العجوزان (١)
ولبثا كذلك ما شاء الله، ثم تبدَّدا وأخذتهما الآفاقُ كدأْبِ «الموظفين»؛ ينتظمون وينتثرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن «الموظف» من تفسير قوله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ!
•••
قال المحدث: وكنت مع الأستاذ «م»، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شاب لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة … ويزعم أن في جمسه الناموس الأخضر الذي يُحيِي الشجرة حياة واحدة إلى الآخر.
وهو دائمًا عطِرٌ عبِق، ثم لا يمس إلا عطرًا واحدًا لا يُغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يُبقي للأيام رائحتها.
وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرة رياضية عملية لم ينتبه إليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام؛ ويقول: إن ثروة الصلاة تُكنَز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والآخر البطن لما قبل الموت؛ ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصبُّ في الروح كل يوم.
•••
ونهض «م» فاحتضنه وتلازما طويلًا، وجعل رأساهما يدوران ويتطوَّحان، وكلاهما يُقبِّل صاحبه قُبَلًا ظامئة لا عهد لي بمثلها في صديقين، حتى يتخيل إليَّ أنهما لا يتعانقان ولا يتلاثمان، ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معًا …
وقلت: ما هذا أيها العجوزان؟
فضحك «م» وقال: هذا صديقي القديم «ن»، تركته منذ أربعين سنة معجزة من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبقَ منه كاملًا إلا اسمه …
ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رينا؟
قال العجوز «ن»: لقد أصبحتُ كما ترى؛ زاد العمر في رجليَّ رجلًا من هذه العصا، ورجع مصدر الحياة فيَّ مصدرًا للآلام والأوجاع ودخلتْ في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء.
فضحك «م» وقال: قبَّح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية؟
قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم … ثم أنت يا ريت كيف تقرأ الصحف الآن؟
قال «م»: أقرؤها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا؟ وهل تقرأ الصحف يومًا غير ما تقرأ في يوم؟
قال: نعم.
قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي؟
قال «م»: ويحك يا رينا! إنك على العهد لم تبرح كما كنت مزبلة أفكار … ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما أرى بمنزلة بين العظم والخشب …؟
•••
قال المحدث: وضحكنا جميعًا، ثم قلت للأستاذ «م»: ولكن ما «رينا وريت»؟ وما هذه اللغة؟ وفي أي معجم تفسيرها؟
قال: فتغامز الشيخان، ثم قال «م»: يا بني، هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى.
قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقضِ إلا فيكما … ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب «رينا، وريت» في لغتكما القديمة إلا بمعنى «سوسو، وزوزو» في اللغة الحديثة؟
فامتعض العجوز «ن»، وقال: سبحان الله! اسمع يا بني: أن رجل سنة ١٨٩٥ فيَّ يقول لك: إن «ريت» معناها «مرغريت»، وكانت الجَوى الباطن وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ «م».
قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة ١٨٩٥، فكيف تريان الحب الآن؟
قال العجوز «ن»: يا بني، إن أواخر العمر كالمنفى … ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتم … غير أن المعاني تختلف اختلافًا بعيدًا.
قلت: واضرب لهم مثلًا.
قال: واضرب لهم مثلًا كلمة «الأكل»، فلها عندنا ثلاثة معانٍ: الأكل وسوء الهضم، ووجع المعدة؛ وكلمة «المشي» فلها أيضًا ثلاثة معانٍ: المشي، والتعب، وغمزات العظم … وكلمة «النسيم»، النسيم العليل يا بني: زيد لنا في معناها: تحرُّك «الروماتِزم» …
فضحك «م» وقال: يا «شيخ» …
قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقية من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من ومن ومن … ومجموع كل ذلك بقية من إنسان.
قال الأستاذ «م»: والبقية في حياتك.
قال «ن»: وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهَرِم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصرَّم الأيام! فإن الأيام هي التي تتصرَّم والزمن هو الذي يمر؛ أما الشيوخ فلن يتمنَّوْه أبدًا؛ فمن قال منهم: ليمض الزمن، فكأنما قال: فلأمض أنا …
فصاح «م»: يا شيخ يا شيخ …
ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم، فيصبح مثله ضعيفًا لا غناء عنده ولا حيلة له؛ وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقي من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها؛ فهي عاجزة أن تكسو عظامي …
•••
قال المحدث: فقهقه الأستاذ «م»، وقال: كدتُ — والله — أتخشَّب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي؛ لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا عَلَتِ السنُّ بجماعة منهم لم يتركوهم أحياء إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويُلجئونهم إلى شجرة غضَّة ليِّنة المَهَزَّة، فيُكرِهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلَّوْا منها وقد عَلِقَتْ أيديهم بأغصانها؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرُجُّونها وينفضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلَّت حوامل ذراعيه فأفلَتَ الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين!
فاقشعر العجوز «ن»، وقال: أعوذ بالله! هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك؛ ليتوهموهم طيورًا فيكون لحمهم أطيب وألذَّ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير.
قال «م»: إن كان في الوحشية منطق فليس في هذا المنطق «باب لِمَ»، ولا «باب كيف»، ولو كان بهم أن يأكلوهم لأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة؛ فإن رؤية الرجل هذه الشجرة وهزها وعاقبتها يُبعِد عنه الضعف والتخلخُل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشارًا على الحياة وطمعًا فيها وتنشطًا لأسبابها، فيكون ساعده آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحدة والنشاط والوثبان؛ فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة آخر ما يسع الجسم.
قال «ن»: فنعم إذن، ولعن الله معاني الضعف؛ كدت — والله — أظن أني لم أكن يومًا شابًّا، وما أراك إلا متوحشًا تخاف أن تؤكل، فتظل شيخًا رجلًا لا شيخًا طفلًا، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه: مهما يبلغ فكثرته غير كثيرة.
•••
قال المحدث: وأضجرني حوارهما؛ إذ لم يعد فيه إلا أن جسم هذا يرد على جسم هذا؛ وإنما الشيخ من أمثال هؤلاء زمان يتكلم ويقصُّ ويعظ وينتقد، ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لم ترحل أنت فيه إلى دنيا قديمة؛ فقلت لهما: أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلى سنة ١٨٩٥ …