ورقة ورد
وضعنا كتابنا «أوراق الورد» في نوعٍ من الترسُّل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كتبناه بها، في المعاني التي أفردناه لها؛ وهو رسائل غرامية تطارَحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة على ما بيَّناه في مقدمة الكتاب، وكانت قد ضاعت «ورقة ورد» وهي رسالة كتبها العاشق إلى صديق له، يصف من أمره وأمر صاحبته، ويصوِّر له فيها سحر الحب كما لمسه وكما تركه، وقد عثرنا عليها بعد طبع الكتاب، فرأينا ألا نتفرَّد بها، وهي هذه:
***
… كانت لها نفسٌ شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنًى واحدٍ أحيانًا؛ فيسرُّها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرَّها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معانٍ من الأشياء، ولكن من نفسها ومشيئتها.
وكان خيالها مشبوبًا، يُلقي في كل شيء لمعانَ النور وانطفاءَه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، مُلئتْ بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتة كالنجوم.
ولها شعور دقيق، يجعلها أحيانًا من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل …
وهي ترى أسمى الفكر في بعض أحوالها ألا يكون لها فكر؛ فتترك من أمورها أشياء للمصادفة، كأنها واثقةٌ أن الحظَّ بعضُ عُشَّاقها. على أن لها ثلاثة أنواع من الذكاء: في عقلها، وروحها، وجسمها؛ فالذكاء في عقلها فَهْم، وفي روحها فِتْنة، وفي جسمها … خَلاعة.
وكانت — على كل أحوالها المتنافرة — جميلة ظريفة، قد تمت لها الصورة التي تخلق الحب، والأسرار التي تبعث الفتنة؛ والسحر الذي يميز روحها بشخصيتها الفاتنة كما تتميز هي بوجهها الفاتن.
•••
والحبُّ — إن كان حبًّا — لم يكن إلا عذابًا؛ فما هو إلا تقديم البرهان من العاشق على قوة فعلِ الحقيقة التي في المعشوق، ليس حالٌ منه في عذابه، إلا وهي دليلٌ على شيء منها في جبروتها.
ولقد أيقنتُ أن الغرام إنما هو جنون شخصية المحب بشخصية محبوبه، فيسقُطُ العالم وأحكامه ومذاهبه مما بين الشخصيتين؛ وينتفي الواقع الذي يجري الناس عليه، وتعود الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا إلا بعد أن تمر على المحبوب لتجيء منه، ويصبح هذا الكون العظيم كأنه إطار في عين مجنون لا يحمل شيئًا إلا الصورة التي جُنَّ بها!
وتالله لكأن قانون الطبيعة يقضي ألا تحبَّ المرأة رجلًا يسمى رجلًا، وألا تكون جديرة بمحبها، إلا إذا جرت بينهما أهوال من الغرام تتركها معه كأنها مأخوذة في الحرب … تلك الأهوال يمثلها الحيوان المتوحش عملًا جسميًّا بالقتال على الأنثى، ثم تَرِقُّ في الإنسان المتحضر فيمثلها عملًا قلبيًّا بالحب …
•••
أحببتها جهدَ الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكنَّ أسرارَ فتنتِها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا!
ولقد كنتُ في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففرَّ إلى ربوة عالية في رأسها عقلٌ لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حُرقتي بالهوى وارتماضي من الحب.
أما — والله — إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق.
إذا عَقِل الناسُ جميعًا قالت في العاشق: إلا هذا …
إذا برأتْ جِراح الحياة كلها قالت: إلا جَرْحَ الحب …!
إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا همَّ العشق …!
إذا تغيَّر الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو …!
إذا انكشف سر كلِّ شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجَّب بأسرار القلب …!
•••
ولما رأيتُها أول مرة، ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المُسْكِرَ، الذي تُعربدُ له الروح عربدةً كلها وقارٌ ظاهر … فرأيتُني يومئذٍ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يَعُبُّ ويجري.
وكنت أُلَقَّى خواطرَ كثيرة، جعلتْ كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد فاضت وازدحمت في ذلك الموضع تجلس فيه، فما شيءٌ يمر به إلا مسَّته فجعلته حيًّا يرتعش، حتى الكلمات.
وشعرتُ أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرقُّ رِقَّةَ نسيمِ السَّحَرِ، كأنما انخدع فيها فَحَسِبَ وجهَها نورَ الفجر!
وأحسستُ في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثرًا حول هذه الفَتَّانة، كأنها محدودة بي من كل جهة.
وظننتُ أن هذه الجميلة إِنْ هي إلا صورةٌ من الوجود النسائي الشاذِّ، وقعَ فيها تنقيحٌ إلهي لتُظْهِرَ للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة.
ورأيتُ هذا الحسن الفاتن يُشعرني بأنه فوق الحسن؛ لأنه فيها هي؛ وأنه فوق الجمال والنضرة والمرح؛ لأن الله وضعه في هذا السرور الحي المخلوق امرأة.
والتمستُ في محاسنها عيبًا، فبعد الجهد قلت مع الشاعر:
ورأيتُها تضحكُ الضَّحِكَ المستحي؛ فيخرج من فمها الجميل كأنما هو شاعرٌ أنه تجرَّأ على قانون …
وتَبْسُم ابتساماتٍ تقول كلٌّ منها للجالسين: انظروها! انظروها …!
ويغمرها ضَحِكُ العين والوجه والفم، وضحكُ الجسم أيضًا باهتزازه وترجرجه في حركات كأنما يَبْسُم بعضها ويقهقه بعضها …
وتُلقي نظراتٍ جعل الله معها ذلك الإغضاء وذلك الحياء؛ ليضع شيئًا من الوقاية في هذه القوة النسوية؛ قوة تدمير القلب.
وهي على ذلك متسامية في جمالها حتى لا يتكلم جسمها في وساوس النفس كلام اللحم والدم، وكأنه جسم ملائكي ليس له إلا الجلال طوعًا أو كرهًا.
جسمٌ كالمعبد، لا يعرف من جاءه أنه جاءه إلا ليبتهل ويخشع.
وتُطالعك من حيث تأملتَ فكرةُ الحياة المنسجمة على هذا الجسم، تطلب منك الفهم وهي لا تُفهَم أبدًا؛ أي تريد الفهم الذي لا ينتهي؛ أي تطلب الحب الذي لا ينقطع.
•••
أما ظَرَفُها فيكاد يصيح تحت النظرات: أنا خائف، أنا خائف!
وهي مثل الشعر، تُطرِب القلبَ بالألم يُوجَد في بعض السرور، وبالسرور الذي يُحَسُّ في بعض الألم.
وهي مثل الخمر، تَحسبُ الشيطان مترقرقًا فيها بكل إغرائه!
وكلما تناولَتْ أمامي شيئًا أو صنعتْ شيئًا خلقتْ معه شيئًا؛ أشياؤها لا تزيد بها الطبيعة، ولكن تزيد بها النفس.
ورأيتُني يومئذٍ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدميةُ ساكنة، وتحتها تيارُ الملائكة يعبُّ ويجري.
•••
وجعلتني أرى الابتسامة الجميلة هي أقوى حكومة في الأرض …!
وجعلتني يا سحر الحب؛ وجعلتني يا سحر الحب مجنونًا …!