السطر الأخير من القصة
رجعتُ إلى أوراق لي قديمة يبلغ عمرها ثلاثين سنة أو لِواذها، تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا، وجعلت أُفلي هذه الأوراق واحدة واحدة، فإذا أنا على أطلال الأيام في مدينة قائمة من تاريخي القديم، نائمة تحت ظلماتها التي كانت أنوار عهد مضى؛ وإذا أنا منها عَهْدٌ في أيام حِدْثانه ونشاطه إلا اتصل بينهما سر؛ ومن طبيعة القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلب مثله له حنين ونجوى!
عهد من الصِّبا كانت فيه طريقة العقل من طريقة الحُلم؛ وكانت العاطفة هي عاطفة في النفس، وهي في وقت معًا خُدْعة من الطبيعة؛ وكان ما يأتي يُنسي دائمًا ما مضى ولا يُذكِّر به؛ وكانت الأيام كالأطفال السعداء؛ لا ينام أحدهم إلا على فكرة لعب ولهو، ولا يستيقظ إلا على فكرة لهو ولعب، وكانت اللغة نفسها كأن فيها ألفاظًا من الحلوى؛ وكانت الآلام — على قِلَّتها — كالمريض الذي معه دواؤه المجرَّب، وكانت فلسفة الجمال تضحك من فيلسوفها الصغير، الواضح كل الوضوح، المقتصر بكل لفظ على ما يُعرَف من معناه، المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف في تخيُّل الفكرة!
هو العهد الذي من أخص خصائصه أن تعمل، فيكون العمل في نفسه عملًا ويكون في نفسك لذة.
•••
في أوراقي تلك بحثتُ عن قصة عنوانها «الدرس الأول في علبة كبريت» كتبتُها في سنة ١٩٠٥، وأنا لا أدري يومئذٍ أنها قصة يسبح في جوِّها قَدَر روائي عجيب، سيأتي بعد ثلاثين سنة فيكتب فيها السطر الأخير الذي تتمُّ به فلسفة معناها.
وها أنا ذا أنشرها كما كتبتُها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غضًّا لم يصلُب، وكان كالغصن تميل به النسمة، على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل، بلاغة فرَحِه أو بلاغة حزنه؛ وهذه هي القصة:
وهيَّأتِ الطبيعة منه إنسانًا حيوانيًّا، لا يبلغ أشده حتى يُغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة، ويستخلص قُوتَه كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعدُ إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة، فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل الإنسان عن إنسانيته، نزلت به إلى العالم الحيواني، ووَصَلَتْه بما فيه من الشر والدناءة، ثم لا تترك عملها حتى يتحوَّل هو إليها.
وكأن أذناب السياط كانت تُلهِب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفتُ هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كَفِّه الغليظة، خَيَّلت له في شِعرِها أن جدارًا انقضَّ عليه، وتَلَتْها جُملةٌ من قوافي الصَّفْع جَلْجَلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفَّأ على صدمات الأيدي، فما أحسَّ الغلام التَّعِس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحُكُّ أعواده في جلد وجهه الخشن!
•••
هكذا عرف الشرَّ قلبُ هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم بذلك القانون الذي يُصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سُبحة؛ ليَظهَر بها مظهر الصالحين؛ ولم يُفهموه شيئًا ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعُدَّ جرائمك على هذه السبحة؛ لتعرف كم تبلغ!
كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة، وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرَح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يُميِّز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويُحقِّق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقُصارَى ما بلغ — أن خيال هذا الغلام ألَّف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطئوا في فهمها وتوجيهها …! ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر.
•••
وانتهى «عبد الرحمن» إلى المحكمة، فقضت بسجنه في «إصلاحية الأحداث» مدة سنتين، واستأنف له بعض أهل الخير في بلدة؛ صدقة واحتسابًا … إذ لم يكلِّف الاستئناف إلا كتابة ورقة؛ فلما مَثَلَ الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محامٍ يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محامٍ شيطاني يتكلم بكلام عجيب، هو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخرية عمل الشيطان من عمل القاضي …!
سأله الرئيس: «ما اسمك؟»
– «اسمي عبده، ولكن العمدة يسميني: يابن الكلب!»
– «ما سنك؟»
– «أبويا هو اللي كان سَنَّان».
– «عمرك إيه؟»
– «عمري؟ عمري ما عملت شقاوة!»
النيابة للمحكمة: «ذكاء مُخيف يا حضرات القضاة! عُمْرُه تسعُ سنوات!»
الرئيس: «صنعتك إيه؟»
– صنعتي ألعب مع محمود ومريم، وأضرب اللي يضربني!»
– «تعيش فين؟»
– «في البلد!»
– «تاكل منين؟»
– «آكل من الأكل!»
النيابة للمحكمة: «يا حضرات القضاة، مثل هذا لا يسرق علبه كبريت إلا ليحرق بها البلد …!»
الرئيس: ألك أمٌّ؟»
– أمي غضبت على أبويا، وراحت قعدتْ في التُّرْبة؛ ما رِضْيِتْشِ تِرْجَع!»
– «وأبوك؟»
– «أبويا لَاخَرْ غِضِب وراحْ لَها».
الرئيس ضاحكًا: «وأنت؟»
– «والله يا أفندي عاوز أغضب، مش عارف أغضب ازَّاي!»
– «إنت سرقت علبة الكبريت؟»
– «دي هي طارت من الدكان، حسبتها عصفورة ومسكتها …»
النيابة: «وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟»
– «أنا عارف؟ يمكن خافت مني!»
النيابة للمحكمة: «جراءة مخيفة يا حضرات القضاة، المتهم وهو في هذه السن، يشعر في ذات نفسه أن الأشياء تخافه!»
فصاح الغلام مسرورًا من هذا الثناء … «والله يا أفندي إنت راجل طيب! أديك عِرِفتني، ربنا يكفيك شر العمدة والغفير!»
•••
وأُمضي الحكم في الاستئناف، وخرج الصغير مع رجال من المجرمين يسوقهم الجند، ثم احتبسوا الجميع فترة من الوقت عند كاتب المحكمة؛ ليستوفي أعماله الكتابية، ثم يُساقون من بعدُ إلى السجن.
وجلس «عبد الرحمن» على الأرض، وقد اكتنفه عن جانبيه طائفة من المجرمين يتحادثون ويتغامزون، وكلهم رجال ولكنه وحده الصغير بينهم؛ فاطمأن شيئًا قليلًا، إذ قدَّر في نفسه أنه لو كان هؤلاء قد أريد بهم شر لما سكنوا هذا السكون، وأن الذي يُراد بهم لا يناله هو إلا أصغر منه، كصفعة أو صفعتين مثلًا … وهو يسمع أن الرجال يَقتُلون ويُحرِّقون ويَسُمُّون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون «علبة الكبريت» في جنب ذلك؟ وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم!
وطرقتْ أذنيه قهقهةُ المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخطر، فثبَّت عينيه في الرجل، فإذا هو يرى وجهًا متلألئًا، وجسمًا رابط الجأش، وهُزُؤًا وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم.
واستراح الغلام إلى صاحبه هذا، وألحَّ بنظره عليه، وابتدأ يتعلَّم في وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة على الكتب، بل إن لكل إنسان حالة تشغله، فنَظَرُه في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها.
وقال الغلام لنفسه: «هذا الرجل أقوى من كل قوة؛ فهو محكوم عليه ولا يُبالي، بل يقهقه ضحكًا؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف؛ لا، بل هو تعوَّد الأحكام؛ إذن فمن تعود الأحكام لم يَخَف الأحكام؛ إذن يا عبد الرحمن ستتعوَّد، فإن الخوف هذه المرة قد غطَّك من «علبة الكبريت» في حريق متسعر، وما قدر «علبة الكبريت»؟ فلو كانت السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلك؛ يا ليتني إذن … ولكني لا أزال صغيرًا، فمتى كبرت … آه متى كبرت …»
وبدأ القانون عمله في الغلام؛ فطرد منه الطفل وأقرَّ فيه المجرم.
وأطرق «عبد الرحمن» هادئًا ساكنًا. وقامت في نفسه محكمة من الأبالسة بقُضاتها ونيابتها؛ يُجادل بعضهم بعضًا، ويداولون بينهم أمر هذا الغلام على وجه آخر.
وقال شيطان منهم: «ولكنا نخشى أمرين: أحدهما أن «الإصلاحية» ستخرجه بعد سنتين شريفًا يحترف؛ والثاني أن الناس ربما تَوَلَّوْه بالتربية والتعليم في المدارس رحمة وشفقة؛ فيخرج شريفًا يحترف.»
وما أسرع ما نفى الخوفَ عنهم قولُ الغلام نفسه بلهجة فيها الحقد والغيظ وقد صفعه الجندي الذي يقوده إلى السجن: «ودا كله على شان علبة كبريت؟! …»
في سنة ١٩٣٤ قضت محكمة الجنايات بالموت شنقًا على قاتل مجرم خبيث عيَّار مُتشَطِّر؛ اسمه «عبد الرحمن عبد الرحيم».