شعر صبري
في الحادي والعشرين من شهر مارس من سنَتِنَا هذه نزع الشعر العربي عن رأسه عمامة المشيخة ونشرَها للموت، فكانت الكفن الذي طُوِيَ فيه بقية شيوخ الأدب: المرحوم إسماعيل باشا صبري.
كان — رحمه الله — من الرجال الذين نشئوا في تاريخ لا يُنشِئ رجلًا، وجاءوا في غير زمنهم ليجيء بهم زمنهم بعد؛ وهؤلاء إن لم يكن فيهم قوة أكبر من القوة، فهم أقدار وأحداث تولد وتنشأ وتنمو في أسلوب إنساني؛ ليتمَّ بها شيء كان نقصًا، ويُحسِّن شيئًا كان هجنةً، ويوجِد أمرًا كان عدمًا؛ ثم ليكون للزمن منها حدود يبدأ عند الواحد منها فيتغير فيه ويتحول به ويخرج معه في بعض معانيه زمنًا جديدًا في رجل جديد.
كذلك كان صبري في منحًى من مناحي الشعر، وكان البارودي — رحمهما الله — في منحًى آخر؛ فهما طرفا المحور الذي استدار عليه هذا الفلك ليبدأ بعد تاريخه الميت تاريخًا حيًّا، وليخرج من الجو القاتم في أعراض الأرض إلى الفضاء المشرق بمعاني السماء، ثم لينفض عنه في مهب الرياح العلوية ما لصق به من طباع أهله وأخلاقهم، ويُغلق بها ما فتح الزمن عليهم من أبواب هذه الحرفة، فكان الشعر في حاجة إلى رجل كالمَلِك، فأصاب رجلين؛ وعلم الله ما رأيتُ في كل مَن رأيتهم من الشعراء نفسًا تُعَدُّ معهما، ولا خُلقًا يجري في أخلاقهما، ولا ظرفًا ولا رقة ولا أدبًا ولا شيئًا يصلح أن يكون شرحًا منهما أو توكيدًا لشيء فيهما أو تقوية لمعنى من معانيهما، كأنما وُجِدا ليكون أحدهما مبدأ والآخر نهاية، ولينفردا انفراد الطرفين من المسافة بالغة ما بلغت.
ثم كان أكثر الشعراء يومئذٍ إنما يحترفون فن الأدب صناعة كسائر المهن والصناعات التي بها قِوام العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة.
•••
ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات، ولكن الأدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحولا فيه؛ ثم نبغ صبري بعد ذلك بزمن، فتحول فيه الأدب الإفرنجي والرقة العربية؛ وهذا موضع التفاوُت في شعر الرجلين اللذين اقتنصا الخيال الشعري من طرفي الأرض، وكلاهما يذهب مذهبًا ويرجع إلى طبع ويَرُوض شِعرَه على وجهٍ؛ فالبارودي يستجزل ويجمع إلى سبكه الجيد قوةَ الفخامة وشدةَ الجزالة، ثم يعترض الخيال من حيث يهبط على النفس في ممر الوحي؛ وصبري يسترِقُّ ويضيف إلى صفاء لفظه جمال التخيُّر وحلاوة الرقة، ويعارض الفكر من حيث يتصل بالقلب؛ والبارودي لا يرى إلا ميزان اللسان يقيم عليه حروفه وكلماته، وصبري لا يرى إلا ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسان؛ وقد يُسِّرتْ لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرَّف فيه؛ فجاء البارودي حافظًا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمُولَّدين، وجاء صبري مفكرًا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشتركان معًا في التلوُّم على صنعة الشعر والتأنِّي في عمله وتقليبه على وجوه من التصفُّح، وتمحيصه بالنقد والابتلاء لفظًا لفظًا وجملة جملة، ثم مُطاولة معانيه ومصابرتها كأنما ينتزعان محاسنها من أيدي الملائكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهما؛ وقال لي صبري باشا مرة وقد جارَيْته في بعض هذا المعنى: إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه. قلت: أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال: وفي سواد شطرةٍ أحيانًا! وليس ينقصهما هذا الأمر شيئًا، فإن خبر زهير في حولياته معروف، وقد عمل سبع قصائد في سبع سنين؛ يحوك القصيدة منها في سنة.
كان مرجع البارودي إلى الحفظ، فنبغ في وثبات قليلة؛ أما صبري فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيتُه وآتتْه أسبابُه على الإجادة، لأن مرجعه إلى الذوق، وهذا يُكتَسَب بالمران وينضج عند نضوج الفكر ولا يأتي بالماء والرونق حتى تأتي له أسباب كثيرة؛ وأنت تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما، فقد رثى البارودي أباه في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها:
وهي ثمانية عشر بيتًا، وجيدها جيد، وكأنها خرجت من لسان أعرابي؛ وإنما جاءته من صنعة الحفظ، كالذي اتَّفق للشريف الرضيِّ في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أبوه معتقلًا بقلعة شيراز ومطلعها:
هذا على أن البداية كما يقال مَزَلَّة؛ وقد وُفِّقْنا إلى الوقوف على أول ما نُشر من شعر صبري باشا، وذلك قصيدتان نُشرَتا في مجلة روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا، فنشرت الأولى في العدد الصادر في غاية شوال سنة ١٢٨٧ للهجرة/١٨٧٠ للميلاد؛ ونُشرت الثانية في عدد شهر ربيع الآخر من سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م؛ وبينهما خمسة أشهر، كانت وثبتُه فيها ضعيفة متقاصرة، مما يدل على بطء نضجه بطبيعة الأسباب التي تسبَّب بها إلى الشعر؛ وكانت الروضة يومئذٍ تنشر لطائفة من فحول دهرهم: كالسيد صالح مجدي، ورفاعة بك رافع، ومحمد أفندي قدري «ونابغة الزمان محمد أفندي رضوان»، وغيرهم. وكانت تُستقبل قصائدهم بسجعات داوية مفرقعة، هي لذلك العهد أشبه الأشياء بطلقات مدافع التحية للملوك والأمراء؛ فلما نَشرتْ لصبري قالتْ في القصيدة الأولى: «تهنئة بالعيد الأكبر للخديو الأعظم بقلم إسماعيل صبري أفندي.» وقالت في الثانية: «قصيدة رائية في مدح الحضرة الخديوية من نظم الشاب النجيب إسماعيل صبري أفندي من تلامذة مدرسة الإدارة.» ومطلع القصيدة الأولى:
ولا شيء فيها أكثر من حروف المطبعة … ومطلع الثانية:
وفي هذه القصيدة بيتٌ وقفتُ عنده أرى صبري باشا في صبري أفندي كأنه خيال مولود يستَهِلُّ، وذلك قوله:
ويكاد هذا البيت يكون أول انقلاب للفكرة فيه، وهو غريب، والتأمل فيه أغرب، ولكنه يدل على خيال سيَثِبُ يومًا على أقطار السموات.
وفي ذلك الزمن عينه كان البارودي شهابًا يتلَهَّب، وكان قد بلغ مبلغه واستجمع أسباب نهايته، بل هو نظمَ قبل ذلك بستِّ سنوات قصيدته الشهيرة:
فلم يكن ليذهب وجه الشعر عن صبري، ولم يكن ليُغضي عن احتذاء هذه الصنعة البارعة ويأخذ في غيرها لولا أن فيه طبعًا مستقلًّا يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسلوب كل زهرة في غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يُرِدْ أن يكون شاعرًا فجاء أكبر من شاعر، وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه الذي جاء به من ناحية أخرى.
•••
ولقد كان في شعره أحقَّ الناس بقول ابن سعيد المغربي:
وإني أعلم أنه كان دائم الحب؛ يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيُخرِج منهما حبًّا جديدًا؛ وكان الرجل كأنه مجروح القلب، فلا يزال يئِنُّ حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يُرسِل النفس الطويل بين هنيهة وأخرى، كأنه يريد أن يطمئن أن نفسه فيه، أو أن شيئًا باقيًا في نفسه؛ وتلك همهمةٌ لا تكون في شاعر من الشعراء بغير معنًى.
فشاعرنا هذا أخرجه اثنان: الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يُعَدَّ من الشعراء؛ لأنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلوى التي ابتُلُوا بها …
ولقد همَّ صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كان في منال يده على أنه محا منه بإهماله أكثرَ مما أثبت؛ وعلمتُ منه أنه لم يدوِّن شيئًا، وأنه ينسى ما يقوله، فكأنما يوجِد بسبب واحد ويمحق بسببين؛ وقديمًا كان كبار العلماء متى انتهَوْا إلى التحقيق رأَوْا عمرهم كله بداية ورأوا ما فعلوا باطلًا فغسلوا كتبهم أو أحرقوها، ولكنا لم نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتدوين، وإن كان بعضهم يأنف لنفسه أن يُعَدَّ من الشعراء وهو مع ذلك يجمع يده على شعره، كالشريف الرضي الذي يقول:
ويقول في مدح أبيه:
ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدَّعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
ولا يعيبُ المقلَّ أنه مقلٌّ إذا كثرت حسناته، بل ذلك أعون له على القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يُغريها بطلب المزيد منه؛ وقد عدُّوا بين المُقلِّين في الجاهلية: طَرَفَة بنَ العَبْد، وعَبِيدَ بنَ الأَبْرَص، وعلقمة الفحْل، وعدِيَّ بن زيد، وسلامة بن جَنْدَل، وحُصَيْن بنَ الحُمام، والمُتلَمِّس، والحارث بن حِلِّزة، وابن كُلْثُوم، وغيرهم أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من «تاريخ آداب العرب»؛ ومن أولئك مَن يُعرف بالقصيدة الواحدة: كطَرَفَةَ، ومنهم من يُعرف بثلاث قصائد: كعلقمة، أو بأربع: كعَدِيِّ بن زيد؛ ومنهم من يُعرف بالأبيات المتفرقة، ولا عبرة بما يُنسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يَعرفون الشاعرَ بالبيت الفرد؛ لأن العرب إنما يعتبرون الشعر بمقدار ما يُحرِّك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلب، لا بالطول ولا بالقصر، وقد قالوا في بيت النابغة:
إنه لا نظير له في كلام العرب؛ وما ذلك إلا على الاعتبار الذي أشرنا إليه. وكانوا يسمون البيت الواحد: يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحقَّ أن يسمي قصيدًا.
وكان من الشعراء من يعتمد أن لا يجيء في شعره الجيِّد بغير البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، كشاعرنا صبري باشا؛ ومنهم عقيل بن عُلَّفة؛ كان يقصر هجاءه ويقول: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومنهم أبو المُهوِّس، وكان يحتج لذلك بأنه لم يجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم يجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا؛ ومنهم الجَمَّاز: قال له بعضهم وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردتَ أن أُنشِدك مُذارعة؟! وابن لَنْككٍ المصري، وابن فارس، ومنصور الفقيه الذي كان يقال فيه: إذا رمح بزوجيه قتل. ولا نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضعًا.
غير أن صبري كان له مع جودة المقاطيع جودة القصيد إذا قصَّد، كقوم عُرفوا بذلك في التاريخ، منهم العباس بن الأحْنَف وسواه، وكان من أسباب إقلاله ما أعلمني به من أن طريقته في أكثر ما ينظم معارضةُ معنًى يقِف عليه، أو تضمين حكمة، أو ضربُ مَثَل على طريقة النظر والملاحظة، أو تدوين خَطْرَة عرضتْ له، أو لمحةٍ أُوحيَتْ إليه؛ وهو ينزل في ذلك على النَّصَفة والمَعْدِلة فلا ينتحل شيئًا ليس له، بل يدلُّك بنفسه على الأصل الذي منه أخذ أو المثال الذي عليه احتذى.
قال لي مرة: إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله:
ثم قال: فأخذتُ من هذا المعنى وقلت:
والفرق بين الشعرين أن البستاني جاء بكلامه على طريقة المتصوِّفة التي يسمونها طريقة أهل التحقيق، كابن العربي والشُّشتري؛ وأما صبري فانظر كيف استوفى وكيف لاءَم المأخذ الدقيق الذي لا ينتبِه له إلا المُطَّلع الحاذق بصناعة الكلام، كقوله:
فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وَعْلة:
ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله: «تعرَّض طيفُ الودِّ بيني وبينه» وهو من قول العباس بن الأحنف:
فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيف جعل له معرضًا جديدًا وكيف أدَّاه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع.
ومن شعره السائر قولُه في العِنَاق وتلازُم الحبيبين:
وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول، وأصله لبشَّار — أظن — في قوله:
فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجة المنصدعة جوهرة تتألَّق؛ على أني لا أستحسن قوله: «كأن صديقًا …» فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعًا من سفر الآخرة؛ وإذا غاب واحد في الآخر، فالآخر حامل به … وقد أخذتُ أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديتُ إليه، فقلتُ في ذلك:
فهو لصبري باشا، والمُرافدة سُنَّة معروفة من قديم، وهي غير الانتحال وغير السرقة وما يسمى إغارة وغصبًا؛ وقد استرفد النابغةُ زُهيرًا فأمر ابنه كعبًا فرفده، والحكاية في ذلك مشهورة عنه وعن سواه.
ولم يكن في مصر ممن يحسن ذوق البيان وتمييز أقدار الألفاظ بعضها من بعض وألوان دلالتها كالبارودي وصبري وإبراهيم المويلحي والشيخ محمد عبده — رحمهم الله جميعًا — والبارودي يذوق بالسليقة، وصبري بالعاطفة، والمويلحي بالظرف، والشيخ بالبصيرة النفَّاذة؛ وذلك شيء ركبه الله في طبيعة صبري لم يحصِّله بالدرس أكثر مما حصله بالحس، ومن أجله كان يفضل البُحْتُرِيَّ على غيره، وهو بلا نزاع بحتريُّ مصر، كما لقَّبوا ابنَ زيدون بحتريَّ المغرب؛ وإنك لتجد بعض الألفاظ في شعر الرجل كأنها شعر مع الشعر، فتقف على العبارة منها وقلبُك يتنفَّس عليها كأنها إنما وُضعتْ لقلبك خاصة، فهي تغمز عليه غمزًا وكأنها نَفْثَةُ مَلَك من الملائكة جاءتك في نَفَس من أنفاس الجنة.
ويمتاز نسيبُه بأنه يكاد يكون في طهارته وعفَّته ضوءًا من جمال الشمس والقمر، وهو عندي أنسب من العباس بن الأحنف الذي صرف كل شعره إلى هذا المعنى؛ ولو أن عصره كان عصر أدب صحيح لأخمل كل شعراء هذا الباب، من ابن أبي ربيعة إلى طبقة عشَّاق العرب إلى أئمة الطريقة الغرامية لآخر القرن السابع.
ومن غزله البديع قوله:
وقوله:
ويا رحمةَ الله للقلب الذي يفهم هذا البيت، فإنه لَيُجَنُّ به مَن يكون فيه استعداد لهذا النوع من الجنون.
ومن قلائده الغرامية قوله:
وله قصيدة «تمثال جمال» وقد نظمها لتُنقَل إلى الفرنسوية، ومن عيونها قوله:
والشعراء من أول تاريخ الأدب إلى اليوم يقولون في معنى قوله: «لا تخافي شططًا …» الأبيات، وما منهم من وُفِّق إلى مثل هذا البيت الأخير، وإن كان بعضهم بلغ الغاية، كابن نباتة السعدي والسري الرفَّاء وغيرهما.
ومن أبدع ما اتفق له في الوصف أبيات في الدَّوَاة تخلَّص في آخرها إلى مدح النبي ﷺ، وهو تخلُّص ليس في الشعر العربي كله مثله في الإبداع وحُسن الاختراع، يقول فيها:
هذا والله هو الشعر، وما وُفِّق إلى مثله أحد كائنًا مَن كان في هذا العصر.
•••