حياة فريتس شتيبات وأعماله
«لم أعرف في حياتي، ويقينًا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»
ودفعه حبه للُّغات الغريبة والبعيدة إلى أن يبدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية، ثم لم يلبث أن تخلى عنهما وانصرف إلى الدراسات العربية والإسلامية في «سيمنار اللغات الشرقية» الذي كان يقدِّم دروسًا لغوية وعملية قبل أن يضم في العهد النازي إلى جامعة برلين القديمة ويدخل في إطار الدراسة الجامعية. وهناك تعرَّف الطالب الشاب على أستاذه الذي لازمه حتى رحيله، وهو المستعرب الكبير فالتر براونه (١٩٠٠–١٩٨٩م) الذي أدى أمامه في نهاية شهر أكتوبر سنة ١٩٤١م أول امتحان له في اللغة العربية — وقد كان من حسن حظ المستشرق الشاب أن يعفى من سخرة التجنيد ولعنة القتال في إحدى الجبهات التي فتحتها ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية — غير أن الجيش سرعان ما استدعاه في شهر يناير سنة ١٩٤٢م للعمل مترجمًا في قسم البحوث بوزارة الطيران في برلين، واستفاد من فترة وجوده بالعاصمة في مواصلة دراسته للعلوم الإسلامية، وذلك قبل أن ينقل القسم السابق الذكر إلى منطقة بافاريا في الجنوب الألماني.
عايش «شتيبات» تجربة الاستسلام المطلق لبلاده وإعلان انتهاء الحرب (في الثامن من شهر مايو سنة ١٩٤٥م) وإن لم يذق نعمة الراحة أو السلام … فقد قضى ثلاثة أشهر في معسكر اعتقال أمريكي، واضطرَّ إلى العمل مترجمًا في سلاح الطيران الأمريكي لمدة ثلاثة شهور أخرى. وقد نشر الخراب أجنحته السوداء في كل مكان وراح يفرخ صغاره البشعة — الجوع والفوضى والذل والدمار — في العاصمة بوجه خاص وفي سائر المدن والقرى الألمانية. وانكسرت كل الأحلام فلم يستطع حتى أن يفكر في الرجوع إلى برلين للبحث عن مصير المطبعة التي كان يملكها ويديرها أبوه، دع عنك مواصلة دراسته في جامعتها، فلم يكن لطموح الإنسان في ذلك الزمن العصيب أن يتجاوز محاولة البقاء على قيد الحياة.
ولم تكد محاكم الحلفاء تصدر قرارها، في السادس عشر من شهر ديسمبر في المنطقة المحتلة من قبل الأمريكيين، حتى انخرط في العمل الصحافي، وأخذ يكتب منذ ذلك الحين مجموعة من التقارير عن أحوال الشرق الأدنى في مجلة «أرشيف أوروبا»، وذلك بعد حضور بعض التدريبات المؤهلة للعمل الصحافي في جامعة «ميونيخ»، وواصل نشر هذه التقارير في الأقسام الخاصة بالسياسة الخارجية في عدد من الجرائد كالصحيفة الجديدة وميركور وغيرهما — ويكفي أن نذكر بعض عناوين تلك التقارير والتحقيقات التي لم يتوقف بعد ذلك عن كتابتها ونشرها على مدى سنوات طويلة تالية في منابر مختلفة: وضع مصر في الإمبراطورية البريطانية (١٩٤٦-١٩٤٧م)، تطور وضع الدردنيل (١٩٤٧م)، قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة (١٩٤٨م) إيران بين القوى العظمى (من ١٩٤١ إلى ١٩٤٨م) — وغنيٌّ عن الذكر أن هذه التقارير الصحافية المبكرة قد اتسمت بكل ما يميِّز كتاباته ودراساته اللاحقة: بالموضوعية العلمية النزيهة، ووضوح الأسلوب وبساطة العرض، والغوص إلى الجذور التاريخية للتطورات الحديثة والمشكلات والقضايا المعاصرة، والتعاطف الشديد مع بلاد وشعوب المشرق العربي والإسلامي، بعيدًا كل البعد عن الاستعلاء على «الآخر» الشرقي — والمسلم بوجه خاص — الذي وصم الكثير من بحوث المستشرقين والمستعربين وجعلها تدور في فلك الأطماع الاستعمارية والتوسعية في ذلك الوقت ومنذ بداية حركة الاستشراق الغربي نفسه.
بعد الحصول في سنة ١٩٥١م على منحة من الحكومة الأمريكية وقضاء سنة دراسية في مدرسة الصحافة التابعة لجامعة مونتانا، وبعد حضور بعض الحلقات الدراسية والاستماع لمحاضرات بعض مشاهير المستشرقين في جامعة ميونيخ (مثل بابنجر وشبيتالر) قرر شتيبات الرجوع إلى برلين لإتمام دراسته بجامعتها. كانت الأحوال قد تغيرت بعد الاحتلال الروسي لشطر المدينة الذي تقع فيه الجامعة القديمة. وكان على العالم الشاب أن ينتظر حتى تفتح «جامعة برلين الحرة» — التي أُسست عام ١٩٤٨م في الشطر الغربي للمدينة — أبوابها للطلاب ويستكمل بناء «المعهد الشرقي» التابع للجامعة الجديدة. واستأنف شتيبات دراسته للعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي في هذا المعهد، وعلى يد الأستاذ نفسه الذي سبق أن أخذ العلم — مع الحب والرعاية — على يديه (وهو المستعرب فالتر براونه الذي سبق ذكره)، وواصل دراسته حتى أتمها في شهر يوليو ١٩٥٤م برسالة الدكتوراه الأولى عن «الوطنية والإسلام عند مصطفى كامل — مساهمة في التاريخ الفكري للحركة الوطنية المصرية» (وقد ظهر ملخص لها من مائة صفحة في العدد الرابع من مجلة عالم الإسلام لسنة ١٩٥٦م، ص٢٤١–٣٤٣).
واستبدَّت به الرغبة في زيارة الشرق الأدنى والبقاء به فترة طويلة تمكِّنه من التعرف عن قرب على ثقافته وتراثه وأحواله وناسه. وجاءت الفرصة الثمينة عندما كلفته إدارة «معهد جوته» المركزية في ميونيخ في شهر نوفمبر سنة ١٩٥٥م بالسفر لمدة أربع سنوات إلى القاهرة على رأس بعثة المعهد لتدريس اللغة الألمانية ببعض مدارسها الثانوية (بالإضافة إلى «مدرسة الألسن» التي كانت الدراسة بها في ذلك الحين دراسة مسائية حرة)، والمشاركة في تأسيس فرع معهد جوته بالعاصمة المصرية. لم يكن من الممكن أن يحلم المستشرق الشاب بفترة أنسب من هذه الفترة التي قضاها بالقاهرة (من ١٩٥٥ إلى ١٩٥٩م) ولا أحفل منها بالأحداث الكبرى والطموحات والآمال العظمى في تاريخ المنطقة العربية: من انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس إلى العدوان الثلاثي الغادر في سنة ١٩٥٦م، ومن تأسيس للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وسقوط الملكية في العراق (١٩٥٨م) إلى إعلان استقلال المغرب وتونس (١٩٥٦م) وحرب التحرير الجزائرية التي بدأت بطولاتها ومآسيها في سنة ١٩٥٤م وانتهت بالتحرر المجيد في سنة ١٩٦٢م، وكل هذا في ظل المشروع الناصري الطموح لتحقيق الوحدة العربية، وصعود موجات الأمل والاستبشار الموَّارة بالحلم العربي الكبير الذي لم تكن قد خيَّمت عليه بعد كوابيس الهزيمة واليأس والإحباط.
كانت سنوات مفعمة بالنشاط والنجاح والرضا الموفور: مشاركة فعالة في تأسيس معهد جوته، وإشراف على بعثة تدريس اللغة الألمانية المكونة من أكثر من أربعة وعشرين عضو هيئة تدريس، ومهمة التفتيش على تدريس اللغة في بعض المدارس المصرية من قبل وزارة التعليم، مع الاهتمام المتزايد بنظام التعليم في مصر وتاريخه وتطوره، والمشكلات والقضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة به التي صبت بعد ذلك في نهر رسالته الثانية ﻟ «دكتوراه التأهيل» التي خصصها لدراسة نظام التعليم في مصر منذ عصر محمد علي.
لا شك في أن السنوات التي عاشها شتيبات في ظل العهد الناصري كانت من أخصب تجارب حياته كعالم وإنسان. ومن يطلع اليوم على المقالات التي كتبها في تلك الفترة ونشرها في «أرشيف أوروبا» (كالمساعي الأمنية في الشرق الأوسط ١٩٥٥م، وطريق الأمة الجزائرية ١٩٦١م، وثورة عبد الناصر والبداية من جديد ١٩٦٢م) أو في الكتاب السنوي للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (مثل الدول العربية في الشرق الأوسط، وقضية فلسطين وإسرائيل، وسياسة تركيا والدول العربية، وحركات الاستقلال في المغرب العربي، والدول العربية بين الشرق والغرب، والدول العربية قبل حرب ١٩٦٧م، وبين الحل السياسي والحرب المدمرة، وقد كُتِبت كلها ونُشرت بين سنتي ١٩٥٥ و١٩٧٥م) أقول إن هذه المقالات — التي لخَّصتُ بعضها في التمهيد السابق — تُقدِّم الشهادة الصادقة على عمق النظرة العلمية والإنسانية، ففيها نلمس التعاطف الشخصي الذي لا ينفصل عن المنهج العقلي النزيه، والتوثيق الدقيق المقترن بالتحليل التاريخي الأمين. وإذا كانت الأيام والأحداث قد كشفت بعد ذلك عن مصادر لم يتوصل إليها أو مواد تاريخية وشخصية لم يتيسر له الاطلاع عليها؛ فإنها — أي هذه المقالات — تظل محتفظة بقيمتها العلمية العالية، وتبقى مآثر طيبة لإنسان توحد فيه العلم الخالص مع الخلق المثالي الرفيع.
رجع شتيبات إلى برلين في أواخر سنة ١٩٥٩م وعُيِّن في منتصف ديسمبر في وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية بمعهد العلوم الدينية بجامعة برلين الحرة، وقد كُلِّف — على مدى أربع سنوات — بتدريس اللغة العربية، فاستطاع أن يستغل وقت الفراغ الطويل في إنجاز بعض المقالات التي سبقت الإشارة إليها، بالإضافة إلى بحث عن جمال عبد الناصر، نشرته لجنة اليونسكو في فيينا سنة ١٩٦٤م، وبحث آخر مطول عن العالم العربي في عصر القومية، نُشر سنة ١٩٦٤م أيضًا ضمن كتاب للأستاذ فرانز تيشنر عن تاريخ العالم العربي. وأخيرًا قدم رسالته الكبرى لدكتوراه التأهيل التي سبقت الإشارة إليها عن «التراث والنزعة العلمانية في نظام التعليم الحديث في مصر حتى سنة ١٩٥٢م، مساهمة في التاريخ العقلي والاجتماعي للشرق الإسلامي». ومن المؤسف حقًّا أن هذه الرسالة المهمة لم تنشر قط على صورة كتاب، وإن كان قد نُشِر منها بعد ذلك فصلان ضمن كتابين بالإنجليزية والألمانية في عامي ١٩٦٨ و١٩٦٩م، عن مشروعات التعليم الوطني قبل الاحتلال البريطاني، وعن طه حسين وديموقراطية التعليم في مصر.
وعاوده الحنين للحياة مرة أخرى في العالم العربي. وشاء له حسن الحظ أن يتولى إدارة المعهد الشرقي التابع لجمعية الاستشراق الألمانية في بيروت من شهر أكتوبر ١٩٦٣ إلى شهر سبتمبر ١٩٦٨م. أتاحت له بيروت أن يعيش في ظل التعددية السياسية والدينية، والحرية الثقافية والفنية والأكاديمية والصحافية التي لا نظير لها في العالم العربي كله. ولم يكن لجمعية الاستشراق الألمانية أن تجد مكانًا في الشرق الأدنى أنسب من هذه المدينة لتأسيس المعهد الشرقي التابع لها والقائم بنشر رسالته الثقافية منذ سنة ١٩٦١م إلى اليوم؛ هذه المدينة التي يتجاور فيها الشرق والغرب، ويتعايش المسلم والمسيحي، ويتنافس عدد من أفضل الجامعات العربية على نشر الوعي والمعرفة، وتسري روح الحرية الجسورة المتجددة في كل عقل وكل شارع وكل ركن فيها.
كان هذا المعهد الشرقي قد أُسس في سنة ١٩٦١م بمبادرة من المستشرق هانز روبرت رومر (١٩١٥–١٩٩٧م) الذي تولى إدارته ورعاية شئونه لمدة عامين، استجاب بعدهما لدعوة من جامعة فرايبورج لشغل كرسي العلوم الإسلامية وتاريخ الشعوب الإسلامية بها، ولم يترك الأستاذ بيروت إلا بعد أن رشح شتيبات لجمعية الاستشراق ليكون خلفًا له؛ إذ لم ينسَ أنه قد أثار إعجابه الشديد بمواهبه الإدارية والعلمية عندما تعرف عليه بالقاهرة في منتصف الخمسينيات. وواجه شتيبات بعد حضوره إلى بيروت أربع مهام جسام كان عليه أن ينهض بها: نقل المعهد من مقره القديم (في الدور الثاني من عمارة الصمدي في شارع مدام كوري في حي رأس بيروت) إلى المبنى الجديد الذي انتقل إليه منذ شهر يونيو ١٩٦٤م ولم يزل يشغله إلى اليوم الحاضر (في فيلا فرج الله بحي زقاق البلاط)، وشراء وتأثيث مقر صيفي للعاملين بالمعهد (دُمر خلال الحرب الأهلية)، وتزويد المكتبة بالمراجع والدوريات والأجهزة والمعدات الضرورية، وتنظيم خطة النشر التي توالى ظهور مجلداتها المهمة في التراث الإسلامي والتاريخ العربي تحت عنوان: «نصوص ودراسات بيروتية»، مع الاهتمام بمواصلة نشر سلسلة المخطوطات الشرقية التي كان قد بدأها المستشرق المعروف «هلموت ريتر» في إسطنبول من سنة ١٩٢٨ إلى سنة ١٩٤٩م وعُرفت بسلسلة «المكتبة الإسلامية». وليس من قبيل المبالغة أن نشيد بالدور الكبير الذي قام به هذا المعهد وما يزال يقوم به في نشر التراث العربي الإسلامي، وتوثيق العلاقات العلمية والإنسانية بين الباحثين الألمان والعرب، وحفز المستعربين الشبان على المزيد من الاهتمام بالقضايا العربية الحديثة والمعاصرة، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ حركة القومية العربية، والحوار بين الأديان وغيرها من القضايا والمشكلات التي انعكست على بحوث صاحب هذه السيرة سواء في أثناء وجوده في بيروت أو بعد رحيله عنها بسنوات طويلة.
ويرجع شتيبات في أواخر عام ١٩٦٨م إلى الجامعة الحرة في برلين ومعهد العلوم الإسلامية والدينية فيها، ويعين في الثالث من سبتمبر من العام نفسه أستاذًا مساعدًا قبل أن يشغل في الثاني من شهر يوليو ١٩٦٩م كرسي الأستاذية خلفًا لأستاذه «فالتر براونه» صاحب الكتاب المشهور في الدوائر العلمية: الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل، تحليل تاريخي ولاهوتي لوضعه في العالم المعاصر (بيرن وميونيخ ١٩٦٠م). وسرعان ما أصبح هذا المعهد — بعد الإصلاح الشامل لنظام التعليم في ألمانيا الاتحادية في أواخر الستينيات — مركزًا متوهجًا بالحوار الحي بين علماء الأديان والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاستشراق، بحيث تضافرت في هذا الحوار المستمر نزاهة العلم الموضوعي الخالص والالتزام السياسي والاجتماعي، مع تزايد اهتمام الرأي العام بمعرفة الشرق العربي والإسلامي بعد نكبة يونيو ١٩٦٧م، وتصاعد حركة المقاومة والتحرير الفلسطينية، وتفجر أزمة النفط في أوائل السبعينيات. ولا بدَّ أن تلك المحاورات والمحاضرات قد تأثرت من ناحية أبلغ التأثر بتراث التوجه الحضاري في دراسة الشرق الإسلامي وعلومه — وهو التوجه الذي يرجع إلى المستشرق البرليني ك. بيكر (١٨٧٦–١٩٣٣م) الذي تتلمذ عليه براونه أستاذ شتيبات — كما تأثرت من ناحية أخرى بتيار «الاشتراكية الدينية المناضلة» الذي اشتهر به الفيلسوف البروتستنتي العظيم باول تليش (١٨٨٦–١٩٦٥م) الذي كان البيت الذي استقرَّ به المعهد يحمل اسمه، والذي انطلق في كل تجاربه الفلسفية والوجودية العميقة من الإيمان بالطابع الديني الجوهري للحضارة بكل ظواهرها وتجلياتها في العالم الحاضر على اختلاف أنظمته وحركاته ومشكلاته؛ «إذ ما من شيء فيه لا يعبر عن الوضع الديني.»
هكذا انعكست تأثيرات هذا التراث الممتدِّ في دراسة الدين والتاريخ الحضاري على تفكير صاحب هذه السيرة وبحوثه، وتجلَّت في اهتمامه بحاضر العالم الإسلامي ومستقبله، وحرصه على الرؤية التاريخية الكلية والشاملة لمجالات الحياة بلا استثناء، والمعرفة الدقيقة بالتراث الديني والعقلي والاجتماعي والظروف التاريخية الكامنة وراء تحولاته الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار قبل كل شيء أن الشرق ليس مجرد موضوع عجيب جذاب، أو عالم مثير للغرابة وحب الاستطلاع، وإنما هو «جزء من عالمنا»، وشريك للغرب في رحلة الفكر والعمل والضمير والتحضر البشري. ومِن ثَمَّ جاء العنوان الدالُّ للكتاب الذي نحن بصدده، والذي يضم الدراسات والمقالات التي سنعرضها على هذه الصفحات وهو «الإسلام شريكًا». فدراسة الشرق الإسلامي كشريك للغرب المسيحي تقوم على أساس من الوجود والسؤال والأمل الذي يوحِّد بينهما وحدة ضرورية؛ أضف إلى ذلك أن دراسة تاريخ هذا الشرق كطرف أو شريك في مصير واحد تؤدي حتمًا إلى المعرفة النقدية بتاريخ الغرب نفسه.
وهكذا أُسِّس في برلين مركز مرموق لدراسات الشرق الأدنى الحديث مع كل ما يتصل به من علوم التراث والتاريخ والسياسة والاقتصاد في جامعة برلين الحرة، وساعدت منحة سخية من مؤسسة فولكس فاجن منذ سنة ١٩٧٦م على مدِّه بالطاقات العلمية والمادية الكافية.
ولقد صمد هذا المركز العلمي وحافظ على هويته ورسالته العلمية والأخلاقية الرفيعة في وجه رياح التغير العاصفة في العالم الإسلامي منذ إطلاق صيحة الصحوة الإسلامية، وقيام الثورة الإسلامية في إيران (١٩٧٩-١٩٨٠م) وهبوب أعاصير التطرف مع الحركة المسمَّاة — خطأً وظلمًا — بالأصولية الإسلامية، وتزايد أعداد المهاجرين من الدول العربية والإسلامية إلى أوروبا الغربية، بحيث أثارت هذه التحولات اهتمام الرأي العام الغربي والعالمي، وأزاحت إلى الظل معظم الجهود المخلصة التي بذلت في سبيل الدرس المحايد والمتأني للشرق. وانبرى شتيبات في العديد من مقالاته ومحاضراته (ابتداءً من محاضرته عن الدور السياسي للإسلام التي ألقاها في المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان الذي عُقد في التاسع والعشرين من شهر مارس سنة ١٩٨٠م في برلين) انبرى لمواجهة هذه التحديات، وراح يحذر من التبسيطات السياسية المتسرعة لموضوع «الإسلام»، ويدعو إلى فهمه وتفسيره داخل السياق المعقد للمشكلات العالمية. وربما يكفي هذا النص المقتبس من المحاضرة المشار إليها لتوضيح رؤيته السمحة ومنهجه التاريخي والحضاري المتكامل.
«ليس الإسلام هو القوة الأصلية الدافعة للموجات الإسلامية الجديدة التي نلاحظها اليوم في العالم. لا شك في أن الديانة المشتركة هي أساس الشعور بالتضامن بين جميع الشعوب الإسلامية. ولكن الشيء المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لهذه الشعوب لا يأتي من ديانتها، وإنما يأتي من موقفها التاريخي الذي تشاركها فيه شعوب كثيرة غير إسلامية، وهو موقف الاعتمادية أو التبعية للأمم الصناعية في الغرب، وبحثها اليائس عن توجه خاص يمكن أن يساعدها على التحرر من تلك التبعية.»
وواضح من هذا النص أن نظرته للشرق المسلم كشريك للغرب — تضمهما وحدة الوجود في هذا العالم ووحدة المصير البشري — لم تتغير عما كانت عليه، وأن إيمانه بقوة الدين وقدرته على تجميع البشر لم تتأثر بحملات التحيز والتشويه والإساءة للإسلام والمسلمين. ولعل وقوفه في صف المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا، ودعوته لقيام تنظيم موحد يجمع شملهم، لعله أن يكون أبلغ دليل على سماحته العلمية والإنسانية التي تجلت في عدد كبير من دراساته عن الشرق الأدنى، وفي أحكامه المنصفة على بعض ردود الفعل من جانب المسلمين على افتراءات سلمان رشدي في روايته المريبة «آيات شيطانية» (ومن هذه الدراسات على سبيل المثال طبيعة الأمل في نظر المسلم، وصورة الإنسان في الإسلام أو خليفة الله على الأرض، والإيمان يقدم الأمل في الخلاص والنجاة، والمناقشات الدائرة في الكتابات الشعبية الإسلامية)، وكلها دراسات تؤكد اهتمامه بالدين بالمعنى الضيق أو بمعناه «الوجودي» ومدى تأثيره وأهميته في تاريخ الشعوب الإسلامية وأساليب مواجهتها للموت والعدم.
وأخيرًا لا ننسى جهوده العملية بين سنتي ١٩٩٢ و١٩٩٣م — أي بعد إتمام الوحدة الألمانية — التي توِّجت بإنشاء «مركز العلوم الإنسانية المختص بدراسة الشرق الحديث» (وهو الذي يزهو به اليوم حي نيكولاسيه في برلين)، وحققت مساعيه السابقة لتجميع التخصصات العلمية المختلفة لدراسة الشرق دراسة تاريخية ودينية شاملة وقائمة على الإيمان بأن الشرق والإسلام شريكان لا غنى عن معرفتهما لكي يعرف الغرب نفسه وتاريخه، كما سبق القول. وهكذا أثبت الرجل العظيم — حتى بعد إحالته إلى المعاش في سنة ١٩٨٨م، وقبل أن يقعده المرض الشديد منذ سنة ١٩٨٨م — كيف يمكن أن يجمع الإنسان بين القدرة العلمية الخارقة والمهارة العملية الفائقة والاهتمام الدافئ الحميم بكل من اتصل به أو عرفه من الزملاء والأصدقاء والتلاميذ. ولكم يشرفني ويسعدني في ختام هذا التقديم أن أدلي بشهادتي عنه، بصفتي تلميذًا سابقًا تعلم على يديه في القاهرة وبرلين، وصديقًا لم ينقطع حتى الوقت الحاضر عن الاتصال به والاطمئنان عليه. هذه الشهادة تقول بكلمات مختصرة يمكن أن يفسدها أي إسهاب أو إطناب: «لم أعرف في حياتي، ويقينًا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»
Fritz steppat, Islam als Partner, Islamkundliche Aufsätze 1944-1996, eingeleitet und herausgegeben van Thomas Scheffler – Beirut, 2001, Beiruter Texte und Studien, Band 78.