نهضة الأقطار العربية
إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتة لا يكون من الكلام وفنونه، بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلها؛ ولن يكون هذا المبدأ كذلك إلا إذا كان قائمًا على أربعة أركان: إرادة قوية، وخلق عزيز، واستهانة بالحياة، وصِبغة خاصة بالأمة.
لست أقول إن نهضة الشرق العربي لا أساس لها؛ فإن لها أساسًا من حمية الشباب، وعلم المتعلمين؛ ومن جهل أوروبا الذي كشفته الحرب؛ ولكن هذا كله على قوَّته وكفايته في بعض الأحيان لإقامة الأحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية — لا يحمل ثقل الزمن الممتد، ولا يكفي لأن يكون أساسًا وطيدًا يقوم عليه بناء عدة قرون من الحضارة الشرقية العالية، بل ما أسرعَه إلى الهدم والنقض، لو صدمته الأساليب اللينة من الدهاء الأوروبي على اختلافها … إذا قُدِّر لأوروبا أن تفوز بأسلوبها الجديد، أسلوب استعباد الشرق بالصداقة … على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنه قد حجَّ وتاب وجاء لِيُصلِّي بها …
والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تُعتَبَر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان: الدين الإسلامي، واللغة العربية؛ وما عداهما فعسى أن لا تكون له قيمة في حكم الزمن الذي لا يقطع بحكمه على شيء إلا بشاهدين من المبدأ والنهاية.
وظاهر أن أغلبية الشرق العربي ومادته العظمى هي التي تدين بالإسلام، وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة، ولَعَمْري إني لأحسب عظماء أمريكا كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلاقهم، لولا شيء من الفرق هو الذي لا يمنعهم أن ينحطُّوا إذا هم بلغوا القمة؛ فإن من عجائب الدنيا أن قمة الحضارة الرفيعة هي بعينها مبدأ سقوط الأمم، وهذا عندنا هو السر في أن الدين الإسلامي يكره لأهله أنواع الترف والزينة والاسترخاء، ولا يرى النحت والتصوير والموسيقى والمُغالاة فيها وفي الشعر إلا من المكروهات، بل قد يكون فيها ما يحرم إن وجد سبب لتحريمه؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفي الطبيعة الإنسانية هي التي تؤدي في نهايتها إلى سقوط أخلاق الأمة؛ بما تستتبعه من أساليب الرفاهية والضعف المتفنِّن، وما تحدثه للنفس من فنون اللذات والإغراق فيها والاستهتار بها؛ وما سقطت الدولة الرومانية ولا الدولة العربية إلا بكأس وامرأة ووَتَر، وخيال شعري يفْتَنُّ في هذه الثلاثة ويُزيِّنها.
ولما كان المسلمون إخوة بنصِّ دينهم، وكانت مبادئهم واحدة، ومنافعهم واحدة، وكتابهم واحدًا؛ فلا جرم كان من السهل — لو رجعوا إلى أخلاق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها — أن يؤلِّفوا من الشرق كله دولًا متَّحدة يحسب لها الغرب حسابًا ذا أرقام لا تنتهي …
إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والأخلاق، وهي مع ذلك كامنة فيه، ومستقبله كامن فيها؛ غير أنها لا تصلح في الكتب ولا في الفنون، بل في الرجال القائمين عليها. فالقلوب والأدمغة هي أساس النهضة الصحيحة الثابتة، وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة وجدنا أساسها خربًا من جهات كثيرة، ووجدنا المكان الذي لا يملؤه إلا القلب الكبير ليس فيه إلا خيال كاتب من الكُتَّاب والموضع الذي لا يسدُّه إلا الرأس العظيم قد سدَّته قطعة من صحيفة …
فوهنُ القلب بحب الدنيا — على ما ينطوي في هذه العبارة من المعاني المختلفة — هو علة الشرق، ولا دواء لهذه العلة غير الأخلاق، ولا أخلاق بغير الدين الذي هو عمادها، ألا وإن أساس النهضة قد وُضع، ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستُوضَع يومًا، وهذا ما أعتقده؛ لأن الغرب يدفع معنا هذه الصخرة ليُقِرها في موضعها من الأساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفننا فيها …
وهذا عمًى في السياسة لا يكون إلا بخذلان من الله قدَّره وقضاه.
•••
فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتَّفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحدِّ الذي لا يجُور على أخلاق الأمة ولا يُفسِد مزاجَها ولا يُضعِف قوَّتها.
وإذا نقلنا من الأدب والشعر فلنَدَعْ خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لُبِّ الفكر ورائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبَّع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأَتِّيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة للتي هي الحكمة بعينها.
وأما في العادات الاجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غرب — وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده — والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ولا يختلف؛ وإن أول الأدلة على استقلالنا أن ننسلخ من عادات القوم؛ فإن هذا يؤدِّي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملنا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا وينمِّي أذواقنا الخاصة بنا، ويُطلِق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي؛ ولقد كُنَّا سادَةَ الدنيا قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا منها ومن أثرها فينا ما أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا على السواء؛ وما هؤلاء الشبان المساكين الذين يدعون إلى بعض هذه العادات ويعملون على بثِّها في طبقات الأمة إلا كالذي يحسب أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه … ولقد غفلنا عن أننا ندعو الأوروبيين إلى أنفسنا وإلى التسلُّط على بلادنا بانتحالنا عاداتهم الاجتماعية؛ لأنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجه من التقريب بين جنسين يُعِين على اندماج أضعفهما في أقواهما ويُضيِّق دائرة الخلاف بينهما، ثم هو من أين اعتبرته وجدته في فائدته للأوروبيين أشبه بتَلْيِين اللقمة الصُّلبة تحت الأسنان القاطعة؛ وهل نسي الشرقيون أن لا حجة للغرب في استعبادهم إلا أنه يريد تمدينهم؟
وحيثما قلنا «الدين الإسلامي» فإنما نريد الأخلاق التي قام بها، والقانون الذي يسيطر من هذه الأخلاق على النفس الشرقية؛ وهذا في رأينا هو كل شيء؛ لأنه الأول والآخر.