اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقوِّمات الاستقلال
ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحي المُكتَنُّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصور عليه في تركيبه كعصير الشجرة؛ لا يُرَى عمله والشجرة كلها هي عمله.
وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويُوجِد في الاختلاف نزعة التشابُه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بإزاء غيرها قانون التناصُر والحمية؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوزاع متآزرة؛ فتجتمع الأمة كلها على الرأي؛ تتساند له بقواها ويشد بعضها بعضًا فيه؛ وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها.
والخُلُق القوي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه؛ إذ يعمل في الحيِّز الباطن من وراء الشعور، متسلِّطًا على الفكر، مصرفًا لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وَضْع الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم.
لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.
والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قِبَل الدين أو القومية؛ فتراهم إذا وَهَنَت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم ويتبرءون من سلفهم وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم، ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي، ومن ثَمَّ تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها؛ فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن؛ لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام؛ وقد يكون الوطني مثله أو أجمل منه، بَيْدَ أنه فقَدَ الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته فضعفت لا تميزه.
وأعجب من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سُمِّي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذِلَّة … وما ذاك إلا صغر نفوسهم وذلتها؛ إذ لا يَنْتَحون لقوميَّتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي.
والشرق مبتلًى بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدِّم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعًا إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا — نحن الشرقيين — بهذا لكان هذا وحده علاجًا حاسمًا لأكثر مشاكلنا.
فاللغات تتنازع القومية، ولَهِيَ — والله — احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثَّرت اللغة الأجنبية في الخُلُق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه.
•••
والدين هو حقيقة الخُلُق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب.
ولولا التديُّن بالشريعة؛ لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين؛ لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة؛ وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعْل ذلك كله نظامًا مستقرًا فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائمًا نحو الأكمل.
وكل أمة ضعُف الدين فيها اختلَّت هندستها الاجتماعية وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة غاية في هذه الأرض؛ وذلك لتنتظم الغايات الأرضية في الناس فلا يأكل بعضهم بعضًا فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرة، وثواب الأسفل في أن يصبر على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح، والخير، والتعاون على البر والتقوى.
وما دام عمل الدين هو تكوين الخُلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبيِّ على الذل، الكافر بالاستعباد، المؤمن بالموت في المدافعة عن حوزته، المجزيِّ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس — ما دام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق — فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولَعَمْري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرَّر في نفوس الأمة وانطبعت عليه.
وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تَشرُف وتسود وتعتز، ويكون واجب هذا الواجب فيها ألَّا تسقط ولا تخضع ولا تذِلَّ.
ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي الإيمان الممتلئ ثقة ويقينًا ووفاء وصدقًا وعزمًا وإصرارًا على فضيلته وثباتًا على ما يلقى في سبيلها — لا يكون رجلًا كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته، وغايتُه السامية لا تنفصل عنه، هو رجل صدق المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر.
•••
والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب، تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون دينًا ضيقًا خاصًّا به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعًا بمذهب واحد؛ هو إجلال الماضي.
وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيُوحون إليه وَحْيَ عظمائهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه.
والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئًا نفسيًّا حقيقيًّا، حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة، وليس يعرف هذا إلا مَن اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك يُثبِت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا.
وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تُنبِّه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتُوحِش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر.
ومتى صدقت الوطنية في النفس أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني.
•••