صعاليك الصحافة (١)
لما ظهر كتابي «وحْي القلم» حملتُ منه إلى فُضلاء كُتَّابنا في دُور الصحف والمجلات أُهديه إليهم؛ ليقرءوه ويكتبوا عنه، وأنا رجل ليس فيَّ أكثر مما فيَّ، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فما أعلم في طبيعتي موضعًا للنفاق تتحوَّل فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكانًا من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أُهدي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمَن أثِق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم، وإما إنذار حرب لغير هؤلاء!
والقرآن نفسه قد أثبتَ اللهُ فيه أقوال من عابوه، ليدلَّ بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى مَن يُنكِرها ويردها، كحاجتها إلى مَن يُقرُّ بها ويقْبلها، فهي بأحدهما تُثبِت وجودها، وبالآخر تُثبِت قُدْرتها على الوجود والاستمرار.
والشعور بالحق لا يخرس أبدًا؛ فإذا كانت النفس قوية صريحة مرَّ من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال: لا أو نعم صَدَق فيهما؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة؛ إذ يكون شعورًا بالحق يُغطِّيه غرض آخر كالحسد ونحوه، فإن قال: لا أو نعم كَذَب فيهما جميعًا.
•••
وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلَّما تمَّتْ نقصت، وكلما نقصت تمَّت؛ إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر مَن يقرءونها أنصاف قُرَّاء أو أنصاف أُمِّيِّين؛ وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية؛ فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ … وما بد أن تتقيَّد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيَّد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلِد بعد، لها من رجلها مَن يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها مِن أبنائها مَن تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدَها من حقيقة الأدب الصحيح؛ إذ يُنظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان.
ولا يَقتُل النبوغَ شيءٌ كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها؛ فإن أساس النبوغ «ما يجب كما يجب»؛ ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها «ما يمكن كما يمكن» ودأبها السرعة والتصفُّح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير.
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا إذا نضِج وتمَّ وأصبح كالدولة على «الخريطة»، لا كالمدينة في الدولة في الخريطة؛ فهو حينئذٍ لا يسهل محوُه ولا تبديله … ثم هو يمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجًا من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تُلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدًى بعيد من الآفاق، لا كمصباح من مصابيح الشارع!
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكانًا طبيعيًّا لرجل السياسة قبل غيره؛ إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلًا ومجيبًا، ثم يليه الرجل شبه العالِم، ثم الرجل شبه الممثِّل الهزلي … والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعًا، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعًا!
•••
وقال الذي عرَّفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ … وهو أديب الجريدة.
قلت: شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحَّاذ الجريدة، يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح بالرغيف والجبن والبيض والقرش …
قال: نجحَتْ أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجلًا واحدًا هو قانون كل رجل هنا.
قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها، والجهات النازلة وما يوحيه إليها، وقانون الصلة بين الجهتين وهو …
قلت: وهو ماذا؟
فحملق فيَّ وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي «هو» … أما ترى الصحيفة ككل شيء يُباع؟ وأنت فخبِّرني — ولك الدولة والصولة عند القراء — ألم ترَ بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تُهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟
قلت: يا أبا عثمان، فماذا تكتب هنا؟
قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في … وفي … وفي؟ … لقد كنا نروي في الحديث: «يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تَلْحَسُ الأرضَ البقرةُ بلسانها.» فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة …
قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيتَ القُرَّاء وحكمهم على الصحيفة.
قال: القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياء، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة … وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم «صعاليك الصحافة».
•••
ودقَّ الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه، ثم رجع بعينين لا يقال فيهما جاحظتان، بل خارجتان … وقال: أفٍّ. وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان؟
قال: ويحها صحافة! قلْ في عمِّك ما قال المثل: جَحَظَ إليه عملُه.
قلت: ولكن ما القصة؟
قلت: يا شيخنا، دعنا الآن من الرواية والحفظ والحَسَن والأَحْنَف؛ فماذا دهاك عند رئيس التحرير؟
قال: لَمْ أُحسِن المُهاتَرة في المقال الذي كتبتُه اليوم … ويقول رئيس التحرير: إن كان نصف التمويه رذيلة؟ فإن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه. ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح؛ لأن القُرَّاء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية. وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجِدِّ والقوة؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور المُمثِّلات المُغنِّيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي؟
ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التاريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لأن القروش هي القروش والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي؛ ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يُصرَف كله ولا يُرَدُّ منه شيء!
إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها أخبار تُروَى وتُقصُّ للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء …
•••
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير …