الفصل الثامن
الذين آمنوا ولم يهاجروا … البدو كجماعة
هامشية في المجتمع الإسلامي١
(١٩٨٦م)
«حارب الإسلام النزعة القبلية لدى البدو الأعراب، وطالب
المؤمنين، على المستوى الفكري، بالخضوع لأوامر الإله
الواحد.»
شتيبات
من بين الفريقين اللذين تكونت منهما الجماعة الإسلامية في المدينة،
نجد تعريفًا واضحًا للأنصار بأنهم سكان المكان الذي وقف أهله مع الرسول
ﷺ وساندوه. أما الفريق الآخر، وهم المهاجرون، فقد كان يتألَّف
من أصحابه في الهجرة من مكة إلى المدينة. ولكن المشتركين في الهجرة
المبكرة إلى الحبشة ينبغي أيضًا أن يحسبوا من المهاجرين. وقد سُمح بعد
ذلك للمؤمنين الجدد بأن ينضموا لفريق المهاجرين، وإن لم يشترط فيهم
جميعًا القيام بالهجرة من «دار الشرك» إلى دار الإسلام؛ إذ عرف بعضهم
باسم المهاجرين مع السماح لهم بالبقاء حيث كانوا يعيشون. وهكذا نجد أن
كلمة «مهاجر» أو «مهاجري» أصبحت صفة لوضع قانوني، بعد أن كانت مجرد وصف تاريخي.
٢ وقد كان «المهاجرون من قريش» — طبقًا لدستور المدينة —
يظهرون في مجموعهم (كما أوضح مونتجومري وات) في وضع شبيه بوضع عشيرة
دخلت في حلف مع عشائر المدينة.
٣ وعلى هذا الأساس كانت الجماعة الإسلامية، أو «الأمة»،
تحالفًا بين عشائر، ولم تكن تجمعًا لأفراد.
٤ صحيح أنه كان هناك اتجاه للمضي إلى أبعد من ذلك. فمن خلال
«المؤاخاة» ألَّف النبي
ﷺ بين كل مهاجر وواحد من الأنصار. ويرى
«وات» أن هذا قد تم على الأرجح قبل غزوة بدر،
٥ ولكن يبدو أن هذه المؤاخاة كانت تنطوي على شيء أكبر من
مجرد التزام الإخوة بالوقوف معًا في القتال، فقد قام بين أولئك الإخوة
— كما يفهم من بعض الأحاديث الشريفة — نوع من «الخلافة» المتبادلة.
٦ ومع ذلك فقد أثبتت صلة الدم والرحم على المدى الطويل أنها
كانت أقوى من الروابط الجديدة في داخل الأمة، ويقال إن «الخلافة
المتبادلة» بين المهاجرين والأنصار قد أبطلها القرآن الكريم، وذلك كما
جاء في سورة النساء:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا
مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ
اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (الآية ٣٣)، أو
كما جاء في سورة الأحزاب:
وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا (الآية ٦)، وفضلًا عن ذلك فقد بقي الزواج من
بين الفريقين أمرًا «نادرًا».
٧
وإلى جانب المهاجرين والأنصار نجد فريقًا ثالثًا عرَّف بهم القرآن
الكريم ولم يجدوا الاهتمام الكافي من قدامى المؤرخين. فالقرآن الكريم
يقابل (في سورة الأنفال: الآية ٧٢) بين الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا وبين الذين آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، أي المهاجرين، والَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أي الأنصار،
وتصف الآية الكريمة كلا الفريقين (أي المهاجرين والأنصار) بأنهم أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. ثم
يخاطب عزَّ وجلَّ المهاجرين والأنصار معًا ويبلغهم أنه لا ولاية لهم
على الفريق الثالث، أي على الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا، ولكنهم إن سألوكم العون واستنصروكم في
الدين فعليكم أن تناصروهم، إلا أن يكون ذلك ضد من يكون بينكم وبينهم
حلف أو ميثاق: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (الآية).
من الواضح أن الآية الكريمة تشير إلى فريق من الناس الذين يُحسبون من
المؤمنين وإن لم يكونوا من المهاجرين ولا من الأنصار. والعلامة التي
تميِّزهم من غيرهم هي أنهم لم يهاجروا (مع النبيِّ وأصحابه رضي الله
عنهم) أو لم يقوموا بأي هجرة. وإذا نظرنا في سياق الآية الكريمة وعرفنا
أن الهجرة أصبحت تدل على وضع قانوني، فلن يكون لدينا أي شكٍّ في أن
تعريف الفريق الثالث قد أصبح له كذلك طابع قانوني. والكلمتان
الأساسيتان في الآيات الكريمة هما أولياء (جمع وليٍّ) وولاية (بفتح
الواو وكسرها) وكلاهما مشتق من وليٍّ. وتستخدم الكلمة الأخيرة بمعانٍ
مختلفة، ولكن معناها الأصلي هو «القريب أو المقرَّب». والطبري في
تفسيره يعطي للكلمة معنى النصير والمعين وابن العمِّ والنسيب (أي
القريب) والوريث، وإن كان يستبعد المعنى الأخير في حالتنا هذه،
٨ وهو المعنى الذي لا نستطيع — في تقديري — أن نستبعده إذا
تذكرنا ما سبق قوله عن «الخلافة المتبادلة» بين المهاجرين والأنصار.
وقد سبق أن نبَّه ريتشارد بيل، في ترجمته الإنجليزية للقرآن الكريم،
٩ إلى أن معنى «وليٍّ» ينصرف إلى القريب الحميم الذي يُلقى
على كاهله واجب الأخذ بالثأر، وذلك وفقًا لما جاء في «دستور المدينة»
(وليِّ المقتول)، والمهم على كل حال أن الحد الأدنى للمعنى الذي يمكننا
أن نأخذ به هو أن «ولي» و«ولاية» تفيدان الإلزام بالعون والمساعدة. وما
يجدر ذكره أن مثل هذا الإلزام للمهاجرين والأنصار نحو أفراد الفريق
الثالث لم يتم إنكاره كل الإنكار، بل لقد فرض عليهما في حالة طلب العون
أو الاستنصار في أمر من أمور الدين، اللهم إلا إذا كان المهاجرون
والأنصار مقيَّدين بحلف أو ميثاق مع أولئك الذين يستنصرون
عليهم.
ولكن من هم أولئك «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا»؟ يبدو أن
الطبري والمفسِّرين الأوائل الذين استشهد بهم في تفسيره يُجمعون على
أنهم كانوا من البدو أو الأعراب. أضف إلى هذا أن مفسري القرآن الكريم —
وذلك بقدر ما أعلم — لا يذكرون حادثة تاريخية محددة وراء نزول الوحي
بالآية الكريمة السابقة، كما أن الباحثين المحدثين من الأجانب قد
اختلفت آراؤهم إلى حد التناقض عن توقيت نزولها، فبينما يضعها «بلا شير»
١٠ و«باريت»
١١ بعد الهجرة مباشرة، نجد «نولدكه»
١٢ يجعل تاريخها بعد غزوة بدر، ويوافقه بيل
١٣ على ذلك وإن كان يرجح أن تكون عبارة
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا قد أضيفت في وقت
لاحق.
والواقع أن الآية الكريمة تتسق مع موقف حتَّم على القيادة الإسلامية
أن تشعر بنوع من التوزع بين العمل على تحقيق الهدف الديني، وهو بناء
الجماعة الجديدة على أساس من العقيدة الخالصة والتوجه السليم من ناحية،
وبين الضرورة السياسية التي تقتضي كسب أكبر عدد ممكن من الحلفاء من بين
القبائل العربية من ناحية أخرى، مع العلم بأن معظم هذه القبائل لم يكن
لديهم الاستعداد الكافي للتجاوب مع ذلك الهدف الديني أو حتى مجرد فهمه.
ولعل هذا التوزع هو الذي يفسر المحاولات العديدة لتصنيف البدو بطريقة
تبيِّن أن من الممكن، على الرغم من أن الحياة القبلية القديمة كانت
متعارضة مع روح الإسلام، إيجاد الوسائل التي تساعدهم على التكيف مع
الدين الجديد والانضمام إلى جماعته. ولا عجب أن تؤدي تلك المحاولات
لتصنيف البدو حسب مواقفهم من الإسلام إلى بعض النتائج التي لم تكن
مقنعة، بل كان بعضها يتسم بقدر غير قليل من التناقض. خذ على سبيل
المثال ذلك الحلَّ الوسط الذي كان يرى إضفاء الوضع القانوني للهجرة على
جماعات قبلية لم تقم في الواقع بأي هجرة حقيقية. وخذ كذلك الوعد بالجنة
(في سورة التوبة: الآية ١٠) لا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
فحسب، بل كذلك ﻟ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ … إلى آخر
الآية الكريمة التي يقال عنها إن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — لم
يكن يشعر بالارتياح لمد رحمة الله وفضله على
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ،
١٤ أو خذ أخيرًا الآية الكريمة
١٥ من سورة الحجرات التي تنكر على أعراب البدو إيمانهم
وتبيِّن أنهم لم يؤمنوا ولكن قالوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في
قلوبهم:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … إلى آخر الآية، في الوقت
الذي تصف فيه الآية الكريمة (٧٢ من سورة الأنفال) أولئك الأعراب الذين
لم يهاجروا بأنهم
الَّذِينَ
آمَنُوا.
ويزيد من غموض أوضاع هؤلاء «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا»
أننا لا نكاد نعرف شيئًا عن حقيقة تلك الأوضاع أثناء حياة الرسول عليه
الصلاة والسلام. ومبلغ علمي أن هذه الجماعة لم تُذكر إلا ضمن محاولة
أخرى لتصنيف أعضاء «الأمة»، وهذه المحاولة تنسب لواحد من أهم المفسرين
للقرآن الكريم، وهو ابن عباس رضي الله عنهما، ولأحد أتباعه وهو
«الضحَّاك»، وقد أثبتها الطبري في تفسيره.
١٦ وتقول هذه الرواية المنسوبة لابن عباس إن المؤمنين على عهد
الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا مقسمين إلى «منازل» ثلاث أو أربع:
المهاجرين، والأنصار، والأعراب المؤمنين أو الأعراب المسلمين الذين
آمنوا ولم يهاجروا، إلى جانب أصحاب المنزلة الرابعة الذين يتألفون —
إذا ذكروا أصلًا — من «التابعين بإحسان» (وفقًا للآية الكريمة رقم ١٠
من سورة التوبة التي سبق ذكرها). ولما لم يكن هناك ذكر لأي واقعة
تاريخية محددة عنهم، فيبدو من الممكن القول إن هذا التصنيف لا يعدو أن
يكون مجرد اجتهاد في تفسير نصوص الآيات القرآنية الكريمة.
١٧
مهما يكن الأمر فإن البدو المسلمين يظهرون مرة أخرى في وقت متأخر،
وذلك في سياق مناقشة دارت بين الفقهاء المتقدمين وتعكس فيما يبدو واقعة
تاريخية جرت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. ولعل أهم ما في هذه
المناقشة هو الحديث الشريف المنسوب إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي الذي
يذكر فيه بعض توجيهات النبيِّ عليه السلام لقواد الحملات التي أرسلها
لقتال الكفَّار، وأمرهم فيها بأن يخيِّروا أعداء الدين بين أمور ثلاثة:
- (١)
أن يدخلوا في الإسلام ويهاجروا إلى دار
المهاجرين.
- (٢)
أو أن يدخلوا في الإسلام بدون أن يهاجروا.
- (٣)
أو أن يدفعوا الجزية في حالة رفضهم الدخول في دين
الله.
فإذا اختاروا الأمر الثاني، أي الدخول في الإسلام بغير هجرة، فإنهم
«يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين
ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.»
١٨
وقد عثرت على حالة واحدة نُسب فيها الحديث السابق إلى زيد بن أرقم لا
إلى بريدة، كما وجدت حديثًا آخر به توجيهات مماثلة للرسول عليه الصلاة
والسلام وذلك برواية سلمان الفارسي.
١٩ وهناك فقرة من كتاب الخراج «لأبي يوسف»
٢٠ ترد بها تلك التوجيهات بصورة مبسطة ولا تنسب للرسول عليه
الصلاة والسلام بل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أنها ليست برواية
بريدة بل برواية ابنه سليمان الذي يذكر اسمه في بعض الروايات الكاملة
لتلك التوجيهات بعد اسم أبيه مباشرة. والرواية المنسوبة إلى عمر بن
الخطاب تعرض على الكفار الخيارات الثلاثة المذكورة نفسها في الحديث
الذي تنسب روايته لبريدة، وذلك دون ذكر للبدو. ومن المرجح أن رواية أبي
يوسف تقدم النص الأصلي، الذي نُسب فيما بعد إلى النبي عليه الصلاة
والسلام لإضفاء المصداقية عليه، كما أنها تلقي الضوء على أولئك الذين
دخلوا في الإسلام ورفضوا الهجرة حينما تقارنهم بالبدو المسلمين.
والواقع أن المناقشة الفقهية التي يثار فيها الجدل حول وضع البدو
المسلمين لا تتطرق للتوجيهات الخاصة بالجهاد، وإنما تهتم بمناقشة الحق
في الحصول على نصيب من ذلك النوع من الغنيمة الذي يطلق عليه اسم
«الفيء»، أي الموارد التي تأتي من البلاد التي فتحها المسلمون وتوزع
عليهم في صورة «عطاءات» منتظمة. وقد كان أول من نظم توزيع هذه العطاءات
هو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمر بإثبات أسماء
المستحقين لها في قوائم سُميت بالدواوين
٢١ (جمع ديوان)، ومع أن عمر بن الخطاب يُنسب إليه أنه وضع
المبدأ القائل بحق جميع المسلمين في تلك العطاءات،
٢٢ فمن السهل أيضًا القول إن ذلك المبدأ لم يدخل أبدًا حيِّز
التنفيذ. والتعبير العام عن هذه المناقشة الفقهية يمكن أن نلتمسه فيما
قيل فيها عن المعيار الذي حلَّ محلَّ الهجرة لبيان أحقية شخص في أن
يكون عضوًا كاملًا في الجماعة الإسلامية أو في «الأمة»، وذلك بعد أن
أبطل فتح مكة معيار الهجرة مصداقًا للعبارة المشهورة: لا هجرة بعد
الفتح. ومِن ثَمَّ كان من السهل على من يريد أن يكون عضوًا كاملًا في
الأمة أن يعلن أن إسلامه كافٍ لتحقيق ذلك الغرض،
٢٣ بينما طالب الجانب المقابل بتعهد أو ضمان بالمشاركة في الجهاد.
٢٤
ليس من الممكن الدخول هنا في تفصيلات هذا التطور، ولكن يمكن أن
نستنتج من الحديث الذي رواه بريدة وسبق أن تناولناه بالبحث، أن هناك
جماعة مهمة سرعان ما استُبعدت استبعادًا نهائيًّا من فئة المستحقين ﻟ
«العطاءات»، وهي جماعة البدو الذين لم يشاركوا في الجهاد. وقد وجد
الفقهاء بعد ذلك تفسيرًا متسقًا لهذا القرار؛ فيقول الماوردي الشافعي
إن المسلمين بعد فتح مكة انقسموا إلى فئتين هما المهاجرون والبدو،
وهاتان الفئتان هما «أهل الفيء» — أي أصحاب الحق في المشاركة فيه —
و«أهل الصدقة»؛ أي المستحقون لضريبة الصدقة وحدها. وهو يعرِّف أعضاء
الفئة الأولى بأنهم هم «ذوو الهجرة الذابُّون عن البيضة والمانعون عن
الحريم والمجاهدون للعدو»، بينما يوصف العضو في الجماعة الأخرى، أي
أعراب البدو، بأنه «من لا هجرة له وليس من المقاتلة عن المسلمين ولا من
حماة البيضة».
٢٥ ولا شك في أن لهذه التفرقة منطقها؛ لأن ضريبة الصدقة
تحصَّل من جميع المسلمين وتخصَّص قبل كل شيء لإنفاقها على الجماعة المحلية،
٢٦ بحيث لا يمكن أن يُحرم منها البدوي المسلم.
٢٧ أما «الفيء» فهو غنيمة حرب مخصصة للمقاتلين في سبيل الله
أو للأمة في مجموعها، وطبيعي أن تحرص الأمة من جانبها على إنفاقها على
المقاتلين.
والحق أن تعبير الماوردي متسق غاية الاتساق، وأن غيره من الفقهاء لم
يذهب إلى الحد الذي ذهب إليه. فأبو حنيفة لم يقصر إنفاق «الفيء»
و«الصدقة» على الفئتين السابقتين من المسلمين.
٢٨ أما أحمد بن حنبل فقد اعتبر أن «الفيء» ليس من حق جماعة
مخصوصة، بل هو من حق المسلمين أجمعين.
٢٩ وأما الفقيه الذي فحص المسألة فحصًا دقيقًا وشاملًا فهو
أبو عبيد (المتوفى سنة ٢٢٨ للهجرة/٨٣٨ ميلادية)، وقد أقرَّ بصحة الحديث
الشريف الذي رواه بريدة وتضمن استبعاد البدو المسلمين من غير المهاجرين
لفترة زمنية محددة من أن يكون لهم نصيب في الفيء، ولكنه وجد أن كلًّا
من الحديث والأوامر والتعاليم المرتبطة بالهجرة قد بطل العمل بهما بعد
ذلك بحيث أصبح من حق المسلمين جميعًا، بما فيهم غير المهاجرين، أن
يحصلوا على أنصبتهم من مال «الفيء». ولكن «أبو عبيد»
٣٠ قصر حق البدو في الحصول على هذا المال على الحالات الطارئة
والمفاجئة المترتبة على هجوم المشركين وعلى المجاعة والأخذ بالثأر، كما
قرر أن «أهل الحاضرة» من السكان المقيمين الذين دافعوا عن الإسلام هم
وحدهم الذين يستحقون العطاءات المنتظمة. ويبدو أخيرًا أن الإمام
الشافعي (المتوفى سنة ٢٠٤ﻫ/٨٢٠م) كان محقًّا كل الحق عندما قال: لم
يختلف أحد ممن قابلتهم على أن البدو الذين يستحقون الصدقة لا حق لهم في العطاءات.
٣١
هكذا كان من المهم لأغراض عملية، وبعيدًا عن صيغ الفقهاء وتعبيراتهم
الدقيقة، أن يُستثنَى البدو من حق الحصول على العطاءات — لا بالفعل
فحسب، بل كذلك من الناحية القانونية أو الشرعية — وذلك بحكم كونهم لم
يشتركوا مع الجيوش الإسلامية في الجهاد. وهذا يتسق تمامًا مع الموقف
التاريخي. فقد حارب الإسلام النزعة القبلية لدى البدو الأعراب، وطالب
المؤمنين، على المستوى الفكري، بالخضوع لأوامر الإله الواحد بدلًا من
السعي وراء تحقيق الحياة والذات عن طريق المشاركة في أمجاد القبيلة،
كما طالب البدو — على المستوى الاجتماعي — بترك القبيلة والانضمام إلى
الجماعة الإسلامية العالمية، وإذا كان بعض البدو قد مُنحوا الوضع
الشكلي للهجرة بغير القيام بهجرة حقيقية، فإن مثل هذه الحالات بقيت
مجرد حلول وسط استثنائية. فالواقع أن غير المهاجر قد نُظر إليه بوجه
عام بوصفه مسلمًا من الدرجة الثانية. وعندما بدأ المدُّ الإسلامي،
حلَّت المشاركة في الجهاد محلَّ الهجرة وأصبحت هي المعيار الذي يقاس
عليه إيمان المسلم الصحيح. والواقع أن هذا لم يكن شيئًا متعارضًا مع
أسلوب الحياة البدوية، فالمحاربون — الذين يفترض فيهم أن يكونوا دائمًا
على أهبة الاستعداد وتحت الطلب — كانوا ملزمين بالعيش داخل «الأمصار»
أو «مدن العسكر».
وعندما تحولت العطاءات التي كانت تمنح لكل مسلم صحيح الإسلام مع مرور
الزمن إلى أجور للجند، فقدت التفرقة الشكلية بين المسلم الصحيح والبدوي
الكثير من أهميتها، وقد تزامن ذلك التطور مع بروز ظاهرة أخرى، وهي خضوع
أعداد ضخمة من سكان الريف للحكم الإسلامي، الأمر الذي جعل فقهاء المدن
يعتبرون من وجهة نظرهم أن العلاقة بين هؤلاء الريفيين أو الفلاحين وبين
الجماعة الإسلامية شبيهة بعلاقة البدو بها. وقد لاحظ أبو عبيد على سبيل
المثال، في سياق المناقشة السابقة الذكر، أن «من سكن القرى والسواد (أي
الأرض الزراعية) والجبال» ينطبق عليهم الوضع الشرعي نفسه الذي للبدو.
٣٢ ومع ذلك فقد استمرَّ عزل البدو واعتبارهم الجماعة الهامشية
بالذات داخل المجتمع الإسلامي.