من يجيء من بعد غيره يبني على ما جمعه من سبقه،
وقال: «إننا مدينون للأقدمين لكونهم استنفدوا تقريبًا تمامًا كل ما يمكن تكوينه من
النظريات الخاطئة.»
وكان فونتنيل مسرفًا بلا شك في ظنه أنه لم يعد بعد مجال لتكوين النظريات الخاطئة،
وكان الإسراف في حسن الظن من خواص جيله، وإذا كانت تعليلات فونتنيل قد لقيت قبولًا
حسنًا من معاصريه، فإن هذا لا يرجع لجودة استدلاله بقدر ما يرجع إلى كونها أرضت عصر
لويس الرابع عشر في حسن ظنه بنفسه، ولم يكن الملك الكبير من الملوك المتساهلين في مسائل
المقارنات والموازنات بين الملوك والعصور! وإذا كان رعاياه البروتستنت «الهيجونو»، قد
أجرموا حينما اعتنقوا مذهبًا دينيًّا غير مذهبه، فإن الأدباء يثبتون على أنفسهم ضيق
الأفق إن هم توهموا أن أثينا تفوق فرساي حضارة، وقد أثر عن تالليران
١٧ قوله: إن من لم يعش قبل ١٧٨٩ لم يدرِ حلو العيش من مره، وهو صادق في قوله
هذا بشرط ألا ننسى أن العيش كان حلوًا حقًّا للمجدودين وحدهم، فالواقع أنه فيما بين
نهاية حكم لويس الرابع عشر والثورة، كان العيش حلوًا، وخصوصًا في تلك الأعوام الهادئة
فيما قبل ١٧٥٠ قبل أن تظهر بوادر العاصفة، وقبل أن يرى أحد الملوك ما يدعوه لإرسال
النكتة على الطوفان المتوقع؛ وهكذا اقتضى حسن ظن ذلك العصر الراضي الباسم واعتداده
بنفسه أن يرى نفسه مساويًا لأي عصر عرفه التاريخ.
رحب العصر كما رأينا بآراء فونتنيل، كما أنه اعتبرها آخر ما يجب أن يقال في موضوع
الماضي والحاضر والمستقبل، فقد حدد فونتنيل العلاقات بين هذه الثلاثة على الوجه الذي
عده العصر وافيًا بالغرض، فإن كان فونتنيل قد أقر بأن الأجيال المستقبلة ستفوق الأجيال
الحاضرة بحكم أن نمو العلم وتطبيقه لن يقفا عند حد، فإنه لم يشأ أن يسير بملاحظته هذه
إلى توابعها، بل وقف عند هذا، كأنه أومأ إلى المستقبل بالتحية ولم تُطاوعه نفسه على
التعبد له، وكان معاصروه عمومًا على شاكلته، لقد كفاهم جهدًا أن نبذوا فكرة الفساد
المحتوم، وأن أثبتوا أنهم ليسوا أحط قدرًا من أي جيل، كفاهم هذا عناء، ولا لزوم لهموم
المستقبل، وإذا كانت الفتنة قد نامت فلِمَ نوقظها؟ (فلندع الكلاب النائمة تغط في
نومها.)
فهذا هو عصر السكون الذي تلا خلاف الفرق الدينية والسياسية في القرن السابع عشر،
وارتاح الناس في ظله إلى ما ذهب إليه مالبرانش
١٨ في قوله: «إن الله خلق العالم كأحسن ما يمكنه أن يخلق»، بالمبادئ العامة
القليلة التي كانت لديه، أو إلى ما ذهب إليه لبينتز — وقد كان في مذهبه هذا قاطعًا أكثر
من مالبرانش — في قوله: «إننا إن اعتبرنا الكون في كله وعلى مدار الزمان تبيَّنَّا أن
العالم الموجود خير من أي عالم ممكن وجوده.» وهذا العصر الذي نتحدث عنه كان أيضًا عصر
أثرة ومتعة — أمثلتها في والبول والوصي والملك المحبوب جدًّا،
١٩ والأثرة حدَت بهذا العصر إلى أن يكون فرحًا بما أُوتي، وإلى أن يوقن بأن لا
محل للتمني، ولا محل للأسى على المجد الذي كانه اليونان، ولا محل لأن يخشى المقارنة بأي
عصر آخر، بل هو يقبلها معتدًّا بنفسه واثقًا بما لديه من مجد مكين حقًّا، وإن كان أقل
رواءً من غيره.
ولكن حدث قرب نهاية القرن الثامن عشر أن تبدلت الحال غير الحال، واستبدل الناس السخط
بحسن الظن، وبقي لهم التفاؤل بل اشتد، ولكن على منوال آخر؛ التفاؤل بما يرجون أن يكون
في مستقبل الأيام بغض النظر عما هو عليه حاضرها، باليقين بأن الزمان كفيل بتقويم ما هو
معوج، وقد أيَّد الإيقانَ بأن الإصلاح لن يكلفهم عناءً كبيرًا التقدمُ المحسوسُ في
العلوم، وجاء هذا التقدم مصداقًا لما تنبأ به فونتنيل من أن نمو العلوم وتطبيقها لن
يقفا عند حد، كما أيدته نظريات لوك في علم النفس، وما أدخله عليها كوندياك من تبسيط
وتعزيز، وقد تقبلوا هذه النظريات على أنها بديهية، فظاهر أن الإنسان من صنع بيئته؛ أي
من صنع الأحوال الطبيعية التي يعيش فيها والنظم التي تدبر بموجبها أموره، وظاهر أن
البيئة إذا شكلت من جديد طبقًا للقوانين الطبيعية الثابتة القابلة للتعيين، فإن إصلاح
حاله حسيًّا ومعنويًّا يمكن تحقيقه سريعًا، وعلى هذا النحو استسهلوا فيما بعد وضع
الدستور الصالح للأمة الفرنسية، استسهلوه كما قال قائل منهم في الجمعية الوطنية في مبدأ
الثورة؛ لأن مثاله منقوش في الصدور «لن يستغرق وضعه — فيما أظن — إلا شغل يوم أو بعض
يوم، فها هي ذي مادته جاهزة كونتها استنارة قرن كامل.»
وقد اعترض هيكويل في القرن السابع عشر على نظرية فساد العالم المطرد العام اعتراضًا
عمليًّا صرفًا، فقال: إن الأخذ بهذه النظرية يُميت الأمل ويُوهن العزم، وإنَّا لو عكسنا
القضية وقلنا: إن إحياء الأمل واستحثاث العزم يبعثان في الإنسان الإيقان بصلاح العالم
صلاحًا سريعًا عامًّا، فإنَّا نجد في أحوال القرن الثامن عشر قرب نهايته مصداقًا لهذا
القول، نجد مصداقًا له فيما سبق الثورة الفرنسية من عزم وأمل.
عزم القول عزمًا أكيدًا على إصلاح شئونهم، وقد قادهم العزم إلى الثورة وبث فيهم
شعورًا حارًّا عاطفيًّا، بل دينيًّا بأن المستقبل بل المستقبل القريب سيفضل الحاضر
والماضي، بل لن يكون هناك وجه للمقارنة.
وحدث في فرنسا حيث كان السخط على أشده أن أصبح لنظرية التقدم المطرد وقابلية الإنسان
للكمال المطلق المقام الأول في دين الإنسانية الجديد، ولم يكن لها ذلك عند فونتنيل،
حقيقة أنه تصوره، ولكن على أنه تقدم يجري تدريجيًّا بموجب نمو المعارف والاستدلال
الصحيح، ولم يدر في خلده أو في خلد الكثيرين من معاصريه أن يتوقع تغيرًا تامًّا وصلاحًا
كاملًا في الأخلاق أو في النظم الاجتماعية، وفرق بين أن يلهو الأدباء بفكرة الأوتوبيا
كما أخرجها أفلاطون أو توماس مور
٢٠ أو بيكون لهوًا بريئًا وبين إعدادها لسياسة الغد في فرنسا، وفونتنيل يعد
الاعتقاد في إمكان هذا وهْمًا من قبيل ما توهمه السذج عن الكمال الذي كان للإنسان في
جنة عدن، ولكن هذا هو الذي حدث، أدى إليه سخط الناس وبرمهم بسوء أحوالهم الاجتماعية،
فأصبحت فكرة السعادة الأوتوبية التي تسلى بها الناس أزمانًا عن ضيق حياتهم وخيبة سعيهم
وحبوط أعمالهم شأنًا من شئون السياسة العملية لتحقيق ما كانوا يرجونه من بعث مجتمع
جديد، وهكذا تطورت الفكرة الأوتوبية: بدأت متحدة بفكرة العصر الذهبي في جنة عدن أو
بفكرة النعيم المقيم في الدار الآخرة، ثم توهمها الكُتَّاب الضجرون بالحضارة الأوروبية
إما قائمة في ديار خيالية أو في ديار غير الأوروبيين (في القمر أو في أطلانتيس أو في
لا
أين أو تاهيتي أو بنسلفانيا أو بيكين)، ثم انتهى بها المطاف إلى فرنسا في العصر السابق
للثورة كما بيَّنَّا.
ولنتبعها في طورها الأخير قبل الثورة في كتابات الفلاسفة، وينبغي ألا نقصر المراجعة
على الكتابات المشهورة في موضوع التقدم المطرد بالذات — من أمثال رسائل ترجو ورسالة
لسنج «تربية الجنس البشري»، وكتاب هردر «أفكار في فلسفة التاريخ البشري»، ورسالة
كوندرسيه «معالم تقدم العقل البشري»
٢١ — ولكن ينبغي أن نرجع إلى كتب لغيرهم من الفلاسفة لا تعالج موضوع التقدم
بالذات؛ إذ إن هذه لا تقل دلالة عن تلك التي ذكرنا، وهذا لأن الفلاسفة عمومًا كانت
تشغلهم كثيرًا مسألة التقدم المطرد وقابلية الإنسان للكمال ومصير الإنسان، وهذا
الاهتمام يقترن اقترانًا وثيقًا باهتمامهم بالتاريخ، فكان الماضي والحاضر والمستقبل
عندهم جوانب ثلاثة لشيء واحد هو شغلهم الشاغل ألا وهو الحاضر، ذلك الحاضر الذي يرغبون
في تبديله إلى ما هو أحسن منه، ومن ثم كان التماسهم الحجج لتعليل رغبتهم وتبرير سخطهم
ووجوه استنكارهم، ومن ثم كان مدهم نطاق الحاضر الكاذب فوصلوه بالعصور جميعًا، وتبينوا
بذلك أنه ليس إلا فترة شقاء زائل بين فترات تاريخ البشرية جمعاء.
٣
ولما أخذ رجال الإصلاح على عاتقهم أن يبعثوا مجتمعهم من جديد قدروا أن الخلف من بعدهم
سيقدِّر عملهم ويشكر فضلهم، فانتظر هؤلاء الفضلاء المستنيرون — الذين انتسبوا إلى جيل
من الناس ولكن أبصارهم تشخص إلى أجيال أخرى — حكم الخلف وتقديره بدلًا من انتظار حكم
الله. وإن حاجة الإنسان لأن يقره غيره على ما يعمل وعلى ما يرى لظاهرة عامة، تختلف من
فرد لفرد كِبَرًا وصِغَرًا، ولكنها مما يشعر به كل إنسان، فيحب كل واحد من الناس أن
ينال رضا أحبائه أو أقاربه أو ذوي الاستقامة من عشيرته، والطريق الذي يتبعه أكثر الناس
لنيل رضا غيرهم هو التزام العادات المرعية ومذاهب الرأي المشترك.
بيد أنه لم يخلُ زمان من رجال شواذ، وأحيانًا من جماعات يضيقون صدرًا بزمانهم، بناسه
وبأحواله، وهؤلاء إما أن يعتزلوا قومهم ليعيشوا في عزلة روحية، أو يجهدوا لاستمالتهم
إلى مِلَّتهم، والغالب في كلا الأمرين أن قومهم ينكرونهم، ويفضي بهم هذا إلى ابتغاء
الرضا من غيرهم، من سلطان أعلى وأكبر من قومهم وزمانهم، سلطان يملك الأمر كله، من قبل
ومن بعد: الله أو القانون الطبيعي أو الحرب المحتومة بين الطبقات أو المصدر المفارق
الذي يوجه الإنسان طريق الحق، ومن المعتزلين رجال رأوا أن لا قِبَل لهم بحمل الناس وهم
على ما نعرف جمودًا وعنادًا على تعديل طريقتهم، ومثلهم مثل أركميديس
٢٢ حينما رأى أن لا بد له من محور ارتكاز يحرك به المادة الجامدة المقاومة
التي يتكون منها عالم الأشياء والبشر.
وبرم رجال الإصلاح في القرن الثامن عشر بمفاسد
العصر ورغبوا في إصلاحها واحتكموا إلى سلطان غير سلطان العصر، فأما ما كان من أمر
علاقتهم بحاضرهم، فإنهم لما أحسوا بعدم انسجامهم مع زمانهم أخذوا يعملون على أن ينزلوا
على حكم ما هو أكبر وأدوم من زمانهم المتناهي وأهله وأحواله، فأقاموا قوانين الطبيعة
ورب الطبيعة النافذة في الكون بأسره، مقابل العادات والعرف ذات النفوذ المحدود زمانًا
ومكانًا، وحكموا الإنسانية جمعاء فيما حكم به الناس، فإن قيل لهم: وما الإنسانية جمعاء
أليست إلا اسمًا سموه؟ أجابوا بأن الخلف خليق بأن يجلس مجلس الحكم بموجب ما توافر لديه
من أصالة تنمو وتزداد على مر الأيام، وقانون التقدم المطرد كفيل بهذا الخير وأمثاله،
وبأنه لما كان كل عصر يقوم مقام الخلف لجميع ما سبقه، ولما كان القرن الثامن عشر بما
حصل عليه مما كسبت الإنسانية زهاء ألفي سنة قد قضى لسقراط ورجيلوس
٢٣ من قضاتهم، فإن أجيالًا تأتي بعد سوف تقضي لفولتير وروسو وروبسبير ورولان
وأمثالهم، وإني لا أدري لِمَ اعتاد مؤرخونا أن يغفلوا حقيقة بارزة في الأصول المحققة
بروزًا لا يمكن لأحد أن يخطئها أو يغفلها، ومع هذا فهم يغفلونها بالرغم عما عُرف عنهم
من التدقيق في إثبات كل ما وقع، وهذه الحقيقة هي أن فلاسفة القرن الثامن عشر وزعماء
الثورة الفرنسية، كانت تعروهم لذكر الخلف والتفكر فيما يكون من شأن الخلف هزة وجدانية
بل ودينية، وكان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا أحيانًا يجعلون من الخلف شخصية ماثلة — كما
فعلوا بالطبيعة — يتأدبون في خطابها كما لو كانت إلهًا ويدعونها بكلمات الابتهالات،
أَوَليست هذه حقيقة جديرة من مؤرخينا بالإثبات؟ وهي ليست من حيث غرابتها وأهميتها دون
الحقائق التي بذلوا في تحريها وتسطيرها ما أوتوا من علم، وهاكم شاهدًا أنقله حيثما اتفق
من كتابات الفلاسفة، روبسبير يختم خطبة له في نادي اليعقوبيين في موضوع الحرب مع النمسا
كما يأتي:
أيها الخلف! يا رجاء الإنسانية العذب الرقيق، لست بالغريب عنا، فمن أجلك لا
نبالي بما ينزله الطغيان، وسعادتك هي الجزاء الذي نبتغي لجهادنا المضني،
وكثيرًا ما يستولي علينا اليأس مما يعترضنا من عقبات، وعندئذ نلتمس من لدنك
السلوى والمواساة، وإليك نعهد لاستكمال ما بدأنا، وبين يديك ندع مصير أجيال من
الخلق لم تُولد بعد! وعسى أن تفسح صدرك لذكرى شهداء الحرية بقدر ما غصب نصراء
الدجل والأرستقراطية من صدورنا، وعسى أن يكون أول ما تفعل أن تزدري الخونة
وتبغض الطغاة، وعسى أن يكون شعارك دائمًا وقاية البؤساء والرأفة بهم والإحسان
إليهم والحرب على الظالمين! إلى البدار أيها الخلف، بادر إلى إقامة دولة
المساواة والعدل والسعادة!
٢٤
نبتسم لهذا الابتهال الحار بلا شك، ولكن هل ابتسم سامعوه من خصوم روبسبير
ساخرين؟ كلا، وكيف يكون لهم أن يسخروا والمقام مقام تعبُّد؟ فلنسمع واحدًا منهم
(لوفيه): روبسبير! سيحكم الخلف على خطبك، وسيحكم الخلف فيما بيني وبينك، وحينئذ
أنت تأخذ على عاتقك أثقل التبعات، وأنت بعنتك وتمسكك برأيك تضع نفسك موضع
المؤاخذة من معاصريك، بل ومن الخلف.
أجل، إن الخلف سيحكم بيني وبينك، إن الخلف سيقول عني أنا الرجل الذي لا يستحق
شيئًا، كان بين أعضاء الجمعية الوطنية رجل لم تمسه الأهواء الجامحة إذ ذاك،
أصدق وكلاء الشعب وفاءً للشعب، رجل يستحق مني أن أُقدر فضله وأذكر فضائله وأعجب بشجاعته.
٢٥
فالخصمان — روبسبير ولوفيه — متفقان إذن في شيء واحد، متفقان في الاعتقاد بأن يكون
هناك يوم حساب وحكم، يوم توفى الفضيلة جزاءها، ويوم ينزل بالفساد العقاب، بيد أن الحكم
عندئذ — حسب اللاهوت الثوري — سيكون للخلف لا لله، الخلف هو الذي يقضي يومئذ، وهو الذي
يعطي كل ذي حق حقه، وهو الذي يمنح تاج الخلود.
ومما يشهد به التاريخ أن الناس أشد ما يكونون حبًّا للإنسانية حينما يشتد أذاهم بعضهم
البعض الآخر، كذلك لم ينل الخلف من تقدير الحاضر قدر ما نال في الشهور الحاسمة في عصر
الثورة الفرنسية، ومع ذلك فيجب أن نذكر أن الفلاسفة من الفرنسيين وغير الفرنسيين كانوا
يعرفون قبل الثورة بزمان للخلف حقه وفائدته، فمثلًا بريستلي — وهو رجل إنجليزي كأكمل
ما
يكون الإنجليزي اتزانًا واعتدادًا — يترك موضوعه الأصلي في رسالته عن الحكومة، ويتطرق
به الحديث إلى وصف المشهد الملهم الانشراح الموزع الثقة — مشهد تقدم النوع البشري نحو
الكمال، قال: «إن الفرد في الاجتماع الإنساني لا يلزمه إلا عدد قليل من السنين لكي يحيط
بجميع ما بلغه من التقدم أي علم أو فن، وله بناءً على هذا أن يصرف المدة الباقية له من
العمر وفيها تكون ملكاته قد بلغت منتهى كمالها في تنمية ما درس من علوم أو فنون، وقد
يترتب على توافر الأفراد على خدمة العلوم والفنون على هذا النحو أن يكون لعلم أو فن من
السعة ما يقصر عقل الفرد عن حفظه، فيجب حينئذ أن يعمد إلى تفريع العلوم؛ وهكذا تتفرع
المعرفة وتتسع، ولما كانت المعرفة على حد تعبير اللورد بيكون هي القوة، فإن اتساع
المعرفة يؤدي إلى ازدياد قوة الإنسان ونفوذه في الطبيعة من حيث مادتها ومن حيث
قوانينها، فيصبح بذلك أقدر على جعل بيئته أطيب كثيرًا ومعاشه أليق من ذي قبل، ويؤدي
فيما هو محتمل إلى إطالة العمر، وإلى ازدياد هناء الإنسان كل يوم على ما قبله وإلى
ازدياد قدرته، بل ورغبته — حسبما أرى — في إسعاد غيره، وعلى هذا فمهما يكن من أحوال في
العالم مبتدئة فإن منتهاه — قطعًا — سيكون مجيدًا فردوسيًّا إلى أبعد ما نستطيع الآن
أن
نتصور، وإذا ظن بعض الناس أني قد أسرفت فيما أتطلع إليه، فإني أستطيع أن أثبت أن ما
ذهبت إليه ليس من نسج الخيال، بل هو مستند إلى فهم صحيح للطبيعة الإنسانية وللغاية التي
يسير نحوها التاريخ، ولن أحاول الآن أن أزيد الفكرة شرحًا، بل أترك مشهدًا لم أتأمله
قط
إلا وفاض قلبي سعادة.»
٢٦
وإنَّا لا نتصور هردر بين أولئك الذين توقع منهم بريستلي أن يتهموه بالإسراف، فإن
مؤلفه الجليل في فلسفة التاريخ لا يعدو أن يكون بسطًا لفكرة بريستلي الأساسية، وقد أخرج
هردر للناس في هذا المؤلف من فيض علمه ونفوذ بصره وعمارة قلبه بالتقوى خطابًا مفصلًا
لفكرة أن الله متم نوره، وأن الإنسانية ستشرق بنوره، وأن كل من يسعى من الأخيار لسعادة
الأجيال المقبلة فهو من المؤيدين إرادة الله الخير لخلقه، وله أن يرجو من الله الحسنى
بما أحسن، وفيما يلي فقرات لهردر كثيرًا ما يقتبسها الكُتَّاب، يقول:
ما أعذب أن نحلم أننا سنلتقي في الحياة الأخرى بالحكماء الفضلاء الذين خدموا
الإنسانية وأحسنوا إليها، ثم دخلوا في الملكوت الأعلى! فطوبى لهم بالصالحات
التي عملوا، والتاريخ يهيئ لنا في حياتنا هذه مشاهد من نوع هذا الحلم العذب،
نلتقي فيها بذوي العدالة والاستقامة رأيًا وفعلًا ممن كانوا فخر الإنسانية في
عصور شتى، ففي مشهد منها ألتقي بأفلاطون، وفي آخر أسمع سقراط يحاور أصدقاءه،
وأحضر اجتماعه الأخير حينما حانت ساعة الموت.
وكأني بماركس أورليوس حين يناجي قلبه يناجيني أنا أيضًا، والعبد أبيكتوتوس
يأمر فينفذ أمره أكثر مما تنفذ أوامر الملوك، وألتقي أيضًا بشيشرون وألاحظ
حيرته، وبالسيئ الحظ بوتيوس
٢٧ وأنصت لحديثهما وهما يقصان عليَّ ما لقيا من حزن وما وجدا من
سلوان.
إن معنى الحياة ومصيرها تتعدد مسائلهما وتختلف، ولكنها مهما تعددت ومهما
اختلفت، فإن منتهى ما نبذل من جهد في الفهم والإدراك والتذوق هو هذه الحقيقة
(على العقل والاستقامة تتوقف ماهية النوع الإنساني، وغايته ومصيره) وليس
للتاريخ من غرض أشرف من هذا؛ إنه يأخذ بيدنا — إن جاز التعبير — ويقودنا إلى
حيث يبرم المصير، ويرشدنا السبيل إلى التزام قوانين الطبيعة الأزلية، وبينما هو
يدلنا على عيوب مخالفة العقل وسوء نتائجها، فهو يدلنا أيضًا على مكانتنا في هذا
الكون العظيم، حيث العقل والخير في صراع أبدًا مع عوامل الفوضى، ولكنهما بمقتضى
طبيعتهما يولدان النظام ويسيران قدمًا نحو النصر.
٢٨
هذه على لسان هردر
٢٩ هي «دعوة» الفلاسفة الفضلاء في كل مكان وزمان للاتحاد في وجه الشر ومحالفة
العقل، وللفضلاء بلا شك ثواب الآخرة، ولهم أيضًا حسن الذكر عند الخلف.
ولعل ديدرو كان أكثر الفلاسفة تفكيرًا في أمر العلاقة بين السلف والخلف، والواقع
أنه
ما من مسألة شغلت القرن الثامن عشر إلا وكان لها نصيب من اهتمام ديدرو، فتقابلت في فكره
على هذا النحو جميع تيارات العصر العقلية، ولكنها لم تتحد في تيار واحد، بل أخذ كل منها
سبيله، ونقرأ في سيرة ديدرو أنه ذات مساء في عام ١٧٦٥ اجتمع بصديقه فالكونيه في ركن من
الغرفة بجانب الموقدة في المنزل بشارع تاران، ودار الحديث بينهما طويلًا فيما إذا كان
الاعتداد برأي الخلف يحفز الناس حتمًا إلى القيام بالأعمال العظيمة وإلى الاضطلاع
بالمهام الجسيمة.
٣٠
والظاهر أن الموضوع على هذا النحو كان من تحديد فالكونيه. ويذكرنا بموضوعات الجوائز
التي أحبها القوم في القرن الثامن عشر حبًّا جمًّا، لما وجدوا فيها من لذة أرضت ميلهم
لاستطلاع كل شيء والمجادلة حول كل شيء، وقد جاءت في الحوار بين فالكونيه وديدرو هذه
المسألة: إذا سلمنا بأنه قد ثبت ثبوتًا قاطعًا أن اصطدامًا سيحدث في يوم معين في
المستقبل غير البعيد بين الأرض ونجم مذنب، وأن الاصطدام سيحطم الأرض تحطيمًا تامًّا،
فماذا يكون تأثير معرفة هذه الحقيقة في أعمال الناس؟ لا تأثير بالمرة في رأي فالكونيه،
أما ديدرو فقد ذهب إلى الضد، وقال: إن التأثير يكون نكبة أي نكبة، فإنَّ توقُّع هذه
النهاية يقتل كل ما يبعث في الإنسان الرغبة في الإتيان بأي عمل عظيم أو خير، إن توقع
النهاية للعالم يُبطل كل شيء، فلا طموح ولا منشآت لتخليد ذكر ولا شعراء ولا مؤرخون، وقد
يبطل قيام الحروب فنعدم النابهين من رجال الحرب، وينصرف كل إنسان لمعاشه يزرع حديقته
ويغرس كرنبه،
٣١ وأوى الرجلان للفراش دون الاتفاق على رأي، وأبت عليهما المشكلة أن يُغفلاها
أو يَغفلا عنها، فتابعا الجدال فيها بالرسائل، ودام ذلك عدة سنوات، وتشغل رسائل ديدرو
وحده حول الموضوع أكثر من مائتي صفحة من الطبعة الجامعة مؤلفاته.
٣٢
ومن رسائله ما هو في حجم الكتاب الصغير، ألا يلفت هذا النظر؟ فها هو ذا رجل برح به
هم
البشرية فجهد جهد المستميت، وانفعل انفعال المقتتل، وسطر مائتي صفحة أو تزيد ليثبت أن
الناس لو تأكدوا من انتهاء العالم فلا تجيء من بعدهم أعقاب يذكرونهم بالخير أو بالشر،
لاندفعوا توًّا في طريق الغواية والآثام.
والذي غاظ ديدرو من صاحبه أنه لم يحمل الموضوع على أي معنى من معاني الجد، أما هو
فقد
كاد أن يكون بالنسبة له أمر حياة أو موت، فأبى أن يدعه جانبًا، وظلت المشكلة تشغل باله
طوال حياته، وكانت إن هي تركته فليس هو لها بتارك، تقلقه أحيانًا ويقلقها هو أحيانًا
أخرى، وبين آونة وأخرى نراه يكر عليها كرة جديدة عنيفة، يكر مثلًا في كتاب (ابن أخي
رامو)، وفي كتاب (الفسيولوجيا)، وفي «المقال في أقلاديوس ونيرون».
ولب المشكلة في الواقع هو المسألة المستعصية عن أسس الأخلاق والحياة الطيبة، وقد
عرض
ديدرو للأسس المصدقة مثل الإيمان بالله وبالبعث، وانتهى به التفكير إلى إنكارها، ولكن
الأمر لم ينتهِ عنده بذلك، فتساءل: وماذا يبقى للإنسان إن حُرم ثواب الآخرة؟ وأي شيء
يمنع الإنسان إن حرم ثواب الآخرة من أن يخلِّي نفسه وهواها؟ ولِمَ يتعرض للعذاب من أجل
الحق والعدل إن لم يوفَّ أجره في دنياه أو في أخراه؟ ومهما أجاب العقل عن هذه الأسئلة
فإن قلبه الرحيم ثبته في إيقانه بأن الفضيلة حق، هي حقيقة الحقائق، وأن سلوك طريق
الفضيلة لا بد ملاق جزاءه، ولكنه لم يستطع أن يتصور إلا جزاءً واحدًا فقط، وهو رجاء
خلود الذكر لدى الأجيال المستقبلة، ويتعجب ممن ينكر هذا فيقول: «ألا ترى أن رجاء خلود
الذكر هو المشجع الوحيد والمعضد الوحيد والسلوان الوحيد في أيام الشقاء.»
٣٣ وأيضًا لو كان أسلافنا لم يقدموا شيئًا من أجلنا، ولو كنا لا نقدم شيئًا
لأخلافنا، فإن ما تبتغيه الطبيعة للنوع الإنساني من كمال يذهب سدى،
٣٤ ويقول أيضًا: وبماذا يتأسى في ساعة الموت أولئك الفلاسفة أصحاب الاستقامة
الذين وقع عليهم ما وقع من اضطهاد الحمقى والقسيسين الشنيعين والطغاة المسعورين إلا بأن
تحامل خصومهم عليهم سيمحوه مر الأيام، وأن الخلف سيقضي لهم فيجزي أعداءهم بقدر ما جنى
هؤلاء عليهم.
٣٥
ومما له دلالته أن ديدرو يستخدم دائمًا في كلامه في هذه المسألة العبارتين: عاطفة
الخلود الاعتداد بالخلف، فمن ذلك أن عاطفة الخلود والاعتداد بالخلف يحركان القلب
ويسموان بالنفس: هما أصل كل شيء عظيم، هما الوعد الحق ليس دون غيره صدقًا. وهكذا تجد
أفكاره وعباراته دينية في روحها أو قل — مسيحية — وينبغي ألا يحملنا ما جرى به قلمه من
الكلام على الاعتداد بالخلف بدلًا من عبادة الله، وعلى رجاء خلود الذكر بدلًا من رجاء
الخلود في الآخرة، على أن نغفل الروح الدينية الكامنة في تفكيره وعباراته، وإليك هذا
الابتهال: «أيها الخلف المطهر المقدس، غوث المضطر والبائس، أنت العادل، أنت الطاهر أبدًا،
أنت
الذي تقتص للأخيار وتفضح المنافقين، أيها المعنى الحق المواسي، لا تذرني وحدي!»
ألا يصح أن يكون هذا ابتهال قسيس لربه؟ فقد جمع ديدرو المسألة كلها في قول سائر:
إن
الخلف للفيلسوف كالدار الآخرة لرجل الدين.
٣٦
ولو قُدِّر لديدرو أن يشهد الثورة الفرنسية لفهِم نداء روبسبير للخلف، ولفهم أيضًا
لِمَ سلم لوفيه أمره لقضاء الخلف، ولفهم كذلك الجيرونديين واليعاقبة، أولئك الرجال
الذين توهموا أنفسهم مواطنين في لاتيوم والبلوبونيز فتحلوا بالفضائل الرومانية، وتكلفوا
غير طبعهم لعلهم بذلك ينالون من تقدير الخلف ما لم يظنوا أنفسهم بالغيه لو بقوا على أصلهم،
٣٧ ولفهم كوندرسيه خصوصًا، ولفهم لِمَ ظل وفيًّا لإيمانه وأعداؤه يقتفون أثره
إلى حيث لقي حتفه، وصرح الآمال الواسعة التي رجاها من الثورة قد دك دكًّا، ولِمَ اختطف
لحظات قبل أن يدركه أعداؤه ليكتب رسالته الذائعة الصيت في معالم تقدم العقل الإنساني،
إننا نعجب لهذا، ولكن ديدرو لو شاهد ذلك لما استغربه، ولو شاهده ديدرو في الأيام
الأخيرة الرهيبة لقدر أن الرجل لم يكن يومًا ما من حياته أكثر حاجة لسلوان الإيمان
بقابلية الإنسان للكمال منه حينما واجه الموت، وحين رأى مع صورة الموت مشهدًا آخر، مشهد
الخلف والمستقبل، فزالت الرهبة وكان الأمن بعد الخوف.
«إن مشهد الإنسانية، وقد أفلتت من عقالها، تسير قدمًا في طريق الحق والعدل والسعادة،
يتأسى به الفيلسوف عما هو حاضر من ضلال وجرائم ومظالم تدنس العالم، وتصيبه شخصيًّا
بأذًى كبير، وإن في تأمل هذا المشهد لنعم ثواب الفضيلة، وهو الملجأ الذي ينسى فيه رجل
الفضيلة ما أنزل به مضطهدوه — الملجأ الذي يعيش فيه مع بشرية استردت حقوقها وخلصت لها
في طبيعتها، وينسى فيه البشرية الفاسدة تعذبها شهوات الجشع والخوف والحسد.»
«وفي هذا الملجأ يحيا وأبناء جنسه الحياة الحقة، يحيا وهم في جنة أنشأها عقله وزينها
حبه الإنسانية بأصفى المتاع وأخلص السرور.»
٣٨
ولنذكر جيرونديه أعلى صيتًا، تلكم هي مدام رولان، ولا أظن أحدًا استمسك بدِين
الإنسانية بإيمان أثبت مما استمسكت، أو عمل به بأمانة أكبر مما عملت، أو وجد عند الموت
التأسي به أصدق وأفعل مما وجدت، وفي مقتبل العمر ضاقت الفتاة بالمنزل الخانق عند الجسر
الجديد، حيث كانت تقطن مع أبيها الحفار الصانع الصغير، وأخلق بها أن تضيق بذلك الجو؛
إذ
كانت في اتصال دائم وثيق بحكماء التاريخ وأبراره، فكانت — كما تقول — لا تقرأ عن عمل
من
أعمال البطولة أو الفضيلة إلا وشعرت في نفسها القدرة على أن تأتي بمثله، لو قدر لها أن
تواجه بما أدى إليه، وكانت كثيرًا ما تبكي لأن الحظ لم يقسم لها أن تولد أسبرطية أو
رومانية، موقنة أنها لو كانت في مقام سقراط لتجرعت السم كما تجرع، أو لو كانت في مقام
ريجيلوس لوفت بالعهد وعادت إلى قرطاجنة كما عاد، ولكن أنَّى لها هذا، أين الجسر الجديد
من روما وأثينا؟ كان عليها أن تبدأ بنفسها وتستكمل شخصيتها، ولكن أين تجد هذه الشخصية
المستكملة المكان الذي تستطيع فيه أن تتحرك وتتكلم، وتعمل على النحو اللائق بها؟ أين
تجد المكان الذي تستطيع أن تتحدث فيه إلى من يفهمون حديثها؟ أين تجد المكان الذي لا
يذهب فيه السعي سدًى، بل تجد فيه البطولة والتضحية حقهما من الثواب والشكر؟ هذا المكان
لا يوجد قطعًا في باريس، وإنما يوجد في عالم التاريخ، عالم بلوتارك وجان جاك في عالم
الخيال، وفي هذا العالم وحده يوجد الذين يرون مدام رولان كما رأت هي نفسها، وعاشت في
عالم الخيال هذا مدام رولان — الإنسان الكامل الذي صورته مدام رولان — ما عاشت إلى أن
هيأت لها الثورة من حيث لم تحتسب ولم تُقَدِّر أن يكون لها نصيب كبير في أحداثها، وكان
هذا أمرًا مقضيًّا، ولكن لم يُتَحْ لها العمل في الواقع إلا أشهرًا معدودات تلاها
الاضطهاد والسجن وانتظار الموت، وذكرت حينئذ أن الاستشهاد هو وحده الخاتمة الخليقة بمن
يطلبونه، وتذكرت في السجن موت سقراط ونفي أرستيدس
٣٩ وإعدام فوكيون،
٤٠ واعتقدت أن القدر شاء لها أن تشهد جرائم مماثلة للجرائم التي ارتُكبت في
حقهم، وأن يكون لها حظ من المجد الذي نالوه من جراء الاضطهاد الذي أُنزل بها
وبهم.
وانصرفت في سجنها لكتابة مذكراتها؛ إذ ماذا للسجين أن يصنع خيرًا من أن يستبدل
بالحياة في السجن حياة أخرى بوسيلة ما من وسائل الخيال والأحلام السعيدة أو الذكريات؟
وأي شيء خير من هذا حقًّا؟ ويجوز إذا ضيقنا دائرة النظر ألا نرى إلا جانب الفشل في
مغامراتها القصيرة الأجل في طريق الثورة، وأن موتها وحياتها كانا على حد سواء من حيث
الأهمية، ولكننا إذا نقلناهما من المجال الشخصي الضيق إلى مجرى التاريخ، ووصلناهما بما
سبقهما وبما لحقهما، تبيَّنَّا أن حياة مدام رولان وموتها كانا مما قضى به سلطان نافذ
في شئون البشر: الله أو هيئة معبودات المصير الثلاث
٤١ أو أي قوة من قوى الخير تشغل نفسها بمصير الإنسان.
ومدام رولان نفسها كانت
متحققة من ذلك، وهي لما استعرضت ما مضى من عمرها أيقنت أنه كان إعدادًا للتضحية الأخيرة
على مذبح حرية الإنسان، وأنه حين تحضر ساعة الموت ويحق عليها أن تذوقه، فلن تكون حينئذ
حسرة؛ إذ هو قضاء محتوم، وهو أيضًا حدث أكبر من موت امرأة اسمها مانون رولان في مدينة
من المدن وفي يوم من أيام الزمان، وأنه سيجيء بعد الجيل الذي عذبها هذا العذاب جيل آخر
يعرف لها ما لقيت من أجله، ويكتبها عنده في كتاب الشهداء، وكانت تؤمن بخلود الذكر عند
الخلف، وقالت: إن رولان (أي زوجها) لن يموت ذكره، وأنا أيضًا سأنال شيئًا من هذا
الخلود، وحينما أتمت مذكراتها سمت الكتاب «دعوة خالصة لتحكيم الخلف»، وقال بوسك
٤٢ الذي تولى نشر المذكرات: «إن المواطنة رولان التمست في تقدير الخلف ما
يُعوضها عن ظلم معاصريها لها، وفي رفعة الذكر ما يعوضها عن موت عجلوا لها به.» فالخلف
بالنسبة لها كما هو بالنسبة لديدرو بمثابة الدار الآخرة للمتدينين، وكان لها من رجاء
الخلود مثل ما كان للشهداء في سبيل النصرانية، وكان هذا الرجاء سندها حينما صعدت الدرج
إلى المقصلة بقدم ثابتة، ورفعت عينين غير هيابتين نحو السكين المعد الذي لا ينبو ولا
يرحم.
٤٣
٤
لاحظ دي توكفيل منذ نحو قرن من الزمان أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية، ولكنها
اقتبست من مناهج الثورات الدينية خطط العمل والأساليب، واكتسبت في بعض نواحيها خصائص
الحركات الدينية، فتدفقت كما فعل الإسلام أو الثورة البروتستنتية عبر الحدود بين
الممالك والشعوب، وانتشرت بالتبشير والدعوة، واتخذت لتحقيق غاياتها في هذه الحياة
الدنيا نفس ما اتخذته الثورات الدينية من مناهج وأساليب ووسائل لتحقيق غايتها في الحياة
الأخرى، وراعت في اعتبار المواطن صفته الإنسانية لا انتسابه إلى أمة معينة، وهي في هذا
كالأديان لا تعرف إلا مطلق إنسان، بغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، ولم تسعَ الثورة
الفرنسية لتقرير حقوق خاصة بالمواطنين الفرنسيين، بل سعت لتقرير حقوق الإنسان وواجباته
أينما كان، مما دل الناس على أن الثورة تعمل على أن تجعل من النوع الإنساني خلقًا
جديدًا أكثر مما تعمل على إصلاح أحوال الأمة الفرنسية، وقد ترتب على اكتسابها هذا النظر
أنها بعثت في أنصارها وفي خصومها على السواء من الانفعال والحدة والحمية ما لم يعهد له
مثيل من قبل في أشد الثورات السياسية عنفًا، كما أنها بعثت في أنصارها رغبة قوية في
اكتساب الشعوب الأخرى إلى مبادئها، وأدى هذا إلى فكرة الدعوة وتنظيم الدعوة، وبهذا كله
اكتسبت الثورة الفرنسية خصائص الثورات الدينية، مما أدهش معاصريها، بل وأكثر من هذا
تحولت فعلًا إلى ثورة دينية من نوع جديد، قد يقال عنها إنها ثورة دينية من نوع ناقص،
فهي لا إله لها — ولا عبادات ولا حياة أخرى، ولكنها مع هذا وعلى نحو ما فعل الإسلام
ملأت العالم جندًا ورسلًا وشهداء.
٤٤
وقد مرت ملاحظات دي توكفيل هذه بمعاصريه دون أن ينتبهوا إلى عمق مراميها، والواقع
أن
انهماكهم في تسوية مسائل عصرهم السياسية، واختلافهم على صحة العقائد الدينية التقليدية
شغلاهم عن فهم روح الثورة على الوجه الحق، وبقيت الحال كذلك حتى أيامنا؛ أي حينما ابتعد
المؤرخون عن المباحث الدينية التقليدية، ابتعادًا صاروا به أكثر استعدادًا من ذي قبل
لكي يدركوا اكتساب الثورة الفرنسية — وبخاصة في أطوارها الأخيرة — خصائص الحرب الدينية،
وهذا كله مسلَّم به اليوم، وقد تعلمنا من مباحث ماتييه — وأولار
٤٥ وتلاميذهم أن الثورة حاولت فعلًا أن تستبدل دين الإنسانية الذي أنشأه القرن
الثامن عشر بالدين التقليدي، وأن الدين الجديد على الضد مما زعم دي توكفيل لم يكن بلا
إله، ولا عبادات، ولا حياة أخرى، أجل كان للدين الجديد عقيدته: هي مبادئ الثورة المقدسة
— الحرية والمساواة المقدستان، وكانت له عبادات وطقوس هي طقوس العبادة الكاثوليكية
معدلة في المواسم المدنية، وكان قديسوه هم أبطال الحرية وشهداؤها، وقد استمد الدين
الجديد قوام حياته من حمية العاطفة، ومن الإيمان التصوفي بالإنسانية وبعثها خلقًا
جديدًا، وبينما كان لويس السادس عشر لا يزال على عرشه، كان من رعاياه من وصف العقيدة
الجديدة (متأثرًا بروسو) كما يأتي:
إن دينًا يقرر ألا يعبد المواطنون جميعًا إلا الوطن والقانون، لهو في نظر العقلاء
دين قيم، وفي هذا الدين يكون الملك الحاكم الأعلى كاهنه الأعظم، وفيه ينال من يموت من
أجل الوطن المجد الأبدي والسعادة المقيمة، وفيه يكون فاسقًا من انتهك حرمة القانون،
ويأمر الملك الكاهن (الحاكم الأكبر) باسم الشعب الذي أجرم في حقه وباسم الإله الذي
وضعنا جميعًا تحت سلطان قانون واحد، فيلعنه اللاعنون جزاءً وفاقًا.
٤٦
وأما عن المواسم المدنية، فقد بدأت بالاحتفال الأول بذكرى الاستيلاء على الباستيل،
وكان الاحتفال في (١٤ يوليو سنة ١٧٩٠) وبحركة إزالة الآثار المسيحية، وبالاحتفال
«بالعقل» في نوفمبر ١٧٩٣ — وكانت هذه خطوات تجريبية تمهيدية لاستبدال دين مدني — إن جاز
لنا أن نقول — بالمسيحية، ويطلق عادةً على احتفال نوفمبر الاحتفال بالعقل، وبسبب هذه
التسمية لوحظ أن اختيار سيدة من سيدات المسرح لتكون رمزًا لشيء تجريدي بارد كالعقل، لم
يكن اختيارًا موفقًا تمامًا، ولكن في الواقع أن الاحتفال لم يكن بالعقل، وإنما كان
بالحرية، وأن السيدة المشار إليها كانت في الحقيقة تمثل الحرية (فيكون إذن الاختيار في
محله)، أما تمثيل معنى العقل فكان بالمشعل الذي رفعته السيدة في يدها إلى أعلى،
والمقصود أن العقل نور تمشي به الحرية، ومهما يكن، فإن الأنشودة التي وضعها الشاعر ماري
جوزيف شينييه للاحتفال وترنم بها المحتفلون في كنيسة نوتردام بعد تجريدها من آثار
المسيحية تُعبر أصدق تعبير عن المقصود.
قال الشاعر:
اهبطي أيتها الحرية، وليدة الطبيعة، فها هو ذا الشعب وقد استرد لك قوتك
الخالدة، يقيم لك من جديد مذبحًا على أنقاض دولة الدجل ذات المظهر الفخم، أقبلي
يا محطمة الملوك، يا قدوة أوروبا بأسرها، أقبلي وأتمي تحطيم الآلهة الكاذبين،
أقبلي واسكني في هذا المعبد، وكوني إلهة هذا الشعب.
٤٧
ومع ذلك فقد عيب على احتفال نوفمبر — وهذا لأسباب ليس هناك ما يدعو لأن أقف لبحثها
—
أنه غلب عليه «الإلحاد»، والإلحاد كما يقول روبسبير عيب أرستقراطي لا يمكن اغتفاره،
وعلى هذا رسمت الحكومة في مايو سنة ١٧٩٤ بتحديد أوضاع الدين الجديد، وأطلقت عليه عبادة
الكائن الأعظم كما يلي:
تشهد الأمة الفرنسية أن الكائن الأعظم موجود، وأن النفس خالدة، وتشهد أن العبادة
الخليقة بالكائن الأعظم هي أن يؤدي المواطن واجبات الإنسان، وتعين في الصف الأول من هذه
الواجبات بغض الخيانة والطغيان وإنزال العقاب بالطغاة والخونة وعون البائس واحترام
الضعيف والذود عن المظلوم، وأن يفعل لغيره كل خير ممكن، وألا يظلم أحدًا، وتقرر الأمة
إنشاء مواسم لتذكر الناس بالإله وبجلالة قدره، وأن يطلق على هذه المواسم أسماء تُؤخذ
من
حوادث ثورتنا المجيدة، ومن أحب الفضائل وأنفعها لبني الإنسان ومن نعم الطبيعة الكبرى
عليهم، وتقرر الأمة الفرنسية أن تحتفل الجمهورية كل عام بذكرى ١٤ يوليو ١٧٨٩ و١٠ أغسطس
١٧٩٣ و٢١ يناير ١٧٩٣ و٣١ مايو ١٧٩٣، كما تحتفل عاشر كل عشرة أيام بالمواسم الآتي بيانها.
٤٨
ولا حاجة بنا إلى أن ننقل هذا البيان، وقد نص كما كان ينبغي له على الاحتفال بالحرية
والمساواة وحب الوطن وبغض الطغاة والتزام حد الكفاف ورباطة الجأش والزراعة والخلف؛
وهكذا إلى آخر ما يلزم جميع عشرات السنة؛ أي ستة وثلاثين موسمًا، وبعد أن أنفذت الثورة
فورتها فقد دين الإنسانية الجديد الشيء الكثير من حرارة عاطفته وحِدَّة غلوائه، ولكنه
مع ذلك ظل قوة لها أثرها في بعض الحركات الثورية الصغيرة في أوروبا وفي العالم الجديد،
وكان لدين الإنسانية صحوة أخرى قوية سبقت وتخللت ثورات سنة ١٨٤٨ وما لازمها من إخفاق
وجلال معًا، بل إن دين الإنسانية على الرغم من كل ما أصابه، بقي له أولياء أمناء على
العهد يخلب لبهم رواؤه، وتمدهم روحه باليقين والرجاء، وكان مازيني نبي هؤلاء،
٤٩ كما كان منهم رجال مغمورون قص علينا جبريل مونو طرفًا من سيرة واحد منهم،
والسيرة تسترعي النظر، قال: «كنت منذ أربعين عامًا أتردد على منزل امرأة فاضلة لتناول
طعامي، وحدثتني عن أبيها حديثًا لم أنسه، قالت: إن أباها كان عاملًا بسيطًا في مدينة
نانت، وحينما بدأت الثورة الفرنسية كان شابًّا في مقتبل العمر، واعتنق مبادئها وتحمس
لها وحارب في صفوف اليعاقبة ضد الخارجين على الثورة من أبناء إقليم لافانديه، وحزن
كثيرًا لما حطم النظام الإمبراطوري الحريات الديمقراطية التي اشترتها الأمة الفرنسية
بثمن غالٍ، وعاش الرجل بعد ذلك، وكان كلما ثارت الأمة الفرنسية كما في ١٨١٤ و١٨٣٠ و١٨٤٨
تحرك فيه الأمل بأن الجمهورية المثالية التي كان يحلم بها في سنة ١٧٩٣ سوف تُبعث من
جديد، ومات في عهد الإمبراطورية الثانية، وقد نيف على التسعين، ولما حضره الموت نظر نحو
السماء، وتأوه قائلًا بصوت خافت: أيا شمس ١٧٩٣ ها أنا ذا أموت دون أن أرى شعاعك ثانيةً،
وقد عاش الرجل ما عاش وهو يتطلع — كما عاش المسيحيون الأوائل — إلى انبثاق فجر العهد
الجديد.»
٥٠
وهذه الحكاية بلا شك حسنة السبك، لم تفقد شيئًا من روائها عند الإعادة، على أنها
تشرح
بما فيه الكفاية كيف صاحب دين الإنسانية الذي ولد في القرن الثامن عشر الانقلاب السياسي
الاجتماعي الذي تم تدريجًا في خلال المائة العام التالية للاستيلاء على الباستيل، وكيف
كان من العوامل المؤثرة في ذلك الانقلاب، على أنه لا ينبغي أن نغفل أن الانقلاب لم يتم
دون شيء من الترخص في حق مبادئ الثورة، ودون شيء من التساهل عند تطبيقها، وهذا الشيء
من
الترخص والتساهل لم يكن قليلًا ولا مستورًا، وأن مدام رولان لو قُدر لها أن تنظر بعين
الغيب إلى ما سيكون من أمر الجمهورية الفرنسية الثالثة، وإلى ما بينها وبين الجمهورية
المثالية من فرق ما بين المثل الأعلى الباهر والواقع الخسيس، وإلى أن الجمهورية الثالثة
كانت في الحقيقة من إنشاء الملوكيين لما اختلفوا فيما بينهم، وإلى أنها كانت ذلك الشيء
الذي لا يصح في الأفهام، جمهورية بلا دستور جدير بالاسم وبلا إعلان لحقوق الإنسان غير
القابلة للتقادم، لو قدر لمدام رولان أن ترى كل هذا لصعدت درج المقصلة بقدم أقل ثباتًا،
وهذا مازيني لم يستطع أن يحمل نفسه على أن يصدق أن ما ناله كافور لإيطاليا بالألاعيب
السياسية وبالحرب وبعون من نابليون الثالث الذي سحق الحرية في فرنسا بقدمه يمكن أن يكون
تحقيقًا للأماني الإيطالية،
٥١ وكذا بالنسبة لألمانيا، أن ما ناله الشعب الألماني وهو في ذاته لا يجاوز حق
إلقاء الخطب واتخاذ القرارات في الريشتاج (ولم يكن هذا غُنْمًا كبيرًا)، لم ينله ثمرة
جهد مؤتمر فرانكفورت في ١٨٤٨، وإن كان هذا الجهد لم يتعد إلقاء الخطب واتخاذ القرارات،
بل ناله بفضل سياسة الدم والحديد التي اتبعها بسمارك،
٥٢ وهو لم يكن ممن يؤمنون إطلاقًا بالديمقراطية، وإنما وافق على منح الشعب حق
التصويت العام، مزايدة على الديمقراطيين، وكشفًا عن خبيئتهم، فكان ما فعل نقلة من نقلات
منازلة الخصوم السياسيين.
أيمكن أن نقول إذن إن الإمبراطورية الألمانية أو الجمهورية
الفرنسية الثالثة أو المملكة الإيطالية أو الحل الوسط الذي اتفق عليه ألمان النمسا
والمجر ليسودوا سائر شعوب الإمبراطورية الثنائية أو حق التصويت في إنجلترا لأرباب
الأسرات، ليتلهى به المستأجرون في الملكيات الزراعية الموقوفة، أكانت هذه المغانم
المشكوك في قيمتها ومثيلاتها كل الجزاء الحق الذي وفاه الخلف، وهو كاره غير راض، وبعد
قرن عمت فيه الاستنارة في العالم كله، أولئك الشهداء والدعاة المخلصين الذين بذلوا ما
بذلوا في سبيل العقيدة الديمقراطية؟ أجل إن الانقلاب العظيم على الوجه الذي تم عليه كان
خيانة لآمال الأنبياء الذين بشروا به: روسو وكوندرسيه وروبسبير ومدام رولان ومازيني وكوشوط
٥٣ ومن إليهم، ولكن ألا يصح أيضًا أن نقول: إن هؤلاء الأنبياء غلوا من جانبهم
وجاوزوا حد المعقول؟ ألا يصح أن نقول: إن الأنبياء حينما تصوروا أن ميل الإنسان للشر
لا
يلبث أن يزول بزوال النظم التقليدية التي هيأت للشر مجالًا للعمل كانوا واهمين؟
وعلى كل حال فالشيء الثابت الذي تبينه الناس قبل انتهاء القرن التاسع عشر هو أن إزالة
الظلم القديم والجور القديم لم تؤد في الواقع أكثر من الإفساح لظلم جديد وجور جديد، وأن
الناس لما تحققوا من أن الحكومة الديموقراطية على ما هي عليه من تلويث وقهر، لا تزيد
على أن تكون نوعًا من الحكم أقرب إلى السوء منه إلى الجودة، أصبح الراضون منهم عن عيشهم
عديمي التأثر بما كان لتلك الكلمات الخلابة فيما سلف من الزمان «الحرية والإخاء
والمساواة» من قوة على بعث الرجاء في النفوس، وأن دين الإنسانية الذي أنشأه القرن
الثامن عشر أصابه ما أصاب جميع الأديان بعد أن تبلغ رسالتها، فنزل في نظر الكثيرين إلى
مستوى العقائد التقليدية العديمة الروح.
قلنا: إن الراضين عن عيشتهم من الناس عدموا التأثر بالحرية والإخاء والمساواة، وأما
الساخطون فإنهم نبذوا العقيدة الديمقراطية ليتبعوا المبشرين بدين جديد، «أيها العمال
من
جميع الشعوب اتحدوا»، كان هذا نداء كارل ماركس وفردريش أنجلز في منشور الدعوة الشيوعية
المشهور.
٥٤
وكان هذا آذنًا ببدء المعركة في سبيل دين اجتماعي جديد، والعقيدة الشيوعية أسست هي
أيضًا على قوانين الطبيعة كما دل عليها العلم، مثلها في هذا مثل دين الإنسانية في القرن
الثامن عشر، إلا أن العلم منذ ذلك القرن كان قد تقدم خطوات، كانوا في القرن الثامن عشر
يعتبرون الطبيعة آلة دقيقة التركيب، آلة ثابتة يقتضي نظامها وجود مهندس يفعل لغاية، وهو
العلة الأولى الخيرة أو موجد الكون، وجاء هيجل
٥٥ فاستحال موجد الكون إلى فكرة رقيقة، إلى المثال المتعالي، المثال المطلق
الرقيق، ثم جاء داروين فانمحى هذا تمامًا، ومنذ ذلك الوقت والنظرية العلمية تستغني عن
فكرة وجود الله وما يماثلها من الفكرات التي استعيض بها عنها، ويرجع ذلك إلى أن الطبيعة
عند أصحاب العلم لا تعتبر آلة تامة الصنع، بل يعتبرونها عملية لا تتم، عملية آلية
حقيقة، ولكنها تولد من تلقاء نفسها القوة التي تلزمها، وعلى أساس من جدل هيجل ونظريات
داروين في التطور صاغ هيجل في كتاب «رأس المال» عقيدة الدين الشيوعي الذي حل عند
الساخطين محل العقيدة الديمقراطية التي دان لها القرن الثامن عشر، والدين الجديد كالدين
القديم ينظر نحو الماضي وينظر نحو المستقبل، فالماضي بالنسبة للشيوعية، كما هو بالنسبة
للديمقراطية، كان زمان صراع مستديم، والمستقبل بالنسبة لهما جميعًا عهد للإنسانية جديد،
ولكن الشيوعية أقل تجسيمًا من الديمقراطية وأقل تشبيهًا وأقل توكيدًا لأثر الفرد من بني
الإنسان في الأحداث العامة، فهي لا تحلم بجنة عدن كانت أو بعصر ذهبي كان، وهي لا تقرأ
على صفحات التاريخ غدر الأشرار، تعمد دائمًا بالفضلاء، وهي لا تؤمن بأن بعث خلق إنساني
جديد سيتم بانتشار النور وطيب الطويَّة؛ وما إليها من أنواع العلاج اللين المترفق، بل
على الضد من هذا وذاك كان الماضي حربًا عمياء لا هوادة فيها ولا رحمة بين قوى مادية لا
بين أشخاص، حربًا تحركها المصالح الاقتصادية للطبقات وللطوائف، وقد تولد من حرب المصالح
نظام الأرستقراطيين أصحاب الأرض في العصور الوسطى، ثم حطمت حرب المصالح هذا النظام،
وأحلت محله النظام الرأسمالي البرجوازي الذي بلغ أشده في القرن التاسع عشر، وسوف تحطمه
بدوره لصالح البروليتاريين، ولن يتم هذا الانقلاب الاجتماعي من الرأسمالية للبروليتارية
بفعل انتشار الاستنارة وطيب الطوية، بل بفعل القوى الاقتصادية التي لا تَنِي ولا تبطل،
أما والأمر كذلك فليس للعقل إلا أن يعي هذا، وأن يجهد ليفهم فعل تلك القوى حق الفهم،
وليس للناس إلا أن يوطنوا أنفسهم على ما لا يمكنهم أن يلووه عن قصده، وخير لهم أن
يوجهوا حياتهم تبعًا لتطور محتوم، وماذا تستطيع أن تنشئ إرادة الإنسان الضئيلة بالنسبة
إلى ما تستطيعه النجوم في مسالكها؟ فهذه لا تلك هي التي ستحدث الانقلاب الاجتماعي،
وليستبشر العامة بعهد موعود ينظرون إليه موقنين آملين.
والآن، وفي أيامنا، وفي روسيا، أقاموا المشهد الأول من مشاهد الانقلاب الاجتماعي
القائم على العقيدة الشيوعية، وبين هذه الثورة الروسية والثورة الفرنسية بلا شك فروق
عديدة، كما أن بين العقيدتين الديمقراطية والشيوعية فروقًا، ولكن الذي ينبغي أن نلتفت
إليه ليس الفروق بل الاتفاق، فالفروق في أغلب الظن تتضاءل إذا ما نُظر إليها من بعيد،
وأما الاتفاق فهو على الأساسيات، والواقع أننا نحن ورثة الثورة الفرنسية حين نعجز عن
ملاحظة ما بين تلك الثورة والثورة الروسية من اتفاق، فإنما يرجع ذلك إلى أن الاختلاف
بينهما في تسمية الأشياء يخدعنا (فمثلًا حيث استخدمت الثورة الفرنسية «الشعب» تستخدم
الثورة الروسية «البروليتارية»، وحيث تقول الأولى: «أرستقراطية» تقول الأخرى:
«بورجوازية»، وحيث تتحدث الأولى عن الملوك تتحدث الأخرى عن «النظام الرأسمالي وهكذا.)
هذا ومما يجعلنا أكثر استعدادًا لأن ننخدع أننا ورثة الثورة الفرنسية سنكون «المجني
عليهم» إذا ما قُدر للثورة الروسية أن تملك العالم الغربي، وما مثلنا في هذا الشأن إلا
مثل رامو في قصة ديدرو حين يقول: فليستولِ الشيطان على أفضل عالم ممكن إن لم يكن لي حظ
فيه، فإذا ما ملنا لمشاركته في رأيه هذا كان ذلك لعلة مفهومة، والثابت — على كل حال —
أن هذه الثورة الروسية التي تهددنا تعمل لأجل طبقات المحرومين كما عملت الثورة الفرنسية
على تحطيم الطبقات المالكة لنرثها نحن، وليست أهدافها بأقل من تثبيت دعائم الحرية
والمساواة (الحرية والمساواة الحقيقيتين هذه المرة بطبيعة الحال)، وإحلالهما محل
الطغيان والاستغلال، والثورة الروسية اتخذت متعمدة لبلوغ غايتها نظامًا يصفونه بأنه
مؤقت، ولكنهم يعدونه ضروريًّا، ألا وهو ديكتاتورية الأمناء على الثورة، وهذا يماثل
تمامًا ما اتخذته الثورة الفرنسية في ١٧٩٣، والبلاشفة الذين يقودون مجلس الوكلاء،
واليعقوبيون الذين قادوا لجنة إنقاذ الوطن، أولئك وهؤلاء يعتبرون أنفسهم الأدوات التي
شاءها القدر لإجراء انقلاب ينتهي حتمًا إن عاجلًا أو آجلًا بهدم ما بين الشعوب من فواصل
مصطنعة، فيتحد المظلومون قاطبةً في وجه جميع ظالميهم، وقد أعلن إيزنار
٥٦ في ١٧٩٢:
إن جمعت الحكومات الملوك ضد الشعب، فإننا سنجمع الشعوب ضد الملوك.
وعلى هذا النحو كانت دعوة الزعماء البلاشفة — محتذين حذو ماركس — عمال العالم للاتحاد
ضد جميع الحكومات البروجوازية الرأسمالية، والثورة الروسية أشبه ما تكون بالثورة
الفرنسية في أن زعماءها وقد تلقوا ألواح الشريعة الأزلية لا يعدون الثورة مجرد وسيلة
للإصلاح السياسي والاجتماعي، بل يعتبرونها شيئًا أهم من هذا كثيرًا؛ إذ هي في نظرهم
محاولة لتحقيق نسق حياة صالح لكل زمان ومكان، بموجب انسجامه مع العلم والتاريخ، وهو
بناء على ذلك لا بد غالب؛ وعلى هذا فللثورة الروسية كما كان للثورة الفرنسية عقيدتها
وطقوسها وقديسوها، فأما العقيدة فهي نظريات ماركس بتأويل لينين،
٥٧ وأما المواسم التي تحييها فهي أيام الثورة الكبرى، وأما قديسوها فهم
الأبطال والشهداء الذين رفعوا لواء الشيوعية، وتحتل صورة لينين في بيوت المؤمنين المكان
الذي احتلته سابقًا الأيقونات المسيحية المقدسة، وكل يوم يحج إلى قبره العاملون من
أبناء الشعب في بناء النظام الجديد، كما كانوا يحجون سابقًا إلى الآثار المقدسة، وثَمَّ
جانب آخر للاتفاق فيما بين الثورتين ذلك أن الثورة الروسية تثير في عقول — أو بالأحرى
—
في صدور أعدائها ما أثارت الثورة الفرنسية في خصومها من بغض ونفور لا يستندان إلى العقل
بقدر استنادهما إلى الشعور، وهذا الشعور بالنفور والبغض يتكون في حالة الثورتين من
الخوف والغضب، وهو في الحالتين أيضًا يتنبه آليًّا حينما تذكر كلمات معينة، فكانت كلمات
الثورة واليعقوبية والجمهورية في نظر كاسلريه ومترنيخ
٥٨ وأمثالهما من الساسة في مؤتمر فيينا سنة ١٨١٥، تحمل معاني الشر المطلق
متمثلة في وقائع معينة، وكلمة الثورة عند التخصيص كانت تنصرف إلى الثورة الفرنسية في
١٧٨٩، ولكنها أصبحت ذات مدلول عام، تفيد الثورة إطلاقًا؛ إذ إن الثورة الفرنسية في
نظرهم مثال فكرة الثورة، وفكرة الثورة في نظرهم فكرة الهدم، فكرة الإنكار والسلب، وروح
الإنكار المستديم تتجلى في الفوضى في الحكومة وفي الإلحاد في الدين، والثورة هي
اليعقوبية، واليعقوبية هي الجمهورية، والثابت على كل حال أن المعاني الخيالية التي عبرت
عنها هذه الكلمات قلبت أوروبا رأسًا على عقب زهاء ربع قرن من الزمان، واستشهد الرجعيون
بهذا لتأييد ما ذهبوا إليه من أن تلك المعاني مستحيلة التحقيق، وأنها خطر يهدد الأوضاع
المقررة والأمن والرخاء وخير الإنسان، وهذا بالضبط ما يقوله نظراء كاسلريه ومترنيخ في
أيامنا عن البلشفية، فهي في نظرهم عدو كل عقدة، فهي لهم ما كانته اليعقوبية لرجال ١٨١٥،
وتحمل كلمة السوفيت وكلمة الشيوعية لنا — ورثة الديمقراطية السياسية — من معاني الإنذار
بالويل والثبور ما حملته كلمة الجمهورية لورثة عهد الملوك والأرستقراطيين.
ولو قدر لكاسيلريه ومترنيخ أن يطَّلعا في سنة ١٨١٥ بعين الغيب على ما تحقق قبل نهاية
القرن التاسع عشر من غلبة العقائد اليعقوبية التي نعتوها بالفوضى والإلحاد على الأوضاع
الموروثة عن الملوك والأرستقراطيين في العالم الغربي بأسره لهالهم هذا هولًا شديدًا،
وخليق بنظراء كاسلريه ومترنيخ اليوم، بل خليق بنا نحن — معشر الذين لا يصرفون شئون
الحكم — أن نتساءل عما عسى أن يكون بعد مائة سنة، ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي
العليا (ولتُسمِّ هذا الدين ما شئت؛ دين الإنسانية أو دين اللا إنسانية!) تُرى أتعلو
كلمة هذا الدين؟ بغض النظر عما إذا كان هذا سيتم تدريجيًّا، وبغض النظر عمن أو عما
يتولى الوقوف ضده، وبغض النظر عن ترخص الشيوعيين وتساهلهم مع خصومهم، وبغض النظر عما
إذا كانوا سيخففون من غلوائهم وتعصبهم وبطشهم بأعدائهم، ليس هذا بالمستحيل، ومائة سنة
ليست بالمدة القصيرة، بل إننا نسمع الآن هنا وهناك، بل وفي معقل الرأسمالية كلامًا عن
إفلاس نظام التنافس المطلق، وتدور بين الناس اقتراحات وآراء شتى قد تكون في ذاتها
مترددة متهيبة، ولكنها تدل على أن أصحابها ممن يرون لزوم تنظيم الحياة الاقتصادية
وتوجيهها.
وهذه الكلمة «التوجيه» من الكلمات التي بدأ استعمالها، وقد بدأ ذلك دون أن
يتنبأ الناس كثيرًا لكل ما تحمل من معان، وحتى الآن لم يذهب القائلون بالتوجيه بعيدًا
قولًا أو فعلًا، بل كل ما هنالك بوادر، فمن ذلك ما اقترحه أحد كبار المواطنين من وجوب
إزالة ثلث صفوف القطن في كل حقل من حقوله، ومن ذلك أيضًا ما حدث في بعض الولايات
الأمريكية من استعانة حكامها بالجيش في الإشراف على استخراج الزيت، وهذه أمثلة فردية
للتوجيه، وليست نظامًا إنشائيًّا للتوجيه، ولكنها هي وأمثالها وما صحبها وأمثالها من
خوض في موضوع التوجيه، وما فعله أو يفعله كبار أصحاب المناصب في نطاق شئون الحياة
الاقتصادية، يدل على الأقل على أن هناك شعورًا بأن مجتمعنا وقد أصاب ما أصاب اليوم من
التقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك اليوم من موارد القوة هو أحوج إلى الإشراف
والتوجيه منه إلى الحرية، وأن النظام الاقتصادي اللائق به لهو النظام الذي يقوى فيه
جانب التوجيه، ويضعف تبعًا لذلك جانب إطلاق المنافسة، ومهما يكن من أمر فلا يزال في
الوقت فسحة، ومائة سنة ليست بالشيء القليل، وقد يحدث في أثنائها أن يعم النظام
الاقتصادي الموجه — ولنسمِّه كذلك أو لنسمه الشيوعية — العالم الغربي بأسره، تبعًا
لإيقان الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان عدالة اجتماعية وأمنًا ورخاءً
وخيرًا، إن كان هذا هو الذي يضمره الغيب لنا فليس بمستبعد أن الخلف في سنة ٢٠٣٢ سيحيي
ذكرى حوادث نوفمبر ١٩١٧، على اعتبار أنها كانت مبدأ تحول سعيد في تاريخ الحرية
الإنسانية، وهذا يماثل احتفالنا سنويًّا بيوليو ١٧٨٩.
وبعدُ فما الرأي الذي يجب أن نراه في يوليو ١٧٨٩ ونوفمبر ١٩١٧ وما إليهما من «أيام»
الإنسانية الكبرى؟ هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وما السؤال الذي يجب أن نقف
عنده؟ أيجوز لنا أن نرى في الثورة الروسية في القرن العشرين مرحلة أخرى من مراحل تقدم
الإنسانية نحو الكمال، كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو يجوز لنا
أن نقول ما قاله ماركس أورليوس: «إن الرجل في سن الأربعين — إن كانت له حبة من الفطنة
—
يكون قد رأى بموجب ما بين الأشياء كلها من مماثلة كل ما كان وكل ما سيكون؟»