المجنون (٥)
ثم إن «نابغة القرن العشرين» استخفَّه الطرب لذكر صواحبه وجميلاته من فاطمة إلى رباب؛ ومن طبع المجنون أنه إذا كذَب صدَّق نفسه، فإن قوة الضبط في عقله إما معدومة وإما مختلة؛ وكل وجه تخيل منه خيالًا فهو وجه من وجوه العلم عنده، إذ كان عالَمه أكثره في داخله لا في العالم، فإذا توهَّم أو أحسَّ أو شعر، فإنما يكون ذلك بطريقته هو لا بطريقة الناس العقلاء؛ فليس يحتمل عقله إلا فكرة واحدة تمضي منفردة بنفسها مستقلة بمعناها كأنها قَدَرٌ غالب على جميع أفكاره الأخرى، فلا شأن لها بالواقع، ولا شأن للواقع بها، وإنما هي تحقق معناها كما تخطر له، لا كما تتمثَّل فيما حوله.
ومن ذلك تنقلب الكلمة من الكلام، وإنها لحادثة تامة في عقل المجنون كالقصة الواقعة لها زمان ومكان وبدء ونهاية، لا يخامره فيها الشك، ولا يعتريها التكذيب؛ وكيف وهي قائمة في ذهنه من وراء سمعه وبصره قيام الحقيقة في الأبصار والأسماع؟
ولحواسِّ المجنون جهتان في العمل، لأنها بين كونين؛ أحدهما الكون الخرب الذي في دماغه؛ وفي هذا يقول «نابغة القرن العشرين»: إن في داخل عينيه منظارًا يرى به الأشياء في غير حقائقها، أي: في حقائقها …
قال: وإن القيصرة هي تحتاط أيضًا مثل ذلك فتُراسِله كل يوم باللاسلكي رسائل تقع من الجو في دماغه فيقرؤها وحده، وإن أخوف ما يخافه أن يغلبها جنون الحب يومًا فتطيش طيش المرأة، فتزوره في هذا المارستان … فقد تُقتَل إذا رآها الشيوعيون.
•••
قلنا: وطرب «نابغة القرن العشرين» لذكر صواحبه وجميلاته، فجعل يترنم بهذا الشعر:
فقال المجنون الآخر: «مما حفظناه»: ما لذة «الخبز» إلا للمجانين …
فضحك «النابغة» وقال: ما أسخفك من أحمق. إذا كان هذا هو المعنى فقل: ما لذة «الكعك». ألم أقل لكم: إن هذا الأبله لو تهجَّأ كلمة خبز قال: إنها ل. ح. م. ولو تهجَّأ كلمة لحم لقال: ف. و. ل …
قلنا: وتنسى في هذه الحالة أنك رجل؟
قال: وأنتم كذلك تتهمونني بالنسيان، وهو شرعًا جهة ملزمة للحكم بالجنون فما النسيان إلا الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني؛ وقد أعلمتُكم ما أكره من الكلام.
قلت: لا، النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل، فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن يُنسِيَ بعضُها بعضًا، فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله؛ فيحسب ذلك نسيانا وما هو به. وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسرورًا محبورًا يرقص طربًا … فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معًا على اختلاف معانيها وتناقضها؛ فيحسب ذلك ضربًا من الذهول عند من يجهل العلة «النبوغية»؛ وعذره جهل هذه العلة، وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا.
قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين، فقد خَفِيَ عليَّ أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم؟
- فأما الأولى: فما يُروَى عن رجل كان سَرِيًّا غنيًّا وعُمِّر حتى أدركه الخرَف؛ فجاءه
كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت، فدفع إلى غلام له دنانير يشتري
بها كفنا، ودنانير أخرى يتصدَّق بها على القبر، ثم قال لغلام آخر؛ امضِ إلى
صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعُه يُغسِّلها. قال الكاتب: فاستحييتُ منه
وقلت: يا سيدي ابعث خلفَ فلانة وهي جارة لنا تغسِّلها. قال: يا فلان ما
تدَعُ عقلك في حزن ولا فرح. كيف نُدخِل عليها مَن لا نعرفه؟
قال الكاتب: نعم تأذن بذلك. قال: لا — والله — ما يغسلها إلا فلان.
فضاق الكاتب بهذا الحمق وقال: يا سيدي كيف يغسل رجل امرأة؟
قال: وإنما أمك امرأة؟ … والله — لقد أُنسيتُ …
- وأما الحالة الثانية: فما يُروَى عن رجل كان نائما في ليلة باردة فخرجت يده من الفراش فبردت، فأدناها إلى جسده وهو نائم فأحسَّ بردها فأيقظتْه، فانتبه فزِعًا فقبض عليها بيده الأخرى وصاح: اللصوص. اللصوص … هذا اللص قد قبضت عليه، أدركوني لئلا تكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قابضًا بيده على يده وقد نسي أنها يده …
- وأما الثالثة: فهي رواية عن رجل قد ورِث نصف دار، ففكَّر طويلًا كيف تخلُص الدار كلها له ثم اهتدى إلى الوسيلة؛ فذهب إلى رجل وقال له: أريد أن أبيعك حِصَّتي من الدار وأشتري بثمنها النصف الباقي لتصير الدار كلها لي …
قال «النابغة»: لعمري إن هذا لهو الجنون، وما يُذكَر مع هؤلاء مجنون المتن ولا «غيره» …
فقال الآخر: «تالله لولا أن «نابغة القرن العشرين» يرفع نفسه عن الجنون لجاء في الجنون بما يُذهِل «العقول» …»
قال «النابغة»: ولكن قد فسد قول الشاعر: ما لذة العيش إلا للمجانين؛ فما بقيَتْ مع الجنون لذة.
قلت: إن الشاعر لا يريد المجانين الذين هم مجانين بالمرض، وإنما يريد العشاق المجانين بالجمال؛ وجنون العاشق في هذا الباب كعيوب العظماء من أهل الفن، وهي عيوب تدافع عن نفسها بحسنات العظمة، فليست كغيرها من العيوب.
قال: فيجب أن أصنع بيتًا آخر يفسِّر ذلك الشعر ليستقيم لي التمثُّل به، ثم فكر وهَمْهَم، ثم كتب في ورقة ثم طواها وقال: اصنع أنت أولُ، وسأَئْتمِن «س. ع.» على شعري ودفع إليه الورقة:
فنظرتُ وقلتُ: يجب أن يكون الشعر هكذا:
ونشر «س. ع.» الورقة فإذا فيها:
وضحكنا جميعًا؛ فقال النابغة: أبعدك الله يا «س. ع.» إن من ائتمن المجنون على سرٍّ وقال له اكتمه فكأنما قال له: انشره …
ثم قال: وددتُ — والله — أن يكون «س. ع.» هذا «نابغة»، ولكني سأجعله نابغة، فقد صار له عليَّ حق الصديق وهو حق لا أضيعه ولا أُخِلُّ به. فإذا احتجت يا «س. ع.» إلى خطاب رنان تُلقِيه في حفل عظيم، أو قصيدة تمدح بها وزير المعارف، فالجأ إليَّ فإني ملجأ لك. ومتى انتحلتَ شعري كنتَ عند الناس المتنبي أو البحتري أو ابن الرومي، فإن هؤلاء القدامى لم ينفعهم إلا أنني لم أكن فيهم، ولما لم أكن فيهم أعجبوا الناس إذ إنني لم أكن فيهم …
قلنا فما حكمك عليهم في الأدب؟
قال: إذا حكمتُ عليهم فقد جعلتُ نفسي بينهم، فمن الطبيعي ألَّا يُعجبني منهم أحد. إن «نابغة القرن العشرين» لا يقول لمعنًى: هذا أحسن؛ فإنه هو فوق الأحسن، ولا يقول عن نابغة: هذا أشهر؛ فإنه هو فوق الأشهر.
قلت: كأن الدنيا تحت قدميك وأنت فيها الزاهد العظيم الذي لا يقول في حُسْنٍ: هذا أحسن لأنه فوق الشهوة، ولا في نعيم هذا أطيب لأنه فوق الطمع، ولا في مال هذا أكثر لأنه فوق الحرص. وأحسبك لو كنت ترعى غنما لكنت الحقيق في عصرنا بقول تلك الراعية الزاهدة: أصلحتُ شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: حُكِي عن بعض الصالحين أنه فكر ذات ليلة فقال في نفسه: يا رب! من زوجتي في الجنة؟ فأري في منامه ثلاث ليال أنها جارية سوداء في أرض كذا، فجاء تلك الأرض فسأل عن الجارية، فقال له رجل: ما هذا؟ تسأل عن جارية سوداء مجنونة كانت لي فأعتقتها؟ قال: وماذا رأيتم من جنونها؟ قال: كانت تصوم النهار فإذا أعطيناها فَطُورَها تصدَّقتْ به، وكانت لا تهدأ الليل ولا تنام فضجرنا منها.
قال: فأين هي؟ قال ترعى غنما للقوم في الصحراء.
فذهب إلى الصحراء فإذا هي قائمة في صلاتها، ونظر إلى الغنم فإذا ذئب يدُلُّها على المرعى وذئب يسوقها. فما فرغت من صلاتها سلَّم عليها فأنبأته أنه زوجها في الجنة وأنبأها أنه بُشِّر بها؛ ثم سألها ما هذه الذئاب مع الأغنام؟ قالت: نعم أصلحتُ شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم.
قال «النابغة»: هذا كذب لأنه عجيب، وهو عجيب لأنه كذب.
قلت: وأي عجيب في هذا؟ إن الذئب والشاة، والأسد والغزال، والثعبان والعصفور، وكل آكل ومأكول من الأحياء، لو هي دخلت في دائرة الصلاة الحقيقية لانتظمت كلها صفًّا واحدًا يركع ويسجد. فهذه الجارية نشرت روح الصلاة والتقوى على كل ما حولها من قلبها الطاهر المطمئن بالإيمان فوقع الذئب منها في دائرة مغناطيسية، فسُلِبَ وحشيَّته ورجع مُسخَّرًا لفكرة الصلاح والخير إذ تجانست فيه الحياة بما حولها، وانسجم النوع والنوع في حركة متجاوبة انسجام الرجل المغناطيسي هو ومَن ينوِّمه في إرادة واحدة وفكرة واحدة.
قال «النابغة»: فإذا دخل الذئب مسجدًا يرتجُّ بالمصلين، أتراه يصُفُّ أربعته ويقف بينهم للصلاة، أم يصلي صلاته الذئيبة في لحومهم؟
قلت: وأين هم الذين يُصَلُّون بحقيقة الصلاة، فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب؟ إن هؤلاء جميعًا يصلون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها؛ وما منهم إلا مَن يتصل فكره بما يغلب عليه، كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته. فاسمها عندهم الصلاة، وحقيقتها عند الله كما ترى.
قال «النابغة»: ولكنه ذئب من طبيعته أن يأكل الشاة لا أن يرعاها، فلا أفهم شيئًا.
قلت: سأزيدكم عدم فهم … إن قلب تلك المرأة العظيمة الطاهرة ملتصق بالله، وليس فيه شيء من طباعها الإنسانية ولا ظِلٌّ من ظلال الدنيا؛ وقد تجلَّى فيه سر الحياة، وهو السر الذي لا يَطعَم ولا يَشرَب ولا يَلبَس ولا يَشتهِي ولا يَطمَع في شيء ولا يُحرِز شيئًا، وإنما طبيعته أشواقه الكونية، واتصاله بنفحات القوة الأزلية المُسخِّرة للوجود كله. فانتشرت هذه الموجة الكهربائية الأثيرية حول الجارية من قلبها، وجاء الذئب فالتجَّ فيها وغمرته الروحانية الغالبة، فإذا هو يفتح عينه على كون غريب قد تجلَّى السلامُ عليه، فليس فيه إلا قوة آمرةٌ أمْرَها بائتلاف كل شيء مع كل شيء، واجتماع المتنافرَيْن في حالة معروفة لا في حالة إنكار. فصار الذئب مستيقظا، ولكنه في روح النوم، وشلَّت فيه الذئبيةُ الطبيعيةُ، فإذا هو يحمل الأنياب والأظافر وقد أُنسِيَ استعمالها؛ وبقيت حركته الحيوانية، ولكن تعطَّلت بواعثها فبطل معناها.
ومن كل ذلك اختفى الذئب الذي هو في الذئب، وبقي الحيوان حيا ككل الأحياء، فناسب الشاة وفزع إليها إذ لم تكن العلاقة بينهما علاقة جسم الآكل بجسم الأكيلة، بل علاقة الروح الحي بروحٍ حيٍّ مثله.
•••
قال «النابغة»: أما أنا فقد فهمتُ ولكن هذا المجنون لم يفهم. اكتُب يا «س. ع»: جلس نابغة القرن العشرين مجلسه للفلسفة على غير إعداد ولا تمكُّن، وبدون كُتُبٍ البتة … وكان هذا أجمع لرأيه وأذهن له وأدعى لأن يتوفَّر على الإملاء بكل «مواهبه العقلية»؛ ولما أن فكر النابغة أعطى النظر حقه وجمع في عقله الفذِّ جزالة الرأي إلى قوة التفنُّن والابتكار، قال مرتجلا: إن فلسفة الذئب والشاة حين لم يأكلها ولم تنطحه، هي بالنص وبالحرف كما قال أستاذ نابغة القرن العشرين.
«حاشية» وإن مجنون المتن لم يفهم هذه الفلسفة.
فامتعض الآخر وقال «مما حفظناه»:
فقال «النابغة»: ويلك يا أبله! أما — والله — لو كنتَ نِفْطَوَيْهِ أو سِيبَوَيْهِ لما كنتَ عندي إلا جَحْشَوَيْهِ أو بَغْلَوَيْهِ …
قال «النابغة»: ولكنه تفسير مُفرِط السقوط كتفسير المجانين، فهو يقول إني مجنون.
قلت: كلا، إن تفسير المجانين يكون على غير هذا الوجه، كالذي حكاه الجاحظ قال: سمعت رجلا يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقا. قال الآخر: وأي شيء الزنديقًا؟ قال الذي يُقَطِّع المزِّيقًا. قال: وكيف علمت أنه يقطع المزيقًا؟
قال: رأيته يأكل التين بالخلِّ …