بنت الباشا
وكانت باسمة أبدًا ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغرها ابتسامتها، كما يصنع لخدَّيْها حمرتهما.
قلبها الحزين يقطِّع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها؛ ليستشعره القلب فيفرح ويتهنَّأ؛ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه. ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟
مسكينةٌ تترنَّح وتتلوَّى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل اللحظة التي تكون فيها الذبيحة تحت السكين، ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويومٌ امتد إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح.
•••
وكان قد تقدَّم إلى خِطْبة ابنته شابٌّ مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث؛ ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بَيْدَ أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملًا بعيدًا كالفجر وراء ليل لا بدَّ من مصابرته إلى حين ينبثق النور.
وتقدَّم صاحبنا إلى الباشا فجاءَهُ كالنجم عاريًا؛ أي في أزهى نُورانيته وأضوئها. وكان قد عَلِقَ الفتاة وعُلِّقَتْه، فظنَّ عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال، ونسي أنه يتقدم إلى رجل ماليٍّ جعلته حقارةُ الاجتماع رُتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلًا … وأن كلمة «باشا» وأمثالها إنما تخلَّفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فِرْعَونُ وأمثاله؛ ليتعبَّدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل: «إله» كان جواب القلب: «عز وجل»، «سبحانه» …
نسي الشاب أنه «أفندي» سيتقدم إلى «باشا»، وأعماه الحبُّ عن فرقٍ بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بدَّ لها أن تنتحل السمو انتحالًا، وأن الشعب الذي لا يجد أعمالًا كبيرة يتمجَّد بها، هو الذي تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهَّى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة، لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل «باشا» فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ، ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلًا في أمم الأعمال الكبيرة لفظ «الآلة البخارية»، ومعناها العلمي: قوة كذا وكذا حصانًا أو أقل أو أكثر!
نسي هذا الشاب أن «أمم الأكل والشرب» في هذا المشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقابًا هي في الواقع أوصاف اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر.
وتقدَّمَ «الأفندي» يتودَّدُ إلى «الباشا» ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيدًا وتعظيمًا؛ ولكن أين هو من الحقيقة؟! إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أنَّ تقدُّمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة «أفندي» تطاولت إلى كلمة «باشا» بالسبِّ علنًا …!
•••
وانقبضوا عن «الأفندي» وأعرضوا عنه إعراضًا كان معناه الطرد؛ ثم جاء «البك» يخطب الفتاة.
و«بك» مَنْبَهَة للاسم الخاطب، وشرفٌ وقَدْرٌ وثناءٌ اجتماعي، وذِكْرٌ شهير، وإرغامٌ على التعظيم بقوة الكلمة، ودليلٌ على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت «بك» رجلٌ، فإن تحتها على كل حالٍ «بك» …! وأنعم له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو «بك» قوة مائتي فدان … أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه «أفندي» قوة خمسة عشر جنيهًا في الشهر …!
وقدَّمتْ مائتا الفدان مهرها «الطيني» العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثورًا، ومثلها جاموسًا، ومثلها بغالًا وأحمِرَة، وفوقها مائة قنطار قطنًا، ومائة إردب قمحًا؛ ثم ذرة، ثم شعيرًا. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزَّى الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلَتْها الأزْمة قبَّحها الله …!
ثم زُفَّت «بنت الباشا» زفافًا طينيًّا بهذا المعنى أيضًا، كان تعبيره: أنه أُنفِق ثمنُ ألف قنطار بصلًا، ومائة غَرارة من السماد الكيماوي، كأنما فُرِضَ بها الطريق …!
•••
ومات الطفل؛ فردَّت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها الترابَ والطينَ.
ولجَّ الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر، ولا تتمنَّى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب.
وأسقم الهمُّ بنتَ الباشا وأذابها؛ فنقلتِ الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وإذابتها تحت البِلَى.
•••
ومن سخرية القدر أن زبَّالنا هذا لم يسكن الحِواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلبٌ يفتِّت من كبدها، ويمزِّق من أحشائها.
وبينا تُناجي نفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين؛ بينا هي كذلك إذا بالزبال؛ كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل ويتغنَّى:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ولم تخترِ الأقدارُ إلا زبَّالًا ترسل في لسانه سخريتها بذلك الباشا وبنت ذلك الباشا …!