قرآن الفجر
وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تُقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تُشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة …
•••
وذهبتُ ليلة فبتُّ عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته؛ فلما كان السَّحَرُ الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت قيَّام السموات والأرض ومَن فيهن ومَن عليهن؛ أنت الحق ومنك الحق … إلى آخر الدعاء.
وكان لها منظر كمنظر النجوم يُتمُّ جمال الليل بإلقائه الشُّعَل في أطرافه العليا وإلباس الظلام زينته النوارنية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السَّحَر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهول الذي سيخرج منه الغد؛ وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكبًا فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقَدَر هادئًا وادعًا راجعًا إلى نفسه، مجتمعًا في حواسه، منفردًا بصفاته، منعكسًا عليه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن الظلمة قد طَمسَت فيه على ألوان الأرض.
ثم يشعر بالفجر في ذلك الغبش عند اختلاط آخر الظلام بأول الضوء، شعورًا نديًّا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه؛ ليتنضَّر من يُبْس، ويرِقَّ من غلظة، وكأنما جاءوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبدوءًا بالرحمة مفتتحًا بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر.
•••
•••
وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القُمْريُّ وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تُفسَّر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتزَّ يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد.
كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته، يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطرابًا روحانيًا كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتتردد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيرفضُّ عليها بمثل الندى، فإذا هي ترفُّ رفيفًا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطلُّ.
وسمعنا القرآن غَضًّا طريًّا كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه.
واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم — سبحانه وتعالى — في كلامه، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور!
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحيَت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبقَ على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعًا على طبيعته الأرضية.
أما الطفل الذي كان فيَّ يومَئذٍ فكأنما دُعي بكل ذلك؛ ليحمل هذه الرسالة ويؤدِّيها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعدُ؛ فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله!