سِرُّ النبوغ في الأدب
لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في يد رَجُلٍ ضعيف أبْلَه
يُصرِّفه ويُديره على أغراضه، فنقلناها من فِكْر الحيوان إلى لغتنا، وأدَّيْناها بمعنًى
مما
بين الإنسان والحيوان — لكانت في العبارة هكذا: ما أنت أيها الأبله فيما بيني وبين الحقيقة
المُدبِّرة للكون إلا نبي مرسل ﷺ … ذلك أن التركيب الذي يَبِين به الإنسان من
الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خاتمًا من الله دُمِغ به على خصائصه فأفرغه الله في
جلده،
ووضع في رأسه ذلك القُفْل الإلهي الذي حبسه في باب الاضطرار من غرائزه البهيمية، وأقفل
به
على الدنيا العقلية المتسعة بينه وبين الإنسان؛ فالكون عنده لَغْو كله ليس فيه إلا حقائق
يسيرة، ثم لا تفسير لهذه الحقائق إلا من طبيعته هو، فجِلْده أدقُّ تفسير فلكي … للشمس
والنور والهواء وما يجيء منها؛ وجوفه أصحُّ تعبير جغرافي … للكرة الأرضية وما تحمل، وجوعه
وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في العالم! …
فأساس الذكاء عاليًا ونازلًا هو التركيب الطبيعي لا غيره: لو زادتْ في الدماغ ذرة
أو نقصت
لزادت للدنيا صورة أو نقصت؛ فبالضرورة تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تبايُن حِدَّة
الذكاء في أفراد كل نوع من الحيوان، وما نشهد من ذلك في أحوال الناس، من الفطنة إلى الذكاء
إلى الألمعية
١ إلى الجهبذة
٢ إلى النبوغ إلى العبقرية؛ وهي طبقات من ألفاظ اللغة لأحوال قائمة من هذه
المعاني ترجع إلى درجات ثابتة في تركيب الدماغ.
ومما يسجد له العقل الإنساني سجدة طويلة إذا هو تأمَّل في حكمة الله ومرَّ يتصفَّح
٣ من أسرار ما نحن بسبيله من الكلام على النبوغ — أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار
الألوهية في كُرَةٍ متقاذَفة في الفضاء الأبدي، وأن الأرض التي تحمل أسرار الإنسانية،
هي
كرة طائرة فيما مُدَّ لها من الوجود، وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته في كرة خاصة به
هي
رأسه، وأن الوجود من كل حي هو بعد ذلك ليس شيئًا في النظر ولا في الحس ولا في الفهم إلا
كما
يُرى ويُحَس ويُفهَم في هذا الرأس بعينه على طريقته وتركيبه، فيصعد التدريج إلى الكبير
إلى
الأكبر، وينزل إلى الصغير إلى الأصغر؛ ثم لا معنى لما صعد إلا مما نزل، وبهذا ستكون آخرة
جميع العلوم متى نفذَ العلماءُ إلى السر الحقيقي، أن العقل الإنساني فَهِم كل شيء ولم
يفهم
شيئًا …
والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريج؛ فأما واحدٌ فيكون دماغه
باعتباره
من سائر الناس في الذكاء والعقل كالوجود المحيط، وأما آخر فكالشمس، ثم غيرهما كالأرض،
ثم
الرابع كالإنسان، ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة؛ ولا علة لكل هذا إلا ما هيَّأت
الأقدار «بأسبابها الكثيرة»، لكل إنسان في تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ،
وأحوال التركيب في الملايين من الخلايا العصبية، وما لا يُعَدُّ من فروع هذه الخلايا
وشُعَبها، ثم ما يكون من قِبَل العلاقات بين هذه الفروع التي هي لكل رأس كرمل الكرة
الأرضية، ثم اختلاف مقادير المواد الكيماوية التي تتخلَّق
٤ في غدد الجسم وتنفُثها الغددُ في الدم.
فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتيًا من قطرة في هذه الغدد، كما ينبعث
العملاق
المارد بعظامه الممتدَّة وألواحه المشبوحة من غدته النخامية لا غيرها.
فالذكيُّ مِن ذكيٍّ مثله إنما هو كالجيش من جيش بإزائه؛ يقع الاختلاف بينهما فيما
اشتملا
عليه من كثرة الجند، وصفاتهم من القوة والضعف، وأحوالهم من النظام والاختلال، وقوة آلاتهم
ومقدارها ونوع الاختراع فيها، ثم طبيعة موضعهم وحسن توجيههم وقيادتهم، وما اكتنفهم
٥ من صعب أو سهل، وما تظاهر
٦ عليهم من الحوادث والأقدار، ثم التوفيق الذي لا حيلة فيه إن وقع في حصة أحدهما
واستقر، أو وقع هَونًا وطار للآخر، وبنحوٍ من هذا كله تكون المفاضلة إذا وازنتَ بين اثنين
من النوابغ في حقيقة نبوغهما.
فالنابغة خَلْق من خالقه، يُصنَع كما ترى بأقدار الله؛ إذ هو قَدَرٌ على قومه وعلى
عصره،
وهو من الناس كالورقة الرابحة من ورق السحب «اليانصيب»؛ سَلَّةُ يدٍ جعلتْها مالًا وتركت
الباقيات ورقًا وأحدثتْ بينهما الفرقَ الذهبي؛ وبهذا لا يستطيع العالَم أن يزيد الدنيا
نابغة إلا إذا استطاع أن يزيد في الكواكب نجمًا فيصنعه؛ وهَبْهُ
٧ صنعه من الكهرباء، فيبقى أن يحمله، وإذا حمله بقي أن يرفعه إلى السموات؛ وهبْه
قد رفعه فيبقى كل شيء … يبقى عليه أن يُقحِمه
٨ في النجوم ويرسله فيها يدور ويتفَلَّك.
وكما يُخلَق النابغة بتركيبه، تُخلَق له الأحوال الملائمة لعمله الذي خُص به في أسرار
التقدير عاملًا نافعًا، وإن كانت لا تلائمه هو منتفعًا؛ فإنه هو غير مقصود إلا من حيث
إنه
وسيلة أو آلة تُكابِد ما تحتمل في أعمالها، ويُؤتَّى لها لتأخذ على طريقة وتعطي على طريقة؛
وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليلًا للناس من الناس أنفسهم على الخالق
الذي
هو وحده أمرُه الأمرُ.
وإذا كان الجمال يستعلن في كلام هؤلاء النوابغ، والخيال يظهر في تعبيرهم، والحكمة
تهبط
إلى الدنيا في تفكيرهم، والمثل الأعلى هم الداعون إليه، والأشواق النفسية هم موقظوها،
والعواطف هم المصورون لها، وسرور الحياة هم الذين حوَّلوه إلى الفن — إذا كان هذا كله
فهذا
كله إنما هو توكيد لاتصالهم بالقوة الأزلية المدبرة، وأنهم أدواتها في هذه المعاني؛ فما
هي
أعمالهم أكثر مما هي أعمالها؛ وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيطة به ليُبدع
منها، والحقيقة أنها هي تلتمسه لتُبدع به.
وبعدُ؛ فالنابغة كأنه إنسان من الفَلَك، فهو يخزن الأشعة العقلية ويُريقها،
٩ وفي يده الأنوار والظلال والألوان يعمل بها عمل الفجر كلما أظلمتْ على الناس
معاني الحياة؛ ولا تزال الحكمة تُلقِي إليه الفكرة الجميلة ليعطيها هو صورةَ فكرتها،
وتوحي
إليه معنى الحق ليؤتيها هو معنى جمال الحق؛ والطبيعة خلقها الله وحده، ولكنها ليست معقولة
إلا بالعلم، وليست جميلة إلا بالشعر، وليست محبوبة إلا بالفن؛ فالنوابغ في هذا كله هم
شُروح
وتفاسير حول كلمات الله، وكلهم يَشعر بالوجود فنًّا كاملًا ويَشعر بنفسه شرحًا لأشياء
من
هذا الفن، ويرى معاني الطبيعة كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة أكبر وأوسع مما
هي
فيه من حقائقها المحدودة، وتتعرض له أحزان الإنسانية تسأله أن يُصحِّح الرأي فيها باستخراج
معناها الخيالي الجميل، فإنها وإن كانت آلامًا وأحزانًا إلا أن معناها الخيالي هو سرور
تحمله للناس؛ إذ كان من طبيعة النفس البشرية أن تسكن إلى وصف آلامها وفلسفة حكمتها حين
تبدو
بصائرها حاملة أثرها الإلهي، كأن المؤلم ليس هو الألم، وإنما هو جهلُ سِرِّه.
وبالجملة فالكون يختار في كل شيء مفسِّره العبقري ليكشف من غموضه ويزيد فيه أيضًا
… ثم
ليؤتَى الناسُ المثل الأعلى من المعنى على يد المثل الأعلى من الفكر؛ ولهذا تُصيب الكلامَ
الذي يكتبه النابغةُ الملهَمُ في أوقات التجلِّي عليه كأنه كلامٌ صوَّر نفسَه وصاغها،
أو
كأنه قطعة من الحسِّ قد جمدتْ في أسطر؛ ولا بد أن تُشعرك الجملة أنها قُذِفت وحيًا؛ إذ
لا
تجدها إلا وكأن في كلماتها روحًا يرتعش؛ ولقد يخطر لي وأنا أقرأ بعض المعاني الجميلة
لذهن
من الأذهان الملهَمة كشكسبير والمتنبي وغيرهما — حين أتأمل اختراع المعنى وإبداع سياقه
وضُحى البيان عليه وإشراقَه فيه وما أُتيح له من جلال ظاهر في شكل حيٍّ يلمح بسره في
النفس
— يُخيَّل إلي من ذلك أن سر الطبيعة القادر يعمل عمله أحيانًا بذهنٍ إنسانيٍّ ليخلق تعبيرًا
عن جلاله في مثل جلاله.
وأنت فلو أخذتَ معنًى من هذه المعاني الآتية من الإلهام وأجريتَه في كتابة كاتب أو
شعر
شاعر من الدين ليس لهم إلا أذهانهم يُكدُّونها،
١٠ وكتبهم يجعلونها أذهانهم أحيانًا … لرأيتَ الفرق بين شيء وشيء في أحسن ما أنت
واجده لهم على نحو ما ترى بين زهرةٍ حريرية جاءت من عمل الإنسان بالإبرة والخيط، وزهرة
أخرى
قد انبثقتْ عطِرة ناضرة في غصنها الأخضر من عمل الحياة بالسماء والأرض.
والعبقري هو أبدًا وراء ما لا ينتهي من جمال، أوله في نفسه وآخره في الجمال الأقدس
الذي
مسح على هذه النفس الجميلة السامية؛ فما دام فيه سر العبقرية فهو دائب يعمل مُمزِّقًا
حياته
في سُبُحات النور تمزيقًا يجتمع منه أدبه؛ وما أدبه إلا صورة حياته؛ وهو كلَّما أبدع
شيئًا
طلب الذي هو أبدع منه؛ فلا يزال متألِّمًا إنْ عمل لأن طبيعته لا تقف عند غاية من عمله،
ومتألِّمًا إن لم يعمل؛ لأن تلك الطبيعة بعينها لا تهدأ إلا في عمل، وهي طبيعة متمرِّدة
بذلك الجمال الأقدس تمرُّدَ العشق في حامله؛ إذ هما صورتان لأمر واحد كما سنشير إليه؛
فكل
ما تجده في نفس العاشق المتدلِّه مما يترامى به إلى جنونه وهلاكه، تجد شَبهًا منه في
نفس
العبقري؛ فكلاهما قانونه من طبيعته وحدها؛ إذ قد اتخذتْ حياتُه شكلها الفني من ذوقه هو
وحده؛ فليس يتبع طريقة أحد، بل هو في طريقة نفسه، وكلاهما مسترسل أبدًا إلى جمال مستفيض
على
روحه يتقلَّب فيها باللذة والألم يرجع إليه ويستمد منه، وكلاهما لا يجد المعنى الجميل
في
الطبيعة معنًى، بل رسولًا من الجمال أرسل إليه وحده، ولا يزال يشعر في كل وقت أن له رسائل
ورُسُلًا هو بعدُ في انتظارها، وكلاهما متى ظفِر بشيء من مصدر الجمال انتهى من شدة فرحه
إلى
الظن أنه ربح من الكون ربحًا لم يكن له من قبل، وكلاهما مُتهالِك بين قيود الحياة التي
في
الحياة والواقع، وبين حريتها التي في خياله وأمله، كأن عليه في سبيل هذه الحرية أن يقطع
الليل والنهار لا قيدًا من قيود الإمتاع أو العيش؛ وكلاهما متصل بقوة غيبية وراء ما يُرى
وما يُحس تجعل نظرته في الأشياء خاضعة لقانون النظرة العاشقة في العينين الساحرتين
المعشوقتين، فإذا مدَّ عينيه في شيء جميل فهناك سؤال وجوابه، ووحيٌ وترجمته، ومرور من
يقظة
إلى حُلم، وانتقال من حقيقة إلى خيال!
غير أن طبيعة العبقري تزيد على كل ذلك ألمًا تنفرد به لا تستقر معه على رضًا، ولا
يبرح
يسلِّط الإعنات
١١ عليها ويستغرقها بالهموم السامية؛ وذلك ألَمُ الكمال الفني الذي لا يُدرِك
العبقري غايتَه عند نفسه، وإن كان عند الناس قد أدرك غايات وغايات؛ فطبيعة كل عبقري تجهد
جهدها في العمل لتُخرِج به مما يستطيعه الناس، فإذا تأتَّى صاحبُها لذلك وكَابَد فيه
وأدرك
منه وبلغ وأعجز، اندفعت طبيعتُه إلى الخروج مما يستطيع هو … كأنه خارج عن الطبيعة وداخل
في
الطبيعة في وقت معًا، وكأنه نفسُه وفوقَ نفسه في حال، وهذا سر حريته وسموه، كما أنه سر
ألمه
وحَيْرته.
ومِن أثر ذلك ما تُحسه أنت إذا قرأتَ للأديب البليغ التام صاحب الفكر والأسلوب والذهن
الملهَم؛ فإنك تقف على المعنى من معانيه يملأ نفسك ويتمدَّد فيها ويهتزُّ بها طربًا
وإعجابًا، فتقول: لا أحسنَ مِن هذا! ثم تُؤمِّل مع ذلك أن تجد منه ما هو أحسنُ من هذا
…
كأنه وإن تناهَى إلى الغاية
١٢ لا يزال عندك فوق الغاية؛ وهذا غريب، ولكن لا دليل على العبقرية إلا الغرابة
دائمًا؛ فهي نظام لا نظام فيه؛ لأنها طريقة لا طريقة لها؛ وبهذه الغرابة جاءت العبقرية
كلها
أمثلة وليس فيها قواعد يُحتَذَى
١٣ عليها ولا هداية فيها إلا من الروح؛ وإذا كان الفن قُدْرة متصرِّفة في الجمال،
فالعبقرية قدرة متصرفة في الفن، والنابغة كالمتكيِّس
١٤ الذي معه قوى العقل ويريد أن يزداد على قَدْره منها، ولكن العبقري كالإلهي الذي
معه قوى الروح ويريد أن يزيد الناسَ على قَدْرهم بها؛ وذاك مرجعُه الفكر الدقيق الباحث؛
وهذا مناطه البصيرة الشفَّافة النافذة، وهي أغرب الغرائب في الإنسان؛ إذ هي الجهة المطلقة
في هذا المخلوق المقيَّد، وبها تتسع النفس لإدراك المُطلَق الظاهر من خلال الموجودات،
وفيها
تُحوَّل الأشياء من نظام الحاسة إلى نظام الروح فيُسمَع المرئيُّ ويُبصَر المسموع، وتُخلَع
الأجسامُ أنغاما، وتُلبَس الأصواتُ أشكالا، ويبدو عندها كل مخلوق وكأن فيه بقية زائدة
على
خلقه تُركت ليعمل فيها الكاتب أو الشاعر المحدَّث عملَ فنِّه، الزائد على الطبيعة بالحاسة
الزائدة على ذهنه، وهي التي نسميها الإلهام.
وهذه الحاسة هي كذلك من بعض الغرابة، تكون في صاحبها الموهوب كما تكون حاسة الاتجاه
في
الطيور التي تقطع في جو السماء إلى غاياتها البعيدة من قطب
١٥ الأرض إلى قطبها الآخر بغير دليل تحمله، ولا رسم تنظر فيه، ولا علم ترجع إليه؛
وكما تكون حاسة التمييز في النحل الذي يبني عسَلَتَه على هندسة ليست من كتاب ولا مدرسة،
وحاسة التدبير في النمل الذي يدبِّر مملكته بغير علوم الممالك وسياستها؛ وكثيرًا ما يجيء
الأديب الملهَم من حقائق الفكر وبيانه وأسرار الطبائع وأوصافها بما يُغطِّي على فلسفة
الفلاسفة وعلم العلماء، ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلم، لا أقول بدرجة، ولكن
بحاسة.
وبالإلهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه وذهنه الذي ليس معه؛ إذ كانت له من وراء خياله
قوة غير منظورة ليست فيه، ومع ذلك تعمل كما تعمل الأعضاء في جسمه، هيِّنة منقادة كأنها
تتصرَّف على اطِّراد العادة بلا فكر ولا روية ولا عسر ما دامت تتجلَّى عليه.
وليست تتصل هذه القوة إلا بتركيب عصبي تكون فيه الخصائص التي تصلح أن تتلقَّى عنها،
وهي
في العبقريين خصائص مَرْضية في الأعمِّ الأغلب، بل لعلها كذلك دائمًا؛ ليتَّسِر بها العبقري
لحالة خفيفة من الموت … يحمل بها كَدَّه وتعبَه وما يعانيه من مضض الفكر وثِقْلته؛ ثم
لتكون
هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبين عالم الغيب منه؛ فالتركيب العصبي في دماغ
العبقري إنسان على حياله مع إنسان آخر، أحدها لما في الطبيعة والثاني لما وراء الطبيعة؛
ومن
ثَمَّ كان الرجل من هذه الفئة كالمصباح؛ يتَّقد وينطفئ؛ لأنه آلة نور تعرض لها العلل
فتذهب
بقدرتها عليه، وتنضب مادة النور منها، فكذلك لا تقدر عليه، وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب ليس
منها ولا من نورها، وهي على كل هذه الأحوال لا تملك منها حالة؛ فبينما العبقري الذي يملأ
الدنيا من آثاره النابغة، تراه في حالة من أحواله يَدْأب لا يأْتلِي فيجِدُّ في العمل
ويبذُل الوسعَ فيه ويصبر على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض به فيضًا وكأن في طبيعة الربيع
المتفتِّح طول أيامه بالجمال — إذا هو في حالة أخرى يتلكَّأ ويتربَّص
١٦ لا يعمل شيئًا كأنما دخل في قريحته الشتاء، وفي ثالثة يتباطأ ويتلبَّث فلا
يعنُّ له جديد كأنما حُبس عنه فكره أو نَبَا طبعُه أو هو في قيظ طبيعتِه وخُمولها
وضَجَرِها؛ ثم لا تمضي على ذلك إلا توَّةٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر …
وإذا
هو منبعث ملء القوة والنشاط؛ وربما يأخذ في غرض من الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له
المادة، فلا يكاد يمضي لنحو منه حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فإذا هو يكتب ما لا يُشبِه
ما
كان ابتدأ به، ويأتيه غير ما كان قد أراده، كأنما يُلقَى عليه فهو يستملي؛ وقد يبتدئ
معنًى
ثم يُقطَع عنه بطارئ من عمل أو حديث، ثم يُعاوِده فإذا هو معنًى آخر وإذا جهة من الفكر
هي
جهة الإبداع والاختراع في موضوعه، وإذا هو إنما كان يُجَرُّ بذلك الصارف عن معناه الأول
جرًّا ليدعه إلى الأكمل والأصح، وأيقنَ أنه لو كان استوفى على ما بدأ لأسَفَّ وضعُف وجاء
بما غيرُه أقدر عليه؛ كأن هذه القوة الخفية التي تُلهِمه تُنقِّح له أيضًا بأساليبها
الغريبة؛ وقد يكون آخذًا في عمله ماضيًا على طبعه مسترسلًا إلى ما ينكشف له من أسرار
المعاني ثَقِفًا من هنا لَقِفًا
١٧ من هناك، ثم ينظر فإذا هو قد مُسِح لوحُ خياله، ويطلب المعنى فلا يُتاح له،
ويتمادى فلا يزيد إلا كدًّا وعُسرًا كأنما ذهب إلهامُه في غمض من غموض الأبدية؛ وكل من
ارتاضَ بصناعة الفكر واستحكمتْ له عادتُها ومر في درجاتها حتى بلغ المكانة التي يستشرف
منها
للإلهام ويتعرَّض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي وانكشافات الغيب، يعلم أن كل معنًى
بديعٍ
يأتي به في صناعته إنما يقع له إلهامًا من ذلك المعنى الحي المتمدِّد في الكائنات كلها،
ظاهرًا في شيء منها بالضوء، وفي أشياء بالألوان، وفي بعضها بالحركة، وفي بعضها بالانسجام،
وفي بعضها بالروعة والفخامة، وفي غيرها بنِصْبَة الهيئة؛ وظاهرًا في حالات كثيرة بأنه
غير
ظاهر؛ ويعرف كذلك أن هذا المعنى الشامل الذي لا يُحَدُّ هو الذي ينقل الوجود كله إلى
نفوس
النوابغ متى نبض في هذه النفوس الرقيقة وأشعرها سره، وإذا همَّ النابغة أن يتوضَّحه لا
يرى
شيئًا، وإذا أراد حُجَّة عليه لم يستطع الجلاء عن بيانه بكلمة، وإذا التمس التعريف به
لم
يجد إلا ما يشهد له إحساسه وقلبه، وهذا الذي ينْقَدِح
١٨ في أذهان النوابغ أفكارًا حين يفيض لكل منهم بسبب من قراءة أو مشاهدة أو حالة
أو مِراس،
١٩ هو هو بعينه الذي ينقدح عشقًا في قلوب المحبين حين يتراءى لكل منهم في معنًى
على وجه جميل؛ ومن ثَمَّ كان النابغة في الأدب لا يتم تمامُه إلا إذا أحبَّ وعشِق، وكان
الأدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شيئًا سوى صناعة جمال الفكر …
وهذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الأدمغة هو الذي كان يسميه علماء
الأدب
العربي بالتوليد، وقد عرفوا أثره، ولكنهم لم يتنبَّهوا إلى حقيقته ولا أدركوا من سره
شيئًا؛
وأحسنُ ما قرأناه فيه قولُ ابن رشيق في كتاب العمدة: «إنما سُمِّي الشاعر شاعرًا؛ لأنه
يَشعُر بما لا يشعر به غيره؛ فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنًى ولا اختراعُه، أو استطرافُ
لفظ وابتداعُه، أو زيادة فيما أجْحَف
٢٠ فيه غيره من المعاني، أو نقصٌ مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرفُ معنًى إلى
وجه عن وجه آخر — كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن.» هذا
كلام ابن رشيق، وليس لهم أحسن منه، وهو مع ذلك تخليط لا قيمة له وليس فيه من موضوعنا
إلا
لفظ التوليد.
ومما لا نقضي منه عجبًا في تتبُّع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبة، أننا نرى أكثر
ألفاظها كالتامة لا ينقصها شيء من دقائق المعنى في أصل وضعها، على حين لا يفهم علماؤها
من
هذه الألفاظ إلا بعض ما تدل عليه، كأنها مُنزَّلة تنزيلًا ممن يعلم السِرَّ؛ وقد نبَّهنا
إلى هذا في كتاب «تاريخ آداب العرب» وأفضْنَا
٢١ فيه واستوفينا هناك من فلسفته، وجاء القرآن الكريم من هذا بالعجائب التي تفوتُ
العقلَ، حتى إن أكثر ألفاظه لتكاد تكون مختومة نزلتْ كذلك لِتَفُضَّ
٢٢ العلومُ والفلسفةُ خواتمَها في عصور آتية لا ريب فيها؛ وكلمة التوليد التي لم
يفهم منها العلماء إلا أخذ معنًى من معنًى غيره بطريقة من طرق الأخذ التي أشاروا إليها
في
كتب الأدب — هي الكلمة التي لا يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ولا تجد ما يسد في ذلك
مسدَّها
٢٣ أو يُحيط إحاطتها، ولا نظن في لغة من اللغات ما يشبهها في هذه الدلالة
واستيعابها كل أسرار المعنى؛ إذ هي بلفظها نصٌّ على حياة الكون في الذهن الإنساني، وأنه
يتخذه وسيلة لإيداع معانيه، كما يتخذ سرُّ الحياة بطنَ الأم وسيلة لإيداع موجوداته؛ وأن
المعاني تتلاقح فيلد بعضها بعضًا في أسلوب من المعاني بعضها أجمل من بعض، كما يكون مثل
ذلك
في النسل بوسائل التلقيح من الدماء المختلفة، وأن النبوغ ليس شيئًا إلا التركيب العصبي
الخاص في الذهن، ثم نموَّ هذا التركيب مع الحياة في طريقة سواء هي وطريقة الولادة المُحيِية
التي مرجعها كذلك إلى تركيب خاص في أحشاء الأنثى؛ ينمو، ثم يُدرِك ثم يعمل عمله المعجز؛
وإذا كان من كل شيء في الطبيعة زوجان، فالكلمة نصٌّ على أن أذهان النوابغ أذهان مؤنثة
في
طباعها التي بُنيت عليها؛ وهذا صحيح؛ إذ هي أقوى الأذهان على الأرض في الحسِّ بالآلام
والمسرات، ومعاني الدموع والابتسام أسرعُ إليها من غيرها، بل هي طبيعة فيها؛ وهي وحدها
المبدعة للجمال والمنشئة للذوق، وعملها في ذلك هو قانون وجودها؛ ثم هي قائمة على الاحتمال
والإعطاء والرضا بالحرمان في سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعب والدقة والاهتمام بالتفاصيل
وأساسها الحب؛ وكل ذلك من طباع الأنثى وهي النابغة فيه، بل هي النابغة به.
فسر النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته
العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛
وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماسُ على الزجاج، والجوهر على
الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سِرِّ
تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمُدُّ
لهم
في الخلاف أحوالُ أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المُباينة تجتمع لكل منهم
شخصية
وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوَّع الأساليب، ويُعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا
بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في
العادة
ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته.
وقد سُئل مصوِّرٌ مبدع بماذا يمزج ألوانه فتأتي ولها إشراقُها وجمالها ونبوغ مبانيها
وزهو
الحياة بها في الصورة، فقال: إنما أمزجها بمخي، وهذا هذا؛ فإن الألوان عنده الناس جميعًا،
ولكن مخه عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هذا الدماغ فكأن ألوانه
في صناعته جاءت منه بخصوصه، وكذلك كل ما يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص
به يدل
عليه ويُتمِّم الغرض منه ويضيف إلى معانيه أنقًا من الجمال وحسنه وإلى صوته نغمًا من
الموسيقى وطربها، فما أشبهَ الجهازَ العصبي في دماغ كل نابغة أن يكون وزنًا شعريًا لهذا
النابغة بخاصته، ألا ترى أنك لا تقرأ الأديب الحق إلا وجدتَ كل ما يكتبه يجيء في وزن
خاص به
حتى لا يخرج عنه مرة، أو تزيد أنت فيه وتنقص إلا ظهر لك أنه مكسور …؟
والذهن العبقري لا يتخذ المعاني موضوع بحث ونظر وتعقُّب يستخرج منها أو يتعلق عليها
فهذا
عمل الذهن الذكي وحده وهو غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من
ثَمَّ
ويعترض ويصحِّح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيها إلا أشياؤه هو وأمثاله. أما
الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا تكاد تُلابِسه حتى تتحول فيه وتتنوع
وتتساقط له أشكالًا وصورًا في مثل خطرات البرق، وربما غمر بالمعنى الواحد في جماله وسموه
وقوة تأثيره مقالات عدة لأولئك الأذكياء فنسخها نسخًا وجعلها منه كالشموع الموقدة بإزاء
الشمس. فإذا ذهبتَ توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقالات في الروعة والجلال ورأيتَ
عربدة المقالة وغرورَها لم تستطع إلا أن تقول لها: يا حصاة الميزان في إحدى كفتيه ألا
يكفيك
الجبل في الكفة الأخرى …؟
وقد عرف الأدباء جميعًا أن كاتب فرنسا العظيم أناتول فرانس كان يكتب الجملة، ثم
يُنقِّحها، ثم يُهذِّبها، ثم يعيدها، ثم يرجع فيها، وهكذا خمس مرات إلى ثمان ويُقدِّم
ويؤخِّر من موضع إلى موضع ويحتسبون هذا تحكيكًا وتهذيبًا، وما هو منها في شيء ولا أحسب
الأوروبيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هذه الطريقة، وإنما سرها من جهاز التوليد في رأس ذلك
الكاتب العظيم فإذا قرأ كتابة حوَّلها فكرُه وأبدع له منها من غير أن يعمل في ذلك أو
يتكلَّف له إلا ما يتكلف من يهز إليه بجذع الشجرة؛ لتُساقِط عليه ثمرًا ناضجًا حلوًا
جنيًّا، فكلما قرأ ولَّد ذهنه فيُثبِت ما يأتيه فلا تزال صورةٌ تخرج من صورة حتى يجيء
المعنى في النهاية وإنه لأغرب الغرائب لا يكاد العقل يهتدي إلى طريقته وسياق الفكر فيه
إذ
كان لم يأت إلا محوَّلًا عن وجهه مرات لا مرة واحدة.
فجهاز التوليد متى استمر واستحكم في إنسان أصبح له بمقام مَلَك الوحي من النبي وهو
عندنا
دليل من أقوى الأدلة على صحة النبوة وحدوث الوحي وإمكانه؛ إذ لا تتصرَّف به إلا قوة غيبية
لا عمل للإنسان فيها، بل هي تُبدِع إبداعها وتُلقَى عليه إلقاء. وليس كل من تعرَّض لها
أدرك
منها، ولا كل من أدرك منها بلغ بها، بل لا بد لها من الجهاز العصبي المحكَم كجهاز اللاسلكي
الدقيق المصنوع لتلقِّي أبعد الأمواج الكهربائية وأقواها. وهذه القوة إن أرادت معانيَ
الجمال أخرجت الشاعرَ، وإن أرادتْ كشفَ السر عن الأشياء أخرجتِ الأديبَ، وإن أرادتْ حقائقَ
الوجود أخرجتِ الحكيمَ. فإن كان الآمِرُ أكبرَ من هذا كله وكان أمرَ تغيير الحياة وصبِّ
أزمان جديدة للإنسانية والوثوب بهذه الدنيا درجة أو درجات في الرقِيِّ — فهنا تكون الوصيلة
أكبرَ من البصيرة، فليس لها من قوة الغيب إلا الوحي، ويكون الغرضُ أكبرَ من الشاعر والأديب
والحكيم، فلا يُختار إلا النبي ثم لا يوحى إليه إلا وهو في حسٍّ لساعة الوحي وحدها، وهي
ساعة ليست من الزمن بل من الروح المنصرف عن الزمن وما فيه ليتلقَّى عن روح الخلد؛ وقريب
من
ذلك خلوة النابغة بنفسه في ساعة التوليد؛ فسر النبوغ من سر الوحي، لا ريب في ذلك، وما
أسهلَ
سرَّ الوحي وأيسرَ أمره، ولكن في الأنبياء وحدهم، وهنا كل الصعوبة … «أن نكون أو لا نكون؛
هذه هي المسألة».