مصر هبة المصريين
هذا الحديث بداية سلسلة من الأحاديث ترمي إلى عرضٍ متصل لتاريخ مصر خلال العصور الماضية، وموضوعها تكوين مصر، وسوف نسلك إلى ذلك طريقين:
وسنحاول — أول الأمر — أنْ نعالج نواحي مختارة، وموضوعات مُنتخبة، مثال ذلك: التفاعل في تاريخ مصر بين مبدأي الاستمرار والتغير، وعوامل التماسك الاجتماعي، ومكان الفرد في المجتمع، وأوجه التباين بين المدينة والريف.
ثم نعود فنعالج الموضوع بطريقةٍ أخرى؛ أي من ناحية دراسة اتصالات مصر بالمجتمعات الأخرى الكبيرة، وكيف أثَّرت مصر في عالم العهد القديم، وفي الحضارة الهيلينية والمسيحية، ثم الإسلام فالعالم الغربي، وكيف تأثرت بكل هؤلاء.
وقد اتخذت عنوانًا لحديثي الأول: «مصر هبة المصريين»، وليس مرَدُّ ذلك إلى معارضة القول المشهور لأبي التاريخ — هيرودوت — حبًّا في المعارضة؛ ولكن لتوكيد الناحية، أو الزاوية التي سوف نعالج منها الموضوع؛ ذلك أنني أريد أنْ أؤكد عمليات الخلق والنمو، والمحافظة التي نوجزها في العنوان: «تكوين مصر». كما أريد أنْ أؤكد أنَّ هذا «التكوين» كان من صنع جماعة من الناس — المصريين — ومن ثم كان العنوان: «مصر هبة المصريين». وأخيرًا أريد أنْ أؤكد ما في هذا النتاج، نتاج هذا الخلق — مصر — من صفات الشخصية والرسوخ والانفراد بالذات، هذا النتاج الذي أثَّر بدوره في تكوين المصريين، ولن تكون مصر التي نعني بها مصر في عصرٍ معين، بل خلال العصور كلها، وهذا على الرغم من أنني أعرف أنه ليس في مقدور الرجل منا أنْ يحيط بالأدوات والدراسات كافة، اللازمة لكل قسمٍ من أقسام تاريخ مصر المعروفة: ألا وهي العصر الفرعوني، ثم اليوناني والروماني فالإسلامي، ثم العصر الحديث، دع عنك الإحاطة بها جميعًا، بيد أنَّ الإخصائي، والقارئ غير الإخصائي، كلاهما يجد متعةً ذهنية ومغنمًا في آنٍ واحد لو حاد بين الفينة والفينة عن طريق التخصص؛ الطريق الضيق، واضعًا نصب عينيه أنَّ هناك «مصر» دائمًا، وأنها تسمو فوق هامات الحقب والعصور.
ولكن هل هناك حقًّا شيء كهذا؟ هل هناك ما يبرر استخدامنا مدلولات: «مصر» و«الصين» وما إليها؟ وهل استخدام تلك المدلولات لكي تمثل شيئًا ماديًّا أمر مشروع؟ أو أنَّ ذلك لا يعدو أنْ يكون مجرد تسمية، أو يكون من نسج الخيال، أو الوهم؟
ليس هنالك شيءٌ من ذلك، إنَّ مصر أرض شكَّلتها الطبيعة، وشكَّلها الإنسان شيئًا له ذاتيته وأهميته، وهي وطن مجتمع من بني الإنسان تربط بعضهم ببعض روابط مادية وأدبية، إنها وطنٌ مجتمع مغاير لمجتمعات بشرية أخرى.
ولنتناول الآن «المصريين» الذين قلت: إنَّ مصر كانت هبتهم.
لن ألقي بالًا للمسائل المتعلقة بأصلهم أو جنسهم؛ ذلك لأني أعني بالمصري كل رجل يصف نفسه بهذا الوصف، ولا يحس بشيءٍ ما يربطه بشعبٍ آخر، ولا يعرف وطنًا له غير هذا الوطن، مهما كان أسلافه غرباء عن مصر في واقع الأمر.
ومما هو جديرٌ بالذكر أنه مهما تعددت الأصول فقد كان هناك طابع «مصري» تشكل في هذه البيئة المصرية، ولست أعني بالطابع السمات الجسمانية، بل أعني موقفًا معينًا من الحياة.
فلا يعنيني إذن أنْ أبحث في بقعةٍ ما من بقاع مصر عمن يسمُّونهم ذراري قدماء المصريين، وبعض من يعنيهم هذا البحث يظنون أنهم يعثرون عليهم في ريف مصر، على افتراض أن الريف كان أقل نواحي المجتمع المصري تأثرًا بالتغير والتبدل، أو لأن الريف كان الأرض المنعزلة التي يلجأ إليها القوم ابتغاء النجاة من الغزاة الأجانب. ولكن الحقيقة هي أن الريف كان على عكس ذلك تمامًا، فهو البقعة التي استوطن فيها مرتزقة المحاربين من الإغريق، وكذلك رجال القبائل من العرب، وبدو الصحراء، وأنَّ الريف — كما سأشير إليه فيما بعد — كان على الدوام المفترس للبشرية المصرية، المفترس النهم الذي لا يشبع.
وآخرون — ممن يعنيهم هذا البحث — يظنون أنهم يجدون بغيتهم في طائفة «أقباط» مصر، واحتمال وجودهم في هؤلاء، مثل احتمال وجودهم في غيرهم.
وليكن المصريون الأوائل من يكونون، وليكن تأثر سلالتهم بمن وفد على بلادهم، واختلط بهم كثيرًا أو قليلًا؛ فالذي يعنينا الآن أنْ نبين أنَّ «مصر هبة المصريين».
وإني لأدرك تمام الإدراك — وهل يمكن أنْ يكون الأمر غير ذلك؟ — أنَّ النيل منبع حياتنا، وأنَّ مصر ما هي إلَّا الأراضي الواقعة على ضفتي النهر، وأنْ ليس لها من حدود إلَّا المدى الذي تصل إليه مياه النهر.
ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازًا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلَّا مصرًا واحدة؟ إنَّ هبات النيل — كهبات الطبيعة سواء بسواء — طائشة عمياء، إذا ما تُركت دون ضبط؛ فإنها تدمر كل شيء، وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة.
والإنسان وحده هو الذي يستطيع أنْ يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر؛ فمصر هبة المصريين.
كيف حدث ذلك؟ إنَّ الأستاذ «أرنولد توينبي» يتحدث عن هذا في معرض كلامه بما سماه «التحدي والاستجابة»، وهذا موجز كلامه: إنَّ هؤلاء المصريين الأوائل — شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب الأخرى — واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعي العميق في مناخ جزء من أفريقية وآسيا نحو الجفاف.
هذا هو التحدي، فماذا كانت الاستجابة؟ من الأقوام الذين واجهوا التحول من لم ينتقل من مكانه، ولم يغير من طرائق معيشته؛ فلقى جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف؛ الإبادة والزوال، ومنهم من تجنب ترك الموطن، ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى، وتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل، عرفتهم المراعي الأفراسية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال، وكان لزامًا عليهم أنْ يواجهوا تحدي برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة الاستوائية المطيرة، وهنالك أوهن قواهم جو تلك المنطقة المطير الجاري على وتيرةٍ واحدة. وأخيرًا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم، وتغيير طرائق معيشتهم معًا.
وكان هذا الفعل المزدوج، الذي قلَّ أنْ نجد له مثيلًا، هو العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ.
هبط أولئك الرواد الأبطال، بدافع الجرأة أو اليأس، إلى مستنقعات قاع الوادي، وأخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقولٍ تجري فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة؛ لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه.
ويظن العلماء أنَّ المستنقعات التي تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرًا عما هو قائمٌ الآن في منطقة السدود في السودان، بل إنَّ العلماء يظنون أنَّ أسلاف القوم الذين يعيشون الآن في تلك المنطقة كانوا يقطنون — فيما مضى — ما يُعرف الآن بصحراء ليبيا، جنبًا إلى جنب مع مبدعي الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعي الجفاف، واختاروا لأنفسهم أنْ يتخذوا خطة بالغة نهاية الخطورة. والظاهر أنَّ المصريين — حين فعلوا ذلك — آثر جيران لهم اليسرى، وولوا وجوههم نحو الجنوب، نحو بيئة طبيعية تتفق والبيئة التي ألفوها، والتي أصابها من التحول ما ألزمهم إمَّا بمغادرتها وإمَّا بتغيير أساليب حياتهم، وقد اختاروا مغادرة الموطن إلى موطنٍ جديد، يستطيعون فيه ممارسة شئون معاشهم على الوجه الذي ألفوه، وتم لهم هذا في المنطقة الحارة من السودان في دائرة الأمطار الاستوائية، ولا يزال أحفادهم من الدنكة والشلوك وغيرهم يعيشون فيها حتى يومنا هذا، كما كان يعيش آباؤهم الأولون.
وقد أوضح الأستاذ «تشيلد» ما بين هؤلاء القوم المعاصرين وقدماء المصريين من شبه في القوام والسمت، ونسب أجزاء الرأس، واللغة، والملبس، ويضيف إلى ذلك قوله: ويبدو أنَّ النمو الاجتماعي عند القبائل التي تقطن أعالي النيل وقف عند موضعٍ تمكن المصريون من اجتيازه قبل بدء العصور التاريخية، ولدينا الآن في أعالي النيل «متحف حي» يكمل أناسه آثار ما قبل التاريخ في مجموعاتنا الأثرية فيحييها.
ولكن لا يزال علينا أنْ نسأل: لم اختلف مسلك المصريين الأوائل عن مسلك إخوانهم أسلاف الدنكة والشلوك؟ وفي هذا المقام يتحدث الأستاذ «توينبي» عن نصيب «القلة الخالقة» في نشأة المدنية، ويبدو أننا لا بُدَّ أنْ ننتهي إلى أنْ نعزو ما حدث إلى اقتران ظرفين؛ أحدهما: كون البيئة التي تحدت الإنسان لم تكن هينة لينة، كما لم تكن قاسية مثبطة، بل كانت بين بين، والآخر: اتفاق وجود الرجل، أو الرجال الموهوبين الذين يقودون شعبهم في الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين.
وليكن التفسير ما يكون، فإن مصر؛ مصر التي تشكلت على هذا النحو المفاجئ المثير، قد سيطرت هي أيضًا على مصائر أبنائها، واقتضتهم ثمن بقائها على الشكل الذي صنعوه.
هذا هو موضوعنا.