بأي فلسفة نسير؟
هي خطوات ثلاث يخطوها الإنسان — فردًا أو جماعة — ليكتمل له النضج والوعي، وقد يقف عند أولاها، أو عند ثانيتها، فلا يكون له من النضج والوعي إلا بمقدار ما خطا، أما الخطوة الأولى فهي التي يخوض فيها غمار الحياة العملية: يزرع أو يصنع أو يتاجر فيما قد زرع أو صنع، يعلم أو يتعلم، يجد أو يلهو، يخوض فيها غمار هذه الحياة العملية خوضًا موفقًا هنا مخفقًا هناك … لأنه وقع هنا على الفكرة الصائبة، وأخطأها هناك، لكنه في كلتا الحالتين لا يستطيع أن يضع إصبعه على الفكرة المنبثة في عمله، بل هو لا يعرف أن في تضاعيف عمله قد انبثت فكرة، تلك هي الخطوة الأولى التي يلتف فيها الفكر في ثنايا العمل فلا يظهر قائمًا وحده، وأما الخطوة الثانية فهي حين يعن للإنسان أن يسترجع تلك المناشط التي نشط بها في دنيا العمل، ليتأملها لعله مستخرج منها ما كان قد انطوى فيها من أفكار، لقد أقام جدران بيته عمودية حتى لا تنهار، لكنه لم يتنبه عندئذٍ إلى فكرة «الزاوية القائمة» التي تقع بين سطح الأرض والجدار، وكان قد زرع القمح في أرضه، لكنه لم يفرغ عندئذٍ ليبحث في الزرع كيف يغتذي بعناصر الأرض وكيف ينمو ويثمر، وربما كان قد مرض أثناء ذلك، بل ربما كان قد أدرك أن الذي أمرضه هو بعوضة حطت على جسده، لكنه لم يخل لنفسه يومئذ ليستخلص العلاقة بين البعوضة والمرض، وأما الآن فقد عنَّ له أن يسترجع أوجه حياته العملية ليخرج منها الأفكار التي كانت مطوية فيها، حتى إذا ما تكاثرت بين يديه وتنوعت أخذ في تصنيفها وتبويبها علومًا علومًا، فهذا علم الرياضة الذي يبحث في الخطوط والزوايا والمثلثات، وهذا هو علم النبات الذي يبحث في الزرع كيف يتغذى وينمو، وذلك هو علم الطب الذي يبحث في المرض وكيف يعالج، وبينما يكون الإنسان في هذه المرحلة التي يستخرج فيها الأفكار من ثنايا الحياة العملية ليقيمها في عالم وحدها هو عالم العلوم، أقول إنه بينما يكون الإنسان في هذه المرحلة الفكرية، ترى أقدار الناس قد تفاوتت درجات، فبعضهم يكفيه أن نصنف الأفكار علومًا، ولكن بعضهم الآخر قد تأخذه النشوة فيمضي في هذا التجريد — أعني استخراج الفكرة من العمل الذي كانت تجسدت فيه — يمضي في هذا التجريد مرحلة أخرى وراء العلوم، يتناول فيها تلك العلوم نفسها ليستخرج من مبادئها وقوانينها مبادئ أعم وقوانين أشمل، فيكون عندئذٍ في مرحلة فكرية هي التي نسميها بالفلسفة.
بهذا تنتهي الخطوة الثانية من خطواتنا الثلاث (كانت الخطوة الأولى عملًا مجسدًا أخفى في تلافيفه أفكاره، وكانت الخطوة التالية استخراجًا لتلك الأفكار لتقوم وحدها وكأنما هي شيء مستقل عن العمل الذي كانت تجسدت فيه) وتبقى خطوة ثالثة بغيرها لا تتم الدورة ولا يكتمل النضج والوعي، وهي أن نعود إلى أعمالنا الأولى نفسها — فتيارها مستمر لم ينقطع — نعود إلى زراعتنا وإلى صناعتنا، إلى علمنا وتعليمنا، إلى جدنا ولهونا، لكننا هذه المرة نعود إلى تلك الأعمال وقد عرفنا كوامن أسرارها، فلا يصبح التوفيق والإخفاق مرهونًا بالحظ الذي يواتينا حينًا ولا يواتينا حينًا آخر، بل إننا هذه المرة نُمسك بالزمام فنوجه تيار الحياة العملية إلى حيث شئنا لا إلى حيث يقذف بنا الموج.
إننا إذ نكون في الخطوة الأولى، لا نفرق بين نظرية وتطبيق، فهنالك بين أيدينا مواقف تتتابع علينا من بيئة تحيط بنا، وعلينا أن نرد عليها موقفًا موقفًا بما يلائمها، وهنالك تكوينات اجتماعية نجد أنفسنا أطرافًا في بنائها وعلينا أن نتفاعل مع بقية الأطراف تفاعلًا من شأنه أن يصون ذلك البناء، نجد أنفسنا — مثلًا — أعضاء في أسرة، وأبناء في أمة، فنجد أمامنا قواعد وضعها لنا أسلافنا لنسلك على هداها داخل تلك التكوينات لنصونها، فعلى الوالد كذا وكذا من الواجبات نحو ولده، وعلى الولد كيت وكيت من الواجبات نحو والده، والزواج يكون صحيحًا إذا اتبعت فيه القواعد الفلانية وهكذا، ومن خرج على القواعد المرعية في معاملاته مع أفراد أسرته أو أفراد أمته أو أفراد الإنسانية جمعاء، فهو معرض لعقوبات القانون إذا كان خروجه مما نص عليه القانون، ومعرض لاستهجان الناس إذا كان خروجه مما لم ينص عليه القانون، ولكنه متروك للأصول الخلقية تسيره وتتحكم فيه، وفي كل حالة من هذه الحالات «فكر» تقمص سلوكًا مجسدًا، وقد يفيدنا فائدة كبرى أن نستخلص «الفكر» من قميصه السلوكي، لنضعه وحده، فيكون لنا بذلك مبادئ القانون أو مبادئ الأخلاق، وعندئذٍ — كما أسلفنا القول — نكون قد تركنا الحياة العملية الحية المتشابكة الخيوط، تركناها مؤقتًا لندخل في دار أخرى لا فعل فيها ولا تفاعل، وهي دار لو أمعنا في تسلق درجاتها كانت بذلك منزلًا للفلسفة.
ولكم تسمع من الناس اتهامات يوجهونها إلى «الفيلسوف» لظنهم أنه قد ترك معترك الحياة العملية في تفاعلاتها ومناشطها، وفي حلوها ومرها، كأنما هذا «الفيلسوف» قد لجأ إلى عزلته لينسج ثوبًا من هواء، وكأنما هو لم يعتزل وفي جعبته خيوط الحياة الواقعة، ليحاول أن يستخلص منها هي نفسها «الفكر» المبثوث فيها؛ لأنه بغير هذا يكون محالًا عليه وعلى سواه أن ينقد الفكرة القائمة ليستبدل بها فكرة جديدة إذا رأى في الأولى نقصًا يُعاب، فالذين يحسبون «الفلسفة» بُعدًا عن الحياة العملية، إنما يقتطعون الخطوة الوسطى من بين الخطوات الثلاث التي أسلفنا ذكرها، ويبترون ما بينها وبين الواقع الذي عشناه في الخطوة الأولى والواقع الذي نريد أن نعيشه في الخطوة الثالثة — في الخطوة الأولى كان الواقع مقبولًا بغير نقد وتحليل، وفي الخطوة الثالثة سيكون الواقع واقعًا بمشيئتنا وإرادتنا وتخطيطنا وتصميمنا.
في الخطوة الثانية — خطوة التفكير المجرد الذي نصوغ به قوانين العلم ومبادئ الفلسفة — ننزع الفكرة من دنيا المكان والزمان لنجعلها مطلقة من قيودهما، ففي المكان الفعلي والزمان الفعلي أحجار تسقط ومياه تتدفق وهواء يهب، كل هذا نمارسه ونحن في مستوى الحياة العملية (الخطوة الأولى)، لكن قد يعن لواحد منا أن يعتزل حينًا لعله يصوغ قانون الحركة مهما يكن الجسم المتحرك، حجرًا كان أو ماء أو هواء، وإذا وفق فيما أراد، كان له — ولنا — بذلك «فكرة» تحررت من قيود المكان والزمان؛ لأنها تنطبق على كل مكان، وكل زمان، تنطبق على أي حجر ساقط وأي ماء دافق وأي هواء عاصف، فهل نقول لمثل هذا العالم الذي اعتزل دنيا الواقع حينًا لعله يجد لنا هذه الصياغة التي تصور الفكرة الكامنة في وقائع العالم، إنه رجل قد تركنا في واقعنا النابض الحي ليعيش وحده في عالم مجرد، أليس الأصوب أن نقول إنه تركنا ليعود إلينا، تركنا ومعه واقع بغير نظرية وسيعود إلينا بنظرية يجريها على الواقع، وما نقوله عن العالم نقوله عن الفيلسوف مع اختلاف في درجة التجريد؛ لأن الفيلسوف كالعالم يبدأ من الواقع الذي تشابكت فيه المادة بالفكرة، ثم يعتزل حينًا ليفصل الفكرة عن مادتها، والتبعة بعد ذلك تقع على من يقف عند هذا الحد من الطريق، إذ لا بُدَّ من استكمال الشوط، فنعود بالفكرة — بعد نقدها وتمحصيها — إلى الواقع مرة أخرى فنجريه على غرارها، ونحن على وعي وصحو وإدراك لما نحن فاعلون.
إنه إذا اختلف الفلاسفة — وهم يختلفون — فليس الاختلاف منصبًّا على إدراكهم للواقع كما يقع بل هو منصب على تأويله، أي أنه منصب على «الفكرة» التي استخرجوها من ذلك الواقع المشهود المحسوس: فالفيلسوف — كسائر عباد الله — ذو بصر وسمع ولمس وشم وذوق، إنه كسائر عباد الله يرى الماء الدافق في مدراه ويحس الهواء العاصف من حوله، إنه يجوع ويظمأ، إنه يعرف كيف تتكون الأسرة في مجتمعه وعلى أي أساس تقوم الحكومة، إنه يعلم كثيرًا من طرائق البيع، والشراء، ويلمح كثيرًا مما يحرك الناس في تفاعلهم بعضهم مع بعض، من حب وكراهية ورضى وسخط وسكينة وغضب، بل إن الفيلسوف كسائر عباد الله يعيش ويعاني ويفرح ويحزن، وإذا نظر فيلسوفان (من مذهبين مختلفين) إلى شيء معين من هذا كله، فسيتفقان — كما يتفق أي إنسانين آخرين — على ما يريانه، فإذا كان ما يشخصان إليه بالبصر لونًا أصفر، اتفق الاثنان معًا على أنه المرئي لون أصفر، وإذا كان ما يسمعانه صوتًا زاعقًا أو صوتًا هامسًا، فسيتفقان — كما يتفق أي إنسانين آخرين — على ما يسمعانه، لا، لا، ليس اختلاف الفلاسفة على الوقائع المرئية المسموعة المحسوسة، لكنهم إذ يختزنون هذا الواقع لينصرفوا إلى تحليله ابتغاء فصل «الفكرة» عن جسدها، فها هنا يقع الاختلاف في طريقة التحليل وفي نوعية الفكرة التي ينتهي بهم التحليل إليها — ولا تسلني قائلًا: ولماذا أفصل الفكرة عن المواقف السلوكية التي تجسدت فيها؛ لأن الجواب قد أسلفناه لك، وهو أننا نفصل الفكرة وحدها لنتمكن من نقدها، فإذا كان فيها تناقض أزلناه، وإذا كان فيها قصور أكملناه! فانظر مثلًا إلى الطريقة التي نصلح بها نظام الأسرة أو نظام المدرسة أو نظام الحكم أو نظام التجارة أو ما شئت من نظم، فماذا نصنع؟ إننا نعيش على مستوى الواقع في كل هذه الأمور، كلنا نشارك في أسرة وفي مدرسة وفي حكم وفي تجارة وفي غير ذلك من نظم المجتمع الذي نعيش فيه، وفي كل نظام من هذه النظم تتشابك الفكرة مع مادة الواقع، لكننا — آنًا بعد آن — نضع أمامنا «المبادئ» أو «الأسس» أو «الأفكار» التي تقوم عليها الأسرة أو المدرسة أو الحكومة، لنرى هياكلها كيف أقيمت، وهل يراد لها التغيير وماذا يكون ذلك التغيير، إنا ساعتئذٍ لا نضع أمامنا على منضدة البحث «أسرة» فعلية أو «حكومية» فعلية أو «مدرسة»، بل نضع «فكرة» الأسرة أو «مبدأها»، وإذن فقد كان لا بُدَّ لنا من باحث يجعل همه استخلاص الفكرة من لبوسها المادي، لنتمكن من نقدها ومن تعديلها ومن تبديلها حسب ما يحقق أهدافنا.
وأعود فأقول إن الفلاسفة إذ يختلفون في مذاهبهم، فاختلافهم ليس على الواقع كما يقع، بل هو على الفكرة التي يستخلصونها منه لينقدوها نقدًا قد يؤدي إلى وضع فكرة جديدة مكان فكرة قديمة، وإن اختلافهم ليرتد آخر الأمر إلى ما يأتي: هل الواقع يسبق فكرته؟ أو الفكرة تسبق واقعها؟ أو أن الواقع والفكرة كليهما كائن واحد ذو وجهين تنظر إليه من هذا الوجه فإذا هو ما نسميه واقعًا، وتنظر إليه من ذلك الوجه فإذا هو ما نسميه فكرة؟
فإذا تذكرنا أن الفكرة إنما تكون في رأس إنسان، وجدنا أننا لو قلنا إن الواقع يسبق فكرته، كان معنى قولنا هذا أن الواقع مستقل بوجوده، يغير نفسه بنفسه، دون أن يكون للإنسان أقل أثر في تحويره وتبديل مجراه، إذ كيف يحوره الإنسان ويبدله إذا كان قصاراه منه أن يجيء بعد وقوعه ليعلم كيف وقع، إن الإنسان عندئذٍ يتخذ من الواقع الخارجي موقف المتفرج، ولا فرق بين درجة عليا من التفكير أو درجة دنيا إلا أن الأولى فيها إدراك لما حدث أشد وأوضح مما في الثانية، لكنهما معًا متفرجان لا يغيران من الأمر شيئًا، كمتفرجين في مسرح، أحدهما ناقد نافذ البصيرة في الفن المسرحي، والآخر بريء ساذج، فسيعلم الأول — دون الثاني — أين يكمن سر القوة وسر الضعف في التمثيل، لكن لا الأول ولا الثاني بقادر على أن يغير ما قد حدث، وذلك هو نفسه الموقف حين نقول عن الواقع إنه يسبق فكرته، وبمثل هذا القول يأخذ فلاسفة المذهب الواقعي بشتى تفريعاته، ومن تفريعاته مذهب المادية الجدلية التي تجعل الإنسان بالنسبة لتيار الواقع كشاشة السينما، بالنسبة لشريط الفيلم، فهناك شريط الحوادث في الخارج يدور، سواء أكانت هناك الشاشة التي تتلقاه أم لم تكن، ووجود الشاشة لا يُغير من محتوى الشريط ولا من طريقة دورانه شيئًا؛ لأن للشريط مكنة مستقلة تقوم بدورها وتدور في حلقاتها بقوانين خاصة بها لا دخل للشاشة فيها سوى أن تتلقى وتعلم وتتابع، ومن تفريعات المذهب الواقعي كذلك مدرسة الواقعية الجديدة التي تزعمها برتراند رسل.
ذلك عن قول القائلين بأن الواقع يسبق الفكرة، وأما القائلون بأن الفكرة تسبق الواقع فهم الذين اصطلحنا على تسميتهم بالفلاسفة المثاليين (بالنسبة لبعضهم) وبالفلاسفة العقلانيين (بالنسبة لبعضهم الآخر) — والفرق بين أولئك وهؤلاء، هو أن المثاليين يجعلون الحقيقة كلها أفكارًا لا يلزم بالضرورة أن تخرج إلى حيز الواقع المجسد في أشياء ومواقف — كما هي الحال في الرياضة مثلًا — على حين أن العقلانيين وإن جعلوا الحقيقة كلها أفكارًا عقلية إلا أن هذه الأفكار عندهم تنعكس على الواقع، ويكون لها وجود خارجي مجسد هو قسيم الوجود الذهني المجرد — على أن المثاليين والعقلانيين معًا يتفقون على أن الفكرة العقلية هي الأساس وهي التي لها الأولوية على تطبيقاتها المادية، ومن شأن الفكرة — كائنة ما كانت — أن تكون مبرأة من أوجه النقص التي لا بُدَّ من حدوثها في عالم الأشياء، ففكرة الدائرة — مثلًا — كاملة، وأما الدوائر التي نرسمها في دنيا الواقع فلا مناص لها من أن تجيء على درجة بعيدة أو قريبة من ذلك الكمال الصوري؛ لأن درجة كمالها مرهونة بجهاز الرسم، فكلما دقَّ الجهاز اقتربت الدائرة المرسومة من الكمال، وكذلك قل في كل فكرة أخرى، فقد تتصور لنفسك فكرة عن رحلة تقوم بها، ثم تهم بتنفيذ الرحلة في دنيا الواقع، فإذا التنفيذ يصادفه من التفصيلات ما لم يكن في الفكرة المخططة، وهذه الفجوة بين الفكرة في كمالها من جهة، والواقع في نواحي نقصه من جهة أخرى، هي التي جعلت الفلاسفة المثاليين، والعقلانيين يتشبثون بقولهم أن لا علم ولا يقين ولا دقة إلا لعالم الأفكار دون عالم الأشياء والحوادث، وأمثال هؤلاء الفلاسفة هم الذين يصدق عليهم إلى حدٍّ كبيرٍ اتهام عامة الناس للفلاسفة عمومًا بأنهم ساكنو أبراج معزولة عن مجرى الأحداث.
ها هما — إذن — مجموعتان من الفلاسفة تقفان إحداهما من الأخرى على طرفي نقيض! الأولى تجعل مادة الواقع الخارجي بقوانينها الذاتية التي تحركها هي كل شيء، والأخرى تجعل الأفكار الذهنية في كمال تكوينها واتساق بنائها هي كل شيء، الأولى تجعل المادة هي الأصل وعنه تتفرع العقول بأفكارها كأنما هذه ظل يساير تلك، والثانية تجعل العقول وأفكارها هي الأصل وعنه تتفرع المادة كأنما هذه المادة بكل صلابتها ليست بذات وجود إلا من حيث هي فكرة في أذهاننا.
لكن إلى جانب هاتين المجموعتين مجموعة ثالثة تجعل المادة والفكر طرفين لشيء واحد كأنهما بطن اليد وظهرها، وهنا لا تكون الفكرة إلا تمهيدًا لفعل، ولا يكون الفعل إلا ذيلًا لفكرة، وهنا أيضًا تبطل الحقائق المطلقة، وتصبح كل حقيقة على درجة من الصواب بقدر تمهيدها للعمل الذي جاءت لترسم له الطريق، فليست «الفكرة» هنا صورة مرآوية ترتسم على صفحة الذهن كما ترتسم الصور في المرايا، منزوعًا منها قوة الحركة وقوة الدفع، بل «الفكرة» هنا هي عزيمة وإرادة، هي بداية تنفيذ وتحريك وتغيير.
قلنا: إنَّه مهما يكن المذهب الذي يريده الفيلسوف لنفسه، فهو لا بُدَّ أن يجعل الواقع نقطة ابتداء لمسيره، لكنه — في هذه الحالة — الواقع الفج الخام الغفل الغشيم، الواقع الذي يحياه الناس حين يكونون في المرحلة التي لا ينفصل فيها فكر عن عمل ولا عمل عن فكر، إذ يكون «الفكر» في هذه المرحلة مجسدًا في مواقف، لم يبلغ بعد أن يتجرد وحده في نظرية صورية متحررة من تفصيلات مكان الوقوع وزمانه … نعم لا بُدَّ للفيلسوف — مهما يكن مذهبه — أن يبدأ من هذه القاعدة الدنيا، ليستخلص مما يرى ما قد اندسَّ فيه من نظريات، وأفكار ومبادئ، ليضعها — وهي في صورتها المجردة — موضع النقد والتحوير والتبديل، حتى إذا ما صقل لنفسه «فكرة» وسواها، عاد بها — أو قدومها للناس ليعودوا بها — إلى عالم الواقع مرة أخرى، فأعملها في ذلك العالم وأجراها في أحشائه ليتغير وجهه على النحو المرتجى.
أبدًا لا يريد الفيلسوف أن يقف من العالم عند حد التأمل، بحيث يظل يدير الأمر في دخيلة فؤاده، ثم لا شيء بعد ذاك، إذ لو فعل ذلك لما زاد على أن يشد العالم من خارجه إلى داخله، وأن يكتفي بأن يكون هو على وعي وفي صحو ويقظة، فهو في هذه الحالة يتأثر ولا يؤثر، ويأخذ ولا يُعطي، نعم، إن ذلك قد يجعل منه هو إنسانًا أكثر تهذيبًا مما كان وأنفذ بصيرة، لكن وجوده بين الناس يساوي عدم وجوده بالنسبة إليهم؛ لأن دنياهم لن تتغير بسبب ما قد يكون في رأسه من فكرة أو مبدأ، على أن مثل هذا الفيلسوف الذي يحرص على أن تدور مكنة الفكر داخل رأسه دون أن يخرج للناس طحنها ليقبلوه أو يرفضوه، لا أعرف له وجودًا إلا فيمن أخذ دنياه مأخذ الهزل، وهؤلاء هم الصغار.
وسؤالنا الآن هو هذا: كيف يختلف وقع الفكرة الفلسفية باختلاف المذاهب، وقد لخصنا هذه المذاهب في ثلاثة: مذهب يجعل الأولوية للواقع المادي وأما الفكر فظل له وتابع، ومذهب يجعل الأولوية للفكر الذي ينبع من طبيعة العقل ذاتها، وأما عالم المادة فظل له وتابع، ومذهب ذلك يجعل الواقع والفكر في حوار، فلا فكر إلا ما له صلة بالواقع، ولا واقع إلا ما له صلة بالفكر، ولا واقع ولا فكر معًا إلا بما له صلة بالإنسان وحياته.
لو كان الفيلسوف واقعيًّا، بالمعنى الذي يجعله ينظر إلى الطبيعة ومجراها على أنها أمر مفروغ منه ولا قبل لنا بتغييره، كان في رأيه أن كل ما في وسعنا هو أن نوائم بين أنفسنا وبين الطبيعة وقوانينها، فكل حركة في جسد الإنسان نفسه هي جزء من تيار الحوادث المحتوم، لا يغير منها أن يُسر لها أو يحزن، فليسر ما شاء أو ليحزن، فذلك لن يغير من الأمر شيئًا، وإذن فالتفكير الإنساني في هذه الحالة مسألة ذاتية بحتة لا تخص إلا صاحبها؛ ولذلك يغلب على الفيلسوف الواقعي أن يكون — في فلسفته — بمعزل عن دنيا العمل والنشاط، ولماذا يتدخل — بفلسفته — في مجرى الحوادث وهو يعلم أن تيارها محتوم بقوانين الواقع، والخير كل الخير هو في أن نخلي بين العلماء وبين هذا الواقع المحتوم المطرد، ليبحثوا لنا عن قوانينه فنفيد منها ما استطعنا، وقصارى الإنسان أن يضبط نفسه ليمسك بزمامها، لأنه لن يستطيع أن يمسك بزمام القدر ومصيره.
وأما صاحبنا الفيلسوف المثالي الذي يجعل الأولوية للفكرة النابعة من جوف الدماغ لتفرض نفسها على الخارج، فأمره مختلف، لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن «الفكرة» — أي فكرة — هي بطبيعتها مبرأة من أوجه التفاوت والنقص التي نراها عادةً في الأشياء كما تقع فعلًا، «ففكرة» الحصان هي دائمًا أكمل من أي حصان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الإنسان هي دائمًا كذلك أكمل من أي إنسان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الخط المستقيم أكمل من أي خط مستقيم نرسمه في دنيا الواقع، و«فكرة» الحكومة، و«فكرة» الأسرة و«فكرة» المدينة كلها أكمل من قسائمها التي تقع فعلًا، ولا عجب في ذلك، إذ إننا في حالة «الفكرة» نحن الذين نطهو الأكلة على مزاجنا، وأما في حالة الأمر الواقع فعلينا أن نتقبل أشياء تفرض نفسها علينا دون أن تكون هي المرجوة المشتهاة — ففيلسوفنا المثالي يسوي لنفسه عالمًا فكريًّا، يراه دائمًا أكمل من أي واقع، فيعيش فيه، كأنما هو ينتظر حتى يعلو الواقع إلى حيث يعيش، وحتى إن همَّ ونزل عن عالمه الفكري ليصلح عالم الواقع ويغيره، فسيكون قياسه دائمًا إلى أفكاره المثلى ومعاييره الكاملة، فيصعب عليه أن يملأ الفجوة بين الواقع في نقصه من جهة ومعاييره في كمالها من جهة أخرى، وعندئذٍ إما أن ييأس ويلوذ مرة أخرى بعالمه الفكري، وإما أن يتعب الناس بغير طائل قريب.
لكن الزميل الثالث الذي يجعل الأمر حوارًا بين الفكر والواقع رجل عملي (ونحن نفرق بين «العملي» و«الواقعي») لا يعجبه تطرف الواقعية من جهة، ولا تطرف المثالية من جهة أخرى، فلماذا أجعل للواقع المحتوم كل هذا السلطان الذي يشل قدرة الإنسان على تغييره؟ ولماذا أجعل للأفكار المثلى كل هذه الرفعة التي تعلو بها على الواقع الناقص فلا تفيده شيئًا برفعتها وكمالها؟ فهذه هي بيئة معينة أريد أن أحيا فيها، لكنها قد توافق أهدافي في جانب، وتعارض أهدافي في جانب آخر، وأريد أن أغير الجانب المعارض بحيث يخدم تلك الأهداف، وإذن فلا بُدَّ من تفاعل معها أقبل به ما أقبله وأرفض ما أرفضه لأغير ما أغيره! إنه لا جدوى في أن أركن إلى شيء سواي أنا وبقية الزملاء في المجتمع ليغير لي ما أريد تغييره من البيئة التي نسكنها، ثم لا جدوى في أن أخط للتغيير خطة فكرية مُثلى معصومة من الخطأ ومن النقص، حتى إذا ما وجدت تطبيقها محالًا، انطويت على نفسي لأعيش في أحلامها؛ ولذلك لا جدوى في أن أفرض أن للأشياء طبائعها التي لا تتغير، بل الجدوى هي في تناول المشكلات واحدة واحدة، لأدرس تفصيلاتها، ثم أقترح لحلها فكرة تناسبها، وقد أعود إليها من جديد مرة بعد مرة، إذا كان الحل لا يأتي إلا على درجات.
إنَّ المعركة بيننا وبين الواقع دائرة الرحى، الأرض القاحلة يراد لها أن تزرع، والمادة الخامة يراد لها أن تشكل وتصاغ، والطرق يراد لها أن تمهد، والترع أن تشق والمرض أن يعالج والأمية أن تزال وغشاوة الجهل والخرافة أن تنقشع، ولن يغني إزاء هذه المعركة الدائرة الرحى أن ينعزل الفيلسوف المثالي بفكره الذي لا يتعرض للخطأ، ولا أن ينظر الفيلسوف الواقعي إلى الواقع على أن هذه هي طبائع الأشياء فيه فلا يتغير منه شيء إلا وفق قوانين الواقع المادي نفسه، فالمثاليون سادة مترفعون، والواقعيون سلبيون متفرجون، مع أننا نريد الرجل الذي ينزل معنا في المعمعة ومعه الفكرة التي تصلح سلاحًا في القتال! قد يكون السيف أصلح هنا والمدفع أصلح هناك، الطائرة النفاثة مطلوبة هنا والدبابة مطلوبة هناك … أعني أن لكل مشكلة ظروفها وطريقة علاجها المؤقتة، حتى إذا ما اتخذت وضعًا أكثر ملاءمة عدنا إليها بطريقة علاج أخرى، وهلمَّ جرًّا، ليست الحياة كمالًا ولكنَّها سير نحو الكمال، عند المثاليين مراهقة طال أمدها، واحترام الواقع عند الواقعيين قناعة وعجز.
الفلسفة العملية هي فلسفة التجربة والخطأ، هي فلسفة النقد والإصلاح، هي فلسفة النظرة النسبية إلى المواقف والمشكلات، فلكل موقف ما يناسبه ولكل مشكلة ما يعالجها، وعندئذٍ يكون هذا وذاك هو «الحق» في هذه اللحظة، وقد لا يعود هو «الحق» غدًا بالنسبة للموقف نفسه وللمشكلة نفسها، فإذا كانت المشكلة — مثلًا — هي مشكلة التعليم، واجهتها بما يناسبها الآن، فأجعل التعليم الإلزامي إلى السن الفلانية، ودخول الجامعة بالنسبة الفلانية، ثم قد يتغير الموقف غدًا فأكون أكثر تقدمًا وأغزر ثراءً، فأتناول المشكلة نفسها مرة أخرى بحلٍّ جديد.
إن «الحق» حاصل ضرب بين طرفين، هما نحن والموقف الذي نريد أن نقبله أو أن نغيره، وأي فكرة نقحمها على هذين الطرفين تفسد علينا الفاعلية والعمل، سواء أتينا بالفكرة من تراث موروث عن الأسلاف أم جئنا بها من أمم تختلف ظروفها عن ظروفنا، وهذا هو معنى قولنا إن فلسفتنا نابعة — أو يجب أن تنبع — من واقعنا، والفكرة المقحمة علينا من زمان غير زماننا، أو من مكان غير مكاننا، حتى وإن كانت أكمل من فكرتنا الطارئة علينا، فهي بمثابة الفكرة عند الفلاسفة المثاليين، يأخذونها لكمال بنائها، لا لصلاحيتها لمعالجة موقف بذاته يعترض طريقنا.
لكننا أمة ورثت فيما ورثته مجموعة من القيم العليا التي نحس في أعماقنا أنها قيم ثابتة ودائمة ومطلقة من قيود المكان والزمان، فنقول عنها إنها قيم تصلح للإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن مكانه وزمانه ومواقفه ومشكلاته، فهل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة، المطلقة من جهة، وقولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا والمشكلة التي نُعالجها، فما قد يكون معيارًا صالحًا اليوم قد لا يصبح معيارًا صالحًا غدًا؟
أحسب أن لا تناقض، وهذه نقطة تريد التوضيح، إن الإنسان في رحلة الحياة شبيه به في أي رحلة صغيرة يرتحلها، فافرض أن رحلتك هي أن تعبر الصحراء حتى تصل إلى نقطة معينة على شاطئ البحر الأحمر، فالهدف الأخير ثابت أمامك لا يتغير، ولكن أهدافًا جزئية فرعية ستنشأ خلال الطريق، فهذه حفرة عميقة أمامك، تريد اجتنابها، فعندئذٍ تحصر تفكيرك في طريقة اجتنابها قبل أن تستأنف السير، وهنا تكون هذه المشكلة الجزئية هي وحدها التي تتحكم في منهج التفكير، ويكون معيار صلاحية الفكرة هو نفعها في تجنيبك ما تريد اجتنابه، وكلما زاد نفع الفكرة زاد نصيبها من الحق، لكن سواء كانت معالجتك لهذه المشكلة الطارئة سليمة أو معيبة، فهل يؤثر ذلك في هدفك الأخير؟ كلا، فذلك هدف ثابت تضعه نصب عينيك كالبوصلة التي ترسم لك وجهة السير، دون أن تتدخل في طرائق معالجتك لمشكلاتك الصغرى أثناء الطريق … وهذا ما يعمله قبطان السفينة وما يصنعه قائد الطائرة، وهو ما يصنعه قائد الجيش في المعركة حين يفرق بين «الإستراتيجية» و«التكتيك»، فالأولى هي خطة القتال، والثانية هي معالجات المواقف الجزئية التي تنشأ أثناء تنفيذ تلك الخطة.
هكذا الأمر بالنسبة إلى قيمنا الخالدة الثابتة من جهة، وقيمنا النسبية المتغيرة من جهة أخرى، الأولى هي بوصلة السير، والثانية هي المعالجات الضرورية للمشكلات الطارئة.
ولو أننا فرقنا هذه التفرقة، فربما وجدنا أننا بحاجة إلى النظرات الفلسفية الثلاث في آن معًا، ولكن لكل نظرة منها مرحلة ومهمة غير مرحلة النظرتين الأخريين ومهمتيهما: فلكي نسير في تغييرنا للمجتمع على هدًى وبصيرةٍ ووعي، لا بُدَّ لنا أولًا من مرحلة واقعية نرصد بها ملامح الواقع كما هي، دون أن نشوه الصورة بأوهام أو أحلام أو خيال، شريطة ألا نقع في غلطة الفلاسفة الواقعيين حين يظنون أن للواقع طبيعته المحتومة، ويتلو هذه المرحلة مرحلة ثانية نتأمل فيها الأفكار والمبادئ — على نحو شبيه بما يفعله الفلاسفة المثاليون — تلك الأفكار والمبادئ التي توجهنا في طريق السير نحو تغيير الواقع الذي رصدنا ملامحه ولم نرضَ عنها ونريد تغييرها، شريطة ألا نقع في غلطة المثاليين حين يظنون أن تلك الأفكار والمبادئ مبتورة الصلة بعالم الواقع، وفي هذه المرحلة التأملية أيضًا تجيء مهمة القيم الثابتة الخالدة التي ورثناها ونريد الحفاظ عليها، إذ هي التي تشير إلى اتجاه السير، دون أن يكون لها شأن بالمشكلات الفرعية التي نلقاها في الطريق، وثالثا وأخيرًا تجيء المرحلة العملية التي نحصر فيها انتباهنا في كل مشكلة فرعية على حدة، نبحث لها عن علاج مرهون بظروفها، دون أن نغير في اتجاه سيرنا الذي رسمته لنا بوصلة القيم الموروثة في ثباتها وتجريدها وإطلاقها.
فلو سألتني بعد ذلك كله: أي مذهب فلسفي تختار؟ أجبتك سائلًا بدوري: في أي مرحلة من مراحل السير؟ فأنا واقعي في مرحلة رصد المشكلات، ومثالي في مرحلة تحديد اتجاه السير، وعملي تجريبي في مرحلة معالجة المشكلات.