أمراء للبيع
وقلت له يومًا: يا سيدي، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة؛ فإن علوتَ قلت: «يا إنسان»، وإن نزلتَ قلت: يا إنسان؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوَّق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله المُلْك إنسانًا بذاته في وجود ذاته، حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القَدْر، وأقلُّه مهما قلَّ هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟
فتبسَّم الشيخ وقال: يا ولدي، إيش هذا؟ إننا نفوس ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدينُ لبطل أن يكون دينًا، ولو نافق العالِم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخةٌ في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مُغطًّى في حياته، ولكن عالِم الدين رجل مشكوف في حياته لا مغطًّى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغشَّ وخان.
وما معنى العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا.
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور: يُظهر النورُ نفسَه فيه ويُظهر حقيقتَه البلورية؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يُظهر النورُ حقيقتَه الخشبية لا غير!
وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغيِّر ويبدِّل ويُظهِر ويُخفي؛ ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل وماذا تقول؟
والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟
إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كله؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم … فينزلون بذلك منزلة البهائم؛ تقدِّم أعمالها لتأخذ لبطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله …
فإذا رأيت لعلماء السوء وقارًا فهو البلادة، أو رقَّة فسمِّها الضعف، أو مُحاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتًا عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها!
•••
قال الإمام: وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئًا تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش؛ إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره؛ ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرُّده من أوهام القوة لا تغلب؛ وانتزع خوف الدنيا من قلبه فعمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس، حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلْق في جنازته حين مرَّت تحت القلعة: الآن استقر أمري في المُلك، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج عليَّ لانتزع مني المملكة!
فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر، فقلت: يا سيدي، كيف كانت الحال؟
قلت: أما خِفتَه؟
قال: يا بني، استحضرت هيبة الله — تعالى — فكان السلطان أمامي كالقط ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بَيْدَ أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لا شيء في صورة شيء.
نحن — يا ولدي — مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنًى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان: وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بُدٌّ أن يُقابَلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها؛ فإذا كان ذلك فها هنا المعنى بإزاء المعنى؛ فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت.
كلَّا — يا ولدي — إن السلطان والحُكَّام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفكَّكت واحتاجت إلى مسامير دُقَّت فيها المسامير؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تَخِزُه؟
إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذَّاته دون عمله كفرت به كل خشبة …
•••
وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكُلِّ الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله؛ وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة أعمالًا نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تَتَّخِذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس.
وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحُكْم الرقِّ مستصحَب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعًا بيعهم كما يُباع الرقيق!
وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يُصحِّح لهم شيئًا من هذا حتى يباعوا ويحصل عِتقُهم بطريق شرعي!
•••
وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة، فبعث إلى الشيخ يُلاطفه ويسترضيه، فلم يعبأ الشيخ به؛ فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويُفسد محلَّنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك، ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه ما دام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه، كالذين نراهم من علماء الدنيا؛ أما — والله — لأضربنه بسيفي هذا، فما يموت رأيه وهو حي.
ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستلَّ سيفه وطرق الباب، فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انجُ بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه …
وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت، فليس فيه الإنساني بل الإلهي، ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف، فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها.
وتناوله بروحه القوية، فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسَّر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ.
وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي، ما تصنع بنا؟
قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم!
– وفيمَ تصرف ثمننا؟
– في مصالح المسلمين.
– ومن يقبضه؟
– أنا.
أمراء للبيع! أمراء للبيع …