أبو حنيفة ولكن بغير فقه!
قد انتهينا في الأدب إلى نهاية صحافية عجيبة، فأصبح كل مَن يَكتب يُنشَر له، وكل من يُنشَر له يَعُدُّ نفسَه أديبًا، وكل مَن عدَّ نفسه أديبًا جاز له أن يكون صاحب مذهب وأن يقول في مذهبه ويرد على مذهب غيره.
فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء كما تدور أسماء المستعمرات بين السياسيين المتنازعين عليها، يتعلَّق بها الطمع وتنبعث لها الفِتْنة وتكون فيها الخصومة والعداوة، منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ وأدب الحياة، والجمود والتحوُّل، والقديم والجديد، ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذه المذاهب؟
وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالكًا ولكن بغير رواية، وابن حنبل ولكن بغير حديث؛ أسماء بينها وبين العمل أنها كذبٌ عليه وأنه رَدٌّ عليها.
وليس يكون الأدب أدبًا إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يُصرِّفه النوابغ من أهله حتى يؤرَّخ بهم فيقال: أدب فلان وطريقة فلان ومذهب فلان؛ إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسَّط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم؛ فلا بد من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي حتى يكون في الكتابة إنسان جالس هو كاتبها، كما أن الحي الجالس في كل حي هو مجموعُه العصبي، فيخرج ضرْب من الآداب كأنه نوع من التحوُّل في الوجود الإنساني يرجع بالحياة إلى ذرَّات معانيها، ثم يرسم من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرَّات الخليقة في تركيب مِن تركيب، فلا يكون للأديب تعريف إلا أنه المقلِّد الإلهي.
وإذا اعتبرنا هذا الأصل فهل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أو ينتهي؛ وهل تُراه يعلو أو ينزل؛ وهل يستجمِع أو ينقضُّ، وهل هو من قديمه الصريح بعيد من بعيد أو قريب من قريب أو هو في مكان بينهما؟
إن تقل إنها في اللغة والأساليب والمعاني والأغراض، فهذه كلها تصير إلى حيث يُراد بها، وتتقلَّد البلية مِن كل مَن يعمل فيها؛ وقد استوعبَتْ واتَّسعتْ ومادَّتِ العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤتَ من ضيقٍ ولا جمود ولا ضعف، ثم هي مادَّة ولا عليها ممَّن لا يُحسن أن يضع يده منها حيث يملأ كفَّه أو حيث تقع يده على حاجته.
كيف ذهب الأدباء في هذه العربية نشرًا متبدِّدين تعلو بهم الدائرة وتهبط، فكلٌّ أعلى وكلٌّ أسفل؟ هذا فلان شاعر قد أحاط بالشعر عربيِّه وغربيِّه وهو ينظمه ويفتنُّ في أغراضه ويولِّد ويسرِق وينسَخ ويمسَخ، وهو عند نفسه الشاعر الذي فقدتْه كلُّ أمة من تاريخها ووقع في تاريخ العربية وحدها ابتلاءً ومِحْنة؛ وهو كَكُلِّ هؤلاء المغرورين يحسبون أنهم لو كانوا في لغات غير العربية لظهروا نجومًا، ولكن العربية جعلت كلًّا منهم حصاة بين الحصى، وتقرأ شِعره فإذا هو شعر تتوهَّم من قراءته تقطيعَ ثيابك، إذا تُجاذِب نفسَك لتفرَّ منه فرارًا.
وهذا فلان الكاتب الذي والذي … والذي يرتفع إلى أقصى السموات على جناحَيْ ذبابة.
وهذا فرعون الأدب الذي يقول: أنا ربكم الأعلى! وهذا فلان وهذا فلان …
وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مُسخَّرون بالجبْر على قانون من التدمير والتخريب، فليس فيهم إلا طبيعةٌ مُكابِرة لا إقرار منها، باغية لا إنصاف معها، نافرة لا مساغ إليها، متهمة لا ثقة بها؛ طبيعة يتحوَّل كل شيء فيها إلى أثر منها كما يتحوَّل ماء الشجر في العود الرطب المشتعل إلى دخان أسود!
•••
يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد: هو خلوُّ العصر من إمام بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الإجماع ويكون ملء الدهر في حكمته وعقله وريه ولسانه ومناقبه وشمائله؛ فإن مثل هذا الإمام يُخَصُّ دائمًا بالإرادة التي ليس لها إلا النصر والغلبة والتي تُعطى القوة على قَتْل الصغائر والسفاسف؛ وهو إذا أُلقِي في الميزان عند اختلاف الرأي، وُضع فيه بالجمهور الكبير من أنصاره والمعجَبين بآدابه، وبالسَّوَاد الغالب من كل الفاعليات المحيطة به والمنجذبة إليه؛ ومن ثَمَّ تتهيَّأ قوة الترجيح ويتعيَّن اليقين والشك؛ والميزان اليوم فارغ من هذه القوة فلا يرْجح ولا يعيِّن.
ولكل القواعد شواذُّ ولكن القاعدة هي إمام بابها؛ فما من شاذٍّ يحسب نفسه منطلقًا مُخلًّى، إلا هو محدود بها مردود إليها، متصل من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف أنه شاذ إلا بما تُعرَف به أنها قاعدة، فيكون شأنُه في نفسه بما تُعيِّن هي له على مكرهته ومحبته.
ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في الإسلام ووجوب ذلك على المسلمين؛ فلا بد على هذه الأرض من ضوء في لحم ودم، وبعض معاني الخليفة في تنصيبه كبعض معاني «الشهيد المجهول» في الأمم المحاربة المنتصرة المتمدِّنة: رمز التقديس، ومعنى المفاداة، وصمتٌ يتكلم، ومكانٌ يُوحي، وقوة تُستمَد، وانفرادٌ يجمع، وحكم الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة في شرف الحياة والموت؛ بل الحرب مخبوءة في حفرة، والنصر مغطًّى بقبر؛ بل المجهول الذي فيه كل ما ينبغي أن يُعلَم.
•••
فعصرُنا هذا مضطربٌ مختلٌّ؛ إذ لا إمام فيه يجتمع الناس عليه، وإذ كل مَن يزعم نفسَه إمامًا هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفة ولكن بغير فقه!
ولَعَمْري ما نشأ قولُهم: «الجديد والقديم» إلا لأن ها هنا موضعًا خاليًا يُظهِر خلاؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهةً تَنْمازُ من جهة، فمنذ مات الإمام الكبير الشيخ محمد عبده — رحمه الله — جرَتْ أحداث، ونتأتْ رءوس، وزاغتْ طبائع وكأنه لم يمُتْ رجل، بل رُفِع قرآن.