القلب المسكين (٣)
وكان به منها ما الله عليم به، فانبعثتْ من صدره آهةٌ مُعوِلة تئنُّ أنينًا، غير أنها كلمته بعينيها أنها تُقبِّله هو؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئًا جميلًا عن ذلك الفم، لمست به النفسُ النفسَ، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأٌ في طريقة إرسالها …
وليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرِّح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود؛ إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرح شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاورة المعاني؛ وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السرَّ بالسرِّ، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي؛ ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مُضاعَف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين؛ والذين يعرفون قُبلة الشغف والهوى، يعرفون أن العاشق يُقبِّل بلذة أربع شفاه.
•••
قلت: وماذا بعد آه؟
قلت: أما رأيتَها مرة وقد أوشكتْ نفسُها أن تختنق …؟
قال: لقد هِجْتَ لي داء قديمًا؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمني غرس الشجر، فبين الحين والحين تُثمر هذه الساعات مُرَّها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتُها ذات مرة في ساعة همِّها! ثم ضحك وسكت.
قلت: يا عدو نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجدُ ما رأيتَ منها؟
قال: أتُصدِّقني؟ قلت: نعم.
قال: رأيت الهمَّ على وجه هذه الجميلة كأنه همٌّ مؤنث يعشقه هم مُذكَّر؛ فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها، والآخر بمعنى الثورة لقلبي!
•••
فضحك وقال: لا، لا؛ إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى، والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيَّته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسيَّته؛ وما أتصوَّر في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبَغَه الجمال عليها، فهي معرفتي وخيالي كالتمثال المُبدَع إبداعه؛ لا يستطيع أن يعمل عملًا إلا إظهار شكله الجميل التامِّ حافلًا بمعانيه.
وليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت؛ إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء لا يكمل أبدًا، وهو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق؛ إن بطن المرأة يلد، ووجه المرأة يلد!
قلت: هذا إن كان وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة؟
قال: لا، هذا وجه عاقر …
•••
قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل، ثم تمنعها أن تعمل، فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأن تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبز فقط.
قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يُخرِج الحقائق الخيالية من هذا الجمال؛ فإذا سخِرتَ من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تُثبِت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول.
أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه وإلى حُسن هذه على القمر؟ إن القمر كان يُنسيني بشريَّتها فأراها مُتمِّمة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال وجهه؛ وكانت هي تُنسيني مادِّيَّة القمر فأراه مُتمِّمًا لها كأنه خيال وجهها.
أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظًا كشَّافة، وزادت في الحواس أضواء مُدركة؛ فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعًا في حقائق الأشياء، فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عملًا فيما يراه وما يدركه؛ وبهذه الزيادة الجديدة على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس؛ ويأتي السرور جديدًا ويأتي الحزن جديدًا أيضًا؛ فألْفُ قُبْلة يتناولها ألفُ عاشق من ألف حبيب، هي ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة؛ ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر!
•••
قلت: فنوع تصوُّرك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليسيته!
قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية.
قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك، وهو الأصح وعليه الفتوى …؟
فضحك طويلًا، وقال: سأحدثك بغريبة: أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبدًا إلا في الحرير الأسود؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون، فيكون لها من سواد الحرير بياض البياض وجمال الجمال؛ فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلمًا يتدجَّى، وقد لبس وتلبَّس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أُقلِّب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكونُ فيها الأفكار المحزنة أشد حزنًا — إذ رُفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفتِّرًا قصير الخَطْوِ يهتزُّ ويتبختر؛ فتبصَّرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفُتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب؛ وكان الطريق خاليًا، فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعتُ إسراع القلب إلى الفرصة حين تُمكن؛ فلما صرت بحيث أتبيَّن ذلك الشبح إذا هو … إذا هو قِسِّيس …
•••
فقلت: يا عجبا! ما أظرفَ ما داعبَك إبليس هذه المرة! وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة …
وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل؛ إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلانًا يستفتح كلامها ثم يدعوها، فليس بينك وبينها إلا كلمة «تعالَيْ» أو تفضَّلِي؟
قال: كلَّا، يجب أن تنفصل عني لأراها في نفسي أشكالًا وأشكالًا؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحقق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تَدَع جسمها وأدَع جسمي وهناك نلتقي رجلًا وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة. بهذا الفهم أنا أكتب، وبهذه الطبيعة أنا أحب!
ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه.
وما هو هذا الكل؟ هو الذي يُفسِّر نفسه في قلبي بهذا الحب.
وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس.
قلت: يا صديقي المسكين! هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضًا. وما كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا «المشكلة» مُقْبِلة علينا.
أما هو: أما صاحب القلب المسكين …؟