رجل الفكر ومُشكلات الحياة
هنالك نفر من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب، إلا أن تكتب لهم على نحوِ ما يكتبون، وأن تذهب معهم في مذاهب الفكر كما يذهبون، ولست أدري كيف تصطدم الفكرة بالفكرة ليولد الصدام فكرة أعلى وأكمل، إذا لم تختلف في الرأي وجهات النظر؟ إن كل ما يُطالب به الكاتب هو أن يكون مخلصًا لنفسه أمينًا على فكرته، وقصاراه أن يبسط الفكرة بكل ما وسعه من وضوح وإيضاح وفهم وإفهام، ولا عليه بعد ذلك أن تقع الفكرة من قارئها موقع القبول، بل لا على هذا القارئ نفسه إذا هو لم يقرأ ما يتفق مع هواه، وإلا لما أحدثت القراءة في نفسه حوارًا داخليًّا وفاعلية منتجة، شريطة ألا يكون مصدر الاختلاف بين الكاتب والقارئ اختلافًا في معاني الألفاظ التي يستخدمانها؛ لأنَّه لو حدث ذلك لكان أحدهما في وادٍ والآخر في واد، لا يلتقيان ولا يتصادمان، إذا قال أولهما: هذا ثور، أجابه الثاني: إذن فاحلبوه! لأنَّ الثور عنده يعني البقرة، فلا المتكلم الأوَّل قد أفهم ولا السامع قد فهم عنه، أما أن يتفق المتحدثان — أو الكاتب وقارئه — على أن اللفظة الفلانية تعني كذا وكذا من العناصر التي تدخل في مكونات الشيء الذي جاءت تلك اللفظة لتسميه، ثم أن يختلفا بعدئذٍ على الحكم الذي ينتهيان إليه بالنسبة إلى ذلك الشيء المطروح أمامهما للبحث والنظر، فليس في مثل هذا الاختلاف بأس ولا ضرر، بل إن فيه لخيرًا ونماءً، لأنَّه اختلاف قمين — مع المحاورة والجدل — أن يجمع المختلفين على رأي مشترك.
إنني لو سئلت: ماذا ترى من الفوارق التي تميز كاتب اليوم من كاتب الأمس؟ لجاءتني الإجابة مسرعة بأن أول ما يميزهما من فوارق هو أن كاتب اليوم ألصق من زميله بالخبرة الحية، كأنما هو قد وضع أصابعه على عروق الحياة ليتحسس نبضها، ولا عجب أن رأينا كاتب اليوم يلجأ إلى القوالب الأدبية التي من شأنها أن تجسد الحياة بشخوصها الناطقة المتحركة، وأعني القصة والمسرحية، على حين أن كاتب الأمس كاد يقصر نفسه على «المقالة» لأن بضاعته التي يعرضها «أفكار» على شيء من التجريد قليل أو كثير، وكل ما تتطلبه الأفكار من باسطها هو أن يتناولها بالتحليل والتوليد حتى ينكشف مضمونها وفحواها، فلئن رأى كاتب اليوم نفسه مضطرًّا إلى الخوض في مواكب الناس الأحياء ليرى ويسمع ويحس ويتأثر، ثم يخلو إلى نفسه ساعة ليصور ما قد رأى وسمع وأحس، فإن كاتب الأمس كان في مستطاعه ألا يبرح غرفة مكتبه، مراجعه على رفوفها، والمصباح أمامه، فيأخذ في القراءة والمراجعة، حتى إذا ما وقع على شيء يستحق أن يعرض على الناس، كانت له القدرة على عرضه في مقالة يكتبها أو سلسلة مقالات تستوعب الموضوع إذا اتسعت رقعته وتباعدت أطرافه.
فإذا قلنا عن رجل اليوم: إنَّه «كاتب» بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة، كان الصواب أن نقول عن رجل الأمس إنه «قارئ» ما دامت كتابته عرضًا لمادة قرأها وأراد لغيره أن يقرأها معه.
لكن هذه التفرقة لا تنصب إلا على أديب القصة والمسرحية من جهة، وكاتب المقالات التحليلية العقلية من جهة أخرى، على أساس أن الأول له السيادة اليوم، والثاني كانت له السيادة أمس، فها هنا يجوز القول عن أديب اليوم أنه — في المحل الأول — ينصت إلى أحاديث الدار والدوار والمصنع والطريق، في الوقت الذي كان فيه كاتب الأمس يرجع إلى الكتاب والندوة وقاعة الدرس وعزلة التأمل، كما يجوز كذلك أن نقول عن أديب اليوم إنه يمس «مشكلات الحياة» في حضورها المباشر؛ لأنها مشكلات عملية تجري من حولنا يومًا بعد يوم وساعة إثر ساعة، وعن كاتب الأمس إنه كان يتعرض لمشكلات فكرية مجردة بعدت صلتها المباشرة عن واقع الحياة الجارية، بل إن رواد الأدب القصصي والمسرحي في جيلنا الماضي — وهم أنفسهم الذين ما تزال لهم الريادة في القصة وفي المسرحية بين أدباء اليوم — كانوا بالأمس يكتبون القصة أو المسرحية فيما لم يكن يتصل بالحياة الجارية من قريب، ثم أصبحوا اليوم يكتبون وفي أذهانهم مشكلات الحياة اليومية كما تلمسها الأصابع وتبصرها العيون.
لكن هل يعني هذا كله أن يوم الناس هذا قد خلا من كاتب المقالة العقلية التحليلية التي تتناول موضوعاتها تناولًا مجردًا، يعمم القول ولا يخصصه، ويبعد بالتجريد وبالتعميم عن المشكلات الحية كما تقع في المنزل والمصنع والطريق؟ كلا بل مثل هذا الكاتب موجود — كما كان موجودًا بالأمس — لأن وجوده محتوم بحكم وجود «الأفكار» التي تريد التحليل والتوضيح.
والخلاصة التي نريد أن نكتبها بالأحرف البارزة لتظهر للأعمى وللأعشى وللمبصر على حدٍّ سواء — قبل أن نمضي في الحديث — هي اختلاف طريقتين في تناول المشكلات: طريقة «الأديب» وطريقة «المفكر»، فبرغم أن الأدب الخالص قد يجسد فكرًا في ثناياه، وأن الفكر قد يُصاغ في عبارة لها جمال الأدب وخصائصه، إلا أننا إذا ما تطرفنا هنا وهناك لنميز بين الطرفين رأينا أنه حتى لو جعل كل منهما «مشكلات الحياة» المباشرة موضوعًا له، لكان لكلٍّ منهما طريقته الخاصة.
فالأدب تجسيد لما يجرده الفكر، والفكر تجريد لما يجسده الأدب، على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيع — لا يجعلان من «مشكلات الحياة المباشرة»، موضوعًا لهما؛ لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية، فأما الأدب فيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية، وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شأنهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد.
لكن هناك نفرًا من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب؛ لأنهم في اللحظة نفسها يكرسون أنفسهم فيها «للفكر المجرد» يسوقونه في مقالات قصيرة أو طويلة، ويضطرون — شأنهم في ذلك شأن عباد الله المفكرين — أن يعلوا عن تفصيلات المشكلات كما هي واقعة، أقول: إنهم في تلك اللحظة نفسها، يوجهون اللوم لغيرهم من رجال الفكر، على تقصيرهم في تناول «مشكلات الحياة»، وهل تكون للكاتب قيمة إلا بمقدار ما يواجه بفكره تلك المشكلات؟ هكذا يقول شبابنا الكاتب الغاضب، ولست على يقين من أنهم إذ يقولون ذلك قد وقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى أية صورة تئول مشكلات الحياة عندما تصبح موضوعات للنظر عند رجل الفكر؟ إذ يجوز أن تبعد الشُّقة — في الظاهر — بين ما يتداوله المفكرون في عصر من العصور من ناحية، وما يعانيه الناس ويكابدونه في ساحات الأخذ والعطاء وأسواق البيع والشراء من ناحية أخرى، على حين يكون الطرفان — في حقيقة الأمر — على صلة وثيقة أحدهما بالآخر، برغم اختلاف الصورة في حالة الفكر عنها في حالة لواقع بتفصيلاته وكثرة عناصره المتشابكة.
إنَّ «الحياة» التي يريد شبابنا الغاضب أن نقصر الفكر والكتابة على «مشكلاتها» لا تجيء في واقع الأمر إلا مجسدة في «أحياء» كلهم أفراد، يلتقون أو يفترقون على صور وأشكال لا سبيل إلى حصرها: أعضاء الأسرة الواحدة، والعمال في المصنع، والركاب في سيارة أو قطار، ومجموعة الناس في السوق، والطلاب اجتمعوا في غرفة الدراسة وهكذا وهكذا، على أنَّ هؤلاء الأفراد إذ يجتمعون قد تتفق بينهم الأهداف والأساليب وإذن فلا اختلاف، أو قد لا تتفق فيقع الصراع إما على الهدف ماذا يكون، وإما على الوسيلة كيف تكون.
وإني لأتصور «المشكلات» التي قد تقع للناس في حياتهم على نوعين رئيسيين، ثم يعود أحد هذين النوعين فينشعب شعبتين: فأولًا قد تكون مشكلات الناس «خاصة»، وقد تكون «عامة»، ولا أحسب الشباب الكاتب الغاضب الذين يحثوننا على تناول «مشكلات الحياة» دون سواها، لا أحسبهم يريدون منا أن نعالج بمقالاتنا مُشكلات النَّاس الخاصة لنعرضها على الملأ — رضي أصحابها أو كرهوا — فنعرض للزوج وقد اختلف مع زوجته على شأن من شئون الحياة، أو نعرض للجار وقد اعترك مع جاره، فتلك — على أبعد الفروض — صور مما قد تسرع إليه صحافة الخبر حين تكون الصحافة لاهية في أمة عابثة، وهي نفسها المشكلات التي إذا مستها أصابع الفن بسحرها حولتها إلى أدب من مسرحية وقصة، وفي كلتا الحالتين لا يكون لرجل الفكر — من حيث هو كذلك — شأن بها في حد ذاتها، وأما المشكلات العامة التي تمس أبناء الإنسانية كلها، أو أبناء الوطن الواحد جميعًا، أو مجموعات ضخمة من هؤلاء وأولئك، فهي التي تنشعب شعبتين: إحداهما مشكلات هي من شأن البحوث العلمية المتخصصة وحدها؛ لأنه لا حيلة «للفكر» بمعناه الأعم حيالها، فماذا يصنع رجل الفكر في مواجهة الأمراض المتوطنة؟ ماذا يصنع في توسيع الرقعة الزراعية؟ ماذا يصنع في تحسين الطرق وإقامة الجسور؟ لا شيء، وإذن فأحسب أن الشباب الكاتب الغاضب لا يريدون منا أن نعالج أمثال هذه المشكلات، وإذن فقد بقي نوع واحد هو الذي يجوز، بل يجب أن يتناوله رجل الفكر بكل ما أوتيه من قدرة على التحليل والتعليل والحل، وهو المشكلات التي تكون عامة من جهة وتنصب على علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة أخرى، فماذا تكون العلاقة الصحيحة بين المواطن ومواطنه؟ بين المحكوم وحاكمه؟ بين المتعلم ومعلمه؟ ماذا تكون العلاقة بين الفرد الواحد وبقية الأفراد؟ بين الأمة الواحدة وبقية الأمم؟ وهكذا وهكذا.
إن هذه العلاقات الإنسانية كلها تتمثل في مواقف الواقع المحسوس، إما على صورة حسنة أو على صورة رديئة، لكن رجل الفكر إذ يتناولها يكاد لا يقف إلا لحظة قصيرة عندما قد وقع منها بالفعل، ليجاوزه إلى ما وراءه من مبادئ، ليقبل بعضها ويرفض بعضها، غير أنه بإزاء مناقشة المبادئ المجردة تراه وقد بعد عن أرض الواقع بعدًا يوهم المشاهد المتعجل أنه — أي رجل الفكر — قد شطح مع الخيال إلى أبراج عالية لا يكاد يسمع منها أنات المعذبين الذين يعانون في حياتهم مشكلاتها ويكابدون أزماتها، انتظارًا للفرج يأتيهم من حيث لا يعلمون.
تعالوا نطف بأبصارنا في تاريخ الفكر، لنرى كيف كانت وقفات المفكرين بإزاء مشكلات حياتهم؟ لعلنا نهتدي إلى الوقفة الصحيحة، حتى لا يلوم أحد منا أحدًا على أنه يبلبل خواطر الناس دون أن يعالج لهم مشكلات الحياة التي يريدون لها حلولًا على أيدينا.
هذا هو شيخ الفلاسفة سقراط يواجه مشكلة من أعوص «مشكلات الحياة»؛ وأعني بها طريقة التوفيق بين واجب المواطن الصَّالح في إطاعة قانون دولته، وواجبه — في الوقت نفسه — في نقد تلك القوانين ومحاولة تغييرها إذا وجد فيها مواضع نقص وضرورة تغيير، فهل يلجأ المواطن في ذلك إلى التماس المؤامرات أو اصطناع وسائل العنف؟ أو هل يظل المواطن مطيعًا للقانون حتى يتمكن من إقناع مواطنيه بالحجة العقلية ليغيروا من أوضاعهم ما يراه معيبًا فاسدًا.
تناول سقراط هذه المشكلة الحية التي مست حياته هو مسًّا مباشرًا، ذلك أنه وهو في سجنه ينتظر الموعد المحدد لموته بجرعات مسمومة — كما حكم عليه رجال القضاء — جاءه تلميذه الغني أقريطون يعرض عليه الفرار من الدولة وقوانينها الجائرة، بعد أن أعد له الطريق برشوة الحراس، لكن سقراط — رجل الفكر — سرعان ما أسقط من الموقف تفصيلاته التي هو جزء منها، وارتفع بالمشكلة إلى مستواها المجرد المطلق، الذي يصلح للإنسان كائنًا من كان، مهما يكن مكانه وزمانه، فانتهى به التفكير إلى أنَّه لا مناص للمواطن من إطاعة قانون دولته إلى أن يتاح له تغييره — إذا استطاع — بالحجة والإقناع، وفي محاورة أقريطون الجميلة الرائعة، التي تصلح إلى يوم الناس هذا أداة فكرية رادعة لمن يدبرون وسائل العنف للحصول على ما يريدونه لأنفسهم من أوضاع أمتهم، في هذه المحاورة الجميلة الرائعة، يتخيل سقراط قوانين الدولة وقد تجسدت أمامه تسائله وتحاسبه إذا هو فر من وجهها، كيف يجوز له أن يتمتع بحماية القوانين، ثم يخونها ويخرج عليها غدرًا؟ وهل تظل للدولة قوائمها ودعائمها إذا لم تعد لقوانينها قوة، وإذا قابلها الأفراد بالعصيان كلما حكمت عليهم بما لا يحبون؟
ها هنا كانت «مشكلة الحياة» خاصة برجل واحد في موقف واحد، لكنها تحوَّلت عند رجل الفكر إلى مشكلة عقلية نظرية صرف، حتى لينسى قارئ المحاورة أن البحث قد بدأ خاصًّا بشخص معين في موقف معين؛ لأن هذا القارئ سيرى الماثل أمام عقله قضية عامة عن موقف المواطن كائنًا ما كان موطنه — تجاه قوانين دولته التي قد لا يكون راضيًا عنها.
•••
ونسوق مثلًا آخر من الفكر العربي القديم، فقد اعترضت رجال الفكر عندئذٍ المشكلة نفسها التي تعترضنا اليوم — وهي كذلك من صميم «مشكلات الحياة» — وهي: هل نأخذ عن ثقافة اليونان أو لا نأخذ اكتفاء بثقافتنا المنبثقة من ظروفنا الخاصة؟ كان السؤال عندئذٍ — كما هو اليوم — حادًّا يتطلب الجواب الحاسم؛ لأنهم كانوا يجتازون عصرًا — كعصرنا — تتدفق فيه التيارات الثقافية من كل صوب، وبخاصةً في ميدان التفكير الفلسفي، فعلى أية صورة تشكلت المشكلة عند المفكرين؟
إنها ما لبثت أن اتخذت صورًا موسومة بالطابع النظري العقلي الذي ربما أنساك كيف بدأت؛ لأنك ستحصر النظر في موضوع البحث النظري وكأنه هو الموضوع، فها هما ذان رجلان يجتمعان في حضرة الوزير ابن الفرات (في منتصف القرن العاشر الميلادي) وهما أبو سعيد السيرافي الذي لم يكن يؤمن بضرورة النقل عن ثقافة اليونان، وأبو بشر متى الذي كان يرى ألا مندوحة عن ذلك، فبدأت بينهما مناقشة حول المنطق الأرسطي الذي كان أبو بشر متى من علمائه: هل ينفع المتكلم باللغة العربية في شيء؟ ولم يكد أبو بشر يقول عن ضرورة هذا المنطق اليوناني للإنسان بغض النظر عن لسانه؛ «لأنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان» حتى طفق السيرافي يتدفق حججًا يقيمها على أن للغة العربية خصائصها المميزة، وصحة الكلام مرهونة بالإعراب من حيث اللغة، وبالعقل من حيث المعنى، ودراسة المنطق الصوري لا تغني أحدًا عن التجربة الواقعية الفعلية بحقائق الأشياء المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور التي يدرسها المنطق، وتشبيه المنطق بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن بميزان، فإذا كان المنطق الأرسطي ملزمًا لأحد فهو ملزم للمتكلم باللغة اليونانية التي على أساس تراكيبها قام ذلك المنطق، واختلاف اللغات بعضها عن بعض يقتضي حتمًا أن تكون هنالك صور مختلفة في تركيب اللفظ الذي يُعبِّر عن معنى معين، والمعاني لا تكون يونانية ولا عربية إنما هي إنسانية عامة.
سهكذا تمضي المناقشة بين الرجلين، على نحو لو كان قد سمعه واحد من شبابنا الكاتب لغضب متسائلًا: ما هذا النقاش النظري الذي لا يطفئ ظمأ الظمآن ولا يشبع جوع الجوعان، لماذا لا تصبان اهتمامكما على «مشكلات الحياة»؟ إلى أن ينبهه صديق هادئ بأن الجذور التي انبثق منها مثل هذا النقاش النظري، هي من صميم مشكلات الحياة؛ لأنها تمس المصادر التي يجوز أو لا يجوز للناس أن يغترفوا منها الفكر والثقافة.
•••
واختر ما تشاء من أمثلة لرجال الفكر في عصرنا، اختر مثالك من فلاسفة الوجودية في فرنسا، أو من فلاسفة التحليل في إنجلترا، أو من فلاسفة البرجماتية في أمريكا، أو من فلاسفة المادية الجدلية في روسيا، تجدك أمام نقاش نظري مجرد، لا يذكر لك شيئًا عن زيد في حقله وما يلاقيه هناك من مشكلات في ري الأرض وحرثها، ولا يذكر لك شيئًا عن عمرو في مصنعه وما يعانيه هناك من طرق الحديد وتشكيل القضبان، لكنه نقاش إما يغوص بك في أغوار عميقة من النفس الإنسانية ليظهر ما كمن فيها من عوامل القلق والحيرة، لا نفس زيد ولا عمرو، لكنها «النفس» بمعناها المجرد المطلق، وإما يدخلك في دقائق جملة لغوية يحلو لرجل الفكر أن يحللها ليضع تحت المجهر طرائق الناس في لفتات تفكيرهم كيف تكون، وإما يرد لك كل شيء في حياتك إلى واقع مادي يتسلسل سيره في حلقات متتابعة من التطور النامي، ولن تجد في أية حالة من هذه الحالات أن «مشكلات الحياة» من أخذ وعطاء وبيع وشراء وطعام وشراب وثياب ومسكن قد حلت صعابها لا كثيرًا ولا قليلًا؛ لأن الذي يحل هذه الصعاب هم أصحاب التخصصات العلمية في الزراعة والصناعة وتبادل السلع ونسج الأقمشة وبناء البيوت، لكنها — برغم ذلك — مناقشات ينفذ أصحابها من خلال المشكلات الراهنة إلى الأسس والمبادئ التي اندست في طواياها، لنعود هابطين مرة أخرى من تلك الأسس والمبادئ إلى أرض الواقع فإذا هو مفهوم واضح، فنزداد بحياتنا وعيًا ونزداد لمشكلاتها إدراكًا.
وبعد هذا كله فإني أقرر أن رجل الفكر ملتزم أمام نفسه وأمام الناس، ملتزم بماذا؟ إنه ملتزم بالخوض مع الناس في مشكلاتهم، ولكن ذلك يتم له بطريقة «المفكر» لا بطريقة «الأديب» ولا بطريقة «العالم المتخصص» ولا بطريقة الصحفي الذي ينقل الخبر عن الشيء كما وقع، فلكل من هؤلاء طريقته إزاء المشكلة الواحدة، ومن الخير أن يلتزم كل منهم الطريقة التي يحسن أداءها، وقد يجتمع أكثر من طريقة واحدة في شخص واحد موهوب، فتراه يتعرض للمشكلة على صورة معينة هنا وعلى صورة معينة هناك، كما يحدث لسارتر — مثلًا — أن يعالج مشكلة ما بالفكر المجرد حينًا، وبالقالب المسرحي حينًا آخر.
كل هؤلاء يلتزمون «الحق»، لكن معيار الحق متعدد الصور بتعدد طرائق القول، فلئن كان الحق عند الصحفي — وهو ينقل للناس خبرًا عن مشكلة من مشكلات الحياة الجارية — هو أن يرسم صورة كلامية دقيقة التطابق مع تفصيلات الحادث كما وقع، فإن الحق عند الأديب — وهو يعرض للمشكلة عينها في قصة أو مسرحية — هو أن يجيد تصوير أشخاصه في تفاعلهم حتى ولو لم يلتزم، بل لا ينبغي له أن يلتزم تفصيلات الواقع كما وقع، والحق عند العالم المتخصص وهو يخطط للمشكلة حلًّا، هو نجاح التطبيق، وأما صاحبنا المفكر فصورة الحق عنده هي دقة التحليل والتعليل الذي يستطيع بهما أن يجاوز حدود الواقع إلى حيث المبادئ التي كانت كامنة وتجسدت في المشكلة الجزئية التي وقعت، أو إلى حيث النتائج القريبة والبعيدة التي عساها أن تترتب على تلك المشكلة.
خذ مثلًا هذه المشكلة التي أعدها من أعقد مشكلات حياتنا الاشتراكية الجديدة، وأعني مشكلة التوازن بين احتفاظ الفرد بكيانه المستقل المسئول وبين ضرورة أن يكون هذا الفرد على صلات وثيقة بينه وبين سائر المواطنين بحيث ينصهر معهم في مجموع واحد متصل، وسل نفسك: كيف يمكن لرجل الفكر أن يتناول هذه المشكلة إذا هو قصر نفسه على ظواهرها البادية في حياة الناس اليومية، دون أن يتعمقها إلى أصولها وجذورها التي ربما ارتدت إلى الحياة القبلية الأولى؛ ذلك أننا إذ نلاحظ سهولة أن ينصهر الفرد منا في أسرته، نلاحظ أيضًا إلى جانب ذلك صعوبة أن ينصهر ذلك الفرد نفسه في مجموعة المواطنين: من عرفهم منهم ومن لم يعرفهم على حد سواء.
أفإن فلسفنا الموضوع وشرحنا كيف تتحقق ذاتية الشيء — أي شيء — بوجوه وبصفاته وبعلاقاته مع سائر الأشياء، وأخذنا نوغل في الجانب الصوري الخالص، الذي يبين أن الكائن الواحد محال تعريفه إلا بربط الصلة بينه وبين سواه، أقول أفإن فعلنا شيئًا كهذا قيل لنا: على رسلكم، واحصروا أنظاركم في مشكلات الحياة — ذلك هو ما يطالبنا به نفر من الشباب الكاتب!