القلب المسكين (٤)
إنك لو أبصرتَ حينئذٍ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته مُتلعْثِمٌ يكرِّر كلمة واحدة: هي هي هي …
ولو اطَّلعتَ على دمه في عروقه لأبصرته مخذولًا يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.
إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيرد عليه الحب مع كل شهوة نوعًا من الذل، فيكون بإزاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.
لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روحه وَثَبَتْ إلى رأسه ثم هَوَتْ فجأة إلى قدميه!
•••
غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجورًا من صاحبته، ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحيانًا عملًا واحدًا بالعاطفتين المختلفتين؛ إذ كان دائمًا على حدد الإسراف ما دام حبًّا، فكل شيء فيه قريب من ضده، والصدق فيه من ناحية مُهيَّأ دائمًا لأن يُقابَل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين مُعَدٌّ له الشك بالطبيعة؛ والحب نفسه قضاء على العدل، فإنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب — مع أنه حبيب — يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب!
وكأنها ألقتْ لرئيس الموسيقى أمرًا ليتأهَّب أهبته لدورها، ثم همَّت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا؛ فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: إنها نبيلة حتى في سقوطها!
ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذٍ إلا كأنه تليفون مُعلَّق!
•••
وكان فمها الجميل لا يزال يُساقِط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تَسرُد له حكاية مرويَّة، أو تُعارِض بحافظته كلامًا تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مُفكِّرتان شاخصتان، فلم يُنكِر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟
لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلامًا، حتى لَحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت!
ثم بدا في عينيها فتورُ الظمأ، ظمأ الحب المتكبِّر المتمرِّد؛ لأنه حب المرأة المعشوقة، ولأن له لذَّتين، إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين …
ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهَّج أحيانًا فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتُضرِم في كلامها شرارة من الروح تُظهِر الكلام كأنه يُحرِق ويحترق …
ثم ذبُلت عيناها الجميلتان، وما هو ذبولُ عينَيِ امرأة تنظر إلى مُحبِّها؛ إنه هو استسلام فكرها لفكره، أو عناد معنًى فيها لمعنًى فيه، أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومرة هو كقولها: لماذا؟ وتارة هو كقولها: أفهمت؟ وأحيانًا، وأحيانًا هو انتهاء مقاومة.
•••
قال: وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الأليف؟
قلت: ذلك يطمع في أن تكون له حقوق على صاحبه فوق الألفة والمنفعة.
قال: لقد أغمضتَ في العبارة فبيِّن لي شيئًا من البيان.
قلت: هَبْ كلبةً تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلة مطواع، ثم يبلغ بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف، فلا يقول صاحبها عنها: هذه كلبتي، بل يقول: هذه زوجتي …
قال: بل أنا مع هذه أكثر من عاشق؛ لأن في العاشق راغبًا وفيَّ أنا راهب، وفيه الجريء وفيَّ المنكمش، ويغترف الغرفة من الشلَّال المُتَحدِّر فيحسوها فيرتوي وأغترف أنا الغرفة بيدي، وأبقيها في يدي، وأطمع أن تَهدِر في يدي كالشلال، أنا أكثر من عاشق؛ فإنه يعشق لينتهي من ألم الجمال، وأعشق أنا لأستمر في هذا الألم!
هذه هذه؛ العجيب يا صديقي أن خيال الإنسان يلتقط صورًا كثيرة من صور الجمال تجيء كما يتَّفِق، ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان عجيب، هي صورة الحب؛ فهذه هذه.
ألم أقل لك إن إبليس هنا في غير حقيقته الإبليسية ولم تفهم عني؟ فافهم الآن أننا إن كنا لا نرى الملائكة فإنه لَيُخيَّل إلينا أننا نراها فيمَن نحبهم؛ وما دام سِرُّ الحب يُبدِّل الزمن والنفس ويأتي بأشياء من خارج الحياة، فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها.
•••
كانت تبرُق على المسرح كأنها كوكب دُرِّيٌّ نوره نور وجمال وعواطفُ شِعر.
وأقبلتْ تتمايَل بجسم رَخْصٍ لَيِّن مسترسل الأعطاف يتدفَّق الجمالُ والشبابُ فيه من أعلاه إلى أسفله.
وأظهر وجهُها حُسْنًا وأبْدَى جسمُها حسنًا آخر، فتمَّ الحُسنُ بالحُسن.
واقفة كالنائمة، فالجو جو الأحلام، وكان الحب يحلُم، وكان السرور يحلُم!
مهتزَّة كالموج في الموج، هل خُلقَتْ روح البحر في جسمها المُترَجْرِج فشيء يعلو وشيء يهبط وشيء يثور ويضطرب؟
ثم دقَّت الموسيقى بألحانها المتكلمة، ودقَّت أعضاء هذا الجسم بألحانها المتحرِّكة، وأحسسنا كأن روح الحديقة جالسة بيننا تنظر إليها وتتعجَّب. تتعجَّب من قَوامها لِلغُصن الحي، ومن بَدَنها للزهر الحي، ومن عَطْرها للنسيم الحي.
أما صاحب القلب المسكين …