عاصفة القَدَر
على شاطئ النيل في إقليم «الغربية» من هذا البَرِّ، قرية ليس فيها من جبل، ولكن روح
الجبل
في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفًا رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة
الجبل
فيما حوله؛ وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتيانها وبين فتيان القرى
المتناثرة حولها؛ ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح
المتوارَث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جيل إلى جيل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت
تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقِّبون هذا الرجل الشديد «بالجمل»؛ لما
يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد، واحتماله فيها، وكونه مع ذلك سَلِسَ القياد
سليم
الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطشُ ذي يدين إنْ ثار ثائرُه، وله إيمان قوي يستمسك به كما
يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لابد له من بعض الجرائم
الشريفة التي يحمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله.
وليس في تلك القرية من بحر، غير أن فيها شابًّا أعنف طيشًا وعتوًّا من الموجة على
بحرها
في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غَوْرًا بعيدًا من الدهاء
والخُبْث، وهو ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة، يبسط يديه على
خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة وأهانته عزته على أهله؛ ولو اجتمعت حسنتان لتخرج منهما
سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب، لَمَا وسعها إلا أسلوبُ نشأته من أبويه الطيبَيْن،
تعلَّم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى العِلْم، فجعلت تلفِظُه المدارس واحدة بعد واحدة
كأنه
نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له في ذلك قال: إن خمسمائة فدان لا تسَعُها مدرسة … وذهب
إلى
فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه في مصر، فأرهف ذلك العلم … خياله وصَقَل حِسَّه، ورجع
من
باريس رقيق الحاشية خَنِثًا متظرِّفًا لا يصلح شرقيًّا ولا غربيًّا!
وليس في تلك القرية غابةٌ لكن فيها عذراء تلتفُّ من جسمها في رداء الجمال الطبيعي
الرائع،
ولها نفس أشدُّ وُعُورة مما تنطوي الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونق الذي يفتِن فيجذِب
إليها،
وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عمِّ «الجمل» واسمها «خضراء» وكأن
فيها
زهو خضرة الربيع، ولم تكن تَعشَق إلا القوة، فما يُزيَّن لها من الرجال إلا ابن عمها،
وهي
شديدة الإعجاب به، وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها.
وكانت «خضراء» جاهلة كنساء القُرى، بَيْدَ أنها تلميذة بارعة للطبيعة التي نشأت فيها
وزاولت أعمالها؛ فهي بذلك أقوى نفسًا وأشدُّ مِراسًا من الفتيات المتعلِّمات؛ إذ اتخذت
شكلًا ثابتًا من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتْها هذه الصنعة أو أقامتْها على هذه الهيئة،
على حين أن المتعلمات يُمضِين أيام النشأة وسنَّ الغريزة في التلقِّي عن الألفاظ والكتب،
وفي توهُّم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها وفي توقِّي أعمال الحياة بدلًا من
مخالطتها؛ فيئول ذلك منهن إلى قوة في التخيُّل قلَّما ترضى الحقيقةَ الإنسانيةَ المؤلمةَ
حين تُصادمها يومًا ما؛ وتتمُّ الواحدة منهن، ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة لا
امرأة للحياة بما فيها مما يُعجِب وما لا يُعجِب.
وكانت خضراء أشبه بدَوْرة النهار: تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال
نهارها
في دأب وعمل، فنفى ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة،
وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني؛
عليه أن يصبر على الكَدِّ والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقية لا بطبيعته المزوَّرة
المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات
لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعها؛ فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في «دائرته الضيقة»
يهتز
من جزء إلى جزء، حتى إذا أتمَّ الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخَطَا
بها
خُطوة واحدة، ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله ولا يزال دأبهما، وإن أكثرهما عملًا
وتعبًا هو أقلهما قيمة وظهورًا؛ ولكن هذا الضعيف المغبون
١ لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بُنِي في هذا النظام على فضيلة الصبر
والدقة، ليكون أساسًا للآخر؛ فعرفت «خضراء» كيف تُقيِّد طبيعتها من تلقاء نفسها، وتُقرِّها
على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط
٢ به؛ إذ كان فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلًا أو أسباب فضل، بل
في كونها هي أكثر منه حبًّا وتسامحًا وصبرًا وإيثارًا؛ ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته
الأفضل، كما تجوع الأم لتُطعِم ابنها!
•••
ورآها «ابن العمدة» ولمَّا تمضِ أيام على رجوعه من أوروبا، وقد لبث هناك بضع سنين،
وكان
عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شبابًا وجمالًا وروعة زيَّنتها
في
قلبه، وسوَّلت له مطمعًا من المطامع، وجعلته يرى ما يرى بمعنًى ويفهم منه ما يفهم بمعنًى
غيره.
وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرَّتها مع نساء من قومها وهُنَّ يتَعَابَثْنَ
٣ ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثرًا باديًا، فإذا ما أقبلن على النهر
لشأن من شئونهن تندَّت روح الماء على ذلك الأثر فاهتزَّ واهتزت المرأة به، فإن كانت ذات
مسحة من جمال رأيت لها رفيفًا كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت تتموَّج في جسمها،
وقد حسرتْ
٤ عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجذَّاب فأرسل فيه تيارًا من العافية والنشاط
يتصل منها بقلب مَن يراها إن هو كان شاعرًا يُحِسُّ؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة
على هذه الهيئة، فما أحسبه إلا يشرب منها بعينيه شربًا يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛
وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى فزيَّنها له الخبثُ الذي فيه أضعاف ما زيَّنها له
الجمالُ الذي فيها، وقذفها القدَر إلى قلبه ليُخرِج من هذا القلب تاريخ جريمة؛ فوقف
يتأمَّلها بعين أحدَّ من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلَّط عليها فكره وذوقه، وأيقظ
لها
في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عِدَّة من تماثيل الجمال تجسَّدت في كل واحد
منها
على شكل كأنما أُفرِغت فيه إفراغًا.
•••
وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من نشأتها على أن تطلب
فتُجاب، وتأمر فتُطاع، وتشتهي فتجِد؛ وكأنه ما خلق إلا ليستعبد قلبي والديه، وكانا ساذجين
لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين
٥ لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، منقطعين من
النسل إلا منه، فكأنه لم يُولَد لهما، بل قد وُلِدا له … فله الأمر عليهما من كونه لا
أمرَ
لهما عليه؛ وبذلك أسرف له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل،
ولكن متى أسرف بها الآباء على أولادهم لم تُنشِئ في أولادهم إلا ما يكون من أضدادها،
كالشجر
تُفرط عليه الريَّ فلا يُحدث فيه إلا اليبس والذَّوى، وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت
ترويه
بمقدار من هواك لا بمقدار حاجته.
ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي
بالغنى، والتنبُّل بالأصدقاء والحاشية من وزرائه وعُمَّاله، والتهيؤ بالثياب والأزياء؛
فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، وردَّ ظاهرُه على باطنه بالشهوات والدنايا، وأعانه على
ذلك
أنه جميل فاتن كأنما خُلقت صورته «للصفحة الحساسة» من قلوب النساء؛ وذلك مَلِكٌ عظيم
لم يكن
أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة … ولما أُرسِل إلى باريس وقع منها
في
بلد عجيب كأنه خيال متخيل لا يؤمُّه رجلً في الدنيا من كامل أو ناقص أوعالم أو جاهل وشريف
أو ساقط إلا رأى ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية
في خيرها وشرها وطهرها وفجورها واختلالها ونظامها لكانت هي باريس؛ وانقطع الشاب هناك
إلى
نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيُلزموه الفضيلة، ولا إخوان فيردُّوه إلى
الرأي، ولا خُلُق متين فيعتصم
٦ به، ولا نفس مُرَّة فيفيء إليها، ولا فقر … فيحدَّ له حدودًا في الشهوات يقف
عندها؛ وما هو إلا خيال متوقِّد ومزاج مشبوب وتربية مُدَلَّلة وطبع جريء ومال يمر في
إنفاقه، ومن ورائه أب غنيٌّ مخدوع كأنه في يد ابنه كرة الخيط؛ كلما جذب منها مدت له مدًا،
ثم ما هنالك من فنون الجمال ومُتَع اللذات وأسباب اللهو، مما يتناهى إليه فساد الفاسد،
وما
هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصِلة للأخلاق الطيبة؛ فكان الشيطان الباريسي من هذا المسكين
في
سمعه وبصره ورجله ويده، يُوجِّهه حيث شاء؛ وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذًا
في كل علوم النفس المختلَّة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه
من
علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما يدُلُّ الحاذقَ على أن هذا الشاب لم يفلح قط في مدرسة.
فلما وقعت «خضراء» منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدَّها
٧ نزوة من نزواته؛ فما بمثله أن يُحِبَّ مثلها، ولا هي كفايته في شيء إلا أن تكون
لَهْوَ ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية؛ وحسبها امرأة ليس
لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدَّر أن غناه وفقرها يقتلعان بابًا، وعِلْمه وجَهْلها
يحطمان بابًا آخر، وجماله وحدَه يضع ما بقي من الأقفال عما بقي من الأبواب! وكان يحسب
أن
جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعها؛ فكل مَن ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا
الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يَعرِض لها وهي ترميه من صدودها
كل
يوم بداعية من دواعي الهوى؛ وكان لا يجد بنفسه قوةً أن يزيدها على النظر شيئًا، وترك
لوجهه
وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم يَنَلْ طائلًا؛ وتمادَى في حبه،
واستولت عليه فكرة غمرته بهذه المرأة؛ أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها، وكانت
مُسمَّاة لابن عمها
٨ فكانت تَتَحاشَى
٩ هذا الشاب وتحذره حذرًا شديدًا، وتتوهم أن الناس يُحصون عليها النظرة
والالتفاتة ويُحصون عليه من مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأنًا غير شأن الرجال
الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته.
وكان للرجل خادم داهية قد تخرَّج في مجالس القضاء … من كثرةِ ما حُكِم عليه في تزوير
واحتيال وغشٍّ وادِّعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه موانسًا ورفيقًا؛ وجعله
دسيسًا
١٠ إلى شهواته السافلة وكان يسميه فيما بينهما «إبليس»؛ فلما أراد أن يرميها به
قال: يا سيدي، هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصمًا في الدعوى كانت قضية احتيال
على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة
عيشها
كفافها، وأنت تَعِدُها وتُمنِّيها وتبذل عني ما شئت، ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال
سيوجد ما يوجده في كل مكان، فيشري ما لا يُشرَى، ويبيع ما لا يُباع! قال «إبليس»: نعم
يا
سيدي، وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المال! قال: فأنت إذن لا تقبل؟ قال: ولا أرفض
…
قال الشاب: قاتلك الله! لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين: أحدهما لك والآخر لها؛ ولكن
أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال «إبليس»: لما كنت في السجن عرفتُ لصًّا
فاتكًا أعيا قومه خبثًا وشرًّا؛ وهذا السجن يحسبه عقابًا وردعًا ومنهاة عن الإثم، على
أنه
المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتَلَقِّي علوم الجريمة عن كبار أساتذتها؛ إذ لا
يمكن
أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه؛ فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية،
ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تُحَلُّ! قال الفتى: ويحك! أين يذهب بك؟ إنما
أرسلك
إلى المرأة لا إلى السجن! قال: ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني ابن
عمها: إلى السجن أم إلى المستشفى …؟!
فاسمع يا سيدي: كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن: أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها
أن
يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل … صه! انظر
انظر!
فالتفت الشاب، فإذا «الجمل» مقبل يتكفَّأ في مشيته، وكان غليظًا، فإذا خطا شدَّ على الأرض
بقدميه وتكدَّس
١١ بعضه في بعض؛ وكان منطلقًا وقتئذٍ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال: السلام
عليكم! فردَّا جميعًا، ورمى ابنَ العمدة بنظرة، ثم مضى لوجهه فلم يجاوز غير بعيد حتى
بلغه
صوت الشاب يناديه: يا فلان! فانكفأ إليه، فقال له الشاب: لقد بعُد عهدك بالقوة على ما
أرى.
قال: فما ذاك؟ قال: أما بلغك أن فلانًا في هذه القرية التي تجاورنا سيقترن بزوجته بعد
أيام،
وأنت تعرف الموقعة التي كانت بين بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف
اندفعوا على أهل بلدنا وحطَّموا فيهم تلك الحُطَمة الشديدة ولولا أنت أدركتَهم ورميتَهم
بنفسك حتى دفعتَهم عن الناس وسُقتَهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذلَّ البلاد،
ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا؛ ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقَّيت بهراوتك يومئذٍ خمسًا
وعشرين هراوة، فأطرتها كلها في جولتك، وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكلَّبوا عليك؛
١٢ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع
الوثبة إليهم برجالك، فتجزيهم في أرضهم صنيعًا بصنيع مثله!
فهزَّ الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي …! قال الشاب:
أبلغْتَ ما أرى فإنك لتخافهم! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تُؤخِّر يوم زواجي
… سنة
أو سنتين! قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم
ويُعِدُّون لكم، فإذا لم تُناجِزوهم
١٣ في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم، وكأنهم ضربوكم بلا ضرب!
قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب؛ لأنهم رجال؛ والذي يُضرَب بلا ضرب لا
يكون
رجلًا … والسلام عليكم! ثم انطلق، فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولا بد لي أن
أحطِّم
هذا الفلاح اللعين! ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه عليَّ، ولست أشك في أن بنت عمه لا
تمتنع
بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه ﻟ …
قال «إبليس»: لقد تأملتُ القصة فرأيتُ أنه لا سبيل لك إلى الفتاة وهي بعدُ فتاة، فإذا
هو
وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها … وستبلو هي من غلظته وخشونة طبعه
ما
يسهل لك أن تُعلِّمها قيمة ظرفك ورقتك، وستجد من سوء معاملته وقبح تسلُّطه ما يفتح قلبها
لمن يأتيها قِبَل الرفق واللين، وستصب عنده من ضيق المعيشة وقِلَّتها ويبسها ما يفهمها
معنى
ذلك العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها؛ ثم إنه لا بد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما
عرف
من حبك إياها، والغيرة منك هي توجدك بينهما دائمًا وتنبِّه المرأة إليك كلما كرهت من
رجلها
شيئًا لا ترضاه.
ولم تكن إلا مدة يسيرة حتى أُهدِيت
١٤ المرأة إلى زوجها، وإنما تعجَّل الزفاف ليأتي له أن ينصب يده القوية حجابًا
بينها وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقًّا لم يكن له من قبلُ إذا هو مد اليد
وعصر
في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلَّع إلى امرأته؛ ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به
وبخصمه
معًا، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلًا، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمِكْتَلِها
١٥ إلى السوق أو بجرَّتها إلى الماء؛ لأنه حينئذٍ يكون في الطريق الذي لا يملكه
أحد … فكانت إذا رأتْه لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حمارًا يمد عينه إليها!
فعمد
إلى امرأة مقيَّنة تزفُّ العرائس، وهي التي زفَّت «خضراء» فأكرمها وأتحفها وسألها أن
تُسعِفه
١٦ ببعض ما تحتال به، وأن تكون سبيله إلى المرأة؛ وتحمَّل عليها «بإبليسه» حتى استوثق
١٧ منها، فكانت تتحدث عنه أمام «خضراء»؛ تستجرُّ بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله،
ولكن المرأة أغلظت لها وسبَّتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، وقالت لها آخر ما قالت:
واعلمي أنني لو دفعت إلى طريقين وكان لا بد من أحدهما، ثم كان أحدهما حصاه الدنانير وهو
طريق العار، والآخر حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشرف، إذن لتنزَّهت أن أُدنِّس نعلي بالذهب
ولنثرت لحم قدميَّ على الجمر نثرًا.
والحب لا يبقى حبًّا أبدًا، فإما فاز فبرد ورجع سلوًّا، وإما خاب فاضطرم وتحوَّل
إلى حقد
ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غيظًا، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يُدير رأيه، ففتقت
له
الحيلة أن يقتل الرجل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها؛ فواطأ
١٨ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المقيَّنة منديلًا من الحرير عقد طرفه على دينار من
الذهب، تلقيه في صندوق «خضراء» وتدُسُّه
١٩ في طيٍّ من أطواء ثيابها فذهبت المرأة، وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها
حتى استلَّت
٢٠ ضغينة قلبها، ثم سايلتها أن تأتيها «بالعيش والملح» لتصيب كلتاهما منه وتتحرَّم
بحرمته؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد مواضعه وأخفاها؛
وكان مُنَدًّى بالعطر؛ لينِمَّ
٢١ على نفسه إذا لم ينِمَّ أحد عليه، ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب، فأطلق خادمه
يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد «خضراء» دينارًا ذهبًا على ندرة الذهب وعزته؛
٢٢ فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه، والحب الذي أعطاه،
والجمال الذي أخذه؛ ثم انتهى إلى الجمل، فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون وقد حمى
دمه
الحُرُّ، وجاش
٢٣ جأْشُه العنيف ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق، وما كادت تفعمه
رائحة العطر حتى نفخ الشيطان بها نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل، ورأى بصيص
الدينار، فدارت به الأرض، وأيقن أن العار قد طرق بابه، وأن الباب قد فُتِحَ له؛ ثم ردَّ
نفسه على مكروهها وردَّ معها كل شيء إلى موضعه، وتلفَّف رأيه على جريمتين، وخرج وروحه
تصرخ
من ضربة بمنديل، وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشِّم
٢٤ منه ولا يتأوه!
وذكر أن «حماته» أثنت من عهد قريب على ابن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجَّه إليها
أن
تأتي فتبيتَ عند امرأته؛ لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته: لا يرى الأشياء إلا كما
يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت وما تبغي من سفرك وكم تلبث
عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغِبْ زمنًا طويلًا، فبِنَا إلى غيابك حاجة
شديدة! وكاد يبطش بها، ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيدة ومضى والانكسار يُعرَف
فيه!
•••
فزع الناس بعد أيام في جوف الليل، فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه، واقتحموه
فإذا
المرأة وأمها فحمتان: وانطلقت أسرار الألسنة، وقُبض على الرجل في بلد آخر، وتولَّى ابن
العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر «الجمل»
ولم يُقصِّر في إقامة الحجة ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعِفَّتها وشهد أنه لا
يعلم
عليها من سوء، وإنها أطهر النساء وأبرُّهن، ثم كان الحكم أن قُضِيَ عليه بالموت
شنقًا!
•••
فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شيء تريده؟ فطلب دخينة
٢٥ فقدَّمها له قيِّم السجن، فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة. ثم أخذ يتكلم وعمره
يفنى مع الدخينة نفسًا في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين
حدود
الدنيا وحدود الآخرة؛ قال المسكين: لم أتعلَّم، ولو تعلمت ما وقفت هنا؛ ولكن ربما كنت
خرجت
نذلًا كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافًا وفيهم أرواح القتلة واللصوص!
لم أُقِرَّ لأحد بجريمتي خشية أن تُذكر كلمة العار مع اسمي، وآثرتُ أن أموت بالشنق
على أن
أحيا ويموت اسمي بالعار!
ولكني سأعترف الآن أمامكم وأنتم الساعة على قبري، فكونوا كالملائكة لا يشهدون بما
عرفوا
إلا عند الله وحده.
أعترف أني قتلتُ زوجتي وأمها؛ وقد تقولون: إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلًا
عن
اثنتين؛ إنني رجل سأشنق، أما النساء فلا يُشنقن وإنما يُرسلن الرجال إلى المشنقة … لم
أرَ
أبي؛ إذ تركني طفلًا، ولكن يُقال: إنه كان رجلًا، فأنا رجل وابن رجل، ولم يُذلَّني رجل
قط،
ولكن لو خلق الله قوة مائة جبَّار في جسم رجل واحد لأذلَّته امرأة!
إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء، ولكن المرأة تُذِلُّ الرجل ذُلًّا يهوِّن عليه
قتل
نفسه، فكيف لا يهوِّن عليه قتلها؟
علِّموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي: لا يرى للحياة
كلها
قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويُقدِّم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل.
أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقًا ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح
الصغيرة بحيلها الدنيئة!
ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئًا أو مجرمًا!
قَيِّم السجن: ستلقاه طاهرًا.
السجين: أرأيتم مني خلق سوء؟ أتعتقد عليَّ ذنبًا مدة سجني؟
القيم: كلنا راضون عنك.
السجين: هذا مثل من أخلاقي، والحمد لله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض
— كلمة
الرضا.
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله!
•••
نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشًا متناثرًا، فامتطت العاصفة وقالت:
إلى
السماء! ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور، ثم رمت بها حيث وقعت لم تُبالِ في موضع
نفع
أم ضر؛ فأقبلت الريشة تتسخَّط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقها، وأن الرياح بعثرة
في
نظام العالم … وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير … فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت:
أيتها الريشة! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشًا
كله!