المجنون (٤)
قال «س. ع»: ولكن كم يذهب هذا وكم يجيء ذاك؟
فغمزه «النابغة» بعينه أن اسكت؛ فتغافَل «س. ع»، وقال: كم تريد أن يجيء الساعي ليهتف بنابغة القرن العشرين؟
قال المجنون الآخر: هذا هو الرأي، فلست قائما حتى أعرف كم مرةً أذهب؛ فإن الساعي لا يجيء إلا راكبا، وأنا لا أذهب إلا راجلا، وإن لي رِجْلَيْ إنسان لا رِجْلي دابة …
قال «النابغة»: سبحان الله! بقليل من الجنون يخرج من الإنسان مجنون كامل مُستَلَب العقل. بَيْدَ أنه لا يأتي النابغة إلا من كثير وكثير، ومن النبوغ كله بجميع وسائله وأسبابه على تعدُّدها وتفرُّقها وصعوبة اجتماعها لإنسان واحد «كنابغة القرن العشرين»، فهو الذي تَوَافَت إليه كل هذه الأسباب، وتوازنت فيه كل تلك الخِلال. إنه ليس الشأن في العِلْم ولا في التعليم؛ ولكنما الشأن في الموهبة التي تُبْدِع الابتكار، كموهبة «نابغة القرن العشرين»، فبها تجيء أعماله منسجمة دالَّة بنفسها على نفسها؛ ومتميزة مع كونها منسجمة دالة بنفسها على نفسها، ومتلائمة مع كونها متميزة دالة بنفسها على نفسها …
هذا «س. ع»، كان الأول بين خِرِّيجي مدرسة دار العلوم، مدرسة الأدب والعربية، والمنطق والتحذلُق، وبلاغة اللسان وصحة النظر؛ وهو يعرف أن الكتاب يُلقَى في البريد وعليه طابع واحد، فيصل إلى غايته بهذا الطابع، ثم يرى بعينَيْ رأسه أربعة طوابع على هذه الرسالة المُعَنْوَنة باسم «نابغة القرن العشرين»، فلا يدرك بعقله أن معنى ذلك أن من حقِّ هذه الرسالة أن تصِلَ إليَّ أنا أربعَ مرات …
فطرِبَ المجنون الآخر، واهتزَّ في مجلسه، وصفَّق بيديه، وقال: «مما حفظناه» هذا الحديث: «يُحاسِب الله الناس على قَدْرِ عُقُولهم.» فلا تؤاخذ «س. ع»، فإن مدرسة دار العلوم تُعلِّمهم: «فيها قولان»، وفيها ثلاثة أقوال، وفيها أربعة أوجه، ولكنها لا تُعلِّمهم فيها أربعة طوابع …
ثم التفتَ إلى «س. ع»، وقال له: لا عليك، فأنا صاحبه وخَلِيطُه، وحامِل عِلْمه وراوِيَة أدبه، وأكبر دُعاته وثِقاته، وما علمتُ هذه الحكمة منه إلا في هذه الساعة.
قال «ا. ش»: فإذا كان هذا، فإن لقائل أن يقول: لماذا لم يضع على كتابه عشرةً من الطوابع، فيجيء به الساعي عشر مرات.
قال «النابغة»: وهذا أيضًا …؟
«وما شَرُّ الثلاثة أُمَّ عَمْرٍو بصاحبِك الذي لا تصحبينَ»؛ إن الشمعة في يد العاقل تكون للضوء فقط، ولكنها في يد المجنون للضوء ولإحراق أصابعه، كم الساعة الآن؟
قلنا: هي التاسعة.
قال: ومتى ينصرف أهل هذا النديِّ؟
قلنا: لتمام الثانية عشرة.
فصفَّق المجنون الآخر وقال: هذا وأبيك هو التَّهَدِّي إلى وجه الرأي وسَدَادِه، وهذا هو الكلام الرصين الذي يقوم على أصول الحساب والجغرافيا … «ومما حفظناه» هذا الحديث: «لا مال أعْوَدُ من العقل.» فأربعة طوابع، لأربع مرات، في أربع ساعات؛ وما عدا هذا فإسراف وتبذير؛ ولا مال أعودُ من العقل …
•••
ورضي «النابغة» عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضَعْفة إن فيك لَبَقيَّةً تعقِلُ بها … ثم أخذ منه الرسالة ودسَّها في ثوبه. قلنا: ولكن ألَا تفُضُّها لنعرفَ ما فيها؟
فضحك وقال: أئن جاريتُكم في باب المُطايَبة والنادرة، وجارَيْتُ هذا الأبلهَ في باب جنونه وحُمْقه تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغة إلا من عنوانها، وأن نابغة القرن العشرين هو مَن أرسلها إلى نابغة القرن العشرين، كما قال سعد باشا: «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس» …؟ لَحَقٌّ — والله — أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر، هو الذي تأتي منه الصغائر أحيانًا لِتُثبِت أنه عقل كبير، وهكذا تَسخَر الحقيقة من كبار العقول «كنابغة القرن العشرين» …
فغضِب المجنون الآخر وهمَّ أن يتكلم، فقال له «النابغة»: أنت كاذب فيما ستقوله.
قلنا: ولكنه لم يقل شيئًا بعدُ، فكما يجوز أن يكون كاذبًا يجوز أن يكون صادقا.
قال: وسيخطئ في رأيه الذي يُبديه …
قلنا: ولم يُبدِ شيئًا من رأيه …
قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها.
قلنا: ويحك! أدَخَلْتَ في عقل الرجل أم تعلم الغيب؟
هذا الذاهب العقل هو كالجبان المنقطع في وحشة القَفْر، في ظلام الليل؛ إذا توجَّس حركة ضعيفة انقلبت في وهمه قصَّةَ جريمة ماؤها الرعب وفيها القتل والذبح؛ ولهذا يخشى ما في الرسالة التي جاءت من صديقي صاحب السمو. هَاؤمُ اقرءوا الرسالة.
•••
وذهبتُ أُصلِح بينهما صُلحًا فقلت: إن في الحديث الشريف: «بينما رسول الله ﷺ في أصحابه إذ مرَّ به رجل، فقال بعض القوم: هذا مجنون. فقال رسول الله ﷺ: هذا مصاب؛ إنما المجنون المقيم على معصية الله.»
فقال صاحب المتن: «مما حفظناه» إنما المجنون المقيم على معصية الله.
قلت: وليس فيكما مقيم على معصية الله …
قال المجنون: «مما حفظناه»: وليس فيكما مقيم على معصية الله …
قلت: هذا ليس من الحديث ولكنه من كلامي …
قال «النابغة»: أنبأتكم أن هذا الأبله يَضِلُّ في داره كما يضل الأعرابي في الصحراء؛ وإن الأسطول الإنجليزي لو استقر في ساقية يدور فيها ثور، لكان ذلك أقرب إلى التصديق من استقرار العقل في رأس هذا الأبله …
قال «النابغة»: لَعَمْري إن هذا هو الحق؛ فنبوغ العقل مرض من أمراض السمو فيه؛ فالشاعر العظيم مجنون بالكون الذي يتخيله في فكره، والعاشق مجنون بكون آخر له عينان مكحولتان؛ والفيلسوف مجنون بالكون الذي يدأب في معرفته؛ ونابغة القرن العشرين مجنون … لا. لا. قد نسينا «ا. ش»، فهو مجنون، و«س. ع.» فهو مجنون.
قلنا: أوله ما أعجبَ سِحْرَ المرأة في الكون النفساني للرجال!
قلت: ولكن أليس من المال فِضَّة، وهي توجد اللصوص كالذهب؟
قال: نعم، وفي النساء كذلك فضة، وفيهن النحاس؛ ولو أنت ألقيتَ ريالًا في الطريق لأحدثت معركة يختصم فيها رجلان، ثم لا يذهب بالريال إلا الأقوى، ولو تركت قرشًا لتضارب عليه طفلان، ثم لا يفوز به إلا من عضَّ الآخر …
ولكن «فُورد» الغني الأمريكي العظيم الذي يجمع يده على أربعمائة مليون جنيه، لا يتكلم عن القرش؛ و«نابغة القرن العشرين» الذي يملك «ليلى»، لا يتكلم عن غيرها من قروش النساء …
قلت: فإني أحسبك أعلمتَني أن اسمها فاطمةُ لا ليلى.
قال: هل يستقيم الشعر إذا قلت: وكل الناس مجنون بفاطمة، وفاطمُ لا تُقرُّ لهم؟ قلت: لا.
قال: إذن فهي «ليلى» ليستقيم الشعر … أما حين أقول: أفاطم مهلًا بعض هذا التدلُّل، فهي فاطمة ليصحَّ الوزن.
قلت: يشبه — والله — ألَّا يكون اسمها ليلى ولا فاطمة؛ وإنما هي تسمى حسب الوزن والبحر، فاسمها فَعُولُنْ أو مُفَاعَلَتُنْ …
•••
ثم قلنا له: فما رأيك في الحُبِّ، فإنه لَيُقال: إنك أعشقُ الناس وأغزلُ الناس؟
قال: اسكت يا ويلك! لقد أطفأتَ الأنوار بكلمتك المجنونة. كان في رأسي مَرْقَص عظيم تسطع الأنوار فيه بين الأحمر والأخضر والأبيض؛ وترقُص فيه الجميلات من الطويلة والقصيرة والممشوقة والبادنة، فجئتَ بالداء والجنون — قبَّحك الله — فأخرجتني عنهن إليك. أحسب أنك لو انتحرتَ لصلح العالم أو صلحت أنا على الأقل … فإذا أردتَ أن تشنُق نفسك فأنا آتيك بالحبل الذي كنت مقيدا فيه أي: الحبل الذي عندي في الدار … على أن رأسك الفارغ مشنوق فيك وأنت لا تدري.
قال الآخر: ما أنت منذُ اليوم إلا في شنقي وتعذيبي أو في شنقِ عقلي «على الأصح». «ومما حفظناه» قول الأحنف بن قيس: إني لَأُجالِس الأحمقَ ساعة فأتبيَّنُ ذلك في «عقلي» …
فلم يَرُعْنا إلا قيام المجنون مُسلَّحًا بحذائه في يده … وهو حذاء عتيقٌ غليظ يقتلُ بضربة واحدة؛ فحُلْنا بينهما وأثبتناه في مكانه. وقلنا: هذا رجل قد غُلِب على عقله فلا يدري ما يقول؛ فإذا هو دلَّ على أنه مجنون، أفلا تدُلُّ أنت على أنك عاقل؟ ما سألناك في انتحاره وجنونه، بل سألناك رأيك في الحب؛ وما نشكُّ أنك قد أطَلْتَ التفكير ليكون الجواب دقيقًا، فإنك «نابغة القرن العشرين»، فانظر أن يكون الجواب كذلك.
جلس نابغة القرن العشرين مجلس الإملاء مرتجلًا فقال: قصة الحب هي قصة آدم، خلق الله المرأة من ضلعه. فأول علامات الحب أن يشعر الرجل بالألم كأن المرأة التي أحبها كسرت له ضلعًا … وكل قديم في الحب هو قديم بمعنًى غير معقول، وكل جديد فيه هو جديد بمعنًى غير مفهوم؛ فغير المعقول وغير المفهوم هو الحب.
والجمرة الحمراء إذا قيل إنها انطفأت وبقيت جمرة فذلك أقرب إلى الصدق من بقاء الحب حيًّا بمعناه الأول إذا انطفأ أو برد.
والعاشق مجنون. وجنونه مجنون أيضًا، فهو كالذي يرى الجمرة منطفئة، ويرى مع ذلك أنها لا تزال حمراء، ثم يُمْعِن في خياله فيراها وردة من الورد … وإذا سألته أن يصف الجمال الذي يهواه كان في ذلك أيضًا مجنونَ الجنون، كالذي يرى قمر السماء أنه قد تفتَّت وتناثر ووقع في الروضة، فكان نِثارُه هو الياسمين الأبيض الجميل الذكي …
والمجنون يرى الدنيا بجنونه والعاقل يراها بعقله؛ ولكن العاشق المخبول لا ينظر مَن يهواه إلا ببقية من هذا وبقية من ذلك، فلا يخلُص مع حبيبه إلى جنون ولا عقل.
«والمجهول» إذا أراد أن يظهر في دماغٍ بشري لم يسعه إلا أحد رأسين: رأس المجنون ورأس العاشق …
ولا صعوبة في الحكم على شيء بأنه خير أو شر إلا حين يكون الخير والشر امرأة معشوقة. أما أوصاف الشعراء والكُتَّاب للجمال والحب فهي كلها تقليد قد توسَّعوا فيه؛ والأصل أن ثورًا أحب بقرة فكان يقول لها: يا نجمة القطب التي نزلت من السماء لتدور في الساقية كما درات في الفَلَك.
قال «النابغة»: هذا رأيي في حب العاشقين؛ أما حبي أنا «نابغة القرن العشرين» فيجمعه قولك: فُلٌّ، ورد، زهر …
قلنا ما هذه الألغاز؟ وهل للحب مَتْن كقولهم: حروف القلقلة يجمعها قولك «قطب جد»، وحروف الزيادة يجمعها قولك «سألتمونيها»؟
فتضاحك «النابغة»، وقال: تكاثَرت الظباءُ على خراش، فلكيلا ننسى … إن كل حرف هو بدء اسم، الفاء فاطمة، واللام ليلى، والواو وردة، والراء رباب، والدال دلال، والزاي زكية، والهاء هند، والراء رباب …
قلنا: رباب قد مضت في «ورد».
قال: كنا تهاجرنا مدة ثم اصطلحنا بعد هند …
•••
أبو العَيْر طَآدْ طِيل طَلِيري بَك بَك بَك …