القلب المسكين (٧)
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضي في لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة، أم تكبيرك الحقيقة إلى أضعاف حقيقتها، أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه الروح، أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنية على الانقلاب، أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن، أم رجوعك باللذة تُرى ولا تُمكن، أم أنت كل ذلك؛ لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ويمتلئ بك وحدك؟
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذب بها الصدر لَيضمَّك، وتستهوي بها الفم ليُقبِّلك، وتستدعي الدمع لينفر لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك؟
•••
ووقف صاحبنا المسكين محزونًا كأن شيئًا يصله بكل هموم العالم؛ وتلك هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذَّته وموضع سروره، فيسلبه نوعًا من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئًا مات فيدفنه في قبر الماضي، يكون ألمًا؛ لأن فيه المَضَض، وكآبةً؛ لأن فيه الخيبة، وذهولًا؛ لأن فيه الحسرة؛ وتتِمُّ هذه الثلاثة الهموم بالضيق الشديد في النفس؛ لاجتماع ثلاثتها على النفس؛ فإذا المسكين مبغوتٌ كأن الآلام أطبقتْ عليه من الجهات الأربع، فقلبه منها صُدوع صُدوع …
وجعلتُ أعذِل صاحبنا فلا يعتذِل، وكلما حاولت أن أُثبِت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود؛ ثم تنفَّس وهو يكاد ينشَقُّ غيظًا وقال: لماذا رحلت؟ لماذا؟
قلت: أنت أذْلَلْتَ جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تُعِزُّ جمالها به، وقد اشتددْتَ عليها وعلى نفسك، وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خَشِنًا في حبك، وسوَّغَتْك حقًّا فرددْتَه عليها، وتهالكَتْ وانقبضْتَ أنت، ورفعَتْ قدرَك عن نفسها تحبُّبًا وتودُّدًا فخفضْتَ قدرَها عن نفسك من اطِّراح وجفاء، واستفرغَتْ وُسعَها في رضاك فتغاضبْتَ، ونَضَتْ عن محاسنها شيئًا شيئًا تسأل بكل شيء سؤالًا فلم تكن أنت من جوابها في شيء …
غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها، ثم ابتدأت ولم تجد الجواب منه، أو لم يأتِ الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فإن الابتداء حينئذٍ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدوَّ الحب؛ وأنا أعرف امرأة وضعتْها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألَّم ولكن لن أُغلَب، فكان الذي وقع — وا أسفاه — أنها تألَّمت حتى جُنَّت، ولكن لم تُغلَب …
قال: فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلًا؟
قلت: إنها تبتدئ مُتكسِّبة لا عاشقة، فإذا أحبَّت الحبَّ الصحيح أرادت قيمتها فيما هو قيمتها؛ وأنا أحسبها تحب فيك هذا العنف وهذه القسوة وهذه الروحية الجبارة؛ فإنها لذَّات جديدة للمرأة التي لا تجد من يُخضِعها؛ وفي طبيعة كل امرأة شيء لا يجد تمامه إلا في عنف الرجل، غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة؟
•••
أما والله إن عجائب الحب أكثر من أن تكون عجيبة؛ والشيء الغريب يُسمَّى غريبًا فيكفي ذلك بيانًا في تعريفه، غير أنه إذا وقع في الحب سُمِّي غريبًا فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب، ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نفسه؛ وهكذا يشعرون.
فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب؛ وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة. فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق؛ وفي هذه من هذه شبه؛ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبة على المادة، مُجرِّدة من إنسان الطين إنسانًا من النور، مُحرِّكة هذه الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السمو، ذاهبة بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعة مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثة بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي.
بَيْدَ أن في العشق أنبياء كَذَبة؛ فإذا تسفَّل الحب في جلال، واستعلنت البهيمية في عظمة، وتجرَّد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلي — إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون؟
لا يكون إلا أن الشيطان يُقلِّد النبوة الصغيرة في بعض العشاق، كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجالين.
•••
وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يُخرِجه من حالة الفكر، ويؤنس قلبه بالألفاظ، ويُخفِّف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويُوجِّه حواسه إلى الظاهر المتحرك؛ فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلُّل إلى ساعة؛ وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يُسمَّى الفِراق أو الهجر.
وكان من أعجب ما عجبت له أن صديقًا مرَّ بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إليَّ: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم؛ لا هو يُقيم عُذرًا ولا أنا أُقيم حُجَّة، وأحسب أن عندك رأيًا فاقضِ بيننا …
فيقول له المسئول: وما رأيك أنت؟
فيجيبه: لو كان عنها صاحيًا لقد صحا. إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبه الذي هو قلبه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفها؛ وما يُدرينا مِن تصاريف القَدَر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلَّها الجمالُ حُكِم عليه أن يُعَذَّب بقُبْح الناس، ولعلها السرور قُضِي عليه أن يُسجَن في أحزان!
•••
وقلت له: يا صديقي المسكين! أوَكلُّ هذا لها في قلبك؟ فما هذا لها في قلبك؟ فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذَّب به؟
قال: إنه — والله — قلب طفل، وما حُبُّه إلا التماسُه الحنانَ الثاني من الحبيبة، بعد ذلك الحنان الأول من الأم؛ وكل كلامي في الحب إنما هو إملاء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خَلْق تفكيره.
آه يا صديقي! من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب لا يستمر طفلًا بعد زمن الطفولة إلا في اثنين: من كان فيلسوفًا عظيمًا، ومن كان مُغَفَّلًا عظيمًا!
•••
وافترقْنا؛ ثم أردتُ أن أتعرَّف خبره فلقيتُه من الغد، وكان لي في أحلامي تلك الليلة شأن عجيب، وكان له شأن أعجب؛ أما أنا فلا يعني القُرَّاء شأني وقصتي.
وأما هو؟ …