الأدب والأديب
إذا اعتبرْتَ الخيال في الذكاء الإنساني وأَوْلَيتَه دِقَّة النظر وحسن التمييز، لم تجدْه في الحقيقة تقليدًا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصوُّر والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق.
وإذا قيل: الأدب، فاعلم أنه لا بد معه من البيان؛ لأن النفس تَخلَق فتُصوِّر فتُحسِن الصورةَ؛ وإنما يكون تمام التركيب في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته؛ بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئًا مسمًّى أو متميزًا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئًا تامًّا ولا صحيحًا، وما بُدٌّ من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها.
وهذه مسألة كيفما تناولتَها فهي هي حتى تُمضيها على هذا الوجه الذي رأيتَ في الثمرة ونضجها، فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو مِن فائدته، وفائدته من جماله؛ فإذا خلا من هذه الصناعة الْتَحَقَ بغيره، وعاد بابًا من الاستعمال بعد أن كان بابًا من التأثير؛ وصار الفرقُ بين حاليه كالفرق بين الفاكهة؛ إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر؛ ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جميع لغات الفكر الإنساني، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية.
فالغرض الأول للأدب المُبِين أن يخلُق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يُلقِي الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيَّل فيها، ويردُّ القليلَ من الحياة كثيرًا وافيًا بما يُضاعِف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتًا قارًّا بما يُخلِّد مِن وصفه، ويجعل المؤلمَ منها لذيذًا خفيفًا بما يبُثُّ فيه من العاطفة والمملولَ مُمْتِعًا حلوًا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة؛ ومدارُ ذلك كله على إيتاء النفس لذَّةَ المجهول التي هي في نفسها لذَّةٌ مجهولة أيضًا؛ فإن هذه النفس طُلَعة مُتقلِّبة، لا تبتغي مجهولًا صِرْفًا ولا معلومًا صرفًا، كأنها مُدرِكة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفيٌّ مطلق؛ وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلقٌ أو يسكُنُ منها قلق.
وقد صحَّ عندي أن النفس لا تتحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتُحِسُّ وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى — إلا في ساعات وفترات تَنْسَلُّ فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى «منطقة حياد» خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطتْها النفس فكأنما انتقلتْ إلى الجنة واستروحتِ الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيبٍ فاتن معشوق أُعطِي قوة سِحْر النفس، فهي تَنسَى به؛ وصديقٍ محبوب وفيٍّ أوتي قوةَ جذْب النفس، فهي تَنسَى عنده؛ وقطعةٍ أدبيةٍ آخذة، فهي ساحرةٌ كالحبيب أو جاذبةٌ كالصديق؛ ومنظرٍ فنيٍّ رائع، ففيه من كل شيءٍ شيءٌ.
وهذه كلها تُنسِي المرءَ زمنَه مدةً تطول وتقصر؛ وذلك فيها دليل على أن النفس الإنسانية تصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية؛ ومن ثَمَّ نستطيع أن نُقرِّر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه؛ وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والتأثير — هو معنى الأدب وأسلوبه.
ولو أردتَ أن تعرف الأديب مَن هو، لما وجدتَ أجمعَ ولا أدقَّ في معناه من أن تُسمِّيَه الإنسانَ الكونيَّ، وغيره هو الإنسان فقط؛ ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثُّره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها؛ إذ كانت فيه مع خاصية الإنسان خاصية الكون الشامل، فالطبيعة تُثبِت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدلُّ السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتُبرهِن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضًا منها؛ وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حدَّ له، والاتساع الذي كلُّ آخِرٍ فيه لشيء، أوَّلٌ فيه لشيء.
وهو إنسان يدُلُّه الجمال على نفسه ليَدُلَّ غيره عليه، وبذلك زِيدَ على معناه معنًى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره؛ فأساس عمله دائمًا أن يزيد على كل فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يُبدِع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجرَّدة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خُلِق ليتلقَّى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني؛ وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة، كأنما أَوجدَتْهم الحكمة؛ لِتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة؛ وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه.
ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني؛ إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب: إن هذا هو عمل فلان.
وفصل ما بين العالم والأديب، أن العالِم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا حدُّه؛ وعِلْم الأديب هو النفسُ الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعةُ بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرةٍ حدودُها من كل نواحيها الأسرار.
وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيبًا تامًّا قائمًا بحقائقه وأوصافه، فالأديب العبقري لا يراها إلا أجزاء، كأنما هو يشهد خلقها وتركيبها، وكأنما أمرَّها في «معمله»، أو كأن الله — سبحانه — دعاه ليرى فيها رأيه … وبذلك يجيء النابغ من أدب العباقرة وبعضُه كالمُقترَحات لتجميل الدنيا وتهذيب الإنسانية، وبعضه كالموافقة وإقرار الحكمة؛ وأساسه على كل هذه الأحوال النقد، ثم النقد، ولاشيء غير النقد؛ كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهَم: أنت كلمتي فقُلْ كلمتك …
•••
وترى الجمال حيث أصبتَه شيئًا واحدًا لا يكبر ولا يصغر، ولكنَّ الحسَّ به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وها هنا يتألَّه الأدب؛ فهو خالقُ الجمال في الذهن، والمُمكِّن للأسباب المُعِينة على إدراكه وتبيُّن صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية والجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة وصَوْلة الغريزة وغرارة الطبع الحيواني.
وإنما يكلَّف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدُّم النظر وتسقُّط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره؛ ولا يُعنَى بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه؛ ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوُت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم؛ يُسدِّد على كل ذلك رأيه، ويُجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، ويُنفِذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه وليَ الحكمَ على الجزء الخفي في الإنسان يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المَثَل الأعلى، وهل يُخلَق العبقريُّ إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم مَن يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل، فيستمر دائبًا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟
فالأديب يُشرِف على هذه الدنيا من بصيرته فإذا وقائع الحياة في حَذْو واحد من النزاع والتناقض، وإذا هي دائبة في مَحْق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تَلَجْلَج ذلك في نفس الأديب اتجهتْ هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامتْ حارسةً على ما ضيع الناس، وسُخِّرت في ذلك تسخيرًا لا تملِك معه أن تأبى منه، ولا يستوي لها أن تُغمِض فيه؛ ونُقِلت الإنسانية كلها ووُضعتْ على مجاز طريقها أين توجهت، فتأكَّد الأمر فيها، ووُصل بها، وعَلمتْ أنها من خالصة الله، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمُتعادِين، وبسطُ الرحمة للمتنازعين، وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يُختلَف في لذَّته وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرَّق في موعظتها، وتُشعِرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها؛ فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين؛ كلاهما يُعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرِض للحالات النفسية ليأمر وينهى، والأدب يعرض لها ليَجمع ويُقابِل؛ والدين يُوجِّه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه؛ وذلك وحيُ الله إلى المَلَك إلى نبي مختار، وهذا وحيُ الله إلى البصيرة إلى إنسان مختار.
فإن لم يكن للأديب مَثَل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يُلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته …
والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يَعلُوَ بالرذيلة … في أسلوبه ومعانيه، آخذًا بغاية الصنعة، مُتناهيًا في حسن العبارة؛ حتى يُصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مُفسِّرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمُوِّ فنِّه البياني هو وحده الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة، فيصنع الإلهامُ في هذا وفي هذا صُنعَه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه، كأن منهما إنسانًا صار مَلَكًا يكتب، وإنسانًا عاد حيوانًا يكتب …
•••
واللذة بالأدب غير التلهِّي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعًا على ذلك فيخرج إلى أن يكون مَلْهاة وسُخْفًا ومضيعة؛ فإن اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما رُكِّب في طبيعة الحي؛ إذ يُحس الذوقُ لذةَ الطعام مثلًا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها؛ أما التلهِّي فيجيء من سُخْف الأدب؛ وفراغ معانيه، ومؤاتاتِه الشهوات الخسيسة والتماسِه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالها؛ فإن أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره، أحدهما إلى حدٍّ محدود من الحياة، والآخر عملٌ جامع مستمر متفنِّنٌ؛ لأن عمله الأدبي وهو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب …
والعجب الذي لم يتنبَّه له أحد إلى اليوم من كل مَن درسوا الأدب العربي قديمًا وحديثًا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يَغفَل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!
فإذا أردتَ الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطًا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرِقَّة البيان صورة لرقة النفس، وبدِقَّته المتناهية في العمق صورة لدقة النظر إلى الحياة؛ ويُريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، مُحكِمة لها الأوضاع الإنسانية، مُشترِطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض …
والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه لا يستخرج منه للأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السموُّ بضمير الأمة.
ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأديب هو مَن كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقبٌ من ألقاب التاريخ.