اليمامتان
•••
هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصُّه نحن:
كانت لأرمانوسةَ وصيفةٌ مولَّدة تسمَّى «مارية»، ذات جمال يوناني أتمته مصرُ ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريًّا، ونقص الجمال اليوناني أن يكُونَه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تُهمِل شيئًا في جمال نسائها أو تُشَعِّثُ منه، وقد لا توفِّيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمالٌ ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هِرَقْل؛ وكان من عجائب صُنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلبَ هذا الرجل مفتاح القُفْلِ القبطي، فلم تكن أبوابهم تُدافِع إلا بمقدار ما تُدفَع، تُقاتل شيئًا من القتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مُستغلِقة حصينة لا تُذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم — ولم تكن المدافع معروفة — ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مِدْفَع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرَف الديناميت!
وتوهَّمت مارية أوهامها، وكانت شاعرةً قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقِّد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويُضاعِف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وَقودًا على الدم …
وقال أبي: إنهم لا يُغِيرون على الأمم، ولا يحاربونها حربَ المُلْك، وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة، تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتهم أخلاقُهم؛ وبذلك تكون أسلحتُهم نفسُها ذاتَ أخلاقٍ!
وقال أبي: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاعَ العُصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعةٌ تعمل في طبيعةٍ؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضرَّ الدنيا وترميَ ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تُشبه في عملها الظاهر المُلَفَّقِ ما يعدُّ كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر … شتانَ بين عمل وعمل، وإن كان لونٌ يشبه لونًا …
قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه؛ فهم القساة الغلاظ المستكلِبون كالبهائم؛ ولكنهم يفهمون متاعَ الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله؛ فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون.
قالت مارية: وأبيكِ يا أرمانوسة، إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدِّبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتبَ التي كتبوها …! فلم يُخرِجوا للدنيا جماعةً تامة الإنسانية، فضلًا عن أمة كما وصفتِ أنتِ من أمر المسلمين. فكيف استطاع نبيهم أن يُخرِج هذه الأمة وهم يقولون إنه كان أميًّا؟! أفتسخرُ الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير؛ فتدعهم يعملون عبثًا أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟!
قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويُطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بدَّ من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجادَ الأفكار العلمية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درستُ المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يُوجِدَ هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حُسْبُهُ أن يُثبِت معنى الإمكان فيه.
قالت مارية: إن هذا — والله — لسرٌّ إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مباليةٍ الحياةَ والموتَ إلا في أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبُّر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثةً هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية، فما بعد ذلك دليلٌ على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموِّ ذاتيتِه، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة.
قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليلٌ على أنكِ تتهيئينَ أن تكوني مسلمة يا مارية!
فاستضحكتا معًا وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلامًا جاريتُكِ فيه بحسبه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان.
•••
قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدُّوا إلى المقوقس في «منف»، وكان وحيُ أرمانوسة في مارية مدة الحصار — وهي نحو الشهر — كأنه فكرٌ سَكَن فكرًا وتمدَّد فيه؛ فقد مرَّ ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقِّحه، وأنشأ لها أخيلةً تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكَّد لأنه مؤكد.
ومن طبيعة الكلام إذا أثَّر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تُلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: «المسيح بدْءٌ، وللبدء تكملة، ما من ذلك بدٌّ. لا تكون خدمةُ الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جُبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء.»
وجعلت هذه الحقائقُ الإسلاميةُ وأمثالُها تُعرِّب هذا العقلَ اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية، قالت لها: لا يجمُل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجَّه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنكِ راجعةٌ إلى أبيكِ، واسأليه أن يُصْحِبَكِ بعضَ رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صُنع بنات الملوك!
قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيصحبكِ الراهب «شطا»، وخذي معك كوكبةً من فرساننا.
•••
قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أدَّيتُ إليه رسالتكِ فقال: كيف ظنُّها بنا؟ قلت: ظنُّها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. فقال: أبلغيها أن نبينا ﷺ قال: «استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم فيكم صهرًا وذمة.» وأعلميها أننا لسنا على غارة نُغِيرُها، بل على نفوس نُغَيِّرُها.
قالت: فَصِفِيه لي يا مارية.
فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جواده …
قالت مارية: أما سلاحه …
قالت: ولا سلاحه، صِفيه كيف رأيتِهِ «هو»!
قالت: رأيته قصيرَ القامة علامةَ قوة وصلابة، وافرَ الهامة علامةَ عقل وإرادة، أدعج العينين …
فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا؟ …
… أبلج يُشرق وجهه كأن فيه لألأَ الذهبِ على الضوء، أيِّدًا اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرًا … داهيةً كُتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه، وكلما حاولتُ أن أتفرَّسَ في وجهه رأيتُ وجهه لا يفسره إلا تكررُ النظر إليه …
وتضرَّجت وجنتاها، فكان ذلك حديثًا بينها وبين عينَي أرمانوسة … وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها …
قالت أرمانوسة: من هيبته، أم عينيه الدعجاوين …؟
•••
ورجعتْ بنتُ المقوقس إلى أبيها في صحبة «قيس»، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: «الله أكبر …!» ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب «شطا»: ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يُعلنون أنهم بين يدَي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت، ونزاع الوقت، وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعةً أو بعضَ ساعةٍ؛ ومَحْوُها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها. انظري، ألا تريْنَ هذه الكلمة قد سحرتهم سحرًا؛ فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غيرَ من كانوا، وخشعوا خشوعَ أعظمِ الفلاسفةِ في تأملهم؟
قالت أرمانوسة: نعم، إن الكنيسة كالحديقة؛ هي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئًا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع.
قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فُتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها، فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ.
قالت مارية: وهل تُفتح عليهم الدنيا؟ وهل لهم قواد كثيرون كعمرو …؟
قال: كيف لا تُفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم، بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفسٌ مندفعةٌ إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أممًا ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهربَ إلى الداخل …!
قالت مارية: والله لكأننا ثلاثَتَنَا على دين عمرو …
•••
قال قيس: حَسْبُكِ أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلًا عاملًا في تحقيقِ كلمةِ الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا.
وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، وأما الحرب فهي عندنا الفكرة، وأما المُصلِحة فتريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئًا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفسُ أكبرَ من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برُعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدَي رجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه. ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا، لانعكس الأمر.
قالت مارية: فسَلْه: كيف يصنع «عمرو» بهذه القلة التي معه والروم لا يُحصى عددهم؛ فإذا أخفق «عمرو» فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟
وفُتحت مصر صُلحًا بين عمرو والقبط، وولَّى الروم مُصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح؛ تطوفُ منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوِي وشحبَ لونُها وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثرُ الروح الظمأى، وحاطها اليأس بجوِّه الذي يحرق الدم، وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يتقاتل في نفسها الشعوران العدوَّان: شعور أنها عاشقة، وشعور أنها يائسة!
•••
ولم يمضِ غيرُ طويلٍ حتى قضت ماريةُ نحبَها، وحَفِظت عنها أرمانوسة هذا الشعر الذي أسمته «نشيد اليمامة»:
•••
•••
•••
•••
•••