الماركسيَّة منهجًا
ليس يُعبِّر عن روح العصر — من بين مذاهب الفلسفة القائمة — إلا تلك المذاهب التي تنتهي إلى وجهة من النظر تجعل العالم في حركة دائبة لا تعرف السكون، وفي تغير دائم وتطور مطرد، لا يستقر معهما على حال واحدة لحظتين، فالعالم اليوم ليس هو العالم الذي كان بالأمس، ولن يكون هو العالم الذي سيصبح غدًا، فالليل يعقبه النَّهار، والشِّتاء يتلوه الرَّبيع، والوليد ينمو، والبذرة تنبت، ومحال عليك أن ترى في هذا الكون الرَّحيب كائنًا واحدًا اعتزل وحده وأفلت من مجرى هذا التيار الدافق: تيار التَّغير والتَّطور والسَّير والحركة والنَّماء.
نعم إنَّ العين المجردة قد تنظر إلى هذه الشَّجرة أو ذلك البناء، فيُخَيَّل إليها أنها بإزاء شيء ثابت قد انغرس في مكانه لا يتحول عنه يومًا بعد يوم، لكن الرائي لا ينخدع بهذا الثبات الظاهر؛ لأنه يعلم أن الشجرة كانت بذرة ثم نمت على مرِّ الزمن جذورًا وجذوعًا وفروعًا وأوراقًا وثمارًا، ويعلم أن البناء لم يكن قائمًا ذات يوم ولن يكون قائمًا بعد حين، فالتغير الذي قد لا يتراءى للعين إلا بعد أن يتراكم، لا يقفز من العدم إلى الوجود بوثبة واحدة، بل هو في تدرُّج بطيء لا ينفك لحظة واحدة عن الحدوث، وإن تعذَّرت على العين المجردة رؤيته لحظة لحظة.
وليست فكرة التغير هذه بالأمر الجديد، الذي أدركه إنسان هذا العصر وغفل عنه أهل القرون الماضية، بل هو مما أدركه الإنسان منذ كان إنسانًا يفكر، وإن يكن إنسان هذا العصر يمتاز على أسلافه بأن بين يديه علمًا للطبيعة يبين له أن قوام المادة ذرات دائمة الحركة، فلا صلابة فيها ولا سكون بين أجزائها؛ ومن ثم سهل عليه أن يدرك فكرة التغير إلى أعماقها، ويبني عليها تصوره عن العالم، أما أسلافه فكانوا يرون الحركة والتغير في الأشياء الظاهرة أمام حواسهم، فيحاولون أن يجدوا وراء هذا الظاهر المتحرك المتغير جوهرًا ثابتًا؛ إذ لم يتصوروا أن تكون هذه الحركة الدائبة والتغير المستمر هما حقيقة الوجود، فراحوا يبحثون عن تلك «الحقيقة» التي لا يطرأ عليها التبدل والتحول، والتي إن خفيت عن البصر فقد تكشف عنها البصيرة.
والماركسيَّة — شأنها شأن سائر المذاهب الفلسفية التي تصور عصرنا من مختلف جوانبه — هي فلسفة تغير وتطور، وهي بهذا تعبر عن روح عصرنا، مع سائر المذاهب التي تجعل التغير والتطور محورًا وأساسًا، وإنها لَتحلِّلُ الطريقة التي يتم بها التغير من حالٍ إلى حال، ولا تترك الأمر على إجماله وإبهامه، وتلك الطريقة عندها هي ما يُسمَّى بالمادية الجدلية عندما يكون التغير في الطبيعة وكائناتها، وبالمادية التاريخية عندما يكون التغير في المجتمع البشري ونظمه وأوضاعه.
على أن التغير هنا لا يُقصَد به مجرد التبدل حالًا بعد حال، بل لا بُدَّ فيه من التطور النامي الذي يجعل الخطوة اللاحقة «أعلى» من الخطوة السابقة؛ إذ لا يكون الفرق بين الخطوتين فرقًا في الكم وحده، بحيث يصبح الصغير كبيرًا والقليل كثيرًا وكفى، بل يكون انتقالًا من الأدنى إلى الأعلى انتقالًا إلى ما هو جديد مختلف في النوع عن المرحلة التي تمخضت عنه وأنتجته.
ولهذا التغير الذي يسير بالطبيعة نحو الأعلى، قوانينه التي تضبط سيره، ومن أولى مهام الفلسفة الجدلية أن تستخرج هذه القوانين، ليُمسك الإنسان بالزمام، ويتجه بالحركة فيما قُدِّر لها أن تسير فيه، حتى يجنبها المعوقات، ويُهيئ لها سبل الإسراع نحو هدفها المقصود، وإن هذه المهمة لتصبح أشد إلحاحًا، حين يكون الأمر أمر الحياة الاجتماعية بكلِّ ما فيها من تفصيل وتعقيد، فهي تتطلب عناية الطرائق العلمية ودقتها حتى لا تُترك في تخبطها الذي كانت تتلكأ به في حنايا الطريق، ولا يضير الطريقة العلمية حين نطبقها على مشكلات المجتمع أن تُخطئ أحيانًا خلال المحاولة، فيكفي الإنسانية ما قد عانته في القرون الطوال الماضية من كثرة اللغو اللفظي الذي لا يشفع ولا ينفع، فالمجتمع لا يُشفى من علله بالمواعظ، وإنما يُشفى بالعلم نظرية وتطبيقًا.
ولعل ماركس أن يكون من بناة علم الاجتماع على الأسس المنهجية الصحيحة؛ لأنه أراد أن يستخلص القانون الذي بمقتضاه يسير المجتمع في حركة التقدم، دون أن يلجأ في ذلك إلى الميل والهوى، ولا إلى العاطفة والرغبة؛ لأن هذه كلها عوامل نفسية باطنية لا ينبغي أن يكون لها شأن بقانون علمي يُصاغ لحركة موضوعية خارجية، قانون يُبنى على العلة والمعلول، وعلى إمكان التنبؤ بما عساه أن يحدث في الواقع مستقبلًا إذا توافرت ظروف بعينها.
هذا كله مقبولٌ منه محمودٌ له، لكننا نقف منه موقف الحيران المُتسائل، حين نراه يقرن شيئين متناقضين أحدهما بالآخر، فلا ندري كيف ينزع نتائجه من مقدماته، وذلك حين يضم هاتين الفكرتين إحداهما إلى الأخرى في سياقٍ واحد، وهما: فكرة التغير الذي لا بُدَّ للمجتمع أن يتطور به صاعدًا من أدنى إلى أعلى، في مراحل تجيء كل مرحلة منها بجديد لا يكرر ما قد كان قائمًا في المرحلة السابقة؛ وفكرة الجبرية التي لا بُدَّ من افتراضها لو قبلنا مبدأ السببية الصارمة في سير التاريخ، بحيث يتحتم للسبب أن ينتج نتيجته الضرورية التي تلزم عنه؛ لأن جبرية التاريخ معناها أن الماضي كان يحمل الحاضر في جوفه، وأن الحاضر يحمل المستقبل، بحيث لو حللنا أية لحظة من لحظات التاريخ، استطعنا أن نقرأ فيها كل ما هو آتٍ على مراحل الزمن، تمامًا كما يستطيع الفلكي أن ينظر إلى أجرام السماء في لحظة ما، فيقرأ فيها أن كسوفًا للشمس أو أن خسوفًا للقمر أو غير ذلك من الظواهر الفلكية سيحدث حتمًا في الوقت الفلاني من مقبل الأيام، ولو كان الأمر كذلك في سير التاريخ، لما كان هناك «جديد» ينبثق في مراحل التطور الصاعد، فإحدى اثنتين: إما أن يكون التاريخ محتوم المسار، وبذلك لا يكون في خطواته «جديد» يُبدِيه، وإما أن يكون فيه «الجديد» يُظهِره مرحلة بعد مرحلة، وبذلك لا يكون محتوم المسار.
إن «الحتمية» لا تتفق مع «إرادة التغيير»؛ لأنه مع الحتمية لا تكون إرادة من جانب الإنسان؛ إذ لا يبقى لهذا الإنسان إزاء تطور التاريخ إلا أن «يتفرج» على ما يحدث له وللمجتمع وللطبيعة على حد سواء، مع أننا نرى ماركس حريصًا على ألا يقف الناس — والفلاسفة منهم بوجه خاص — موقف المتفرج المتأمل، بل لا بُدَّ لهم أن يغيروا العالم، يقول: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة، مع أن المهم هو أن نغيره.» فكيف أغيره إذا لم يكن هنالك احتمال آخر، وهو أن أتركه على حاله بغير تغيير؟ مع أن هذا الفرض الثاني ممتنع إذا كان التاريخ محتوم الوسيلة محتوم الأهداف.
وهنا قد يقال إن تدخل الإنسان بإرادته في مجرى الأحداث مطلوب، لا ليُحدث ما لم يكن ليحدث من تلقاء نفسه، بل ليُسرع في حدوثه، بأن يزيل من طريقه المعوقات ويضيف عوامل الإسراع؛ لكي تصل إلى الأهداف المرجوة قبل أوانها الطبيعي، ولكنه قول يناقض بدوره زعمًا آخر زعمه ماركس، وهو أن الأفكار والقيم ليست سببًا يسبق وقوع الأحداث، بل هي نتيجة تتفرَّع عن ذلك الوقوع، فإذا كان هذا هكذا، فبأيِّ شيءٍ تُريدني أن أتدخل في سير التاريخ لأُسرِع من مجرى أحداثه، إلا أن يكون ذلك بما أحمله في رأسي من أفكار وقيم؟ لكن الترتيب بين الفكر والواقع وأيهما يكون أسبق من أخيه، يريد شيئًا من التفصيل؛ لأنه نقطة أخرى نجد فيها شيئًا من الخلط يدعونا إلى الحيرة والتساؤل.
لكننا قبل أن ننتقل إلى هذه النقطة لمناقشتها نريد أن نعقد مقارنة بين «الحتمية التاريخية» بمعناها الماركسي الذي أسلفناه، والذي أشرنا إلى التعارض بينه وبين أن يكون للإنسان إرادة للتغيير يتدخل بها في مجرى الأحداث بأية صورة من الصور، أقول إننا نريد أن نعقد مقارنة بين هذا المعنى الماركسي للحتمية التاريخية، وبين معناها في السِّياق الذي وردت فيه في ميثاقنا، حين وردت في الباب السادس «في حتمية الحل الاشتراكي» عبارة تقول: «إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر — وصولًا ثوريًّا إلى التقدم — لم يكن افتراضًا قائمًا على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير، كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين» — ومضى حديث الميثاق بعد ذلك يفصل الظروف التي سادت، والتي حتمت أن تكون الاشتراكية هي سبيلنا الوحيدة إلى هدفنا الجديد، وهو تحقيق الحرية الاجتماعية.
فالحتمية هنا هي حتمية وسيلة لا بُدَّ منها لتصل بنا إلى هدف مقصود، وليست هي حتمية ممتدة على مراحل التاريخ، ففي الحالة الأولى يكون العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا عرضيًّا، كان يمكن ألا يكون، وأما في الحالة الثانية فإن العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا ضرورة مكتوبة علينا منذ الأزل، لم يكن منها بُد، في الحالة الأولى نشأت حتمية الوسيلة من مصادفة حرمتنا الحرية الاجتماعية، فكان لزامًا علينا أن نتصدَّى لها، وكان من الجائز ألا يتسلل إلى حياتنا المستبدون والمستغلون والمستعمرون فلا ينشأ في حياتنا الحرمان الذي سلبنا حريتنا الاجتماعية، وعندئذٍ كانت تختفي ضرورة الوسيلة نظرًا لتحقق الهدف، وأما في الحالة الثانية فالمزعوم هو أن تسلل المستبدين والمستغلين والمستعمرين إلى حياتنا أمر كان لا بُدَّ من وقوعه بحكم حتمية التاريخ، وبالتالي كانت الوسيلة التي يلزم اتخاذها للوصول إلى الحرية الاجتماعية المفقودة، لتكون هي الأخرى حتمية من حتميات التاريخ.
ومثل هذه المقارنة يصدق أيضًا على الفرق في المعنى بين ما يُسميه ماركس ﺑ «حتمية الثورة»، وما يرد في ميثاقنا تحت اسم «ضرورة الثورة»، فالحتمية في الحالة الأولى منظور إليها بنظرة تخضع التاريخ كله بشتى مراحله لحتمية تحتم أن تتتابع المراحل على صورة معينة، وأن تكون الثورة — ثورة الجماهير العاملة على أصحاب رءوس المال — إحدى تلك المراحل المحتومة، وأما «الضرورة» التي نصف بها ثورتنا، فهي ضرورة نشأت بحكم ظروف طارئة كان يمكن ألا تقع، فقد كان يمكن ألا يستعمرنا مستعمر يقهرنا، وألا يستغلنا المستغلون، وكان يمكن أن يطرد تقدمنا العلمي الذي بدأناه في شباب أمتنا العربية، فلا نتخلف، لكن هكذا حدث — حدث أن استبد المستعمر الدخيل واستغل المستغل وتخلفنا بسبب هؤلاء، فوجبت لذلك الثورة، لتحطم القيد، وليرفع نير الاستغلال، ولنلحق بالمتقدمين في مضمار العلوم.
ذلك — فيما أرى — فارق هام بين الفلسفة الماركسيَّة من جهة، وفلسفتنا الاشتراكية من جهة أخرى: فهذه الأخيرة علاج لمشكلة قائمة، وأما تلك فتعتمد على نبوءة تاريخية نستدل بها مرحلة لاحقة من مرحلة سابقة، الفلسفة الماركسيَّة تخلط بين «التنبؤ العلمي» وبين «النبوءات التاريخية» وتجعل هذه من تلك، مع أن التنبؤ في الحالة الأولى قائم على تجربة عينية محددة، نعلم منها أنه إذا حدث كذا وكذا من الظروف، نتج كذا وكذا من النتائج، كأن تقول مثلًا إنه إذا توافرت في الجو الظروف الفلانية نزل المطر، فنحكم على ما سيحدث بناءً على ما قد حدث، لما بين الحدثين من تشابه وتجانس، وأما «النبوءة» التاريخية، فلا تجربة فيها ولا مشاهدة، إذ ماذا تشاهد وماذا تجرب إذا كان المستقبل المرتقب في مراحل التاريخ الآتية، هو شيء مختلف عن الماضي المنقضي من مراحل التاريخ التي انطوت صفحاتها؟ إنما النبوءة التاريخية قائمة على «افتراض» أن التاريخ سيسير في خطٍّ معين معلوم، وهي لا تختلف كثيرًا عن «قراءة الكف» حين ينظر القارئ إلى خطوط في كفك فيتنبأ لك بكذا وكذا في مستقبلك، وذلك على «افتراض» أن خط الحياة يسير على نحو معلوم، فالفرق الكبير بين الفلسفة الماركسيَّة وبين فلسفتنا الاشتراكية في هذا الصدد، هو أن الماركسيَّة تقول للناس: «سيحدث» كذا وكذا ولا قِبَل لكم بتغيير هذا المصير المحتوم، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقول لنا: لقد «حدث» بالفعل كذا وكذا من المواقف والمشكلات، وفي وسعنا أن نغير ما حدث، الماركسيَّة تجعل الإرادة الحرة بغير عمل تؤديه، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتترك المجال أمام الإرادة فسيحًا؛ ذلك لأن الماركسيَّة تصب حتمية الحدوث على المشكلات نفسها بله طرائق علاجها، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقصر الحتمية على وسائل العلاج؛ لأننا نواجه مشكلات قائمة بالفعل، تحتم علينا أن نسلط عليها إرادتنا بطرائق فعالة لتزيلها من الطريق، الفرق بعيد بين رجل يعطيك نظرية مؤداها أن منطق التاريخ يحتم عليك أن يجيئك المستقبل البعيد أو القريب بضائقة مالية أو بعلة مرضية لا قِبل لك بردِّها، ورجل يفتح عينك على ما هو قائم حولك بالفعل من أمثال هذه المشكلات، ليوجه انتباهك إلى ضرورة حلها.
ونعود الآن إلى تحليل المنهج الماركسي في تناوله لمسألة الترتيب المنطقي بين الفكر والواقع؛ لأننا نلمس في هذا التناول شيئًا من الخلط والتناقض، فالنظرية الماركسية في هذه المسألة تتلخص في أن الجانب الشعوري من الإنسان ليس هو الذي يحدد موضعه (أعني موضع الإنسان) من الوجود الخارجي، بل إن موضعه من الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد جانب الشعور منه، أي أن الجهاز العقلي كله بجميع ما فيه من خواطر ومشاعر وأفكار وعواطف ورغبات وقيم جمالية وأخلاقية وغير ذلك، هو حصيلة نتجت عن المجتمع وطريقة تكوينه، وليس العكس هو الصحيح، أي أن ذلك الجهاز العقلي من الإنسان لا أثر له في خلق المجتمع وطريقة بنائه، أو بعبارة أخرى أقرب إلى الطريقة الهيجلية في التعبير، إن المجموع — متمثلًا في الدولة أو في الأمة أو في المجتمع على أية صورة من صوره — أسبق من أفراده، وهو أعلى منهم رتبة في درجات الحق والواقع، على أن المقصود بالمجتمع في النظرية الماركسية، من حيث تأثيره على الأفراد وتشكيله لأفكارهم ومعاييرهم، هو النظام الاقتصادي السائد في ذلك المجتمع، وما يقتضيه هذا النظام من علاقات بين الأفراد.
لقد نشأ ماركس نشأة هيجلية — وهو في ذلك شبيه بالكثرة العظمى من فلاسفة عصرنا — فتأثر بهيجل حتى وهو يثور عليه ويقلب آراءه رأسًا على عقب، من ذلك تمييزه بين ما هو «حقيقي» وما هو «ظاهري»، لكن بينما ذهب هيجل (وجميع الفلاسفة المثاليين من قبله ومن بعده) إلى أن عالم الفكر هو الجوهر وهو الحقيقة، وأن عالم المادة هو العرضي وهو الظاهر، عكس ماركس الوضع والترتيب، فجعل الجوهر والحقيقة في عالم المادة (أي النظام الاقتصادي السائد وبخاصة أدوات الإنتاج) وجعل العرضي والظاهر في عالم الفكر أو العقل أو الشعور، أي أنك تستطيع أن تفسر أية فكرة تريد، بردها إلى أصلها التي نشأت عنه من النظم الاقتصادية القائمة لا أن تفسر هذه النظم الاقتصادية بردها إلى نظريات وأفكار في رأس الإنسان، وفي عبارة مختصرة نقول إن النظرية الماركسية تعطي أولوية الوقوع للأوضاع المادية خارج الإنسان الفرد، وعنها يتفرع ما ينبثق منها من أفكار ومشاعر كائنة ما كانت.
وليس من همنا في هذا المقال أن نناقش النظرية الفلسفية من حيث هي بل من حيث اتساقها في منهج البحث، على أن أول ما يلفت نظرنا ونود أن نثبته — ولو على سبيل الفكاهة — أن النظرية الماركسية «نظرية» أي أنها «فكرة» وقد جاء من جاء بعدها ممن آمنوا بصوابها، فحاولوا أن يترجموها من «عالم الفكر» إلى «عالم التنفيذ والتطبيق»، وبقدر ما كتب لهم من نجاح في ذلك، فهم قد وجدوا «فكرة» سبقت «النظام الاقتصادي» الذي يحاولون أن يخرجوه على غرار تلك الفكرة، والحق أني إذا تصورت طائفة كبيرة من القيم والمعايير في حياة الناس قد نشأت نتيجة لازمة لشبكة العلاقات الاقتصادية القائمة، ولنوع أدوات الإنتاج المستخدمة، فإنه لمن المتعذر جدًّا علي أن أرى كيف تكون الحياة العقلية كلها نتيجة لتلك الأوضاع المادية الخارجية؟ ففي هذه الحياة العقلية — مثلًا — حساب وجبر وهندسة، وفيها علم بالضوء والصوت والحرارة والمغناطيس والكهرباء، وفيها قياسات للأفلاك وأبعادها وسرعاتها … فهل هذه «الحياة العقلية» كلها نتيجة لزمت بالضرورة عن كون المجتمع القائم يصنع القماش بهذه الأداة أو تلك، ويزرع الأرض بهذه الوسيلة أو تلك؟
أريد للقارئ أن يتصور معي أن كارثة الحروب الذرية قد شاء لها القدر الأعمى أن تقع فتمحو نظامنا الاقتصادي كله بما فيه من أدوات الإنتاج جميعًا، ونظامنا الاجتماعي كله بما فيه من أوضاع وتقاليد، ولم يبق إلا على طائفة من قوانين العلم في رءوس نفر من العلماء، أو في صفحات الكتب أفلا يرى القارئ معي أنه من الجائز والممكن والمحتمل في هذه الحالة أن يهتدي الناس بتلك المعرفة العلمية فيعيدوا النظام الاقتصادي في الصناعة كما كان؟ … لكن اعكس الفرض وتصور أن ما قد شاءت المصادفات المنكودة أن تمحوه، هو المعرفة العلمية في جميع مظانها وشتى مصادرها، مبقية على ما هناك من مصانع وآلات، فماذا يكون المصير؟ إنه يكون كما تضع رجلًا يجهل كل شيء عن هذه المصانع كيف تدار وكيف تصلح، تضعه فيها وتقول له هاك! إنه لن يمضي إلا وقت قصير، ثم تندثر الصناعة إلى غير عودة.
لو قال ماركس إن العلاقة بين الفكر والمادة علاقة متبادلة، لكان — فيما نرى — أقرب إلى الصواب، فالواقع المادي يوحي بالفكرة، والفكرة بدورها تؤثر في الواقع وتعيد تشكيله، وإننا لنرى هذه العلاقة المتبادلة بين الفكرة العقلية وتطبيقها المادي في جميع المستويات على تفاوتها واختلافها، فكم من ثورة سياسية قامت، حين أثار الواقع الكريه أنفس الناس، فتبلورت في رءوسهم فكرة، فثاروا ليخرجوها إلى الواقع، وهكذا يكون الترتيب: واقع ففكرة فواقع، ثم واقع ففكرة فواقع، وماذا يكون البحث العلمي إلا السير على هذا الترتيب نفسه: واقع نشاهده ونحلله، ففكرة تنشأ، فتطبيق جديد لها لنطمئن على صوابها، ثم ماذا يكون التخطيط لأي مستقبل قريب أو بعيد، في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة، إلا سيرًا على هذا الترتيب: موقف واقعي راهن، ففكرة لتغييره، فإخراج لتلك الفكرة إلى دنيا الواقع لتبدل الموقف القائم بموقف واقعي جديد.
وها هنا كذلك يعن لنا أن نذكر فلسفتنا الاشتراكية كما تبلورت في الميثاق الوطني، إذ نجد هذه العلاقة المتبادلة بين الفكر والتطبيق، بين الفكر والواقع، ركنًا من أركانها، يقول وهو في معرض «التطبيق الاشتراكي ومشاكله»: «… إن ذلك يكفل دائمًا أن يكون الفكر على اتصال بالتجربة، وأن يكون الرأي النظري على اتصال بالتطبيق التجريبي، إن الوضوح الفكري أكبر ما يساعد على نجاح التجربة، كما أنَّ التَّجربة بدورها تزيد في وضوح الفكر وتمنحه قوة وخصوبة تؤثر في الواقع وتتأثر به، ويكتسب العمل الوطني من هذا التبادل الخلاق، إمكانيات أكبر لتحقيق النجاح …»
إن ما نسميه ﺑ «السياسة» إن هو إلا خطة للعمل في هذا الميدان أو ذاك، نرسمها لنقوم بتنفيذها ابتغاء تغيير الواقع بواقع آخر أفضل منه فهي دائمًا «فكرة» يراد لها أن تهدي السائرين في طريق التنفيذ، فلو أصررنا على أن الواقع الاقتصادي أولًا فالفكر ثانيًا، نتج عن ذلك حتمًا أن تنتفي «السياسة» ويبطل أثرها، ويصبح محالًا على قوم أن يغيروا ما بهم حتى وإن غيروا ما بأنفسهم؛ أعني أنه يكون محالًا عليهم أن يغيروا واقعهم حتى وإن تغيرت أفكارهم، والواقع المشهود صارخ بما في ذلك من بطلان.
لقد يختلف الدارسون لماركس في فهم ما يريده بالنسبة إلى العلاقة بين الفكر من جهة والواقع من جهة أخرى، أهو من الفلاسفة الواحديين الذين يردون كل شيءٍ إلى أصل واحد (والأصل الواحد في هذه الحالة هو المادة) أم هو من الفلاسفة الثنائيين الذين يردون الأشياء إلى أصلين، هما المادة والعقل معًا، فلو كان ماركس من الفريق الأول صراحة، لكانت ظواهر العقل كلها في رأيه فروعًا تتفرع عن أصل مادي، ولو كان من الفريق الثاني صراحة، لكان العقل (أو الروح) والمادة عنده أصلين متساويين في درجة الأصالة، لا يتفرع أحدهما عن الآخر.
لكن ماركس يقف من ذلك موقفًا فيه بعض اللبس، مما يجعل حكمنا على العلاقة بين الفكر والواقع المادي في مذهبه أمرًا محفوفًا بالشكوك، فهو يقول «إن الديالكتيك في كتابات هيجل يقف على رأسه، ولا بُدَّ لنا من أن نقلبه عقبًا على رأس ليعتدل» … ومعنى ذلك أن هيجل يجعل الرأس (أي الأفكار) أساسًا أوليًّا، منه تتفرع سائر الجوانب، وأما ماركس حين يطالب بأن نقلب الوضع ليقف الديالكتيك على قدميه لا على رأسه — بحيث يكون الرأس إلى أعلى، فهو يريد بذلك أن تكون الأفكار هي الفرع الذي يتفرع عن أصل، فالأساس هو مادة الواقع الصلبة، وأما أفكار الرأس ففي الهواء كالطابق الأعلى من بناء مرتفع، ما لم يرتكز على أساس مكين في الأرض، لما كان له وجود، وفي هذا يقول ماركس في العبارة نفسها التي أسلفنا منها شطرًا، «أن الجانب الفكري ما هو إلا الجانب المادي بعد أن انتقل إلى الرأس وترجم فيه إلى صورة أخرى» … وليس من الواضح هنا إذا كانت هذه «الصورة الأخرى» مما يمكن أن يستقل بنفسه، بحيث تكون لدينا نسختان، أو صورتان كتبتا بلغتين مختلفتين، أم أن هذه «الصورة الأخرى» كان يستحيل لها أن توجد إلا إذا سبقها الأصل الذي تفرعت عنه، بعبارة أخرى، هل يمكن للإنسان أن يكتفي بالقدمين الراسختين على أرض الواقع، مستغنيًا عن الرأس وما فيه من أفكار ما دامت هذه الأفكار ترجمة للصورة المادية الواقعية؟
الظاهر أن ماركس — وإن يكن يصر على أن تكون الأولوية للواقع المادي — إلا أنه يعلق أهمية على الجانب الفكري بعد ذلك، على اعتبار أنه هو المستوى الذي تتم فيه الحرية بمعناها الصحيح، كأنه يتابع هيجل في توحيده بين الحرية والروح، وفي أن الإنسان لا يظفر بالحرية إلا من حيث هو كائن روحاني، لا من حيث هو كائن من لحم ودم، برغم أن الأساس البدني لا بُدَّ أن يرسخ ويستقر أولًا، إن هذا الأساس البدني شرط ضروري يجب توافره قبل أن تكون هنالك حرية للجانب الروحاني، وذلك الأساس البدني هو الجانب الذي يخضع لحتمية السببية وضرورة تتابع حلقاتها ومراحلها على وجهٍ معينٍ لا يتغير، والمجتمع الذي ما يزال في مرحلة إشباع حاجاته المادية، هو بمثابة من لا يزال في مضمار الضرورات البدنية التي تخضع للحتمية وللضرورة، لكن الهدف الأسمى بعد ذلك هو أن نجاوز مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وهذه لا تكون إلا في جانب الروح، أو العقل، أو الفكر.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فمنهج الحتمية العلميَّة مقصور على جانب من الإنسان دون جانب، فهو إن مكننا من إجراء النبوءات التاريخية لحياة المجتمع وهو في نشاطه الاقتصادي من إنتاج واستهلاك، فهو لا يجاوز الحدود التي بها يكون حاضر الحياة الاجتماعية نتيجة حتمية لماضيها، وأما حين يجاوز الإنسان بحياته نطاق الضرورة ليدخل نطاق الحرية (وهاتان التسميتان من عند ماركس) فيبطل عندئذٍ تطبيق المنهج العلمي بحتميته؛ لأننا ها هنا لا نتعقب كل شيء إلى أسبابه، إذ قد تنشأ إحدى الحالات العقلية الحرة عن غير سببٍ يسبقها ويحتم ظهورها.
وبعبارة أراها أكثر وضوحًا، إن الأفكار صنفان: أفكار تجيء انعكاسات للحياة المادية الواقعية — أعني للحياة الاقتصادية في الظروف القائمة من إنتاج واستهلاك — وأفكار أخرى تتحرر من هذا القيد، والنوع الأول من الأفكار وحده هو الذي يجوز القول فيه بأنه خاضع للحتمية العلمية وضروراتها، وهو وحده الذي يجوز أن يكون «أيديولوجية» تلزم صاحبها بالقبول، وهو وحده الذي نعنيه حين نقول إن تاريخ الإنسان في حياته المادية وفي حياته الفكرية على السواء، مسير بأوضاع حياته الاقتصادية … فهل وقع ماركس في تناقض منهجي حين افترض نطاقًا للضرورة ونطاقًا للحرية، وجعل الأول للحياة المادية والثاني للحياة الفكرية، ثم لم يفرق في هذه الحياة الفكرية بين ما يجيء انعكاسًا للأساس المادي، فيرتبط بحتميته وما يجيء إبداعًا أصيلًا فيتصف بالحرية من روابط الحتمية وضروراتها؟
بغير التعرض للجانب الموضوعي من النظرية الماركسية، أريد أن أحصر اهتمامي في منهج السير من مقدمات النظرية إلى نتائجها؛ لأسأل: هل تلزم تلك النتائج حتمًا عن المقدمات؟
إنه ليجوز القول إن ماركس قد سار في تفكيره خلال خطوات ثلاث: ففي الخطوة الأولى يحلل طرق الإنتاج في ظل الرأسمالية، ليجد أنها مؤدية — بما فيها من تنافس حر لا تضبطه ضوابط — إلى أن تأخذ الأموال في التركيز على نفر قليل، يظل على مر الزمن يزداد قلة كلما صرع التنافس صرعاه في ميدان التسابق، وهذا بدوره يزيد من عدد من لا يملكون مالًا، وإن هذا الاتجاه المزدوج — الإمعان في قلة من يملكون، وفي زيادة من لا يملكون — ليشتد كلَّما ارتقت وسائل الإنتاج، وبالتالي شدة التنافس على توزيعه، وبالتالي كذلك سقوط من يسقط في ميدان التسابق، ليبقى ذلك النفر القليل المالك، فكأن النتيجة المحتومة هي زيادة في ثروة الأثرياء، وزيادة في شقاء الأشقياء، ومن الطبيعي أن تكون القلة الثرية هي الطبقة الحاكمة، وأن تكون الكثرة الفقيرة هي الطبقة المحكومة.
وفي الخطوة الثانية يبين — بناءً على النتيجة التي وصل إليها في الخطوة الأولى — ضرورة أن يئول الأمر إلى طبقتين اثنتين: بورجوازية غنية حاكمة من جهة، وعمال فقراء محكومون من جهة أخرى، فكأنما تحدث — بالتدريج — عملية استقطاب في المجتمع، بحيث تقسمه إلى هذين القطبين وحدهما؛ لأن سائر الأفراد — إذ هم يخوضون معركة التنافس والتسابق، إما أن ينجحوا فينخرطوا في جماعة الحاكمين الأثرياء، وإما أن يخفقوا فينضموا إلى المحكومين الفقراء، وأن طبيعة الموقف عندئذٍ تحتم أن تتوتر العلاقة بين القطبين مع ضرورة أن يكون النصر عند الصدام للكثرة العاملة المحكومة الفقيرة؛ وذلك لأنه بينما لا يتم وجود لصاحب المال إلا بوجود العامل الذي يعمل لينتج له، فإن وجود العاملين المنتجين يمكن أن يتم بغير وجود صاحب المال، وإذًا فمن غير المتصور أن تنمحي الطبقة العاملة، لكن من المتصور أن تنمحي طبقة أصحاب رءوس الأموال، ومن ثم كان النصر محتومًا آخر الأمر للطبقة التي لا مناص من وجودها، على الطبقة التي يمكن زوالها.
وأخيرًا تجيء الخطوة الثالثة التي يرتبها على نتيجة الخطوة السابقة، فما دام صراع الحاكمين الأغنياء المالكين لأدوات الإنتاج، والمحكومين الفقراء العاملين بتلك الأدوات لصالح أصحابها، قد انتهى بانتصار حتمي للطبقة العاملة، إذن فالنتيجة هي قيام مجتمع لا طبقي يتجانس أفراده، هو الذي يملك وسائل الإنتاج وهو كذلك الذي ينتج في آن معًا، وتلك هي مرحلة الاشتراكية.
ونحن نسأل: هل تجيء هذه الخطوات الثلاث في تسلسل منطقي يحتم علينا ضرورة الأخذ بكل خطوة ما دمنا قد أخذنا بالخطوة التي سبقتها؟ إنه مع التَّسليم بما جاءت به الخطوة الأولى من أن التَّنافس الحر في الاقتصاد الرَّأسمالي، لا بُدَّ مؤد إلى تراكم الثَّروة في قلة من النَّاس من جهة، واتساع الشقاء والفقر في كثرة من الناس من جهة أخرى، نسأل: هل ينتج عن ذلك حتمًا أن تختفي كل الطوائف إلا طبقتين اثنتين: طبقة البرجوازيين الأغنياء، وهي قليلة العدد، وطبقة الجماهير العاملة التي تمتص سائر الطوائف الأخرى، أين نضع رجال العلم ورجال الفن في هذا التقسيم؟ أين نضع المهنيين من أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم؟ أين نضع أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة؟ في ظني أن استقطاب الناس في محورين: فحاكم غني هنا ومحكوم عامل وفقير هناك، قد يصور الموقف في محيط الصناعة وحدها، لكن ذلك لا يلزم عنه اختفاء طوائف أخرى في بناء المجتمع ليست تندرج في ذلك المحيط.
وإذا سلمنا بصواب الخطوة الثَّانية في أنَّ المجتمع لا مناص له من هذا الانقسام إلى طرفين: صاحب أدوات الإنتاج وعامل مأجور، وأن النصر محقق للثاني على الأول، فهل يلزم حتمًا أن تظل الطبقة العاملة التي هي عندئذٍ المجتمع كله، متجانسة تجانسًا يخليها من الصراع؟ أليس هناك — من الوجهة المنطقية الصرف، فضلًا عن شواهد الواقع — احتمال بأن تسير هذه الطبقة المتجانسة في نفس المراحل مرة أخرى، حتى وإن اتخذ السير صورة أخرى، وذلك بأن يعلو فريق على فريق إن لم يكن بكثرة المال وبملكية وسائل الإنتاج، فبغير ذلك من عوامل الجاه والسلطان، ثم سرعان ما تربط روابط المشاركة في المصلحة أفراد أولئك وأفراد هؤلاء؟ نقول إن ذلك محتمل وليس مؤكد الحدوث وما دامت المقدمة الواحدة تؤدي بك إلى أكثر من احتمال واحد، فمن التحكم أن تختار أحد الاحتمالات الكثيرة على أنه النتيجة المؤكدة.
فمهما يكن من أمر النظرية الماركسية من حيث موضوعها ومادتها، فأحسب أن بها ثغرات في منهج استدلالاتها.