الفصل الحادي عشر
المسلم والسلطة
(١٩٦٥م)
«إن مهمة إقامة وإدارة دولة تتفق مع مبادئ الدين تضع الإسلام في
معضلة من نوع خاص.»
شتيبات
إن البحث عن العوامل التي تحدد علاقة المسلم بالسلطة يستلزم منا أن
ننطلق من الحقيقة التي تقول إن تأسيس الدين الإسلامي كان يعني منذ
البداية تأسيس دولة.
١ وثمة دلالة بالغة العمق في حقيقة كون التوقيت (أو التأريخ)
الإسلامي يبدأ بالهجرة، أي بهجرة الجماعة الإسلامية الصغيرة من مكة إلى
المدينة، حيث تولى محمد، عليه الصلاة والسلام، رئاسة كيان سياسي دنيوي
(يمثل أول دولة إسلامية).
وفي السنوات المكية التي بدأ الدين الجديد يتشكل فيها بالتدريج، غلبت
على الرسالة المحمدية الأفكار التي تؤكد خضوع الإنسان للخالق العلي
القدير واعتماده الكامل عليه، بحيث بدا العالم نفسه كأنه عديم الأهمية.
ولكن بعد الهجرة أخذ النبي، عليه السلام، في الاهتمام بالعالم والسعي
إلى تشكيله. ولم يكن هذا الاهتمام، بالتدخل في أمور الدنيا، مجرد
استجابة لضرورة إيجاد حياة طيبة للجماعة. فقدرة الله تعالى وقضاؤه
يظلان في نظر الإسلام هما المقصد والغاية الأخيرة، ولكنه يعترف كذلك
بالدنيا (أو بالعالم)، ويعرف أن واجبه ومهمته هي تنظيمه وتوجيهه نحو
هذه الغاية. بهذا تكون الدولة الإسلامية الأولى هي أول مؤسسة اجتماعية
وأول تجسيد واقعي أو دنيوي للدين الإسلامي.
ولا نزاع في أن هذا قد خلق موقفًا مختلفًا اختلافًا مبدئيًّا عما
نجده، على سبيل المثال، في المسيحية التي لم ترتبط بدولة إلا بعد
تأسيسها بثلاثة قرون، والمسيحي يمكنه الفصل بين الدين والدولة، وهو
يستطيع أن «يدع لقيصر ما لقيصر، عندما يدع كذلك لله ما هو لله». (إنجيل
متى: إصحاح ٢٢، آية ٢١)، أما المسلم فلا يمكن أن يقوم بهذا الفصل. إننا
نجد بطبيعة الحال في الإسلام اتجاهًا للهروب من العالم، والانصراف عن
الدنيا الدنيَّة، وقد تبنَّت هذا الاتجاه في بعض الأوقات فئات عريضة من
المؤمنين بالإسلام. وليس في الإسلام جهة عليا تختص بتقرير ما يتفق مع
الدين وما يخرج عليه، ولكن هناك مجالًا وسطيًّا واسعًا يمكن وصفه بأنه
«سني»، لأنه استقطب مع الزمن أغلبية المسلمين. هذا الاتجاه أو المذهب
السني في الإسلام يدين الهروب من العالم والانصراف عن الدنيا، وهو يفعل
هذا لأسباب دينية معقولة.
والأمر الأهم هو أن للإسلام شريعة ينبغي تحقيقها أو تطبيقها في
العالم. من أجل ذلك يجب تنظيم العالم وفق مبادئ الإسلام. وكل من لا
يسلِّم بذلك يترك أرض الدين الإسلامي كما أسسه محمد، عليه الصلاة
والسلام. والإمام الغزالي — في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد — يبرر
ضرورة وجود السلطة بكلمات شديدة الوضوح: «إن السلطان ضروري في نظام
الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز
بسعادة الآخرة.»
٢ إن مهمة إقامة وإدارة دولة تتفق مع مبادئ الدين تضع
الإسلام في معضلة من نوع خاص؛ فمثل هذه الدولة تنتمي لمملكة المثل
العليا التي قد يتاح للإنسان أن يرى ظلها في هذا العالم، ولكن ليس في
وسعه تحقيقها في الواقع. إن الدين الإسلامي يفرض على المؤمن مهمة
سياسية تتخطى حدود طاقته.
والحق أن النهوض بهذه المهمة يصبح منذ البداية أمرًا سهلًا وصعبًا في
آنٍ واحد، والسبب في ذلك أنه لا توجد لها صيغة واضحة. والوحي الإلهي
الذي أُنزل على محمد في القرآن الكريم لا يحتوي على مشروع دستور مفصل،
كما أن علماء الدين والشريعة المبكرين لم يهتموا بالتفكير في بنية
الدولة تفكيرًا منهجيًّا منظمًا. إن الشريعة الإسلامية تنظم علاقات
الفرد بالله وعلاقته بغيره من الناس، ولكن ميدان القانون العام لا يحظى
منها بالاعتبار. ومطالب الدين من الدولة مطالب ذات طابع عام. وتتطور
الأفكار المتعلقة بكيفية تشكيل الدولة في توتر مستمر بين هذه المطالب
العامة والمطلقة للدين من ناحية، وبين الواقع التاريخي من ناحية أخرى.
ويصدق هذا على الدولة التي أسسها محمد، عليه الصلاة والسلام، وتولى
تسيير أمورها بنفسه، ونظرت إليها الأجيال التالية نظرة الإجلال
والتمجيد بوصفها تحقيقًا للدولة الإسلامية المثالية. والواقع أن تلك
الدولة تنطوي بوضوح على بعض السمات المستمدة من البيئة التاريخية التي
أحاطت بها: من مجتمع القبائل البدوية العربية، ومن المدن الزراعية
والتجارية، ومن مظاهر التكيف مع المتطلبات العملية للسياسة في ذلك
الحين.
لنبدأ الآن بالنظر في العناصر الأساسية التي تعبر عن متطلبات الدين:
فالمشرِّع هو الله، وقد أنزل الشريعة مرة واحدة وإلى الأبد في القرآن
الكريم، وليس في استطاعة البشر أن يغيِّروها، ولكنهم يستطيعون فحسب أن
يفسروها، ولا يقتصر الحق في هذا التفسير للشريعة على فئة خاصة، وإنما
هو حق لكل مسلم يمتلك المعارف العلمية والمواهب العقلية المطلوبة لذلك.
وبهذا يمكن من الناحية المبدئية لأي إنسان حائز الشروط السابقة أن يكون
قاضيًا يحكم بين الناس. إن السلطة كلها في يد الله العليِّ القدير، وهو
يفوِّض فيها إنسانًا يتوسط بينه وبين الناس، وهو النبيُّ الذي يخلفه
بعد وفاته الإمام أو الخليفة (أي خليفة رسول الله). ويترتب على عقيدة
التوحيد وعلى عالمية الإسلام أنه لا يمكن أن توجد إلا دولة واحدة، ولا
يمكن أن يوجد في زمن محدد إلا خليفة واحد، ولا يمكن تصور وجود سلطات
شرعية أخرى إلا إذا استمدت سلطتها من الخليفة الذي استمدها بدوره من
الله.
ويصف لوي ماسينيون هذه الدولة الإسلامية بأنها دولة العلمانيين
الدينية القائمة على المساواة،
٣ فهي دولة دينية (ثيوقراطية) لأن القوة كلها والسلطة كلها
لله وحده، وهي دولة دينية للعلمانيين لأن الإسلام لا يعرف نظام
الكهنوت، ولا يعترف بوجود أحد يستأثر أو ينفرد بالتعمق في أسرار الدين.
وهي أخيرًا دولة دينية قائمة على المساواة لأن الناس جميعًا، حتى
الخليفة نفسه، متساوون أمام قدرة الله وأمام شرع الله، هذه المساواة
بين الناس جميعًا أمام الله والشرع، ومِن ثَمَّ في النظام السياسي
والاجتماعي، هي في الحقيقة فكرة ثورية جاء بها الإسلام إلى العالم. وهي
تقوم بغير شكٍّ على أساس مثل أعلى متضمن في «دستور» القبيلة العربية
القديمة، حيث كان لجميع الرجال الأحرار من الناحية المبدئية حقوق
متساوية، ولكن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك حين لا يقصر المساواة على
قبيلة معينة ولا على فئة الرجال الأحرار داخل القبيلة، وإنما يمدُّها
لتتسع لجميع المؤمنين. وتتجلى ثورية مبدأ المساواة الإسلامي بشكل أعظم
بالنسبة لبنية الدول الشرقية العظمى القديمة بتفرقتها الحادة بين وضع
الحاكم ووضع الرعية، وعندما يضع الإسلام الحاكم والرعية داخل نظام واحد
من الحقوق والواجبات، فإنه يكاد يجعل أفراد الرعية أو المحكومين
مواطنين بالمعنى الذي نفهمه اليوم من كلمة المواطن. ويبدو أن هذا
الطابع الديني، إلى جانب طابع المساواة اللذين يميزان الدولة
الإسلامية، يضعان حدودًا ضيقة تقيِّد قوة السلطة وتحكمها. لا شك في
أننا نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالي:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: ٥٩) كما
نقرأ كذلك قوله عزَّ من قائل:
… وَلَا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا (الكهف: ٢٨).
وهناك أحاديث شريفة تضع واجب الطاعة وحدودها جنبًا إلى جنب، وذلك في
حديث شريف يقول ما معناه:
٤ على المسلم شاء ذلك أو لم يشأ أن يسمع ويطيع إلا في معصية
الله، كما في حديث آخر: «لا طاعة لمن عصى الله».
٥
من الأمور البديهية الواضحة إذن، أنه ليس من الواجب على المسلم طاعة
السلطة إلا إذا كانت أوامرها في إطار الشرع، بل ربما لا تجب عليه هذه
الطاعة إلا إذا كانت هذه السلطة مطيعة لله بوجه عام لا في الأحوال
الخاصة فحسب. أما ما هي الطاعة لله وما هي المعصية، فذلك ما يستطيع كل
مؤمن أن يحدده. ومن أهم الواجبات الاجتماعية للمسلم أن يراقب مدى
الالتزام بالشرع، وأن «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر». صحيح أن هذه هي
في المقام الأول مهمة السلطة، ولكن السلطة أيضًا، ووفقًا للمبدأ نفسه،
تخضع لرقابة الجماعة وتصحيحها لها.
٦
ويقيم علماء الدين على هذه الأسس العقائدية كيانًا مثاليًّا يثبت —
من الناحية النظرية — اعتماد السلطة على الجماعة بشكل قانوني. والواقع
أن التصور الملتزم بالدين التزامًا حرفيًّا لم تتم صياغته أبدًا بشكل
موحَّد، ومع ذلك يمكننا أن نبين معالمه على الوجه التالي:
٧ إن الخليفة، وهو رمز السلطة، يتبوأ منصبه بناءً على تعاقد
منظم. ويحدد علماء الدين الشروط التي يجب توافرها في المرشح لمنصب
الخلافة؛ فلا بد أن يكون حائزًا خصالًا أخلاقية وعقلية وجسدية عالية،
وأن يكون من قريش. ومن بين الذين يلبون هذه الشروط يكون تعيين الخليفة
عن طريق الانتخاب. ويشترط كذلك في الناخبين أن تتوافر فيهم بعض الصفات
البسيطة: الأهلية الشرعية الكاملة، معرفة شروط منصب الخلافة والحكمة
الضرورية لانتخاب المرشح الصالح له. وبعد انتخاب الخليفة يكتمل التعاقد
بإعلان الجماعة بيعتها له. ويكون على الخليفة في هذه الحالة أن يؤدي
عددًا من المهام المحددة: المحافظة على الدين، تنفيذ الشرع والأحكام
الشرعية، حماية النظام والأمن، التنظيم الداخلي للدولة، الدفاع عن
أراضي الدولة والتوسع فيها. وعليه في كل هذه المهام ألا يتخذ قراراته
بمفرده، بل يستشير فيها أهل الرأي والمشورة. ومن جهة أخرى يجب على
المؤمنين طاعته وتأييده، فإن لم يفعلوا كان من حقه إجبارهم عليهما.
ويلزم عن مبدأ التعاقد أن يسقط التعاقد عندما يخل أحد الطرفين
بالالتزام بشروطه، أي إن الخليفة يمكن إعفاؤه من منصبه إذا فرَّط في
واجبات منصبه أو قام بها بصورة غير مرضية.
لا شك في أن مبدأ الانتخاب والتعاقد يمدُّ جذوره التاريخية في
ممارسات القبائل العربية التي كانت تقضي بأن يقوم أعضاء القبيلة
المرموقون بانتخاب شيخ القبيلة أو رئيسها الأعلى الذي كان يكلف كذلك
بمهام محددة.
٨ أضف إلى ذلك الأساس الاعتقادي الذي تقوم عليه المساواة بين
جميع المؤمنين أمام الله والشرع. وخضوع الخليفة خضوعًا مطلقًا للشرع مع
الرقابة المفروضة عليه من الجماعة، وانتخاب الخليفة، وقيام منصبه على
أساس التعاقد مع إمكان خلعه، والتزام الخليفة بأخذ مشورة أهل المشورة
المستقلين؛ كل هذا لا يعني أبدًا أن الدولة الإسلامية المثالية كانت
ديموقراطية بالمعنى الحديث الذي نفهمه من هذه الكلمة. فالخليفة لا يصبح
عن طريق الانتخاب ممثلًا للشعب، والمنتخبون هم في الحقيقة أدوات لله
ينفذون مشيئته بانتخابهم للخليفة، كما أن الخليفة في حكمه لا ينفذ
بدوره إلا إرادة الله ومشيئته. ومع ذلك كان من الممكن على أساس المبادئ
المذكورة أن تقوم دولة ذات سلطة مقيدة ومحدودة القوة، وتخضع أيضًا
لتأثيرات لا يستهان بها من جانب المواطنين.
لكن هذا المثل الأعلى للدولة لم يكن من الممكن أن يتحقق في الواقع
التاريخي؛ فالضرورات المترتبة على حكم دولة إسلامية شاسعة الأرجاء،
وطموحات القوة وأطماع السلطة عند من تولوا أمورها، قد حالت دون
تحقيقها. ولما كان هذا المثل الأعلى يستند إلى الوحي الإلهي، فلا
يستطيع المؤمنون أن يسلموا بعدم إمكان تحقيقه. ولما كانت دولة الخلافة
هي التجسيد الاجتماعي الوحيد للدين، وكان من الضروري أن يطبق فيها
الشرع الإلهي، فلا بد من أن تكون تلبية الدولة لمطالب الدين، وتحقيقها
لتعاليمه، وشرعية السلطة الحاكمة، من القضايا الملحة عند المسلمين. ومن
هنا كانت الاتجاهات السياسية المختلفة في العصر الإسلامي المبكر ذات
طابع ديني على الدوام، كما ارتبطت الاتجاهات الدينية المختلفة باستمرار
بحركات سياسية متنوعة. ومن هنا يتضح أيضًا أن مثال الدولة يجب أن
يفسَّر منذ البداية من خلال الممارسة العملية، وأن العلماء الذين عهد
إليهم القيام بهذه المهمة، وجدوا أنفسهم منذ البداية أيضًا مضطرين
لإنقاذ المثال عن طريق التوفيق بينه وبين الواقع. والمثال الذي يتغير
بهذه الصورة يؤثر بدوره من خلال وعي الناس على التاريخ السياسي.
والواقع أن تطور الدولة الإسلامية من الناحيتين العملية والنظرية لا
يمكن أن يفهم إلا عن طريق هذا التأثير المتبادل.
لقد انطلق أول وأكبر انقسام في الإسلام من النزاع حول الخلافة بعد
مقتل عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين. ومما يؤكد بوضوح أن الأمر
لم يكن مجرد خلاف سياسي خالص، أن هذا النزاع قد أدَّى إلى نشأة حركتين
غير ملتزمتين بالسنَّة (أو بالروح المعتدلة والملتزمة بحرفية النص
وظاهره وبجوهر التدين الأصلي) وهما الشيعة والخوارج، ولكلٍّ من هاتين
الحركتين تصورها الديني والسياسي للدولة. فالشيعة تلتفُّ حول الإمام
الروحي الذي تجلِّله هالة من السحر والكرامة،
٩ ولا بد أن يكون من سلالة الرسول، عليه السلام، كما أن الله
سبحانه قد وهبه العصمة. ويفترض مونتجومري وات افتراضًا لا يخلو من
جاذبية آسرة، عندما يرجح أن يكون هذا التصور مستمدًّا من القبائل
العربية الجنوبية التي كان لديها تراث عريق من تقديس الملكية والملوك.
١٠ وعلى العكس من ذلك يرى الخوارج أن الجماعة أكثر أهمية من
الإمام، وأنها هي حاملة السحر والكرامة والجلال والعصمة. وهناك فريق من
الخوارج الذين لا يرون أي ضرورة على الإطلاق في وجود خليفة، كما يتفق
جميع الخوارج في أن الانتماء لقريش ليس شرطًا لازمًا للتعيين في منصب
الخلافة، وأن الأهم من ذلك هو اختيار أصلح الناس له أيًّا كان الأصل
الذي يتحدر منه. والواقع أن هذا الرأي يتفق أتمَّ اتفاق مع مبدأ
المساواة في الإسلام، وعندما يعلن الخوارج أن الثورة أو الخروج على
الخليفة الظالم ليس مجرد حق بل واجب حتمي على الجماعة، وعندما يصل
الأمر بهم إلى حدِّ المطالبة بإعدامه، فإن هذا كله يعدُّ تطورًا
منطقيًّا، وإن يكن حاسمًا ومتطرفًا، للمثل الإسلامي الأعلى للدولة.
١١ ولما كانت هذه الآراء تتعارض بسبب تطرفها الشديد مع واقع
الحياة السياسية الإسلامية تعارضًا شديدًا، فقد اتُّهمت كذلك بالخروج
على الدين، وبأنها من البدع، شأنها في ذلك شأن التصور الشيعي الأغرب
منها.
وقد سبق ذلك الانقسام إلى شيعة وسنَّة انقسام ديني وسياسي خطير في
أوساط المسلمين المعتدلين الذين يوصفون بأهل السنَّة. وقد بدأت بوادر
هذا الانقسام بعد عودة النبي، عليه السلام، من المدينة إلى مكة وإدماجه
لمدينته وموطنه الأصلي (مكة) في الدولة الإسلامية الجديدة، وكانت هذه
خطوة مهمة على الطريق إلى الدولة الإسلامية الكبرى، بمعنى أنها أدخلت
في بنية الدولة عناصر عملت بالتدريج على طبعها بالطابع الدنيوي أو
العالمي. ومن المسلَّم به أن أثرياء مكة الأرستقراطيين لم يعلنوا
إيمانهم بالإسلام عن دوافع انتهازية فحسب،
١٢ بل لأنهم كذلك قد تأثروا تأثرًا حقيقيًّا بالدين الجديد
وأخذوا بحيويته الرائعة. وإذا كانوا قد اهتموا قبل كل شيء بانتشار
الإسلام في العالم، فإنما أكدوا بذلك عنصرًا قائمًا في الدعوة
المحمدية. ولكنهم وضعوا أنفسهم بذلك في مواجهة دينية وسياسية حادة مع
الصحابة الأولين أو أهل الورع الذين كانوا يعيشون في المدينة ويوجهون
أبصارهم إلى الآخرة فيشتد حرصهم على الشرع واهتمامهم بالمحافظة على
الشريعة.
استطاع محمد، عليه الصلاة والسلام، ومن بعده أبو بكر وعمر أن يحافظوا
على تماسك هاتين القوتين المتعارضتين، وذلك بوضع فضائل كل منهما في
خدمة الدولة الإسلامية الفتية؛ فبينما كان أثرياء مكة — ولا سيما أبناء
بني أمية — يعملون خارج شبه الجزيرة كقادة للجيوش وولاة على الأقاليم
التي تمَّ فتحها، كان الصحابة وأهل الورع من المدينة يمارسون تأثيرًا
كبيرًا على الحكَّام وأهل السلطة الذين كانوا يحرصون على الاستنارة
برأيهم ومشورتهم، والحقيقة أن الانقسام والتوتر كان قد بدأ منذ وصول
الأموي عثمان إلى الخلافة ومحاباته الشديدة لعشيرته، ثم قام بعد ذلك
بدور كبير في الاضطرابات اللاحقة، وذلك بجانب الخلافات القبلية
والعشائرية القديمة والصراعات المستمرة مع الشيعة والخوارج. وإذا كان
الأمويون قد عادوا للاستيلاء على الخلافة بعد وفاة علي رابع الخلفاء
الراشدين في سنة ٦٦١م، فإن ذلك كان معناه انتصار الاتجاه «الدنيوي» بين
أهل السنة. كان علي بن أبي طالب قد ترك العاصمة القديمة في المدينة،
ونقل الأمويون مقرَّ الخلافة والحكم طوال القرن التالي إلى دمشق،
١٣ وبذلك ابتعدوا بأنفسهم وبإدارة الدولة عن تأثير أهل الورع
في المدينة. وتمثلت المعارضة بعد ذلك في الأتقياء الورعين من ناحية،
والثوريين المتهمين بأنهم من أهل البدع (أي الشيعة والخوارج) من ناحية
أخرى، وذلك بعد أن شعر الطرفان بأنهم قد فقدوا وزنهم السياسي. ووصلت
المعارضة إلى حد الحرب الأهلية. ولم يقتصر الخوارج والشيعة على إعلان
خلفاء منافسين ينازعون الحكم الأموي بكل الوسائل، بل شاركهم في ذلك
قدامي الصحابة وأهل الورع. اتُّهم الخلفاء الأمويون من جانب خصومهم
بأنهم قد حولوا «خلافة رسول الله» إلى ملكية دنيوية، بل وثنية. والصحيح
أنهم خلعوا على الدولة الإسلامية طابعًا جديدًا، فقد ساروا على سياسة
الأسر الحاكمة التي يتعذر التوفيق بينها وبين مبدأ انتخاب الخليفة،
ونقلوا مقرَّ حكمهم إلى دمشق بعيدًا عن تأثير أهل الورع، واستلهموا
التراث البيزنطي الذي تجاوب تصوره عن الدولة العالمية تحت حكم الملك الشامل
١٤ مع طموحهم للقوة والسلطة، كما بدءُوا أيضًا في التعلم من
التقاليد القديمة للدولة الفارسية الكبرى. غير أنهم بالرغم من كل ذلك
لم يفكروا أبدًا في التنكر للإسلام، بل كان العكس من ذلك هو الصحيح؛
فقد شعر الخلفاء الأمويون بأنهم حملة رسالة أو أمانة تفرض عليهم أن
يثبتوا دعائم قوة الإسلام في الأرض ويبسطوا نفوذه ويتوسعوا فيه. لذلك
كان عليهم أن يعتبروا أي معارضة وأي محاولة للتمرد على حكمهم معارضة
للإسلام نفسه وتمردًا عليه وتهديدًا لوحدة الجماعة التي تقع تحت
قيادتهم. ومن هنا وقفوا في وجه خصومهم — سواء كانوا من أهل السنة
الورعين أو من فرق الشيعة والخوارج — بكل حزم وحاربوهم بكل قسوة. بل
إنهم لم يتورعوا عن فرض الحرب على المدينة ومكة، ومما له دلالة على
وحشيتهم الدموية أن القائد الأموي الحجاج بن يوسف لم يتردد، أثناء
حصاره لمكة في عام ٧٢ بعد الهجرة، عن ضرب الحرم المكي بالمقاليع
الحجرية الضخمة، وذلك للقضاء على الخليفة المنافس عبد الله بن
الزبير.
كشفت الصراعات المريرة التي خاضتها جميع الأطراف عن مدى اهتمام
المؤمنين بمشكلة شرعية السلطة. وقد لعبت هذه المشكلة دورًا أساسيًّا في
الحفز على الشروع في المناقشات الدينية، وبذل الجهود المضنية في صياغة
العقيدة الإسلامية. وإذا كان العلماء قد بدءُوا في ذلك الوقت في جمع
الحديث النبوي الذي سيصبح مصدرًا أساسيًّا لعلوم الدين والشريعة، فقد
كانت المواقف المختلفة في الصراعات السياسية عاملًا حاسمًا في
ذلك.
وكان من الطبيعي أن يجد كل طرف من الأطراف المتصارعة، أو يوجد،
أحاديث تتفق مع وجهة نظره. فالجناح الورع من أهل السنة ينشر في المقام
الأول أحاديث تبيِّن حدود الالتزام بواجب الطاعة. ومن هذه الناحية يوصف
المؤمن، الذي يسقط خلال الصراع مع الحاكم الظالم، بأنه شهيد.
١٥ ومن ناحية أخرى يروِّج أنصار الخليفة الأموي أن من خرج على
البيعة فقد خرج على الجماعة وهدَّد أمن المؤمنين، ولذلك يستحق أن يعتبر كافرًا.
١٦ بل لقد نشأت فرقة كلامية تؤيد الأمويين وتبرر الطاعة
والإخلاص للخلفاء تبريرًا دينيًّا، وهي فرقة المرجئة. والفكرة الأساسية
لهذه الفرقة تذهب إلى أن المسلم لا يمكن أن يفقد إيمانه بسبب وقوعه في
الإثم، وأن الحكم على الخارج على الجماعة الإسلامية ينبغي أن يؤجل إلى
يوم الدين. وهكذا يبقى الحاكم مسلمًا حتى ولو ارتكب الكبائر، كما تبقى
الجماعة مدينة له بالطاعة.
١٧
هذا التصور الذي ذهبت إليه المرجئة سرعان ما امتد تأثيره وتعاظم. فقد
تبناه من الناحية العملية الاتجاه الوسطي في الإسلام، وهو الاتجاه الذي
يسعى إلى التوسط بين وجهات النظر المتطرفة والتوفيق بينها. وهذا
الاتجاه لا يتجاهل آثام الحكام وخطاياهم، ولا ينكر المبادئ القديمة
التي تقوم عليها الدولة الإسلامية الشرعية. ولكنه يعلن أن نظام الدولة
ووحدة الجماعة يتطلبان أن يطيع الناس في كل الأحوال صاحب السلطة
الفعلي، حتى ولو كان من الناحية الشخصية أحط الناس وأحقرهم. «سلطان
(إمام أو أمير) ظالم غشوم خير من فتنة تدوم»، هكذا يقول نص حديث شريف
نشره أصحاب هذا الاتجاه الوسطي.
١٨ أو كما يقول نص آخر (يُنسب — في رأي السيوطي — لعلي بن
أبي طالب رضي الله عنه لا إلى النبي عليه السلام): «حتى مع الأمير
الآثم يؤمن الله الطرق. ويقاتل الأعداء في الجهاد، ويحصل الضرائب، وتحت
حكم أمير آثم تنفذ الحدود، ويتمُّ الحج إلى مكة، ويستطيع المسلم حتى
وفاته أن يؤدي شعائر دينه.»
١٩ وإذا وجد المسلم أن هذا الموقف يتعارض مع واجبه في النهي
عن المنكر، فإن الحديث الشريف ينصفه ويعطيه الحق في الوقوف مع الواجب
ولو كان ذلك بقلبه وحده: «من رأى منكم منكرًا فليغيره (أو فلينكره)
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان.»
٢٠ وأخيرًا فإن السلطة من الله، وإذا أثمت، كان الأمر في ذلك
بينها وبين الله: «لا تسبوا الولاة: فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر
وعليكم الشكر، وإن أساءُوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنما هم نقمة
ينتقم الله بها ممن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميَّة والغضب،
واستقبلوها بالاستكانة والتضرع.»
٢١ والمعنى من كل ما سبق أن علماء الدين يحرمون على المؤمن
الخروج على الحاكم أو التمرد عليه، ويفرضون عليه الطاعة لأوامر السلطة
بغير أن يسأل عن شرعية هذه السلطة. صحيح أننا يمكن أن نفترض أن واجب
الطاعة لا ينسحب على الأوامر بالسيئات، ولكن هذا الجانب من جوانب
المشكلة كاد أن يُسكَت عنه، بل يبدو إلى حد كبير وكأنما أزيح عن الوعي،
وهكذا نشأ في الإسلام السني اتجاه واضح للخضوع للسلطة خضوعًا يكاد أن
يكون غير مشروط، أي نشأت حالة «التقية» المبررة من الناحية
الدينية.
وتعاظم الاتجاه السنيُّ على مرِّ التاريخ من خلال الجهود التي بذلها
علماء الدين للتوفيق بين النظرية والواقع، وذلك حرصًا منهم على إنقاذ
النظرية، وبالتالي إنقاذ المثل الأعلى للدولة الدينية، ذلك أن الواقع
لم يقترب من المثال، بل أخذ يبتعد عنه بصورة مستمرة. كانت المشكلة في
البداية تتمثل في اصطدام الخلفاء الأمويين مع متطلبات المثل الأعلى
القديم للدولة الإسلامية، ودخولهم في صراع مع «أهل الورع» من علماء
الصحابة الذين شعروا بأنهم حفظة ذلك المثال والحراس عليه. ولما أسقط
العباسيون الدولة الأموية وانتزعوا الخلافة، حاولوا جاهدين — عن قصد
ووعي — أن يضفوا عليها الطابع الديني، وأن يتقرَّبوا من أهل الورع
ويقربوهم من دولتهم. غير أنهم لم يرجعوا إلى المثل الأعلى القديم، بل
تخلوا عن مبدأ المساواة الإسلامي بأكثر مما فعل السابقون عليهم؛ إذ
ولَّوا وجوههم نحو التراث الفارسي القديم عن الدولة العظمى وتقاليدها،
ففصلوا بين الحكام والمحكومين وجعلوهما طبقتين منفصلتين. أضف إلى ذلك
تمزق الدولة وضياع وحدتها. فقد هرب أحد الأمويين إلى إسبانيا وأسس هناك
خلافة منافسة لم يكن من الممكن قهرها، إذ أثبتت قدرتها على البقاء. وفي
وقت لاحق أقام الفاطميون خلافة شيعية. ونشأت فضلًا عن ذلك في أرجاء
العالم الإسلامي إمارات مستقلة بالفعل، وإن لم يمنعها ذلك من الاعتراف
الشكلي بالسلطة العليا للخليفة. وأخيرًا أصبح الخلفاء العباسيون أنفسهم
في عاصمتهم بغداد تابعين تبعية صريحة للقواد الأجانب من المرتزقة الذين
كانوا قد لجئُوا إليهم واستدعوهم لحمايتهم. وهكذا لم يكد يبقى شيء من
فكرة الدولة العالمية التي يفترض أن «خليفة» الله مكلَّف بحكمها بشرع
الله.
وقد بدأت الصياغة المنهجية للقانون الدستوري الإسلامي في غمرة هذا
التدهور التاريخي للدولة الإسلامية. وفي منتصف القرن الخامس للهجرة،
حوالي سنة ١٠٣٠م، كتب القاضيان البغداديان الماوردي وأبو يعلى كتابين
شاملين عن قواعد الحكم أو — على حد تعبيرهما — عن الأحكام السلطانية.
٢٢ في هذا الوقت الذي وضع فيه الكتابان كان قد مضى على
العباسيين ما يقرب من قرن كامل تحت وصاية البويهيين الذين كانوا من
الشيعة، ولم يكن لديهم أي مسوِّغ ديني مباشر للاعتراف بسلطة الخليفة
السني، حتى ولو كان ذلك على سبيل الاعتراف الشكلي. ولعل الخليفة كان
يحاول من جانبه التخلص من وصاية أولئك القواد والحكَّام الشيعة أو على
الأقل الحدَّ من سلطاتهم. وقد بيَّن المستشرق الإنجليزي «هاملتون جيب»
أن الماوردي ألف رسالته السابقة الذكر بناءً على رغبة الخليفة.
٢٣ أما رسالة «أبو يعلى»، التي لم يهتم بها البحث العلمي حتى
الآن اهتمامًا كافيًا، فيبدو من الواضح أنها قد وُضعت في السياق
التاريخي نفسه، وهي تتفق مع رسالة الماوردي اتفاقًا كبيرًا، وإن كانت
تؤكد في بعض المواضع وجهة نظر المذهب الحنفي — الذي ينتمي إليه أبو
يعلى — حيثما وجد اختلاف بينه وبين وجهة نظر المذهب الشافعي الذي يعبر
عنه الماوردي. وهناك أفكار مشابهة يمكن أن تجدها في كتابين تم تأليفهما
في التوقيت نفسه تقريبًا، وهما كتابا عبد القاهر البغدادي
٢٤ وابن حزم
٢٥ الذي كان يعيش في الطرف الآخر من العالم الإسلامي وعاصر
بنفسه تفكك الدولة الأندلسية. وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نستخلص
من الكتب السابقة الموقف العام لأهل السنة في تلك الحقبة
المهمة.
يلاحظ من المؤلفات السابقة
الذكر أن أصحابها قطعوا أشواطًا لا بأس بها في محاولة التوفيق بين
المثل الأعلى للدولة الإسلامية وبين الواقع الفعلي. إنهم يحافظون من
الناحية المبدئية على مبدأ انتخاب الخليفة. ولكنهم يعترفون للخليفة إلى
جانب ذلك بحقه في تحديد خليفته، وهو ما يعدُّ تبريرًا للحكم الوراثي.
ولما وجدوا أن هذا كله لا يكفي لتفسير الإجراءات السائدة في «صناعة
الخلفاء»، فقد أمكنهم العثور على حلول أخرى؛ ففي موضوع الانتخاب كان
الشك يحيط دائمًا بإمكان مشاركة الشعب فيه، ولذلك تمَّ التغاضي عنها
لأسباب عملية، وقصر حق الانتخاب على «أهل الحل والعقد» — وهو في
الحقيقة تعبير غامض، قُصد به علماء الدين بوجه عام، بل عدد محدود منهم.
والغريب أن الماوردي يذهب إلى حد القول إن «شخصًا واحدًا» يكفي لانتخاب الخليفة.
٢٦ أما ابن حزم فيرى أن يقتصر الحق في تحديد الخليفة على أقل
عدد ممكن من الأشخاص.
٢٧ وأخيرًا يصرُّ أبو يعلى على تدخل «أهل الحل والعقد» جميعًا
في هذا الأمر، ولكنه يخفف على الفور من إصراره عندما يقول إن انتخاب
الخليفة وتعيينه بموجب التعاقد يمكن الاستغناء عنهما معًا. صحيح أنه
يطالب بحق «أهل الحل والعقد» في الموافقة على تعيين الخليفة، ولكنه
يوجب عليهم ألا يتأخروا في إعلان هذه الموافقة.
٢٨ وهكذا يبرر كلا الرأيين في النهاية أي شكل من أشكال تعيين
الخليفة في منصبه، حتى ولو تمَّ ذلك عن طريق القوة والقهر … أما عن
الشروط الواجب توافرها في الخليفة، فإن المؤلفين المذكورين يتمسكون بما
قال به السابقون عن الخصائص والخصال المؤهلة لتولي الخلافة. ولكن «أبو
يعلى» وحده يبدي استعداده للاستغناء عن جميع الشروط باستثناء شرط واحد
هو ضرورة الانتماء لقريش — أما تفوق الخليفة وتميُّزه في العلم أو
التقوى والورع أو حتى في السلوك في حياته سلوكًا لا غبار عليه — فإن كل
ذلك لا يبدو أمرًا ضروريًّا عند «أبو يعلى».
٢٩
ويرى العلماء الأربعة الذين وضعوا الكتب السابقة أن خلع الخليفة أمر
ممكن. وهم متفقون على ذلك في الحالات التي يصاب فيها الخليفة بعيب جسدي
أو مرض عقلي يجعله عاجزًا عن أداء مهام منصبه. والواقع أن أقوالهم في
ذلك لم تكن مجرد أقوال علمية أو نظرية خالصة؛ إذ طالما اعتدى المغتصبون
للسلطة على بعض الخلفاء وسملوا أعينهم.
ويتحدث الماوردي والبغدادي وابن حزم عن ضياع هيبة الخلافة إذا كان
الخليفة فاجرًا في حياته وسلوكه أو بدَر منه ما يدل على الإلحاد أو
الخروج عن الشرع.
٣٠ ولكن «أبو يعلى» يرى على العكس من ذلك أن هاتين الحالتين
لا تمنعان الخليفة من الاستمرار في منصبه.
٣١ أما في الحالات التي يفقد فيها الخليفة حريته، فإن
الماوردي وأبو يعلى يرجعان لوجهة النظر نفسها؛ فإذا وُضِع الخليفة تحت
وصاية أحد «معاونيه» — أي أحد القواد أو الوزراء — دون أن يظهر هذا
علانية، فإن الخلافة لا تضار من ذلك. وإذا تماشت أعمال «الوصي» مع
تعاليم الدين ومقتضيات العدل، فعلى الخليفة أن يقرَّ هذه الأعمال حتى
لا يضار الشرع فتضار الجماعة. أما إذا لم يتيسر ذلك فيجب على الخليفة
أن يلتمس العون والمساعدة للتخلص من «الوصي» عليه، بهذا يكون خضوع
العباسيين للبويهيين قد تمَّ تبريره، كما ينبِّه البويهيون في الوقت
نفسه بوضوح إلى أن وصايتهم على الخلافة لا يمكن أن يُعترَف بها
اعترافًا غير مشروط، فالحبس المستمر في يد الأعداء يؤدي إلى فقد منصب
الخلافة. ويستثنى من ذلك أن يكون هؤلاء الأعداء من المسلمين الثائرين
الذين لم يعيِّنوا عليهم خليفة بعد، فالأمر في هذه الحالة مشابه للحالة
السابقة التي يكون فيها الخليفة «تحت الوصاية»، أي إن على الخليفة أن
يقرَّ بشرعية الأعمال التي يقوم بها قاهروه ولا تتعارض مع الدين.
٣٢
واللافت للنظر حقًّا هو رأي الماوردي وأبو يعلى في أن من واجب
الخليفة أن يقرَّ بالإمارة للغاصب (أي مغتصب السلطة) الذي ينجح في
السيطرة بالقوة على بلد ما، وذلك مرة أخرى للحفاظ على القانون والشرع،
ولسبب آخر كذلك، وهو حفز الغاصب على إعلان الطاعة. وإذا تصادف أن كان
الغاصب لا يصلح لتولي الإمارة، فينبغي أن يعيَّن له معاون كفء يقوم
بالممارسة الفعلية للسلطة. والغريب أن الماوردي وأبو يعلى لا يقولان
لنا كيف يمكن الحدُّ من سلطة الغاصب أو معاونه، فالواقع أن القاعدة
السَّارية هنا هي أن «الضرورات تبيح المحظورات».
٣٣
هكذا سار أهل السنة — في سبيل
حماية الجهاز الإداري والنظام الشرعي والقانوني من أي اضطراب — على
طريق يؤدي إلى التضحية بالشرعية الحقيقية للرئيس الأعلى للدولة، ثم
استمرَّ السير على هذا الطريق.
٣٤ فعندما حلَّ السلاجقة السنِّيون بعد ذلك بنصف قرن محلَّ
البويهيين الشيعيين بحيث توافرت العناصر السنية التي يمكن أن تقوم
بالوصاية على الخليفة، نجد الإمام الغزالي نفسه يعترف بأن خليفة رسول
الله (أو خليفة الله كما يصفه الغزالي أحيانًا)
٣٥ قد أصبح في حالة تبعية كاملة لقوى أرضية أو دنيوية أخرى.
ولهذا يعلن أن افتقار الخليفة (أو الإمام) للشروط المطلوبة فيه يمكن أن
يعوضه معاونون أكْفاء، وأن حرمانه من الحمية والقدرة على القتال
يعوِّضه قائد شجاع، وقلَّة خبرته بفن الحكم والسياسة يعوِّضه وزير
محنَّك، وجهله بأمور الدين يعوِّضه من يقدم له الرأي والمشورة من أهل
العلم والورع.
٣٦ وفي هذا كله يقول الغزالي في «الإحياء» (ما معناه):
«إن سلطة الحكم تعتمد الآن على القوة العسكرية وحدها، ومن يقف قائد
القوات في جانبه فهو الخليفة. ومن يملك زمام القوات في يده ويعترف، في
صلاة الجمعة وفي صك النقود، بالخليفة اعترافًا مبدئيًّا فهو سلطان
يمارس الحكم والقضاء حسب الشرع.» ولكن الغزالي يستطرد بعد ذلك قائلًا:
«إن السلطان الظالم ينبغي قبوله؛ إذا استطاع أن يستند إلى العسكر بحيث
يصعب خلعه، وإذا أدى تغيير الحكم إلى الفتنة الفظيعة، فيجب تركه في
مكانه والإقرار له بالطاعة.»
٣٧
ولما أطاحت عاصفة المغول — بعد ذلك بقرنين من الزمان — بخلفاء بغداد
وطردتهم إلى القاهرة ليعيشوا فيها حياة بائسة، وجدنا الفقيه «ابن
جماعة» يسلم مقاليد الخلافة بغير قيد ولا شرط لأصحاب القوة، ويقول في
ذلك ما معناه:
«عندما يطمع في الخلافة من لا يستحقها، ويقهر الناس بقوته وقواته،
وذلك بغير اعتراف شرعي ولا دليل على خلافته، فينبغي الاعتراف بشرعيته
ووجوب الطاعة له، وذلك للحفاظ على نظام الجماعة الإسلامية ووحدتها.
وعندما يأتي شخص آخر ويقهر الأول بقوته وقواته، فإن الأول يُخلع ويكون
الثاني هو الخليفة، وذلك على أساس ما بيَّناه من مصلحة الجماعة.»
٣٨
ويحرص ابن جماعة من الناحية النظرية على المطالبة بأن يكون من حق
الخليفة تعيين الأمير الدنيوي، ولكنه بوجه عام يعتبره مسئولًا أمام
الله مسئولية مباشرة.
٣٩
هكذا يكون الاتجاه السني الأساسي في نظرية الدولة الإسلامية قد أفرغ
تصورها القديم من مضمونه، وهل بقي هناك معنى للقول إن الخليفة يحافظ
على شريعة الله إذا كان هذا الخليفة تابعًا تبعية تامة للقوة المسيطرة؟
الواقع أنه قد أصبح من الممكن الاستغناء عنه من الناحية العملية وتكليف
القائمين على السلطة الفعلية — مع ما في ذلك من تضحية بالوحدة السياسية
للإسلام — بالمحافظة على الشريعة. ولا بد أنه قد وجد — تحت حكم المغول
— من يرى أن الأمير الكافر العادل خير من الأمير المسلم المستبد بطغيانه،
٤٠ أي إن الشريعة الإسلامية قد صارت مهددة بأن تحلَّ محلها
شريعة غير إسلامية. بيد أن المسلمين لم يتعرضوا لهذا الخطر؛ لأن المغول
دخلوا في الإسلام، كما لم يبقَ في أرجاء العالم الإسلامي حاكم واحد لم
يدخل في الإسلام. وقد بذل بعض مفكري الإسلام، بعد أن فقدت الفكرة
القديمة عن الخلافة قيمتها، ما في وسعهم للإبقاء على ارتباط الأمراء بالشريعة،
٤١ كما أن المسلمين لم يكفُّوا أبدًا من الناحية العملية عن
قياس السلطات المهيمنة عليهم بهذا المقياس، ولكن النتائج الملموسة التي
ترتبت على ذلك قد خيَّم عليها في معظم الأحيان ظل الفكرة الراسخة بأن
من الواجب إطاعة السلطة دون سؤال عن شرعيتها، كيف أمكن أن تتحول
الصراعات السياسية العنيفة في صدر الإسلام إلى هذه «التقية»؟ … من
الممكن بطبيعة الحال أن نُرجع ذلك لأسباب تاريخية. فالصراعات العنيفة
التي دارت في العصر الإسلامي المبكر بعثت في النفوس الخوف من تفكك
الجماعة الإسلامية وانتشار الفوضى والاضطراب، كما جعلت النظام والوحدة
هدفين جديرين بالسعي إلى تحقيقهما. ولم توجد في داخل الدولة المنظمة
والموحدة مؤسسات أو تنظيمات يمكن أن يلجأ إليها الناس وتكون أداة
لإرادتهم السياسية، ولما كان الإسلام منذ البداية دولة، فقد حال هذا
دون قيام تنظيم ديني، كالكنيسة المسيحية التي كانت في العصور الوسطى،
تواجه الدولة القائمة كقوة مضادة تراقبها وتعارضها في وقت واحد. أضف
إلى هذا أن الدولة الإسلامية لم توجد التنظيمات الكفيلة بتحقيق المبادئ
التي ارتكز عليها التصور القديم للدولة المثالية، فتتولى على سبيل
المثال تنظيم انتخاب الخليفة، وتعيين الأشخاص الذين يستشيرهم، أو تتولى
خلعه عند الضرورة من منصبه. وكان الجيش في البداية يمثل حلقة الوصل بين
الشعب والدولة، ثم جاء العباسيون وأقاموا جيشًا من المرتزقة الأجانب
الذين زادوا من انفصال الشعب عن الدولة. ولما كانت أغلبية الأمراء
والسلاطين قد خرجت من صفوف هذا الجيش، فقد كان لذلك أكبر الأثر على
الرعية التي فقدت بالتدريج اهتمامها بالسلطة الحاكمة. وقد تأثر
العباسيون كذلك بالتقاليد الفارسية القديمة عندما أوجدوا طبقة
بيروقراطية من الموظفين الذين سعوا إلى تحقيق مصالحهم، وعملوا على فصل
الخلافة عن الشعب بدلًا من أن يعملوا على الربط بينهما.
وينبغي علينا في هذا الموضع أن نقول كلمة عن تلك الفئة التي كُتب
عليها فيما يبدو أن تكون حلقة وصل دائمة بين الشعب والحاكم، وأعني بها
فئة «العلماء» أو علماء الدين الذين يملكون الخبرة والقدرة على تفسير
الشرع، وهو حق ثابت لكل مسلم، والذين كان لهم الفضل — باعتبارهم أهل
الحل والعقد — في أن تؤثر «النظرية» في الواقع الفعلي وتقوم بدور مهم
في الحياة العامة. وقد رأينا كيف وقفت أغلبية «أهل الورع» أو العلماء
المبكرين موقف المعارضة للدولة الأموية. ولما حاول العباسيون بعد ذلك
أن يضفوا على دولتهم طابعًا دينيًّا صريحًا، بذلوا كل جهدهم في تقريب
العلماء منهم. وقد اهتموا قبل كل شيء بتأسيس دُور للقضاء يشغل فيها
العلماء مناصب القضاة وينطقون فيها باسم الشرع، لكن هذا القضاء لم يكن
مؤسسة مستقلة تمام الاستقلال عن الخلافة، إذ كان القضاة خاضعين
لتعليمات السلطة. كذلك كان من عادة الخلفاء العباسيين أن يتدخلوا في
الخلافات والمناقشات الدينية والكلامية، ويحددوا ما يتفق مع الشرع وما
يخرج عليه، ويكافئوا الأتقياء الصالحين ويضطهدوا الزنادقة وأهل البدع.
صحيح أن هذا قد اجتذب الغالبية من فئة العلماء إلى صفوف الدولة، ولكنه
جعل منهم موظفين خاضعين وتابعين لإرادتها وأدوات لتحقيق أغراضها. ومع
ذلك كان هناك عدد كبير من «أهل الورع» الذين ابتعدوا بأنفسهم عن الدولة
ولم يقبلوا أن يكونوا أدوات لها. وعندما ضعفت الدولة وبدأت بالتدريج
تفقد قوتها وسلطتها، انصرف العلماء عن الوقوف بجانبها وأخذوا يسيرون في
طريقهم ويبحثون بأنفسهم عن رزقهم. وهكذا لم تؤدِّ «السياسة الكنسية» —
كما يصفها جولدتسيهر
٤٢ — التي انتهجها العباسيون إلى الاقتراب من المثل الأعلى
للدولة الإسلامية، بل مهَّدت لتلك الحقبة المتأخرة من العصر الوسيط
التي حاول فيها العلماء أن يحققوا هدف الإسلام ومطلبه الثابت — وهو
المحافظة على الشرع وعلى وحدة الجماعة بعيدًا عن الانخراط في السياسة.
وقد رأى «جب» أن فشل العباسيين في إقامة دولة قوية حية على أساس فكرة
الخلافة هو السبب الرئيسي في فشل التصور الإسلامي القديم عن الدولة
بوجه عام، وفي انتصار نزعة التقية بوجه خاص في الإسلام،
٤٣ مما جعل معظم العلماء وأهل الورع ينضوون تحت سقف كل سلطة،
حتى ولو كانت هي تلك التي لا تفكر أدنى تفكير في تحقيق المثل الأعلى
للدولة الإسلامية.
ومع ذلك فلم يخلُ الأمر أبدًا من علماء أتقياء وشجعان لم يترددوا عن
توجيه النقد للسلطة، ولا عن التمسك ببسالة برأيهم وعقيدتهم ولو أدى
الأمر إلى استشهادهم. وأشهر الأمثلة على ذلك هو الموقف الصامد لأحمد بن
حنبل عندما وقف في وجه «محكمة التفتيش» العباسية التي حاولت أن ترغمه
على الاعتراف بأن القرآن الكريم مخلوق وليس قديمًا. ومع ذلك فإن أحمد
بن حنبل نفسه، الذي لا ينكر أحد شجاعته في تلك «المحنة»، قد رفض أن
يعلن غضبه على الخلفاء الذين اضطهدوه أو حتى أن يمتنع عن الاعتراف بهم،
وذلك على الرغم من أنهم كانوا في رأيه على ضلال. والواقع أن السياق
التاريخي لا يكفي وحده لتفسير هذا الموقف الذي يعدُّ سابقة خطيرة أسهمت
بدور كبير في تطور النزعة إلى «التقية» في الإسلام. لذلك ينبغي علينا
الرجوع مرة أخرى إلى النظر في بعض العناصر الأساسية في الدين
الإسلامي.
وأول هذه العناصر هو عقيدة التوحيد الصارمة التي نشأ عنها النزوع
الأساسي في الإسلام إلى الوحدة والعالمية الشاملة، وهو عنصر متكامل مع
جوهر الإسلام نفسه بوصفه الدين الذي جاء معه بشريعة تنظم كل أعمال
الإنسان المؤمن وتحدد بذلك علاقته بالله.
والجماعة الواحدة ترتبط بالإله الواحد برباط نظام قانوني واحد هو
الشريعة التي يفترض في الخليفة وفي الدولة الدينية المثالية أن يحافظا
عليها. هذه الدولة — كما سبق القول — تمثل التجسيد الدنيوي للدين
الإسلامي. والواقع أنه لم يكن أمام العصر الإسلامي المبكر — على حد
تعبير جب — سوى اختيار أحد البديلين: فإما الدولة التي تحتكر السلطة،
وإما الفوضى والاضطراب.
٤٤ ومِن ثَمَّ كان أي تهديد لدولة الخلافة تهديدًا مباشرًا
للدين. وإزاء هذا الموقف رأى الكثيرون من أهل الورع أن من الضروري تحمل
كل شيء لتجنب مثل ذلك الخطر المهدد. وهذا الموقف مع موقف الأتقياء من
أهل الورع الذي ترتب عليه، قد تعاونا معًا في الحيلولة دون التوصل من
الناحية العملية إلى تقسيم السلطات والفصل بينها، كما أنهما قد حالا في
وقت لاحق دون إقامة مؤسسات أو تنظيمات مستقلة بجانب دولة الخلافة، أو
حتى الاعتراف بالتنظيمات المحلية وما شابهها من منظمات كانت قائمة
بالفعل، وكان من الممكن أن تصبح نقط انطلاق مهمة لتكوين بناء سياسي فعَّال.
٤٥
بيد أن التأثير الأعظم على الموقف السياسي للمسلم يأتي من فكرة القوة
في الإسلام.
٤٦ فالله هو القادر على كل شيء، والإنسان يسلم له أمره كله
لعلمه أن كل شيء من عنده. ولهذا لا يحتاج إلى التفرقة بين القوة
والسلطة؛ من يملك القوة يملكها بإرادة الله، ومِن ثَمَّ فهو يملك
السلطة أيضًا، والقوة هي علامة ودليل على السلطة. ربما يذكرنا هذا إلى
حد ما بفكرة السلطة عند مارتن لوثر. ولكن المسيحية تفصل بين الدنيا
والدين، أي إن المسيحي يمكنه أن يفهم بسهولة أن السلطة الدنيوية ظالمة،
وذلك على الرغم من أن السلطة — كسلطة — إنما ترجع لإرادة الله ومشيئته.
أما الإسلام فإنه يتدخل في العالم ويريد أن يتحقق فيه سياسيًّا، ولهذا
يعتبر المسلم أن الدولة والدين شيء واحد، أو ينبغي أن يكونا كذلك. وحين
لا يجد مفرًّا من اعتبار السلطة ظالمة، فلا بدَّ أن يبدو نظام العالم
في نظره شديد الاضطراب. وهكذا يدفعه هذا الموقف إلى البحث عن تبرير
لوجود السلطة لأطول مدة ممكنة.
لا شك في أن العرض السابق لموقف الإسلام «الكلاسيكي» من السلطة قد
لحقته تغييرات كثيرة على مر التاريخ، ولكنه لا يزال يحتفظ بأهميته
ومعناه بالنسبة للعالم الإسلامي المعاصر. وهو على أي حال يبيِّن لماذا
تنظر الجماهير المرتبطة بالتراث في العالم الإسلامي إلى الدولة نظرتها
إلى سلطة أبوية في بعض الأحيان، أو إلى قوة معادية في أحيان أخرى، وذلك
دون أن ترى بصيص أمل في قدرتها على تغييرها. وربما يفسِّر العرض السابق
أيضًا لماذا تخضع هذه الجماهير للدولة على الرغم من أنها لا تلبِّي
مصالحهم، ولماذا يقابلون الثورات والانقلابات بعدم اكتراث. ونرجو من
هذه الناحية أن يلقي البحث شيئًا من الضوء على تركيب الدول الحديثة في
الشرق الإسلامي، وربما يساعد أيضًا على فهم مشكلة هذا التركيب والأسباب
التي جعلته شديد التعقيد والصعوبة.