المجنون (٦)
وطالَ المجلس بنا وبالمجنونين، والكلام على أنحائه يندفع من وجه إلى وجه، ويمر في معنًى إلى معنًى؛ فأردت أن أبلغ به إلى الغاية التي جمعتُ من أجلها بين هذين المجنونين، بعدما انطلقنا في القول وانفتح القفل الموضوع على عقل كل منهما.
وكان قد مرَّ في الندِيِّ بائع روايات مترجمة «بوليسية وغرامية ولصوصية» يحمل الرجل منها مَزْبَلة أخلاق أوروبية كاملة لِينفضَها في نفوس الأحداث من فتياننا وفتياتنا، فقلت «لنابغة القرن العشرين»: أتقرأ الروايات؟ قال: لا، إلا مرة واحدة ثم لم أعاود، إذ جعلتْني الروايةُ روايةً مثلها.
قلنا: هذا أعجب ما مر بنا منذ اليوم، فكيف صرتَ رواية؟
قال: أنتم لا تعرفون طبيعة النوابغ، إذ ليس لكم حِسُّهم المُرهَف، ولا طبعهم المستحكِم، ولا خصائصهم الغيبية، ولا خواطرهم المتعلِّقة بما فوق الطبيعة.
فقطع عليَّ وقال: أضِفْ إلى ذلك أن هذه العقول التي تَحصر مَن يسمونهم العقلاء في الزمان والمكان، لا تُوجِد أهلها إلا الهمومَ والأحزان، والمطامع السافلة، والأفعال الدنيئة، فإنهم يعيشون فوق التراب.
قلت: نعم، وإذا عاشوا فوق التراب فباضطرار أن تكون معاني التراب فوقهم وتحتهم ومن حولهم وبين أيديهم، فليسوا يقطعون على هذه الأرض إلا عُمْرًا تُرَابِيًّا في كل معانيه ولكن …
قال: وزِدْ على ذلك أنهم مقيدون تقييد المجانين، غير أن حِبالهم وسلاسلهم عقلية غير منظورة؛ وبتَغليلهم تغليلَ المجانين يسمون أنفسهم عقلاء، وأعقلُهم أثقلُهم قيودا، وهذا من الغرابة كما ترى.
قلت: نعم، أما العقلاء بحقيقة العقل، فهم الذين يضحكون على هؤلاء ويسخرون منهم، إذ كانوا في حالٍ كحال المنطلِق من المقيَّد، وفي موضع كموضع المعافَى من المبتلَى ولكن …
قال: وفوق هذا وذاك، إنهم لا يملكون السعادة؛ إذ ليس لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي خُصَّ به النوابغ وكان الأوحد فيه «نابغة القرن العشرين».
قلت: نعم، وإذا ملكوا السعادة لم يشعروا بها، أما «النوابغ» فقد لا يملكونها، ولكن لا يفوتهم الشعور بها أبدًا فيجيئهم الفرح من أسبابه ومن غير أسبابه ما دام لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي دأبُهُ أبدًا أن ينسى ليضحك، ولا قانون له إلا إرادة صاحبه، على مشيئة صاحبه، لمنفعة صاحبه. ولكن …
قال: والذي هو أهُّم من كل ما سبق؛ أن أعظم خصائص هذا العقل الضاحك الساخر العابث أن يطرد عن صاحبه ما لا يحب ويُجنِّبه أن يخسر شيئًا من نفسه؛ فهو لذلك يجعل حسابه مع الأشياء حسابا يهوديًّا لا بد فيه من ربح خمسين في المائة …
قلت: نعم، وهو دائمًا كالطفل؛ وما أظرفَ بلاهةَ الطفل وما أجداها عليه، إذ يضعُ بلاهته دائمًا في أرواح الأشياء وأسرارها فتخرج بلهاء مثله، وتنقلب له الدنيا كأنها أُمٌّ تُضاحِك ابنَها وتُلاعِبه ولكن …
قال: ولكن هذا مبلغ لا تبلغه الإنسانية إلا شذوذا في أفرادها من جبابرة العقول «كنابغة القرن العشرين».
قلت: نعم «ولكن» كيف صار «نابغة القرن العشرين» رواية حين قرأ الرواية؟
قلت: وما عليك من حبيبة خائنة في الورق، ولص بين الحروف المطبعية وقاتل لا يقتل إلا كلامًا، وسجن ومحكمة على الصحيفة لا على الأرض؟
قلت: هذا ليس عجيبًا فإن اللغويين يُجرُون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى.
قال المجنون الآخر «مما حفظناه»: أن اللغويين يجرون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى …
قال «ا. ش»: أنت قلت، لا هو. على أنك لست قردًا أبدًا إلا عند امرأة جميلة فاتنة متخيِّلة متماجنة، قد تضع البرذعة على ظهر الأمير وتجعله حمارها، فيُعجِب الأميرَ أن يكون حمارها. ولستَ قردًا مع قرَّاد إلى جانب عنزٍ وكلب.
قال: الآن علمتُ السبب، فإن الخائنة كانت متخيلةً مؤلفةَ كُتُب وروايات، والمرأة التي تؤلف الكتب، غير بعيد أن تؤلف الرجل أيضًا، وتجعله قصة هو فيها قرد … لا، وهذا إن كانت جميلة كامرأة الرواية. أما إن كانت دميمة مجموعة من المتناقضات، أو عجوزًا مجموعة من السنين؛ فهذه وهذه كل أيامها كيوم الأحد عند النصارى … يوم للعطلة لا بيع فيه ولا شراء ولا مساومة. هذه وهذه كلتاهما تجعل الرجل كالماء في سبيل التجمد … لا يشتعل، فضلًا عن أن يستَعِر، فضلًا عن أن يحترق.
ومؤلفة الكتب لا يكون وجهها إلا إحدى وثيقتين: فإما جميلة، فوجهها وثيقة بأن لها ديونا على الرجال؛ وإما غير جميلة، فوجهها «مُخالَصة» من كل الديون …
قلنا: هذا في الخائنة. فيكف سرقك اللص ولستَ غنيًّا؟
قال: هذه هي نكتة النبوغ؛ وفي النبوغ أشياء لا ينكشف تفسيرها، وليس في جهلها مضرَّة على أحد، وجهلٌ لا يضرُّ هو عِلمٌ لا ينفع، لكنه علم. والبحث في بعض أعمال «النابغة» هو كالبحث عن سر الحياة فيه، إذ يعمل أعماله تلك بسر الحياة لا بسر العقل، أي بالعقل النابغ الخاص به وحده لا بالعقل الطبيعي المشترك بين الناس.
•••
قلت: ومن عجائبك أنك لا تقرأ الروايات، ولكنك مع ذلك تؤلفها …
قال: إن ذلك لَيكون، وإن لم أؤلفها أنا تألَّفَت هي لي. فإذا تقدَّم الليل ونام الناس جميعًا انتبهتُ أنا وحدي لرواية العالم فأرى ما شئتُ أن أرى. وفي ضوء النهار أجد الناس عقلاء ولكني في ظلمة الليل أبصرهم مجانين. فهذا الليل برهان الطبيعة على جنون الناس وضعف عقولهم إذ هو يثبت حاجة هذه العقول إلى ضرب من النسيان الأبله التامِّ لولاه ما عقلَتْ في نهارها ولا استقام لها أمر.
يُصرَع الناس في الليل صرعة المجانين فيُغمضون أعينهم ولا يرون شيئًا. أما أنا فأرى العالم في الليل مسرحًا هزليا يضِجُّ بالضحك من الإنسان الأحمق الذي يقطع سَراةَ نهاره، وهو معتقد أنه قابض على الوجود بالأعين والآذان والأناف … أئن رأيتَ الأسد بعينك أيها الأحمق وسمعتَ في أذنيك زئيره، ادَّعَيت الدعوى العريضة، وزعمت أنك ملكته وقبضت عليه، ولا تدري في هذا أنك كالمعتوه إذا قبض على الظلِّ بيده، وصاح هاتوا الحبل لأقيِّده لا يُفلِت؟ …
قلت: فإذا كان العالم كله روايتك فأخرج لنا فصلًا من الرواية.
قال: أيُّما أَحَبُّ إليكم، أن أكتُب أو أُمثِّل؟
•••
أنت يا «س. ع.» عَمُّ هذا المجنون. فإذا قال لك يا عم. قل له: أنا لست عمك ولكني أخو أبيك … لننظر أيتنبَّه على الفرق بين الصيغتين أم لا؛ فإنه فَرْق عقلي دقيق تُمتَحَن به العقول …
تعالَ أيها المريض فإني أرجو أن يكون شفاؤك على يدي، وفي يدي هذه لمسة من لَمَسات المسيح، لأن «نابغة القرن العشرين» هو الآن طبيب القرن العشرين …
متى أنكرتَ يا «س. ع.» عقل ابن أخيك وما كان السبب؟ وكيف غُلب على عقله؟ وهل «ا. ش.» هو خاله أو أخو أمه؟
لَطَف الله لك أيها المسكين. قل لي: أتتذكر أمس؟ أتتذكر غدًا؟ … إن الأمس والغد ساقطان جميعًا من حساب المجانين؛ ومن الرحمة بهم أن الدنيا تبدأ لهم كل يوم فقد استراحوا من ثلثي هموم الزمن في العقلاء، وهم لا يصلحون أن ينفعوا الناس كالعقلاء، غير أنهم صالحون أكثر من العقلاء للانتفاع بأنفسهم في الضحك والمرح والطرب، وهذا حسبهم من النعمة عليهم.
قل لي أيها المجنون: أتُحِسُّ أن الدنيا تصنع لك نفسك، أم نفسك هي تصنع لك الدنيا؟ إن هذه مسألة يحلها كل مجنون على طريقته الخاصة به، فما هي طريقتك في حلها؟
ما لك لا تجيب أيها الأبله؟ «هذا من جهة ومن جهة» أعطوه قرشًا لينطلق لسانه، وآتوا الطبيب أجره وافيًا وهو لا يقِلُّ عن قرشين …
ثم مال «النابغة» على مجنون المتن وسارَّه بشيء. فقلنا ما أمر المال بسرٍّ؛ هذا قرش للمريض وهذان قرشان للطبيب.
فقال المجنون: «مما حفظناه» كفى بالسلامة داءً.
فقال المجنون «مما حفظناه»: حماقة تعولني …
ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها؛ وعندي في الدار عَاطُوسٌ إذا أشممته هذا المجنون عطس به عطسة قوية فخرج جنونه من أنفه … قل لي أيها المسكين: أتخاف إذا سرتَ وحدك في ميدان واسع كأن الميدان سيلتفُّ عليك؟ أتضطرب إذا مشيت في مضيق كأن المكان سينطبق عليك؟ وإذا كنت في عربة القطار فهل يخيل إليك أن البيمارستان قد جره القطار وانطلق به هاربا؟ وهل شعرتَ مرة أنه أوحي إليك أن تنتحر؟
أرني هذا القرش الذي في يدك. فمد إليه المجنون يده بالقرش.
قال «النابغة»: انظر الآن هل تحدثك نفسك أن تغصبني هذا القرش أو تسرقه مني؟ قال: نعم.
قال «النابغة»: إذن يجب أن أُحرِزه في جيبي … وأسرع فأخفاه في جيبه …
•••
قال: فالرواية الآن هي رواية الفيلسوف العظيم أفلاطون وتلميذه أرسطو.
قل لي ويحك يا أرسطو. أعلمت أن في المجانين أغنياء يسرقون الشيء القليل لا قيمة له وهم أغنياء وليست بهم حاجة إليه. فما علة ذلك عندك وما وجهه في مقولة الجنون؟
أعجزتَ عن الجواب؟ إذن فاعلم يا أرسطو أن المصاب بهذا الضرب من الجنون إذا اشترى هذا الشيء بدرهم كانت قيمته من الدرهم وحده، وهو غني لا قيمة للدرهم في ماله فلا يحفل بالشراء بيد أنه إذا سرقه كانت قيمته عنده من عقله وحيلته فيجيئه بلذة لا تشتريها كل أمواله ولا كل أموال الدنيا. فهذا جنون باللذة لا بالسرقة، وهو بذلك ضرب من العشق يجعل الشيء إذا لم يُسرَق كأنه المرأة المعشوقة الممتنعة على عاشقها.
فالدنيا معكوسة منقلبة أوضاعها يا أرسطو، لو استقامت هذه الأوضاع لوُجِدت السعادةُ في الأرض لأهل الأرض جميعًا. وكيف لك بالسعادة والناس مخلوقون بعيوبهم؟ ويا ليتهم مخلوقون بعيوبهم فقط، ولكن الطامة الكبرى أن عيوبهم تعمل دائمًا على أن ترى في الآخرين عيوبًا مثلها.
كل حمار فهو يريد أن يملأ جوفه تِبْنًا وفولًا وشعيرًا، غير أني لم أر حمارًا قط يريد أن يملأ لنفسه الإصطبل؛ فإذا وُجِد حمار هذه همَّتُه وهذا عمله فاسمه إنسان لا حمار.
يا أرسطو إن معضلة المعضلات أن يحاول إنسان حل مشكلة داخلية محضة قائمة في نفس حمار أو ثابتة في ذهنه الحماري … ومثل هذا أن يحاول حمار حل مشكلة نفسية في ذهن إنسان أو في قلبه، فلا حل لمشاكل العالم أبدًا ما دام كل إنسان مع غيره كحمار مع إنسان …
يا أرسطو: «هذا العالم عندي كتلة من العدم اتفقت على الظهور وستختفي. والعالم عندي ضعف ركب وقوة ركبت. والعالم عندي لا شيء. والعالم بين بين. والعالم قسمان: منهم الفلاح الزراعي وذلك أفضل فلسفة طبيعية. والعالم في حاجة إلى الموت والموت في حاجة إليه. والأدب هو الحياة ولا حياة بلا أدب. والأدب ضربان: أدب نفساني وأدب مكتسب، وقد يكون طبيعيًّا كما هو عند نابغة القرن العشرين. ومَن هو نابغة القرن العشرين؟ هو شخص مات بلا موت، ويحيا بلا حياة.»
أتريد يا أرسطو أن تعرف سر تركيب العالم؟ الأمر يسير غير عسير، فإن سر تركيبه كسر تركيب القرش الذي في يدك، فدعني أظهرك على هذه الحقيقة ومُدَّ يدك بالقرش لأُبيِّن لك سر التركيب فيه …
ولكن المجنون الآخر أسرع فغيَّب القرش في جيبه. فقال «النابغة»: هذا سياسي داهية خبيث. والرواية الآن رواية سياسيِّ القرن العشرين.
ليس في حقيقة السياسة إلا الرَّذْل من أفعال السياسيين. والألفاظ السياسية التي تحمل أكثر من معنًى هي التي لا تحمل معنًى. فليحذر الشرق من كل لفظٍ سياسيٍّ يحتمل معنيين، أو معنًى ونصف معنًى، أو معنًى وشبه معنًى؛ فإن قالوا لنا: «أحمر» قلنا لهم: اكتبوه بهذا اللفظ؛ فإذا كتبوه قلنا لهم: ارسموا إلى جانبه معناه باللون الأحمر لتشهد الطبيعة نفسها على أن معناه أحمر لا غير … وعلى هذه الطريقة يجب أن تُكتَب المعاهدات السياسية بين أوروبا والشرق …
إنهم يكتبون لنا جريدة بأسماء الأطعمة ثم يقولون: أكلتم وشبعتم … ولقد رأيتُ «مظاهرات» كثيرة ولا كالمظاهرة التي أتمنَّاها؛ فما أتمنى إلا أن يخرج كل المجانين في مظاهرة …
وهذا الأبله الذي أمامنا ليس وطنيا ولا فيه ذرة من الوطنية؛ فإن كان وطنيا أو زعم أنه وطني، فليُخرِج القرش الذي في جيبه … ليكون فَأْلًا حسنا لخروج جيش الاحتلال من مصر …
•••
ولكن المجنون لم يخرج القرش وترك جيش الاحتلال في مكانه.
فقال «النابغة»: الرواية الآن رواية الشرطي واللص. وبحقٍّ من القانون يكون للشرطي أن يفتِّش هذا اللص ليُخرج القرش من جيبه …
•••
•••
إن سخافات الحب هي أقوى الدليل عند أهله على أن الحب غير سخيف؛ فكل فكرة في الحب مهما كانت سخيفة، عليها جلال الحب؛ وللحذاء في قدميك يا حبيبتي جمال الصندوق المملوء ذهبًا في نظر البخيل، وكل شيء منك أنت فيه سر جمالك أنت. والحذاء في قدميك ليس حذاء، ولكنه بعض حدود جسمك الجميل، فلا أكون كل العاشق حتى أحيط بكل حدودك إلى الحذاء.
إن جسمك يا حبيبتي كالماء الجاري العذب؛ في كل موضع منه روح الماء كله؛ وحيثما وقعت القبلة من جسمك كان فيها روح شفتيك الورديتين، هذه قبلة على قدميك يا حبيبتي؛ وهذه قبلة على ساقك؛ وهذه قبلة على ثوبك وهذه قبلة على جيبك …
«والرواية الآن»؟ … رواية عربة الإسعاف …