روح العصر من فلسفة
ليس الحديث عن خصائص العصر وسماته البارزة من الهينات التي يسهل فيها أن تقول القول فيصادف عند الناس قبولًا خالصًا؛ ذلك لأن نسيج الحياة كثير الخيوط، فيها المتشابه وفيها المتباين، بحيث لا تكاد تصف العصر بسمة عامة حتى تصادفك شواهد نقيضها، فقرب المسافة بيننا وبين معالم عصرنا يحول دون الرؤية الواضحة من جهة، ويميل بنا نحو النظرة غير المنزهة عن أهوائنا من جهة أخرى، هذا على فرض أن الناس ما داموا يعيشون في فترة زمنية واحدة فهم ينتمون جميعًا إلى عصرٍ حضاريٍّ واحد تتجانس فيه الخصائص والسمات، مع أنه فرض بعيد عن الصواب.
وإذن فلا مناص للكاتب وهو يصف روح العصر من نظرة ذاتية، قد يختلف عنه فيه كاتب آخر ينظر بمنظار آخر، وعندئذٍ لا يعني تعدد وجهات النظر إلا أن الحق متعدد الجوانب، تنظر إليه من هنا فإذا العصر يسوده العلم بنظرته الموضوعية، وتنظر إليه من هناك فإذا العصر يسوده «العبث» و«اللامعقول»، أهو — يا ترى — عصر القوميات المستقلة، أم هو عصر التكتلات والأحلاف، وعصر المؤتمرات الدولية وعصر جمعية تضم «أممًا متحدة»؟ هل يغلب على عصرنا — كما يبدو في نتاج الفكر والفن — رغبة في أن تكون الأولوية للجماعة على الفرد، أو تغلب عليه الرغبة في أن تكون الجماعة وسيلة لسعادة الفرد وتحقيق ذاته؟ بل أنت لا تدري إذا كان الناس اليوم في اهتماماتهم الفكرية أكثر انشغالًا بتراث ماضيهم أم بإرسال البصر إلى بناء مستقبلهم؟
إنك إذا جعلت رائدك في الحكم هو ما تنشره المطابع وما يعرضه أصحاب الفنون، وما يتحدث به الناس في الندوات وحلقات الدرس، ألفيت عصرنا يضم كل صنوف البشر: ففي الأدب سلفي وثائر، وراض وساخط، وفي الفلسفة تعد ألوان المذاهب بأكثر من أصابع اليدين مجتمعتين: برجماتية، وواقعية، ووضعية، ووجودية، وظاهراتية، وكانتية جديدة، ومادية جدلية، ومثالية، وطبيعية، وشخصانية، وحدسية … فضلًا عما ينشعب تحت هذه الرءوس من فروع.
لكننا — بعد هذا التمهيد — نحاول إبراز العناصر التي قد يصل فيها اختلاف الرأي إلى حده الأدنى فأحسب أن لا اختلاف بين أصحاب الفكر المعاصر — إلا اختلافًا جد يسير — على أن عصرنا قد ساده العلم التطبيقي سيادة لم يسبق لها نظير، تمكن بها من التغلغل إلى كلِّ ركن من أركان حياتنا اليومية، فهو ماثل في وسائل النقل والانتقال، وفي الصناعة والزراعة وفي نشر الثقافة والفنون، وفي ميادين العمل وساعات الفراغ.
فلقد تجد لكلِّ عصر اهتماماته العلمية على اختلاف أنواع العلوم التي تشغل الناس في كل عصر على حدة، لكنك لن تجد عصرًا فيه «التطبيق» العلمي على شئون الحياة المادية والفكرية معًا، يدنو من عصرنا، حتى ليجوز القول بأن الحياة العملية قد تأثرت بالعلم في المائة السنة الأخيرة أضعاف ما قد تأثرت به خلال ستين قرنًا مضت قبل ذلك.
الحق أنَّنا نقول ما يشبه اللغو لو مضينا نتحدث عن آثار العلم التطبيقي في حياتنا الراهنة، فلننظر — إذن — فيما قد تأثرت به الفلسفة المعاصرة.
والفكر الفلسفي في كل عصر هو الذي يبرز الجذور العميقة الدفينة في الجو الثقافي السائد، إذ ماذا تكون الفاعلية الفلسفية إذا لم تكن محاولة استخراج المبادئ المتضمنة في أوجه النشاط السلوكي الظاهر؟
وكلما تبدل لون النشاط كان ذلك دليلًا على أن المبادئ المتضمنة قد تغيرت، لكنها تكون مبثوثة مندسة في سلوك الناس، حتى إذا ما جاء المفكر الذي يحلل هذا السلوك تحليلًا يغوص به وراء السطح الظاهر البادي إلى حيث الجذور، كان هذا المفكر هو فيلسوف العصر، وقد تتعدد — بل لا بُدَّ أن تتعدد — أوجه النشاط الظاهر، فعندئذٍ تتعدد المبادئ الأولى التي يكشف عنها التحليل، ومِن ثم تتعدد الاتجاهات الفلسفية في العصر الواحد، وإن يكن يجوز لهذه الاتجاهات المتعددة بدورها أن ترتد إلى أرومة واحدة تتكشف فيها روح العصر كله.
ففي عصرنا هذا يسود علم، ولكن فيه أيضًا أصوات تنبعث من هنا وهناك متمردة تعلن عصيانها، وتود لو تخفف الناس في حياتهم من آثار العلم هذه التي يخشى أن تطمس فردية الإنسان، وإذا كان هذا هكذا، فلا بُدَّ أن تتوقع قيام أكثر من مبدأ واحد في أغوار النفوس، وبالتالي قيام أكثر من اتجاه فلسفي واحد، فاتجاه تصل فاعليته إلى الكشف عن المبدأ الأول للنشاط العلمي، واتجاه آخر تصل فيه الفاعلية إلى الكشف عن مبدأ آخر يصدر عنه الإنسان المعاصر في تمرده وعصيانه لينجو بشخصيته من الطوفان.
فماذا تكون الفلسفة التي تصب اهتمامها على النشاط العلمي لترده إلى جذوره الأولى؟ إنها هي الفلسفة — بفروعها الكثيرة — التي اتخذت من «المعرفة العلمية» موضوعًا لدراستها، بمعنى أنها هي الفلسفة التي تحاول أن ترد هذه «المعرفة» إلى أصولها ومقوماتها، وأهم الاتجاهات المعاصرة في هذا السبيل: الواقعية الجديدة، والبراجماتية، والوضعية المنطقية، وكلها متفق على ضرورة أن تكون الصلة وثيقة بين «الفكرة» من جهة وتطبيقها على أرض الواقع من جهة أخرى، كأنما الفكرة وهي في رأس صاحبها، وتطبيقها الفعلي أو الممكن على الدنيا الخارجية بأشيائها ووقائعها، طرفا عصا لا يتصور فيهما قيام أحد الطرفين دون الآخر.
أما المذهب الواقعي فقد اشتدت موجته على الفكر المعاصر، حتى لتوشك أن تكون لفظتا «واقعي» و«معاصر» مترادفتين في عالم الفكر، وإنما استمد هذا المذهب قوته من معارضته للفلسفة المثالية، معارضة مؤسسة على مقتضيات التفكير العلمي، ومحور التضاد بين الواقعية والمثالية هو: ما مصدر العلم وأين نلتمس شواهد صدقه؟ وعن هذا السؤال تجيب الواقعية بأن مصدره وقائع العالم وحوادثه، وشاهد صدقه هو صلته بتلك الوقائع والحوادث، على حين أن جواب المثاليين في الفلسفة يختلف، إذ يقولون في ذلك: إنَّ مصدر العلم هو مبادئ فطرت في العقل الإنساني، وشاهد صدقه هو ما ينبثق من تلك المبادئ، بحيث تجيء النتائج المنبثقة متسقة من الوجهة الرياضية مع مقدماتها.
فالواقعية تعلي من شأن الحواس والتجارب، في معارضة المثالية التي كانت تنطوي في دخيلة الذات تستمد من فطرتها كل ما أرادت من معرفة.
وكذلك البراجماتية جاءت معبرة عن نزوع عصرنا نحو العمل والتطبيق، إذ جعلت ما يترتب على أي فكرة من آثار عملية هو نفسه المعنى الذي يكسب الفكرة قيمتها، فليست من الفكر في شيء فكرة ترتسم في الذهن ولا يكون أمام صاحبها سبيل إلى تنفيذها، لا لقيام العوائق المادية التي تحول دون ذلك التنفيذ، بل لشيء في طبيعة الفكرة المزعومة نفسها، يجعلها مقصورة على الذهن لا تخرج منه إلى ضوء الواقع في صورة عمل يؤدَّى.
فقل لي ما مدى انتفاع «الإنسان» انتفاعًا عمليًّا في حياته، بفكرة عندك تعرضها، أقل لك ما مدى قيمتها من حيث هي فكرة بالمعنى الصحيح — على أن كلمة «الإنسان» هنا يراد بها المجتمع، ولا يراد بها كل فرد على حدة.
ومع الواقعية والبراجماتية تسير الوضعية المنطقية في نفس الطريق، إذ تلتقي معهما في وجوب الربط الوثيق بين الفكر من جهة والتجربة العملية من جهة أخرى، مع طابع خاص يميزها، هو تفرقتها بين العلم الطبيعي والعلم الرياضي، تفرقة تجعل العلم الطبيعي وحده — دون العلم الرياضي — مستندًا إلى شواهد التجربة.
وبهذا يكون العلم إما علمًا طبيعيًّا قائمًا على التجربة، وإما علمًا رياضيًّا، صدقه في طريقة بنائه، وأما ما لا يكون من هذا ولا من ذاك فلك أن تسميه بما شئت من أسماء، لكنه ليس «علمًا».
هذه اتجاهات رئيسية ثلاثة في الفلسفة المعاصرة تستطيع أن تبلورها معًا في وجهة نظر مشتركة تقول عنها إنها تمثل روح العصر من أحد جوانبه وهي وجهة النظر التي تربط الفكر بالعمل، تصل الإنسان بالواقع، توحد بين العقل والإرادة، فلم تعد القيمة للقابع في صومعته «يتأمل»، بل عادت القيمة كل القيمة لمن يتبع الفكر بالتنفيذ؛ ولذلك تراها هي وجهة النظر المسيطرة اليوم على ميادين النشاط في السياسة والتربية والاقتصاد والاجتماع.
ففي السياسة — وخصوصًا في البلاد الناهضة التي همت بتغيير أوضاع الحياة فيها بأسرع ما تستطيع — ترى هذه «العلمية»، وهذه «الواقعية» وهذه «الإرادة» ماثلة في وضوح، فالحرية التي تنشدها هذه البلاد، يراد لها أن تكون حرية خلاقة لبناء مجتمع جديد، ولا يراد لها أن تظل أغنية يتغنى بها الناس ومعاشهم باقٍ على حاله.
وحسبنا في هذا الصدد مثالٌ نسوقه من الميثاق الوطني، وذلك حين أكد أن النصر في معركة السويس كان معناه الحقيقي استخلاص الشعب لإرادته، يصطنع بها الحرية، أي أن «الحرية» شيء «يصنع» لا شيء «يقال» والإرادة — لا مجرد التأمل — هي أداة ذلك الصنع …
وفي التربية كذلك تسود هذه النزعة نفسها التي تربط بين الفكر والعمل، وإذا قلنا: «التربية.» فقد قلنا: «الجيل القادم.»، فلم يَعُد أساسه الاهتمام بالمادة العلمية من حيث هي، بل أصبح الأساس هو أن يتحول العلم المدروس إلى فعل ينصب على مشكلات المجتمع، فأولًا: لا بُدَّ من نقل مركز الاهتمام إلى الفرد الإنساني نفسه الذي يتعلم ويتربى، بعد أن كان الاهتمام بالمادة العلمية التي تلقن، وذلك بأن تهيأ الفرصة لإمكانات كل فرد من الناس أن تنمو وفق طبيعتها وحدودها ليجيء في نهاية الأمر أصلح ما يكون استعدادًا للقيام في المجتمع بما يلائم طبيعته من عمل، وثانيًا: لا بُدَّ من ربط الصلة القوية في كلِّ ما يتعلمه المتعلم بين الدرس والنظري والعمل التطبيقي، وما ليس له مجال في دنيا التطبيق على مشكلات الحياة الواقعة، لا يكون له مجال في برنامج الدرس النظري.
وفي هذا يقول ميثاقنا الوطني عن هدفنا من التعليم إنه قد أصبح في ظل الثورة «تمكين الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة» …
وتلك هي روح العصر من إحدى نواحيها.
وناحية أخرى شديدة الصلة بالأولى، وإن تكن تنقل بؤرة النظر من «المعرفة العلمية» وتحليلها إلى «المجتمع البشري» وماذا تكون طريقة بنائه؟ وها هنا كذلك نجد للمسألة جذورًا في أعماق النفس عند أبناء هذا العصر، تحتاج إلى فكر فلسفي يخرجها من مكمنها الخبيء إلى ضوء العلن — وتلك هي فلسفة المادية الجدلية، وهي التي قد تُسمى ﺑ «المادية التاريخية» أحيانًا، وﺑ «الماركسيَّة» أحيانًا أخرى، لهذه النظرة الفلسفية جوانب متعددة، تتكامل كلها في نسق فكري واحد، ومن أهم هذه الجوانب فكرة «المادية التاريخية» التي مؤداها أن الإنسان لا بُدَّ له أولًا من غذاء وكساء ومأوى قبل أن يتاح له المشاركة في الحياة العقلية والروحية من سياسة وعلم وديانة وفن …
ومن هنا كان النظام الذي يسود إحدى الجماعات في طريقة إنتاجها للسلع وتوزيعها وتبادلها، وما يترتب عليه من نظام اجتماعي، ذا تأثير حاسم محتوم في تشكيل أوجه النشاط السياسية والاجتماعية والثقافية، فإذا أردت أن تلتمس الدافع الأساسي إلى تحول المجتمع وتطوره، فلا تلتمسه فيما قد تجمع لديه من معرفة، بل التمسه فيما قد وقع لهذا المجتمع من تغير في طرق إنتاج السلع وتوزيعها، فإذا كان المجتمع — كائنة ما كانت صورته — هو كيان عضوي متكامل الأجزاء في بناءٍ واحد، فإن الرباط الذي يخلع عليه وحدته تلك هو نظامه الاقتصادي، ولئن كان لكل عصر مجموعة أفكاره الرئيسية التي تسيره، فإن تلك الأفكار هي دائمًا أفكار الطبقة التي تكون لها السيادة عندئذ، وهي أفكار تتلون بالضرورة بما يتفق ومصالح تلك الطبقة المسيطرة من حيث طرق إنتاج السلع وتوزيعها، وإذن فمحال على التاريخ أن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا إذا حدث تحول في تلك الطرق وحدث بالتالي تحول في الأفكار التي توحي بها الأوضاع الجديدة …
فأمر التاريخ في سيره وفي تطوره مرهون بتغير مجموعة الأفكار الرئيسية، وهذه بدورها مرهونة في تغيرها بتغير العلاقات الاقتصادية في إنتاج السلع واستهلاكها، ومن ثم جاءت عبارة «المادية التاريخية» اسمًا للمذهب الذي نشير إليه، وأما تسميته ﺑ «المادية الجدلية» فتجيء من النظر — لا إلى الجانب التاريخي — بل إلى الجانب الوجودي «الأنطولوجي» من حقيقة العالم، فحقيقة العالم «مادة» لا «روح»، فالمادة هي الأصل، وما عداها يشتق منها، لكنها ليست هي المادة الجامدة الموات، ذات الخصائص السكونيَّة السلبية، بل هي المادة التي ما تنفك دائبة التغير مرحلة في إثر مرحلة، وكأنما هذه المراحل المتعاقبة «مجدول» بعضها في بعض في تيارٍ واحدٍ متصل؛ ولذلك كانت حقيقة العالم «مادية» و«جدلية»: مادية في طبيعتها جدلية في تشابك خيوطها وعناصرها، فقد كانت تستطيع تلك الحقيقة الكونية أن تكون مادية وساكنة، لا مادية ومتطورة، حتى إذا ما رمزنا لها برمز «س» مثلًا، ظلت س إلى الأبد هي س فلا تغير ولا زيادة ولا نقصان، لكنها مادية ومتطورة، بحيث تتحول «س» لتصبح «لا-س» أي لتصبح شيئًا غيرها، ولنا الآن أن نسأل: هل يجري هذا التحول ذو الخطوات «المجدول» بعضها في بعض وفق قوانين، وماذا تكون؟
يقول أصحاب هذا المذهب إن قوانين ثلاثة تضبط سير المادة في تطورها الجدلي: أولها قانون تحول الكم إلى كيف، وثانيها قانون صراع الأضداد ووحدتها، وثالثها قانون نفي النفي.
أما تحول الكم إلى كيف فمقتضاه أن التغيرات الكمية بالنسبة لصفة معينة ينتج عنها نشوء صفة جديدة يستحيل ردها إلى الصفة الأصلية التي عنها نشأت …
فالكائن البشري يزداد نموًّا من حيث الكم، فيصبح عند مرحلة معينة من الزيادة رجلًا بعد أن كان طفلًا، بحيث يستحيل أن يرتد الكائن الجديد الذي نشأ من تتابع الزيادة في النمو إلى الكائن الأصلي الذي كان، وبذرة الشجرة تتحول إلى شجرة، والواحد يزداد بالإضافة الكمية فيصبح اثنين، بحيث تتغير خصائص العدد الجديد عن أن تكون مجرد مضاعفة لخصائص العدد الأول، وإلا لقلنا عن صفة «الزوجي» التي تصف العدد، إنها هي صفة «الفردي» مكررة مرتين، واختصارًا فإن كل زيادة في صفة ما من شأنها — عند حد معين — أن تجاوز كونها مجرد زيادة كمية، لتصبح تغيرًا في الكيفية ذاتها — أي تصبح صفة أخرى متميزة في خصائصها من الصفة الأولى.
أما قانون صراع الأضداد ووحدتها فمؤداه أن كلَّ شيءٍ مركب في حقيقته من عناصر يضاد بعضها بعضًا، ومن ثم فهو دائمًا في حالة من التوتر تميل به نحو التغير والتحول …
لأنَّ الشيء المعين إذا ما كان مؤلفًا من عنصر واحد متجانس لما كان في بنيته الداخلية ما يدعوه إلى التغير، فنحن نخطئ فهم «الواحدية» في الشيء الواحد، إذا ظننا أنها التجانس الذي يخلو من التناقض، وإذا رمزنا إلى شيء ما برمز، فلا ينبغي أن نقول إنه «س» وكفى بل نقول إنه «س» و«لا-س» في وقت واحد، ومن هذا التدافع الداخلي بين النقيضين تنشأ الحركة، ومن ثم ينشأ التغير، على أن تفهم الحركة أو التغير بأنها منبثقة من طبيعة الشيء نفسه، وليست هي بالمفروضة عليه من خارجه، لقد كان يقال إن الأصل في الشيء أن يظل ساكنًا حتى يحركه محرك، فأصبح يقال إن الأصل في الشيء أن يظل متحركًا حتى يرغمه عامل خارج طبيعته على الوقوف والسكون … يصدق هذا على كلِّ شيء، وعلى كل فكرة، وعلى كل نظام اجتماعي على حد سواء.
فإذا كان صراع الأضداد داخل الشيء الواحد أو الحالة الواحدة يولد الحركة والتغير، ثم إذا كان المضي في هذا التغير إلى حد معين يحتم أن يصبح الشيء شيئًا سواه — لا من حيث الدرجة وحدها بل من حيث النوع أيضًا — فإن ذلك إن ضمن لنا سير التاريخ وتغير مراحله، فلا يضمن لنا أن يجيء التغير إلى أرقى وأفضل وأعلى وأكمل.
وهنا يأتي القانون الثالث: قانون نفي النفي، الذي يقضي بأن ينتهي النقيضان المتصارعان إلى وحدة يذوب فيها التناقض، وبزوال التناقض يصبح الوليد الجديد «أعلى» درجة من سابقيه؛ لأن فيه ما كان فيهما، ثم أضاف إليه تآلفًا بعد تعارض …
لكن هذا الوليد المتآلف بدوره سرعان ما تنشأ فيه الأضداد وهلمَّ جرًّا، وهكذا ترى العالم يسير في مراحل مثلثة الخطوات، فحالة مثبتة ذات خصائص معينة، تتلوها حالة تنفيها بأن تتحول إلى خصائص جديدة مختلفة كيفًا، ثم يعقب هذا النفي نفسه حالة جديدة تنفيها، فتكون بمثابة نفي النفي، وهنا نعود إلى «إثبات» جديد ارتقينا فيه عن «الإثبات» الذي بدأنا به السير.
وقد نسأل: من أين جئنا بهذه القوانين الثلاثة التي تضبط سير العالم، أهي تصورات ذهنية أولية انبثقت من طبيعة العقل وفطرته، كما كان بعض الفلاسفة الآخرين يعتقدون في وجود مبادئ فطرية في العقل يجري التفكير على مقتضاها؟ أم هي استدلالات انتزعناها من مشاهدتنا الخارجية لمجرى التاريخ؟ والجواب عند الماديين الجدليين هو هذا، لا ذاك.
فليست مراحل السير الجدلي مقصورة على الفاعلية العقلية الصورية المنطقية وحدها — كما هي الحال عند هيجل — بحيث يكون الانتقال من «فكرة» إلى «فكرة» بل هي مراحل في سير الواقع المادي، كما نستطيع أن نستدله من شواهد التاريخ وتطور الجماعات.
وأصحاب هذا المذهب يصفون مذهبهم هذا بأنه الفلسفة العلمية بمعناها الصحيح، على أنهم حين يصفونه ﺑ «العلمية» فإنما يستخدمون هذه الكلمة لتعني «المادية» — وعلى هذا تكون «المعرفة العلمية» هي الموقوفة على الواقع المادي وحده، مما ينتهي به إلى النتيجة القائلة إن كل ظاهرة لا بُدَّ من ردها إلى أصلها المادي لتتم لنا دراستها دراسة علمية، فالحالات العقلية والوجدانية ترد إلى ظاهرات فسيولوجية، وهذه بدورها ترد إلى أصول لا عضوية، وهكذا — على أن أهم ما يُعنى به أنصار المادية الجدلية هو ردهم للتاريخ إلى العناصر الاقتصادية، وبهذا تصبح حقيقة الإنسان لا في وعيه بنفسه ولا في تأمله النظري الصرف — بل في «العمل» أي في نشاطه الاقتصادي، لكننا لو تركنا هذا النشاط ينطلق على أساس الملكية الفردية، نشأت بالضرورة طبقة تتجمع فيها رءوس الأموال وهي القلة القليلة، ويصبح معظم الناس أتباعًا لتلك القلة يخدمونها بعملهم وإنتاجهم، وبهذا يحدث لهذه الأكثرية «انسلاخ» يبعدهم عن نتائج عملهم، فيبعدهم عن الحياة الطبيعية كما ينبغي أن تكون، ولا علاج لهذا إلا بأن تئول وسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع كله، فينتج المنتج لصالح الجماعة كلها وعندئذٍ تتحطم الحواجز بين الطبقات، وتزول الفوارق ليذوب الكل في طبقة واحدة.
تلك هي خلاصة الفلسفة المادية الجدلية، التي لا أظن أن مجتمعًا واحدًا في أرجاء الأرض بأسرها، قد خلا من التأثر بها تأثرًا صغيرًا أو كبيرًا، وإذن فهذه ناحية أخرى من روح العصر.
لئن اختلفت الناحيتان الرئيسيتان اللتان ذكرناهما في أن الأولى تناولت روح العصر من جانب «المعرفة العلمية» على حين تناولتها الثانية من جانب «التاريخ والمجتمع» بما ينطوي تحتها من سياسة واقتصاد، فإن الناحيتين معًا تتفقان في وجوب أن ينصرف اهتمام الفكر إلى العلم ومنهجه وقضاياه وتطبيقه باعتباره أبرز معالم العصر إطلاقًا، ومثل هذا التركيز على العلم وعلى العقل وما يتبعهما من ظواهر كالتخطيط والتصنيع وانخراط الأفراد في عملٍ واحدٍ مشتركٍ وضعت لهم خططه وأهدافه، لم يكن ليمضي بغير تمرد ممن يحرصون على فردية الشخصية الإنسانية، وتمييزها من سائر ظواهر الطبيعة بالإرادة الحرة التي تختار لنفسها وتكون مسئولة عن اختيارها، ومن هنا نشأت في بعض النفوس ثورة على العقل نفسه وعلى العلم وصرامة أحكامه، وكان لهذه الثورة أكثر من صورة واحدة ظهرت بها، فهنالك من لاذوا بالتصوف دون العلم، وبالوجدان دون العقل، وهنالك الشكاك الذين أخذوا يتشكَّكون في قدرة العقل على الوصول إلى الحق، وهنالك الوجوديون الذين أصروا على أن يكون الفرد — كل فرد — مسئولًا عن اختياره، ولا تتحقق هذه المسئولية بغير حرية اختيار.
نعم هنالك من لاذوا بالتصوف بمعناه الفلسفي، وأعني التنكر للعقل ومنطقه والركون إلى ما يُسمَّى اصطلاحًا ﺑ «الحدس»، وهو المعاينة بالروح معاينة مباشرة، ولعل أميز ما يميز الحدسيين المعاصرين عن أسلافهم القدماء — فكثير جدًّا هم الفلاسفة الحدسيون في التاريخ، منذ أفلاطون فنازلًا على مدارج الزمن — هو أن القدماء كانوا يعدون حدسهم ضربًا من الفاعلية العقلية على حين ترى المحدثين إذ يلجئون إلى إدراكهم الحدسي، يعدون ذلك ثورة على العقل.
فهو عندهم من قبيل الفاعلية اللاعقلية القائمة على أساس الانفعال والتعاطف الوجداني والرغبة، احتجاجًا منهم على ما يرونه طغيانًا للعقل وللعلم على حياة البشر.
ومن قبيل الثورة على العقل أيضًا مذهب الوجوديين فيما يختص بطبيعة الإنسان وحقيقته، فلئن كان في مستطاع العلم والعقل أن يحكم على «الأشياء» بأحكام عامة تضم أفراد النوع الواحد في تعريف واحد، فما كذلك الإنسان لأن كل فرد يختلف بفرديته عن كل فرد سواه، بحيث يصنع كل فرد حقيقته من مجموعة ما يصدره لنفسه من قرارات يلتزم تنفيذها بإزاء المواقف التي تعرض له، وليس بنا حاجة هنا إلى ذكر الآثار البعيدة المدى في ثقافة عصرنا، التي أحدثتها الفلسفة الوجودية في نظرتها إلى الإنسان وتحليل مواقفه ومشكلاته، وحسبك نظرة إلى الحركات الأدبية والمدارس الفنية في العالم كله، لترى إلى أي حد أصبحت لفتة الأديب ولفتة الفنان إلى دخيلة نفسه ليتصيد منها ما يخرجه للناس فردًا مشخصًا فريدًا، فإن كان الناس على اختلافهم يتفقون عادةً على «الموضوعات» الخارجية، فهذه شجرة وتلك بقرة؛ أعني أنه إذا كان الناس يتفقون في حياة الصحو فهم إنما يختلفون أشد الاختلاف حين ينطوون إلى دخائل نفوسهم كما يحدث لهم في أحلامهم.
ومن هنا اتجه رجال الأدب والفن في حالات كثيرة إلى ما يشبه الأحلام من حياة الإنسان.
وكان مما أيَّد الثائرين على العقل في فكرنا المعاصر، النظرية الفرويدية في التحليل النفسي وغيرها من النظريات النفسية التي ردت نشاط الإنسان إلى مصادر خبيثة غير ظاهرة، كالغرائز أو اللاشعور أو ما إلى ذلك؟
فكم أديبًا في القصة والمسرحية وكم شاعرًا وكم مصورًا جعل مادته الأساسية محاولة إخراج هذه الكوامن الدفينة في حياة الإنسان لتظهر في الآثار الأدبية والفنية ظهورًا يلقي الضوء على حقيقة الإنسان!
وأحسب أنَّ من الخصائص التي قد يتميز بها هذا العصر — نتيجة للعلم بكل جوانبه: الطبيعي والاجتماعي والنفسي، أن أخذت تتسرب فكرة النسبية عند النظر إلى القيم وإلى الثقافات، فإذا كانت العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء لم تعد تأخذ بالقطعية الجازمة التي كان يظن أنها تصف نتائج التفكير العلمي، وإذا كانت التحليلات النفسية قد مايزت بين الأفراد على نحو لا تستطيع معه أن تقول: إنَّ «أحلام» هذا أفضل من «أحلام» ذلك، فماذا ينتج عن هذه النسبية في نظرة الإنسان إلا أن تتعادل الثقافات المختلفة في قيمها مهما تنوَّعت أشكالها، فأصبح الفن الإفريقي كالفن الأوروبي أو الآسيوي من حيث الرتبة والقيمة، ولم يعد حرج أن يستوحي فن هنا فنًّا هناك، فازداد اعتزاز الأمم المختلفة بتراثها وبتقاليدها وبفنونها الشعبية وبلغتها وثيابها وطعامها وشرابها.
وهذه نتيجة تبدو — في ظاهرها — عجيبة، لا تتفق مع أمارات التوحيد التي تدل على أن العالم — في نفس الوقت الذي تؤكد كل قومية شخصيتها المميزة — يسير نحو أن يكون مجتمعًا دوليًّا واحدًا.
وإني لأتخيل راكب الصاروخ من صواريخ الفضاء التي تدور حول الأرض في بضع دقائق أتخيله، وقد نظر إلى الأرض كلها فرآها من بعيد كالبندقة الصغيرة السابحة في فضاء الكون الفسيح، يسأل نفسه متعجبًا: أتكون هذه البندقة الصغيرة حاملة على ظهرها كل هذا التمزق والخلاف بين شعوبها، ألا إن اليوم آتٍ عما قريب، حين يتآخى المتخاصمون على صالح مشترك.
والحق أن هنالك من الدلائل ما ينبئ بهذا، فهو عصر يسوده العلم، ومن شأن العلم أن يوحِّد الناس على منهاج واحد ونتائج واحدة، بل يوحدهم على أدوات للعيش واحدة تصدرها المصانع بالأعداد الكبيرة، لتنتشر هنا وهناك، فلا يكون فرق بين حضر وريف، وكذلك هو عصر المؤتمرات الدولية التي تلتقي فيها الشعوب جميعًا على آراء ينتهون إليها في معظم الحالات ليتم تنفيذها في كل أرجاء الأرض برضى من الجميع، وهنالك جمعية الأمم المتحدة التي إن كانت قد أخفقت في مواضع فقد نجحت في مواضع أخرى، وبخاصةً في ميادين الثقافة والتعاون الاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك.
لكن العجب الظاهر سرعان ما يزول عنا حين ندرك أنه لا يرجى للعالم إخاء صحيح إلا على أساس الشخصيات المستقلة لأممه، بل لأفراده، وعندئذٍ تختفي هذه الظواهر التي لاكتها ألسنة المعقبين على خصائص العصر من قلق وتمزق وشك وسخط.