«الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)١
«الإيمان وحده هو الذي يضمن النجاة في نهاية المطاف.»
هناك أعداد هائلة من الكتب، والكتيبات، والدوريات التي تقدم لجمهور القراء في البلاد الإسلامية وتنتشر بكثرة في المكتبات وعلى منصَّات بيع الصحف والمجلات، وكلها تتناول موضوعات دينية بأسلوب شعبي مبسَّط.
وقد وُضع معظم هذه المطبوعات لتعريف المؤمنين بأمور دينهم، كما كُتب بعضها للدفاع عن العقيدة أو للبحث في موضوعات يمكن للقارئ غير المسلم — الذي تعوَّد أن يفصل الدين عن السياسة — أن يعتبرها من الكتب السياسية. ولكن هناك أيضًا عددًا لا يستهان به من الكتب التي تعالج موضوعات دينية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي القضايا الكبرى المتعلقة بعلاقة الإنسان بالله.
وإحدى هذه القضايا يمكن صياغتها في هذا السؤال المهم:
ما الذي يعطي الأمل، بل ربما اليقين، في أن الإنسان سيصير في النهاية لا إلى الخلود في النار، بل إلى جنة الخلد؟
إن القرآن الكريم يكرر على الدوام وعد الله بالجنة لأولئك «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ». ومعنى هذا أن إجابة السؤال السابق تعتمد على الإيمان والعمل معًا. ولكن هل الواحد منهما يعادل الآخر في أهميته؟ وما هو الإيمان على وجه التحديد؟ وما هو مبلغ اليقين في وعد الله بالجنة إذا كان لا يجوز عليه سبحانه أن يتقيد بأي وعد، لأنه جلَّ شأنه «يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء؟»
لقد بدأت المناقشات الحامية لهذه المشكلة في فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي. وتنوعت تعاليم المدارس والفرق الشرعية والكلامية المختلفة بطرق وأساليب مركبة تمخضت عن صيغ شديدة التعقيد. ونحن نشعر من كتابات المحدثين بأنهم يكرهون تلك المجادلات المدرسية القديمة ويحذرون من تكرارها. ويشارك في هذا الموقف كتاب إسلاميون ينتمون إلى معسكرات أخرى مختلفة. فها هو ذا الشيخ محمد الغزالي — الذي يتكلم باسم الإخوان المسلمين في مصر — يعلن سخطه الشديد على الخصومات المفتعلة التي تدور على هامش المجتمع لأسباب تتعلق بالطموح الشخصي أو التآمر السياسي، ويحذر المسلمين المعاصرين من الوقوع مرة أخرى في شراك هذه الخصومات والمنازعات (راجع كتابه عقيدة المسلم، ص٢٢١ وما بعدها)، وفي الوقت نفسه نجد الشيخ محمود شلتوت — شيخ الأزهر من سنة ١٩٥٨ إلى سنة ١٩٦٣م — يتناول الموضوع من الناحية المنهجية ويتخذ موقفًا وضعيًّا صارمًا حين يفسِّر ذلك بقوله إن النقاط المعرفية التي لا تصاغ بطريقة واضحة لا لبس فيها، أو التي تسمح بفهمها بطرق مختلفة بحيث يمكن أن يختلف العلماء حولها، هذه النقاط ليست من مواد الإيمان التي فرضها الدين (راجع كتابه الإسلام عقيدة وشريعة، ص٥١).
ويعدُّ المرجئة، مثلهم مثل الخوارج والمعتزلة، خارج نطاق الإسلام السني، ولذلك فلا عجب أن تُرفض آراؤهم. ولكن يوجد بين مواقفهم المتطرفة مجال واسع للآراء العديدة التي يمكن قبولها باعتبارها آراءً سنية. وقد تسنَّى لي أن أفحص عدة أقوال عن أهمية الإيمان وعدة كتب لمؤلفين معاصرين مختلفين ذكرت أسماءهم في نهاية هذا المقال. ولا أزعم بالطبع أنهم يعكسون جميع الآراء التي قال بها أهل السنة، ولكنهم يعبرون عن وجهات نظر تختلف اختلافًا ملحوظًا في أمور أخرى. لكن الأمر الجدير حقًّا بالتنويه هو أنهم يُجمعون على نقطة واحدة، وهي أن الإيمان وحده هو الذي يضمن النجاة في نهاية المطاف.
ونبدأ الأمثلة التي سنذكرها على الصفحات التالية بمتابعة تفكير الدكتور محمد نعيم ياسين، فهو مؤلف مصري يبدو أنه يتخذ موقفًا معتدلًا بوجه عام، كما أنه يعتمد اعتمادًا واضحًا على العلماء الأقدمين. وهو يقتبس في رسالته «الإيمان، أركانه – حقيقته – نواقضه» صيغة مهمة من الفقيه الحنفي أحمد بن محمد الطحاوي (من ٢٣٩ إلى ٣٢١ للهجرة، ومن ٨٥٣ إلى ٩٣٣ للميلاد) يفرق فيها تفرقة واضحة بين الموقف السني والمواقف غير السنية: «إننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة (أي الذين يدينون بدين الإسلام) بسبب إثم ارتكبه ما لم يعلن أنه أمر مسموح به، ونحن لا نذهب إلى أن المؤمن إذا ارتكب إثمًا لا يضار بسببه.» ويفسِّر المؤلف ذلك بإيراد فقرة من شرح الفقيه الشافعي يحيى بن شرف النواوي (٦٣١–٦٧٦ للهجرة/١٢٣٣–١٢٧٧ للميلاد) على صحيح مسلم يقول فيها إن كل من يموت موحِّدًا فسوف يدخل الجنة في كل الأحوال. ويصدق هذا في حالتين: (أ) كل شخص بريء من الإثم، كالصغير والمجنون وكل من تاب عن إثمه توبة نصوحًا، أو أنعم الله عليه بفضله فلم يغوه الإثم على الإطلاق، سيدخل الجنة مباشرة. (ب) كل شخص ارتكب الكبيرة ومات بغير أن يتوب عنها فهو خاضع لمشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة (مثل أعضاء الفئة أ) وإن أراد عاقبه كما يشاء، ثم أدخله الجنة بعد ذلك. وهكذا لا يخلد في النار من مات على دين الإسلام، مهما تكن الفواحش والآثام والكبائر التي ارتكبها في حياته الدنيا، ومن جهة أخرى لا يدخل الجنة من مات وهو كافر، مهما تكن الأعمال الصالحة التي قدمها (ياسين، المرجع السابق الذكر، ص١٢٣، والنواوي، المرجع السابق، الجزء الأول، ص٢١٧ وبعدها).
ونرجع إلى الدكتور ياسين فنجد أن تقديره الكبير للإيمان في مقابل الأعمال يخفف منه اعتباره للجدل القديم حول العمل بالجوارح، وهل هو جزء من الإيمان أم هو — كما قال أبو حنيفة — مجرد مقتضى ولازمة من لوازمه، أي نوع من الجدل اللفظي الذي لا نفع فيه (المرجع السابق ص٨٥)، ونجده من ناحية أخرى يذهب إلى حد اعتبار بعض الأعمال والمواقف من الأمور التي تبطل إيمان الإنسان وتجعل منه كافرًا (راجع نواقض الإيمان، ص١٠٠ وبعدها) ومع ذلك فإنه يظل حريصًا على اعتناق المبدأ القائل بأن الإيمان، لا الأعمال، هو الذي يقرر نجاة الفرد وخلاصه.
وثمة مثل آخر يقدمه الشيخ محمد الغزالي في موقفه الذي يؤكد فيه أهمية الأعمال تأكيدًا شديدًا، فهو يصف العمل في عنوان أحد فصول كتابه «عقيدة المسلم» بأنه أساس الإيمان (ص١٥٣)، وهو يهاجم الرأي القائل بأن «حسن الصلة بالله قد يجبر النقص في بقية الواجبات المفروضة، وأن مجرَّد الإيمان يغني عن أداء هذه الفرائض» (ص١٦٠ وبعدها). إن هناك في رأيه صلة وثيقة بين الخير الذي يفعله الإنسان في هذه الدنيا وبين الثواب في الآخرة، بين الشر الذي يرتكبه والعقاب الذي سيلقاه (ص٢٨٥ وبعدها)، والاعتقاد الخاطئ بأن الأعمال يمكن إهمالها، بما يتضمن قطع هذه الصلة الوثيقة بين العمل والجزاء، هو في رأي الشيخ الغزالي علَّة الأزمة التي وقع فيها الدين في أيامنا، والقوة التي اكتسبها الإلحاد (ص١٥٧، ١٦١، ٢٩٤). وعلى الرغم من القيمة العظيمة التي يضفيها الغزالي على الأعمال، فإنه يعترف بأن الإيمان لا يفترض التحرر من الإثم. فقد يرتكب المؤمن الإثم دون أن يفقد الإيمان، ولكنه إذا تفاخر بإثمه وخطيئته، واستهزأ بإهماله للفروض الواجبة عليه، فإنه يتخلى في هذه الحالة عن الإسلام (ص١٨٧ وبعدها وص١٩٢). ومن الواضح من هذا أنه يرفض مذهب الخوارج في أن مرتكب الكبيرة يبطل إيمانه (ص٢٠٧)، إن المسلمين سيساقون إلى النار بسبب أعمالهم السيئة، ولكن رحمة الله يمكن أن تنقذهم منها (ص٢٨٩ وبعدها)، ومعنى هذا كله في رأي الغزالي أن الإيمان — بعد العقاب والشفاعة، ومع التسليم بحرية الله المطلقة في قراراته — هو الذي يؤدي إلى النعيم الخالد، بينما يقود الكفر — الذي يترتب على الإصرار على ارتكاب الفواحش والآثام — إلى اللعنة الأبدية.
إذا اعتمد المؤمن الآثم في نجاته من النار على إرادة الله، فإن المشكلة القديمة عن العلاقة بين قدرة الله المطلقة ومسئولية الإنسان ستظل قائمة. وهناك إجماع تام على أن الله سبحانه يخلق أعمال الإنسان، وأن الإنسان «يكتسب» أعماله بعد ذلك (هنا تستخدم الصيغة الأشعرية القديمة) بإرادته الحرة بحيث يحاسب عليها ويصبح مسئولًا عنها. ولكن هل ثمة دلائل تهدينا إلى التنبؤ بما سوف يقرره الله جل شأنه — بقدرته وحريته اللذين لا حدَّ لهما — في مصير المؤمن الآثم؟
إن الإجابة عن هذا السؤال متفاوتة الظلال والأبعاد. فالشيخ محمد الغزالي، الذي يؤكد على الصلة التي تربط بين العمل والجزاء، يصر على أن حساب الله الأخير لن يغفل — مصداقًا للآية القرآنية الكريمة — مثقال ذرة من خير ولا مثقال ذرة من شر في أعمال الإنسان (المرجع السابق ص٩٣)، بل إنه يتحدث عن «قواعد» أو «قوانين» الجزاء (ص٢٨٨)، فهل يمكن أن يخضع سبحانه لأي قاعدة أو قانون؟ إن الغزالي يتجنب الخوض في مثل هذا التناقض الواضح، ويقرر أن رحمة الله تنقذ المؤمن الآثم، وإذا لم تكن آثامه من الكبائر، فإن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن تساعده.
ويضع عبد الرحمن حبنَّك الميداني — مدير التعليم الشرعي في وزارة الوقف السورية، في كتابه العقيدة الإسلامية المؤلف من جزأين — يضع الأمور وضعًا آخر. فهو يتحدث أيضًا عن «قوانين» أو «قواعد» أقامها الله سبحانه ويتبعها في خلقه. ولكنه — فيما يتصل بالمشكلة التي نحن بصددها — يضع قانون العدل الإلهي جنبًا إلى جنب مع قانون الفضل الإلهي (الجزء الثاني، ص٣١٠ وبعدها) ويرى الميداني أن دين الإنسان بالشكر لله على نعمه التي أسبغها عليه يبلغ من العظم حدًّا يجعله عاجزًا كل العجز عن ردِّه بما يعمله طوال حياته، بل إنه لأعجز من ذلك عن ادعاء أي حق في مطالبته بأي ثواب أو مكافأة عنها. فالله سبحانه إذا وعد الإنسان بأن يكافئه على إيمانه وأعماله الصالحة، فإنما يفعل ذلك وفقًا لقانون المثوبة الذي وضعه بفضله ورحمته. ومن جهة أخرى سيعاقب الإنسان على كفره وعصيانه وفقًا لقانون العدل الإلهي. ويقتبس الميداني الآية الكريمة: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (الأنعام: ١٦٠) ثم يقول إن الحدَّ الأعلى لهذا الجزاء مكافئ للعمل السيئ، ولكن ليس له حدٌّ أدنى لأننا ندخل هنا في دائرة فضل الله. ولما كان فضل الله بلا حد، فيمكننا القول إن المرتبة الوسطى في هذه الدائرة هي مرتبة التفضل بالعفو الكامل التي يمكن بعدها أن يسبغ بفضله وكرمه على الإنسان المزيد من آلائه ونعمه. وهكذا يمحو الفضل الإلهي ما يقتضيه العدل الإلهي (المرجع السابق، ص٣١٢).
والواقع أنني لم أجد في أي كتاب من الكتب الأخرى، التي رجعت إليها، مثل ما وجدت في كتاب الميداني من تأكيد قوي لرحمة الله وفضله. ربما يكثر غيره من الكلام عن رحمة الله وغفرانه، ولكن الفكرة التي تقول إن الله قد أسبغ على الإنسان من النعم ما لا يستحقه، وآخرها وأسماها هي النجاة من عذاب الآخرة، هذه الفكرة تتلاءم أيضًا مع أفكارهم وتصوراتهم، وهذا في الحقيقة هو معنى الفضل الإلهي.
وهنالك أيضًا إجماع تام، على الأقل بشكل عام، على وضع المؤمن والكافر والمواقف التي ينبغي أن تتخذها الجماعة الإسلامية منهما. فيجب في المقام الأول عدم التسرع بتكفير أي إنسان. صحيحٌ أن مظاهر الكفر ينبغي أن تسمَّى باسمها، ولكن الحرص والحذر الشديدين مطلوبان تجاه الشخص المقصود؛ إذ يجب ألا يعلن أنه كافر حتى تتوافر جميع المقتضيات الشرعية في الشهادة، وهي الوفاء بالشروط وغياب الموانع. وقد تكون هناك أعذار تبرر سلوك الشخص أو أسباب كافية تجعله يستحق عفو الله، ولذلك كان الزعم بأن الله سيعاقبه بالعذاب في النار خرقًا خطيرًا لقوانين العدل والرحمة الإلهية (ياسين: المرجع السابق، ص١٢٠ وبعدها).
وهناك من جهة أخرى إجماع على وجوب التفرقة بين معاملة الشخص المشتبه في كفره في هذه الدنيا ومعاملته في الآخرة، فلا يجوز بطبيعة الحال أن يدعي أحد أنه مطلع على أسرار القلوب؛ لأن هذا من حق الله وحده، ولا بد أن يُترك له سبحانه الحكم على هذا الشخص في الدار الآخرة. ولكن الأحكام التي تتعلق بهذا العالم هي شأن من شئون الناس. فإذا وجدوا، اعتمادًا على أعمال شخص معيَّن، أنه قال أو فعل شيئًا يبطل إيمانه، فيتحتم عليهم أن يطبقوا عليه قوانين الشرع ليمنعوه من ممارسة «بدعه» التي تستلزم تكفيره (ياسين، ص٨٨، ٩٨، ١٢١ وبعدها).
هذا المبدأ العام، وإن يكن مهمًّا في ذاته، إلا أنه لا يوضح طبيعة الإجراءات المرتبطة بتنفيذه، وتلك مسألة اهتمت بها التيارات المتطرفة والمعتدلة على اختلاف مواقفها من قضية التكفير. وقد ذكر ياسين — الذي تتبعنا عرضه لهذا المبدأ — مثلًا ملموسًا لتطبيقه على الشخص الذي يشتبه في ارتداده عن الدين؛ فلا بد أن يطلب منه التوبة، فإذا لم يفعل وجب قتله (المرجع السابق، ص١٢١-١٢٢) ويبدو أن هذا الكاتب يريد أن يحول دون الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة أو يجعل الوصول إليها أمرًا صعبًا، فهو يضيف إلى ما سبق أن مثل هذه الأمور لا ينبغي أن يبت فيها عامة المسلمين، بل أولئك الذين يملكون وسائل الحكم واتخاذ القرار في الدولة الإسلامية، وفي حالة الحكم بالإعدام ينبغي أن يُترك الأمر للإمام (أو رئيس الدولة) نفسه (ص١٢٢).
ويظهر كذلك الميل إلى الرفق واللين عندما يتم التوسع في حدود ما هو مقبول من المؤمن. فالدكتور محمد شامة، وهو أستاذ بجامعة الأزهر وأتمَّ دراسته في ألمانيا، يصرح بأن الإنسان لا يقع في الكفر إذا أعطى نفسه حرية تفسير دلالة القرآن، لأن النص وحده هو الذي يؤخذ به ويرجع إليه كشيء نهائي (ص٣١ من كتابه الذي جمع فيه أحاديثه في الإذاعة تحت عنوان: الإسلام كما ينبغي أن نعرفه) ويقلب الشيخ محمود شلتوت الموقف لصالح المرتدِّ حين يعلن أن الشخص الذي تخلى عن دين الإسلام لا تجري عليه أحكام المسلمين في هذه الدنيا، أي إنه لا يطالب بالعبادات ولا يحظر عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير أو التجارة فيهما، ومن ناحية أخرى لا يغسل المسلمون جثمانه حين يموت ولا يصلون عليه، كما أن قريبه المسلم لا يرثه ولا هو يرث قريبه (المرجع السابق، ص١٢) والمهم على كل حال أن هذا الرأي يتفق أيضًا على أن الإيمان لا يشمل الفرد وحده وعلاقته بربه، بل يمتدُّ كذلك إلى عضويته في جماعة المؤمنين.
وهناك ظلال اختلاف أوضح حول الموقف من غير المسلمين في مقابل المرتدين. فثمة شبه إجماع على أنهم أيضًا من الكفار. وعلى الرغم من حرصه الشديد في مسألة التكفير، فإن «ياسين» يقرر أن اليهود والنصارى قد عرفوا بأنهم كفار، وأن من الكفر إنكار ذلك (المرجع السابق، ص١٠٦)، وشروحه في هذا الموضوع مصبوغة صبغة قوية بتجارب المسلمين في العالم الحديث مع غير المسلمين.
فهو ينتقد أي موالاة لهم انتقادًا حادًّا، لأن هذه الموالاة تعني بالضرورة العداء للإسلام. وينبغي على الحكام المسلمين بوجه خاص ألَّا يستعينوا بهؤلاء الكفرة كمستشارين لهم، ولا يشجعوا الجماعة الإسلامية على تقليدهم في أمور الحياة، ولا يتبنوا قوانينهم ومناهجهم (والخوف من القوى العظمى ليس مبررًا للانصياع لهم (ص١٠٦ وبعدها)).
ويبدو بوضوح أن «محمد شامة» يفكر في أمثال هؤلاء من غير المسلمين عندما يذهب إلى أن النجاح المادي للكفار في هذه الدنيا لا يعني أن الله راضٍ عن موقفهم من العقيدة الإسلامية. ولكنه يجد نفسه مضطرًّا إلى التفرقة بين فئات مختلفة من الكفار، والاعتراف بأن بعضهم يعمل أعمالًا صالحة لخير مواطنيه وللبشرية. ولما كان الإيمان هو الأمر الحاسم في النهاية، فإن هذا لن ينجيهم من النار. ولكن النار، كالجنة، فيها مراتب ودرجات، والأخيار من الكفار سيوضعون فيها بحيث يقاسون من العذاب أقل مما يقاسيه الأشرار (المرجع السابق، ص٥٥ وبعدها).
ويبدي «حبنَّك الميداني»، الذي يبيِّن أيضًا أن الكفار ينبغي تصنيفهم حسب مواقفهم من الإيمان وحسب أعمالهم (المرجع السابق، المجلد الثاني، ص٤١٠)، يبدي قدرًا من الرفق واللين نحو اليهود والنصارى حين يؤكد أن الديانات السماوية كانت منذ البداية ديانة واحدة، بحيث يمكن أن نطلق عليها جميعًا صفة الإسلام. ومع أنه يضطر إلى التسليم بأنها قد أصبحت ديانات منفصلة بسبب التغيير والإفساد اللذين أصاباها، فإنه يتجنب وصف أصحابها بالكفار (المجلد الأول، ص٨٤ وبعدها).
ويعود الشيخ شلتوت فيذهب إلى أبعد مدى في نفوره من الحكم على أصحاب الديانات الأخرى بأنهم كفار، وفي ذلك يقول إن الشعوب النائية التي لم تبلغها عقيدة الإسلام، أو بُلِّغت إليهم بصورة سيئة منفرة، أو لم يفهموا حججها وأدلتها على الرغم من الجهود التي بذلوها في دراستها، هذه الشعوب النائية آمنة من عقاب الكفار في الآخرة، ولا يطلق عليها اسم الكفار (المرجع السابق، ص١٣).
وأخيرًا فعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة بين الاتجاهات العديدة في الفكر الإسلامي، فلا يملك القارئ إلا أن ينبهر بالقدر الكبير الذي توصلت إليه من الاتفاق على مجموعة من المسائل المهمة، ونخص بالذكر منها اليقين بأن المسلم يضمن نعمة الخلود في الجنة بفضل إيمانه. والواقع أن الأحكام التي يصدرها أحيانًا بعض المجادلين المسيحيين بأن الإسلام يؤمن بالتبرير عن طريق الأعمال، أو أن الأخلاق الإسلامية لا تمدُّ جذورها في قلب الإنسان، هي أحكام بعيدة كل البعد عن الحقيقة. وأن النتائج التي توصلت إليها هذه النخبة الكبيرة من المفكرين الإسلاميين لتتجاوب بكل تأكيد مع النزوع الديني العميق الكامن في الإسلام.
-
محمد الغزالي، عقيدة المسلم، القاهرة، ١٩٦٥م (وقد ذكره ر. ب ميتشيل في كتابه جماعة الإخوان المسلمين، لندن، ١٩٦٩م، ص٣٣٢ وظهرت طبعته الثالثة في سنة ١٩٥٢م.
R.P Mitchell, the society of the Muslim Brothers, London, 1969, P 332). -
عبد الرحمن حبنك الميداني، العقيدة الإسلامية وأسسها، في مجلدين، دمشق، ١٩٦٦م.
-
محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة، ١٩٥٩م.
-
محمد شامة، الإسلام كما ينبغي أن نعرفه، القاهرة، ١٩٨٣م.
-
محمد نعيم ياسين، الإيمان، أركانه – حقيقته – نواقضه. الإسكندرية، دون تاريخ (حوالي ١٩٨٠م).
أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على إنكاره لتلك العقائد أو لشيء منها بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادًا واستكبارًا، أو طمعًا في مال زائل أو جاه زائف أو خوفًا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفِّرة أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبًا للحق، حتى أدركه الموت أثناء نظره؛ فإنه لا يكون كافرًا يستحق الخلود في النار عند الله.
ومن هنا كانت الشعوب النائية التي لم تصل إليها عقيدة الإسلام أو وصلت إليها بصورة سيئة منفِّرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها؛ بمنجاة من العقاب الأخروي للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر.» (عن كتاب الإسلام عقيدة وشريعة للإمام الشيخ محمود شلتوت، القاهرة، دار الشروق، الطبعة السابعة عشرة، ١٩٩٧م، ص١٩-٢٠).
Gilbert Delanoue une epitre de Hasan al–Banna aux Fréres musulmans, in: cahiers, de linguistique, dorientalisme et de slavistique. 1-2 (Janvier–Juillet 1973), P. 65.
قارن كذلك محمد أركون ولوي جارديه، الإسلام أمس وغدًا، باريس، ١٩٧٨م، ص١٥٩.
Mohammed Arkoun et Louis Gardet, L. Islam hier, demain, Paris 1978, P 159.