صعاليك الصحافة (٤)
وجاء أبو عثمان وفي بُروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئًا كعلامتي تعجب ألقتْهما الطبيعة في هذا الوجه، وقد كانوا يُلقِّبونه «الحَدَقي» فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقبًا واحدًا لا يُبيِّن عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة … وما تذكَّرتُ اللقبين إلا حين رأيتُ عينيه هذه المرة.
وانحطَّ في مجلسه كأن بعضه يرمي بعضه من سُخْط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوَّه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبَدَتْ عيناه في خروجهما كأنما تهُمَّان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهمُّ في القلب؛ ثم سكت عن الكلام؛ لأن أفكاره كانت تكلمه.
فقطعتُ عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان، رجعتَ من عند رئيس التحرير زائدًا شيئًا أو ناقصًا شيئًا؛ فما هو — يرحمك الله؟
قال: رجعتُ زائدًا أني ناقص، وها هنا شيء لا أقوله ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لوقفوا على عمِّك وأمثال عمك من كُتَّاب الصحف يتعجَّبون لهذا النوع الجديد من الشهداء!
وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكِّل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد، فأنشدتُه:
قال أبو عثمان:
ويلي على هذا الشاعر! اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما لعِظَم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم: كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد مُلِئت كُتَّابًا، ولكن ها هنا شيئًا لا أقوله.
وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة، فأُعجِب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: أمرتَ للصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرتَ بها لرجل من الوجوه قال: إنما أمرَ لي بمثل ما أمر للصياد! فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرتُ له؟
قالت: إذا أتاك فقل له: أخبرني عن السمكة، أذكرٌ هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى، فقل له: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.
فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى، قال الملك: فأْتِني بقرينها. فقال الصياد: عمرَ اللهُ الملكَ، إنها كانت بكرًا لم تتزوج بعدُ …
قلت: يا أبا عثمان، فهل وقعتَ في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟
قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكرًا، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة؛ وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض … ولكن ها هنا شيئًا لا أريد أن أقوله.
لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجَلْوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضاحية، وما هي إلا أشواق ولذَّات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي؛ فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلَّقة، وإذا المُعجِب هو المُضحِك، ويقول الرجل: أما نظريًّا فنعم، وأما عمليًّا فلا؛ وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل؛ والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوى البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو.
وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: أنك أنت لا تلحَن وهو يلحن.
ودقَّ الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير …
•••
فما شككتُ أنهم سيطردونه، فإن الله لم يرزُقْه لسانًا مطبعيًا ثرثارًا يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف … ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذين يتِمُّ بهم النفاق ويتلَوَّن، ولا كهؤلاء الأدباء الذين يتمُّ بهم التضليل ويتشكَّل.
ورجع شيخنا كالمخنوق أُرْخِيَ عنه وهو يقول: ويلي على الرجل! ويلي من الكلام الظريف الذي يُقال في الوجه ليَدفَع في القفا … كان ينبغي ألَّا يملِكَ هذه الصحافة اليومية إلا مجالسُ الأمة؛ فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكُتَّاب جميعًا؛ أما في هذه الصُّحُف، فالكاتب يخبز عَيْشَه على نارٍ تأكل منه قَدْرَ ما يأكل من عيشه؛ ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسَعَة، لَكان في استغنائه عنهم حاجتُهم إليه؛ ولكن السيف الذي لا يجِد عملًا لِلبَطَل، تفضُله الإبرةُ التي تَعمَل للخيَّاط، وماذا يملك عمُّك أبو عثمان؟ يملك ما لا ينزل عنه بِدُوَلِ المُلوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر؛ إذ يملك عقلَه وبيانَه، على أنه مُستَأجَر هنا بعقله وبيانه، يعقِل ما شاءوا ويكتُب ما شاءوا.
لك اللهُ أنْ أصدُقك القول في هذه الحرفة اليومية: إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابتُه من دِين إلى دِين …
وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عِبْتَه بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يَكْتُب، قال: هذا ما يلائم القراء، وقد يكون من أكذب الناس فيما يدَّعي لنفسه وما يُهوِّل به لتقوية شأنه وإصغار مَن عداه، فإذا كذَّبه مَن يَعرِفه قال: هذا ما يُلائمني، وهو واثق أنه في نوع من القُرَّاء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تُملأ الساعة، فإذا هم جميعًا يقولون: تك تك … تك … تك …
قال: فإن هذا الحديث أنا ولَّدْته، ولكن انظر كيف سارَ في الآفاق؟! …
ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافًا أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادَّعاه، فإذا الرجل على التحقيق كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كُتُب الجغرافيا …
وما يزال البُلَهاء يُصدِّقون الكلام المنشور في الصحف، لا بأنه صدق، ولكن بأنه «مكتوب في الجريدة»! … فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب — متى كان مغرورًا — أنه إذا تهدَّد إنسانًا فما هدَّده بصفحته، بل بحكومته …
نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة؛ ولكن ويحك: إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا! …
•••
وضحك أبو عثمان وضحكت! فاستيقظت.