العلمانيون والإسلاميون … محاولة مصرية لتصنيفهم١
«إن المتأمل من الخارج لما يجري في بلاد المسلمين يحسن صنعًا بتجنب التعميمات السطحية المتسرعة التي تصور الإسلام في صورة العدو.»
الأصولية، التكاملية أو الشمولية، الصحوة الإسلامية، البعث أو الإحياء الإسلامي … كثيرة هي المصطلحات التي تطلق على الحركات التي ظهرت في العقود الأخيرة وأخذت تؤكد دور الإسلام وأهميته المتزايدة في التوجيه الروحي والعقلي للبشر، ولكن تعدد المصطلحات والأوصاف يوحي بقدر غير قليل من الاضطراب في التعريف، بالإضافة إلى قدر أكبر من الغموض الذي يصعب معه أن نتبيَّن حقيقة الأمر في هذه الحركات، وهل نحن بصدد ظاهرة موحدة أم نواجه في الواقع حركات مختلفة ومتفرقة. لهذا تستحق محاولة تصنيف هذه الحركات التنويه والإشادة بها، لا سيما حين تجيء بقلم كاتب إسلامي معروف، ومفكر غير نمطي ولا تقليدي.
يلاحَظ من عنوان المقال نفسه أن المؤلف يضع الإسلاميين في مقابل العلمانيين، وهو يشير في البداية إلى أن مصطلح «الإسلاميين» مصطلح قديم الاستخدام في الفكر الإسلامي، وقد ورد في عنوان الكتاب الشهير لأبي الحسن الأشعري «مقالات الإسلاميين»، وفي كتاب آخر، بالعنوان نفسه، لواحد من أئمة المعتزلة وهو أبو القاسم البلخي، وكلاهما يتحدث عن الفرق الإسلامية والجماعات التي تمثل تيار الفكر الإسلامي، ويتبنى المؤلف المعنى المحدد لهذا المصطلح الذي شاع، ويشيع، استخدامه في الأدبيات الحديثة عنوانًا على طلائع وتنظيمات ومؤسسات وعلماء ومفكري الصحوة الإسلامية، أولئك الذين يجتهدون ويجاهدون على مختلف جبهات الاجتهاد في سبيل «إعادة الصبغة الإسلامية والمعايير الإسلامية لتحكم تصورات الفكر وحركة الواقع في حياة المسلمين» (ص٩٥).
- (أ)
العلمانيون الثوريون: وهم لا يقفون عند حدود المطالبة بالفصل بين الدين والدولة، وإنما يريدون — على أساس فلسفة مادية ذات نزعة إلحادية — اقتلاع الدين والتدين من المجتمع بأسره. ومعنى هذا أن الخلاف بينهم وبين الإسلاميين هو خلاف في «الأصول» وليس في «الفروع»؛ ويترتب على هذا أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين يمكن أن تكون طرفًا في عمل مشترك حول نقاط متفق عليها في برامج تطبيقية، ولكنها غير مؤهلة على الإطلاق لأن تكون طرفًا في حوار فكري مع الإسلاميين حول معالم المشروع الحضاري الذي سبق ذكره.
- (ب)
الداعون بوعي لتبعيتنا للغرب: وهؤلاء قد يدعون إلى الاستقلال السياسي أو إلى قدر من الاستقلال الاقتصادي، لكنهم يعادون «الاستقلال الحضاري»، أي استقلال الهوية المتميزة عن هوية الغرب، بل إن الاستقلال الذي يدعون إليه هو في حقيقته استقلال «الوطن – الإقليم» عن ماضيه وتراثه ومكوناته الإسلامية ومحيطه الإسلامي، وذلك لإلحاقه بدلًا من ذلك ﺑ «المركز الحضاري الغربي». هؤلاء «عملاء» لحضارة الغرب، وهم في الأساس من غير المسلمين، ويكنُّون العداء للإسلام ولرابطة الجامعة الإسلامية.
ويذكر عمارة كمثال لهم الجنرال يعقوب الذي قاد فرقة من الأقباط في خدمة نابليون والحملة الفرنسية على مصر، وكذلك بعض المثقفين الموارنة. والمهم أن هذه الشريحة من شرائح العلمانيين غير مؤهلة أيضًا لأن تكون طرفًا في الحوار.
- (جـ) دعاة فصل الدين عن الدولة من العلمانيين الوطنيين والقوميين: وهذا الفصيل من فصائل العلمانيين هم، في جملتهم، مسلمون يتدينون بعقائد الإسلام، وهم عندما يدعون إلى الفصل بين الدولة والدين إنما يختلفون عن الإسلاميين في «الفروع» لا في «الأصول»، وهم لا يجحدون الشريعة ولا يدخلون في إطار الكافرين. إنهم ينطلقون من الاعتقاد — الذي كوَّنه لديهم الفكر الغربي — بأن نهضة الأمة لا تتم إلا على النحو العلماني الذي تمت عليه حضارة الغرب. ويفسِّر عمارة موقفهم بأن «الخيار الحضاري الغربي» بتقدمه العلمي وازدهاره الفكري والأدبي والفني هو في الواقع أكثر جاذبية وأدعى للانبهار به من الخيار الحضاري في صورته المملوكية-العثمانية، وهو الذي حسبوه الخيار الإسلامي الوحيد. ومع ذلك فهناك عدد متنامٍ من أعلام المفكرين والعلماء في هذا التيار الذين انتقد بعضهم موقف الانبهار بالغرب وعادوا إلى تبني الخيار الإسلامي مثل محمد حسين هيكل ومنصور فهمي.٦ وينبغي على الإسلاميين أن يدخلوا في حوار مع هذه الشريحة من العلمانيين الوطنيين والقوميين لا مع «العائدين» وحدهم.
- (أ)
النصوصيون: هنا يبدو أن استخدام مصطلح «الأصوليين» أمر ممكن ومشروع، لأن صاحب المقال يعرفهم بأنهم لا يرون أبعد من ظواهر النصوص وحرفيتها، كما أنهم يتعاملون مع «التراث» بالقدسية التي يتعاملون بها مع الوحي الإلهي المنزَّل والسنة النبوية الثابتة. إنهم، في رأيه، يعيشون في الماضي أكثر مما يعيشون في العصر، ويهملون نعمة العقل أو يغضون من شأنها. ولما كانوا لا يعترفون بالآخر حتى من الإسلاميين، فلا سبيل إلى حسابهم كطرف من أطراف الحوار.
- (ب)
فصيل الغلو: وهم الذين علا صوتهم بحركة الصحوة الإسلامية، ورفعوا شعارات من مثل «التكفير» و«الجاهلية» وحكموا بهما على الأمة الإسلامية أو على دولها ونظمها ومجتمعاتها. ويفسر عمارة اتجاه هذا الفصيل بأنه يمثل ردَّ الفعل المغالي والغاضب على تيار التغريب، ويرى أنه عاجز عن تقديم البديل العملي للنموذج الغربي، وعن صياغة المعالم الحقيقية لخلاص الأمة من المأزق الذي يأخذ منها بالخناق.
والواقع أن هذا الفصيل الذي لا يعترف ﺑ «الآخر» حتى من فصائل الإسلاميين، لا يصلح بسبب غلوه وغضبه، للدخول في الحوار.
- (جـ) الحركات الإسلامية الكبرى: يرى عمارة أن هذه الحركات — في أغلبها — حركات اعتدال تقترب في أغلب مواقفها من موقع «الوسطية الإسلامية» التي تمثل منهج الإسلام وحقيقته الجوهرية (مصداقًا للآية الكريمة من سورة البقرة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا الآية (٢: ١٤٣))، وهو يعترف بوجود مفكرين لامعين ومتميزين في بعض هذه الحركات، هم في طليعة علماء المسلمين المؤهلين لتمثيل الطرف الإسلامي في هذا الحوار المرجوِّ. ولكن الالتزام التنظيمي أو الحزبي لأعضاء هذه الحركات الإسلامية يمثل عائقًا دون توافر المرونة اللازمة على الأقل للمراحل الأولى في الحوار، كما أن «الثارات السياسية» — بين عدد من هذه الحركات وكثير من العلمانيين — سوف تسمِّم جو الحوار. ولهذا لا يحبِّذ مؤلف المقال — على الأقل في المراحل الأولى — أن يترك لممثلي هذه الحركات إدارة الحوار.
- (د)
فصيل الاجتهاد والتجديد لحضارة الإسلام: وهو الفصيل الذي تشهد عبارات المؤلف عنه شهادة واضحة بأنه ينتمي إليه، كما يرى أنه أكثر فصائل الصحوة الإسلامية قدرة وصلاحية ليكون الداعي والبادئ لهذا الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. وإذا كان هذا الفصيل لم يتبلور بعد، كتيار واحد أو متحد، فقد استطاع — من خلال نشر الكثير من الأعمال الجادة والمتميزة في العقود الأخيرة — أن يثبت إبداعه واجتهاده وتجديده في ميدان الفكر الإسلامي، وأن يبدأ محاولة صياغة الإسلام نموذجًا وخيارًا حضاريًّا بديلًا للنموذج الغربي.
لا شك في أن الاقتراح الذي يقدمه محمد عمارة لإقامة حوار بين الإسلاميين والعلمانيين هو اقتراح جادٌّ غاية الجدِّ وليس مجرد تمرين بلاغي أو خطابي. ومن الواضح أيضًا أنه يرسم الحدود التي ينبغي أن يتم الحوار في إطارها بحيث لا يتجاوزها فيفقد معناه. وأحد هذه الحدود — وهذا أمر غير مستغرب — يمثل موقف الفصيل أو الجماعة التي يطلق على أعضائها اسم العلمانيين الثوريين وهو اقتلاع الدين والتدين من المجتمع. وتبدو القضية أكثر إشكالية عندما يرفض الحوار مع دعاة التبعية للغرب، لأنه يضع أعضاء هذه الجماعة في صفوف غير المسلمين، بل ويسوِّي بينهم وبين أعداء الإسلام. والواقع أن تبادل الخبرات مع غير المسلمين، الذين يواجهون كذلك مشكلة العلمانية والعلمنة، يمكن أن يكون أمرًا مفيدًا على الرغم من اختلاف المنطلقات عند طرفي الحوار، أما بالنسبة للمسيحيين من أهل البلاد فإن الحدود التي يضعها يمكن أن تؤدي إلى استبعادهم من الجماعة أو إلى اختزال وجودهم وحصره في نطاق الأقلية التابعة. وربما يؤكد هذا أن هدف التصور الإسلامي عند عمارة يهدف في الأساس إلى تحقيق الاستقلال الحضاري والازدهار والنهضة ﻟ «الأمة»، وذلك دون تحديد نوعي دقيق لمعنى هذه الكلمة التي يتكرر استخدامها في المقال، أي بدون توضيح كافٍ لما يقصده منها، وهل يريد بها «الجماعة الإسلامية» أم «الأمة العربية» أم «الأمة المصرية». مهما يكن الأمر فإن عمارة لا يتحدث عن إصلاح ديني ﻟ «الأمة»، وإنما يتحدث بصراحة وبصورة متكررة عن «مشروع حضاري» يحقق استقلال الأمة وازدهارها ويضمن حماية هويتها. وهو يقول صراحة إن شروط هذه النهضة وعلومها وموادها «ليست كلها دينًا خالصًا»، وإن الإسلاميين، الذين تعدُّ علوم الشريعة هي «أغلب بضاعة أغلبيتهم»، لا يملكون وحدهم كل حقائقه (أي حقائق المشروع الحضاري الكبير) وعلومه وفنونه وخبراته ومهاراته (ص٨٢) ويترتب على هذا ألَّا يقتصر الأمر على قبول العلمانيين الوطنيين كأطراف مشاركين في الحوار، لأنهم لم يغادروا أرض الإسلام على الرغم من تصورهم الدنيوي للدولة، بل إنهم — بوصفهم علمانيين — سيشاركون في الحوار ويساهمون في العمل المشترك في المشروع الحضاري للأمة. والواقع أن هذا يبدو نوعًا من «الاجتهاد» الذي ييسِّر قيام الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين بشكل بنَّاء.
يضاف إلى ما سبق أن تقسيم المعسكر أو الجناح الإسلامي إلى فصائل وجماعات مختلفة يمكن من ناحية أخرى أن يكتسب أهمية خاصة. فالأصوليون «النصوصيون»، وكذلك المتطرفون من «فصيل الغلو»، لا يمكنهم في رأي عمارة أن يساهموا بشيء في المشروع الحضاري، لأن استنكارهم ورفضهم لأي وجهة نظر مخالفة لوجهة نظرهم تجعلهم غير جديرين ولا صالحين للدخول في الحوار. ويعني هذا ضمنًا أن جماعة الاجتهاد وتجديد حضارة الإسلام التي ينتمي إليها عمارة تعتبر أن مواقف العلمانيين الوطنيين قابلة للنقاش، وأن العمل المشترك معهم أمر نافع ومفيد. والنصيحة التي يقدمها عمارة بألا يترك للإسلاميين الملتزمين تنظيميًّا أو حزبيًّا أي دور رئيسي في الحوار مع العلمانيين (وهو اقتراح ربما يقصد به الإخوان المسلمين في مصر) تعتبر في الحقيقة نصيحة يقرُّها العقل العملي.
لا شك في أن التصنيف الذي قام به محمد عمارة للعلمانيين والإسلاميين يمكن أن يكون أكثر دقة ورهافة مما هو عليه، كما أن تطبيق معايير أخرى للتقسيم يمكن أن تكون له فائدته. ولكن يبدو من الجدير بالملاحظة أن يجد كاتب، يصف نفسه بأنه إسلامي، أن هذا التقسيم أمر ضروري. كذلك يلفت النظر أن تصوره للنزعة الإسلامية لا يضفي أهمية كبرى على فكرة تطبيق الشرع التي كثيرًا ما تبرز إلى المقدمة ويلحُّ عليها معظم الإسلاميين، بل يعلن أن هدفه الأساسي هو تأكيد المجتمع لذاته والحفاظ على هويته الحضارية.
من الطبيعي ألَّا تعبر وجهة النظر هذه عن موقف جميع الاتجاهات الإسلامية، ولكنها توضح على كل حال مدى اتساع مجال العمل أمام الحركات الإسلامية. والواقع أن المناقشات الدائرة في الوقت الحاضر بين المسلمين عن الدور المنوط بدينهم في العالم المعاصر تتم بصور أكثر دقة وعقلانية مما تتصور وسائل الإعلام وخبراؤه الذين يتعرضون للكلام عنها. وتشير الشواهد العديدة إلى أن الحركات الإسلامية تكتسب شعبية متزايدة في تلك البلاد الإسلامية التي يسودها جو ديموقراطي يسمح كثيرًا أو قليلًا بحرية التعبير. وإزاء هذه الحقيقة الواقعة فإن المتأمل من الخارج لما يجري في بلاد المسلمين يحسن صنعًا بتجنب التعميمات السطحية المتسرعة التي تصور الإسلام في صورة العدو، وتقدير الاختلافات في وجهات النظر وفي الدوافع والمصالح التي تكمن وراء الحركات الإسلامية والنظر إليها بعين الاعتبار.
B. Johansen, Muhammad Hussein Haikel: Europa und der Orient im weltbild eines agyptischen Liberalen – Beirut – Wiesbaden 1967 (Beiruter texte und studien, 5) S. 199 ff.
وراجع كذلك: د. م. ريد: جامعة القاهرة وتكوين مصر الحديثة، كمبريدج، ١٩٩٠م (مكتبة كمبريدج للشرق الأوسط، ٢٣، ص٦٥–٦٧ وما بعدها).
D.m. Reid. Cairo University and the making of modern Egypt, Cambridge 1990 (Cambridge Middle Eastern Library, 23) p. 65–67.