شيطان وشيطانة …
رأيتُني عند باب الجامعة وكأني ذاهب لأقطع باليقين على الظن، وقد علمتُ أن الظِنَّة تقوم في حكمة التشريع مقام الحقيقية؛ لخفائها وكثرة وجودها؛ فإن كان في اختلاط الجنسين ما يُخشَى أن يقع فهو كالواقع …
فجعل الشيطان يتضاحك وقال: أنا مُرسَل من مستشفى المجانين مددًا لشياطين الجامعة؛ فقد احتاجوا إلى النجدة … ولكن أنتِ كيف تركتِ صاحبتَك من أجل رائحة قُبْلة على خمسمائة متر؟ ما أحسبها الآن إلا جالسة تكتب في منع اختلاط الجنسين ووجوب إدخال التعليم الديني في الجامعة!
قالت الشيطانة: إن صاحبتي لَأبرعُ مني في البراعة، وأدقُّ في الحيلة وأهدى للمعاذير، وأنفذ إلى الغرض، ومثلها قليل هنا، ولكن قليل الشر ليس قليلًا، فإنه وُصلةٌ وطريقٌ كما تعلم؛ وما تجِد الفتاة خيرًا من هذا المكان ينفي عنها الريبة وهو يدنيها منها بهذا الاختلاط مع الفتيان، ويهيئ لعقلها أسبابًا تكون فيها أسباب قلبها؛ وقد كنتَ أنت في أوروبا، أفما رأيتَ هناك شابًّا وشابة حول كتاب عِلْم وكأنهما على زجاجة خمر؟
إن هذا العلم شيء ومخالطة الشبان شيء آخر؛ فذلك يطلق فكرها يتجاوز الحدود والاختلاط يجعل فكرها يحصرها في حدود إحساسها؛ وأحدهما يُرهِف ذهنها لإدراك الأشياء، والآخر يُرهِف عواطفها لإدراك الرجل؛ وقد فرغ الله من خلقة الأنثى فما تُخلَق هنا مرة أخرى على غير الطبيعة المفطورة على الحب في صورة من صورِهِ الممكنة، والصورة هي الشاب هنا؛ وأنا الشيطانة قد تعلمتُ في الجامعة أن قاعدة: «لا حياء في العلم»، هي التي تُقرِّر في بعض الأحيان قاعدة: «لا حياء في الحب»!
قال الشيطان: أنتِ أدرى بسلطان الطبيعة في المرأة، ولكن الذي أعرفه أنا أن مفاسد أوروبا تدخل إلى الشرق في أشياء كثيرة، منها الخمر والنساء والعادات والقوانين والكتب ونظام المدارس!
وممَّ ينبعث الحب إلا من الألفة والمخالطة والمجاذبة والمنازعة التي يسمونها هنا منافسة بين الجنسين ويعدُّونها حسنة من حسنات الاختلاط؟ نعم إنها مَشحَذة للأذهان وداعية إلى بلوغ الغاية من الاجتهاد، وبها يرق اللسان وتنحلُّ عقدته، ويصبح الشاب كما يقولون: «ابن نكتة ويفهم الطايره …» وتعود الفتاة وهي تجتهد أن تكون حلاوةً تَذُوقُها الروح؛ ولكن الأعمال بالنيات والأمور بخواتيمها: والطبيعة نفسها تُوازِن العقل العلمي بالجهل الخلقي، ولعل أكثر الناس فنونًا في فِسْقِه وفُجوره لا يكون إلا عالمًا من أهل الفن أو زنديقًا من أهل العلم، ولا يُصحِّح هذه الموازنة إلا الدين، فهو الذي يقرر القواعد الثابتة في كلتا الناحيتين، وهذا ما يطلبه المجانين من شبان هذه الجامعة ويوشك أن يظفروا به، لولا أن هذه الأمة مبتلاة في كل حادثة من دينها بإجالة الرأي حتى يضيع الرأي.
اسمع — ويحك — هذا الفتى الذي يقرأ … فألقى الشيطان سمعَه فإذا طالب يقرأ على جماعة كلامًا في صحيفة لإحدى خريجات الجامعة تقول فيه: «ولهذا أُصرِّح أن تجربة اشتراك الجنسين في الجامعة نجحتْ إلى أبعد غاية، ولم يحدث خلالها قط ما يدعو إلى قَلَقِ القَلِقِين والمناداة بالفصل؛ بل بالعكس حدث ما يدعو إلى تشجيع الأخذ بالتجربة أكثر مما هي عليه اليوم.»
فقَهْقَهَ الشيطان وقال: «قَلَقِ القَلِقِين» … ما رأيت كلامًا أغلظ ولا أجفى من هذا؛ إنها لو دافعت عن الشيطان بهذه القافات لخسر القضية …
قالت الشيطانة: ولكن ألم تسمع قولها: «تشجيع التجربة أكثر مما هي عليه اليوم» …؟ ألا يُرضِيك هذا الذي لا بد أن يدعو «إلى قلق القلقين»؟ ثم إني أنا فلانة الشيطانة قد كنتُ السبب في حادثة وقعت وطُرد فيها طالب من الجامعة، أفلا يُرضيك الإغراء والكذب في بضع كلمات؟
قال الشيطان: كل الرضا، فهذا فن آخر والعلم الذي يُنكِر حادثة وقعت من تلميذة ولا يُقرُّ بأنها وقعت، لا يكون إنكاره إلا إجازة لوقوع مثلها!
والذين يزعمون أن الاتصال بين الطالبات والطلبة خطر، إنما يُسيئون إلى أخلاقكم … والحق أيها الأصدقاء أن الذي حملني على أن أغضب وأثور إنما هو الدفاع عن الكرامة الجامعية.
وليس لنا أقوى من هذا الطبع القوي الذي يَشعُر بالنقص فلا همَّ له إلا إثباتُ ذاتِه في كل ما يُجادِل فيه دون إثبات الصواب ولو كان الناس جميعًا في هذا الجانب وكان هو وحده في جانب الخطأ.
ولكن أُفٍّ! ماذا صنع هذا القائل؟ وأين التهمة التي لا تُبدِّل اسمها في اللغة؟ وأين الذنب الذي يَرضَى أن تُوضَع اليد عليه؟ وهل إنكار المذنب إلا احتجاج من كرامته الزائفة وإظهار الغضب في بعض ألفاظ؟ …
وهم قد عرفوا أن الجامعة لحرية الفِكْر، ومن حرية الفكر حرية النزعة، ومن هذه حرية الميل الشخصي، ومن حرية الميل حرية الحب؛ وهل يعرف الحب في الجامعة أنه في الجامعة فيستحي ويكون شيئًا آخر غير ما هو في كل مكان؟ أو ليس في لغة الزواج عندهم عبارة «نسيان ماضي الفتاة» …
ولكن اسمعي اسمعي …
فقالت الشيطانة: ما له ولهذا؟ لقد أخزى نفسه وأخزى الجامعة، وهل صنع شيئًا إلا أنه يقول للأزهريين: إن أهون الفساد من هذا الاختلاط في الجامعة، وأكثره في شواطئ البحر؛ فما بالُكم تدَعُون أشدَّه وتأخذون على أهوَنِه؟
قال الشيطان: ويحه! وهل يأخذون على أهونه في الجامعة؛ إلا لأنه في الجامعة لا في مكان آخر؟ ولكن اسمعي، ما هذا …؟
اسمعي اسمعي؛ ما هذا الصوت المُنكَر الجافي الخشن؟
فتسمَّعتْ، فإذا الطالب الأزهري يقول لصاحبه وهو يُحاوِره: قالوا: ويَحرُم على المرأة أن ترى شيئًا من الرجل ولو بلا ميل ولا خوف الفتنة، وإذا هي اضطُرَّت إلى مداواة أو أداء شهادة أو تعليم أو بيع أو نحو ذلك — جاز نظرُها بقدْر الضرورة.
فقالت الشيطانة: هذا كلامٌ رحمَه الله … لقد كان ذلك سائغًا لو أن الشبان يتعلمون في الجامعة ليحملوا معهم الحق كما يحملون معهم العلم؛ وكيف لهم بهذا ومعاني الدين قد أصبحت منهم كأسماء البلاد البعيدة في كتاب الجغرافيا: لا هم رأَوْها ولا هم حقَّقوها؟ إنهم يريدون تعليم الدين هنا. فيقول لهم رؤساؤهم: ألم تعرفوا الصلاة وأنها الصلاة، والصيام وأنه الصيام، والزكاة وأنها الزكاة، والحج وأنه الحج؟ وهذا كلام يُشبِه درسَ مواقع البلاد على الخريطة، فباريس كلمة، ولندن كلمة، لا غير؛ أما الحقيقة العظيمة الهائلة فشيء غير هذا الكلام الجغرافي التعليمي؛ إذ ما هي كل فروض الدين إلا أعمال دقيقة ثابتة يجب فرضها على الجميع لتحقيق النفسية الواحدة في الجميع، وهي سر القوة والعظمة والنجاح؛ فتعليم الدين في الجامعة هو إقناع النفس بجعل فروضه من قوانينها الثابتة، لا بأداء هذه الفروض فقط، وذلك لا يستقيم إلا بدَرْسه كما تُدرَس فلسفة القوانين والاقتصاد والتربية؛ أي باعتباره علمَ فلسفة الروح العملية للأمة، ثم يجعل المُدرِّسين أول العاملين به؛ ليتحقق معنى الإقناع، فلا ينقلب الدرس هزءًا وسخرية؛ وبذلك يخرج الشاب من الجامعة وفي روحه قوة ثابتة تعمل به العمل الصالح، وتُوجِّهه إلى الخير، وتحفظه بين أهواء الحياة وشدائدها، وتجعله دائمًا يشعر أنه في موضعه السامي من الإنسانية وإن كان في أقلِّ مراتب المال والجاه، ومن ثَمَّ يرجع الشبان في الأمة آلات قوة منظمة عاملة، وأيسر ما تعمله هذه الآلات، إزالة المنكرات، وصُنع الشعب صَنعة جديدة للسِّلم والحرْب، و، و، و، و…
قال الشيطان: وماذا أيتها الخبيثة؟ لقد هوَّلتِ عليَّ!
قالت: وطردُنا نحن الشياطين من الجامعة!
قال: اسكتي ويحك! فما أُرسِلت من مستشفى المجانين إلا لهذا؛ فلن يقع الفصل بين الجنسين، ولن يدخل التعليم الديني في الجامعة، وسيُدافِعون بأن هذا كله ضرب من الجنون …