حافظ إبراهيم
فرغتُ الآن من قراءة شعر حافظ بعد أن لم يعد حافظ بيننا إلا شعره ونثره، فبالله أحلف ما نظرت في صفحة مما بين يدي إلا وأحسست أن ذلك الشاعر العيظم يقول في بيانه الرائع وصناعته البديعة: أنا هنا!
ولغة هذا الشعر المتدفقة بالحياة كأن كلماتها القوية عروق في جسم حي متوثِّب — لم تخرج عن أن تكون هي العربية المبينة في جزالتها ونصاعتها ودقة تركيبها البياني، ومع ذلك فليس في هذا العصر كله من يكابر أو يماري في أنها هي لغة حافظ وحده، كأنه أرغم التاريخ أن يحتفظ به في أجمل آثاره.
•••
ترجع صداقتي لحافظ — رحمه الله — إلى سنة ١٩٠٠، أول عهدي بالأدب وطلبه، وقد شهدتُ من يومئذٍ بناءه الأدبي عاليًا فعاليًا إلى الذروة التي انتهى إليها، وأخلصَ لي ثقتَه وأصفاني مودته، وكان همك من أخ كريم، وله في نفسي مكان لم ينكره مذ عرفته، ولم يضِقْ بمحبته منذ اتسع لها. وكنت وإياه يرى أحدنا الآخر من هذه اللغة كالجانبين لصورة واحدة؛ لا يتهيأ في الطبيعة أن يختلفا والصورة بعد قائمة، ولا أن يضطرب ما بينهما والصورة منهما على وزن وتقدير.
ولكن هذا لا يمنعني أن أقرِّر أنه كان عندي أكبر من شعره — ولعله كذلك عند كل مَن خلطوه بأنفسهم — فإنه يتعاظمك بنفسه القوية وبالمعنى الذي تُحسه في العبقري ولا تدري ما هو؛ وذلك من سِحْر العبقريين وأثرهم في نفس مَن يتصل بهم، فيتَّسِق لهم أمران من أمر واحد، وحظان بحظ، ونصيبان بنصيب؛ لأن مع الإعجاب بآثارهم إعجابًا آخر بالقوة التي أبدعت هذه الآثار؛ ففي ذواتهم المحبوبة يستمر الإعجاب كالسائر على طريق لا موقف عليه، وفي آثارهم يكون الإعجاب في موقف قد انتهت الطريق به، فوقف على حدٍّ إن بعُد وإن قرُب.
ولقد كان يفخر بأنه «الشاعر الاجتماعي»، وهذا لقب ميَّزه به صديقنا الأستاذ محمد كُرْد علي أيامَ كان في مصر قديمًا، فتعلَّق به حافظ ورآه تعبيرًا صحيحًا لما في نفسه وللمَلَكة التي اختُصَّ بها، قال لي يومًا في سنة ١٩٠٣: أنا لا أَعُدُّ شاعرًا إلا مَن كان ينظِم في الاجتماعيات، فقلت له: وما لك لا تقول بالعبارة المكشوفة: إنك لا تعد الشاعر إلا من ينظم مقالات الجرائد …
فمقالات الجرائد هذه لا تأتينا بالأشياء التي نحن منها في الإنسانية والطبيعة والجمال وحقائق الحياة والموت، بل التي يكون منها يومنا المرقوم بأنه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا … فإذا مات اليوم ماتت الجريدة، ثم تُولَد ثم تموت، وقد أدرك المتنبي سرَّ الشعر وأنه قائم على تحويل الشعور الإنساني إلى معرفة إنسانية، فخلَّد شعره، فلا يمكن أن يُمحَى من العربية ما بقيت. وهذا على ما يقدح من وجوه الاعتراض والنقص، وعلى أن المتنبي كان ضعيفًا في ناحية الجمال والحب ضعفًا ظاهرًا كضعف شاعرنا حافظ في هذا المعنى، ولكن حكمته الإنسانية ودقة أوصافه وإقامته الفضائل والرذائل في كمالها الفني مقام تماثيل بارعة من الجمال، كل ذلك ترك شعره مستمرًّا باستمرار الحياة وباستمرار الإنسانية وباستمرار الذوق.
إن هذا الكون مبنيٌّ في نفسه مما يعلم العِلْمُ تركيبه ولا يعلم سر تركيبه إلا الله وحده، ولكنه مبني في أنفسنا من عمل الحواس، ثم من التعليل والتفسير؛ أما الحواس ففي كل حي، لا تُخلق بصناعة ولا عمل؛ وأما التعليل والتفسير فهما من صناعة الشاعر والأديب، فكلاهما يُخلق لإتمام الخلق في الحقيقة، وهي منزلة لا أدري كيف يمكن أن تمسخ حتى تقتصر على معنى الشاعر الاجتماعي أو السياسي، فترجع به نمطًا واحدًا، مع أن الآثار الأدبية وفي جملتها الشعر — إن هي إلا قُوى الفكر وإلهام النفس وبصيرة الروح مسجلة كلها في بواعثها وأسبابها من نفس عالية ممتازة؛ وهذه القوى كثيرة التحول، فيجب ضرورة أن تكون آثارها كثيرة التنوع، وتنوع الصور الفكرية في آثار الشاعر أو الأديب ومجيئها متوافرة متتابعة هو معيار أدبه وقياس نبوغه عاليًا أو نازلًا، ومتَّبعًا أو مبتكرًا، وفيما يضيء من نواحيه وما ينطفئ.
على أن شاعرنا الاجتماعي «كما كان يجب أن يوصف — رحمه الله» وإن كان قد نفخ في روح الشعب أنفاسًا إلهية، وأحسن في وصف حوادثه وآلامه وعيوبه، وأبلغ البيان في كل ذلك — فإنه نزل في هذه المرتبة عن وضعه الصحيح، فكان في منزلته بمكان الشرطي في الطريق: يقف للجرائم والحوادث، على حين أن مقامه الاجتماعي من الشعب مقام المعلِّم في مدرسته؛ يجلس للطباع والأخلاق، ليس الشأن أن تجد في شعر الشاعر حوادث عصره أكثرها أو أقلها، فإن فوق هذه منزلة أعلى منها، وهي أن توجد حوادث النهضة بشعر الشاعر، وأن يكون في شعره العنصر الناري من اللغة الشعبية.
على أن «حافظ» — رحمه الله — أدرك كل هذا في آخر عهده، فكان يريد أن يُميت ديوانه ويستخرج منه جزءًا صغيرًا يختار فيه ألف بيت ويُسقط ما عداها وإن … وإن كان فيه شعر اجتماعي … ومع هذا النقص الذي بَعثَتْ عليه طبيعة الزمن وطبيعة الشاعر معًا، فإن تمام حافظ في مذهبه الاجتماعي الذي نبغ فيه جاء من وراء القوة وفوق الطاقة، لا يجاريه فيه شاعر آخر، بحيث دلَّ على أن النابغة قَدَرٌ إلهي لا ينقص من عظمته أن يكون حادثةً واحدة تدوِّي دويَّها في الدنيا، فهو ميسَّر منذ نشأته لما خُلق له من ذلك، فأحكمتْه المدرسة الحربية، ثم قيَّده الجيش، ثم تقاذفه السودان، ثم قذف به الظلم، ثم تولاه إمام عصره الشيخ محمد عبده، وهو كذلك في غاياته الوعرة ومقاصده العمرانية ومعاناته لإصلاح — مدرسةٌ حربيةٌ وجيشٌ وفلاةٌ، فلم يكن حافظ إلا الصوت الإنساني الذي أُعِدَّ بخصائصه للتعبير عن حوادث أمته وخصائصها، وكأنه في نقلته من السودان إلى مصر قد انتقل من جيش يحارب الأقوام الأعداء لأمته، إلى جيش آخر يحارب المعاني الأعداء لأمته.
•••
وُلد حافظ إبراهيم سنة١٨٧١، وكان الكتاب الأول الذي هداه إلى سر الأدب العربي وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته، هو كتاب «الوسيلة الأدبية» للشيخ حسين المرصفي، المطبوع في مصر لخمس وخمسين سنة؛ ففي هذا الكتاب قرأ حافظ خلاصة مختارة محققة من فنون الأدب العربي في عصوره المختلفة ودرس ذوق البلاغة في أسمى ما يبلغ بها الذوق، ووقف على أسرار تركيبها، وعرف منه الطريقة التي نبغ بها البارودي، وهي قراءته دواوين فحول الشعراء من العرب ومن بعدهم، وحفظه الكثير منها؛ فبنى شاعرنا من يومئذٍ قريحته على الحفظ، ولم يزل يحفظ إلى آخر عمره؛ إذ كانت قريحته كآلة التصوير: لا تُنبَّه لشيء إلا عَلِقَتْه وهذا سببٌ من أسباب ضعف خياله، ولكنه رد عليه من القوة في اللغة ما تناهى فيه إلى الغاية.
واتفق لذلك العهد أن طُبِعت لزوميات المَعَرِّي في مصر، فتناولها حافظ واستظهر أكثرها، فكانت باعث ميله ونزعته إلى الشعر الاجتماعي؛ والفرق بين حافظ وبين المعري في الموهبة الفلسفية هو الذي نفذ بالمعري إلى أسرار كثيرة ووقف بحافظ عند الظاهر وما حوله، يطير هناك ويقع.
وقد كان صاحبنا ضعيف من هذه الناحية، فاستصعبتْ عليه أسرار واستغلقت أخرى من أسرار الخير والشر في الحياة، والجمال والحسن في الخليقة، والجلال والإبداع في الكون، والإقرار والشك في كل ذلك؛ وقد بلغ المعري من هذا مبلغًا لا بأس به، إلا أنه لم يُصَفَّ كما تُصَفَّى الأشياء في عين مبصرة؛ فخبَطَ وخلَطَ؛ ووضع من أغراض نفسه المريضة على الصحيح والمريض جميعًا. وتابعه حافظ في طريقة أخرى سنشير إليها بعد.
وفُتِن شاعرنا بما قرأ في «الوسيلة» من شعر البارودي، فأصبح من يومئذٍ تلميذه، وسار على نهجه في قوة اللفظ وجزالة السبك ومتانة الصنعة وجودة التأليف على نغم الألفاظ وأجراس الحروف، ولكنه لم يُدرك شأْوَ البارودي في ذلك؛ لأن هذا جمع من دواوين الشعراء وكتب الأدب ما لم يتفق لغيره في عصره، وأدخل في شعره أحسن ما صنعت الدنيا في ألف سنة من تاريخ البلاغة العربية؛ ولذا انتقل عنه حافظ إلى طريقة مسلم بن الوليد في التصنيع ولزِمها إلى آخر مُدَّته.
وابتدأ يعالج الشعر في السودان وينظم في جنس ما هو بسبيله من وصف الهَمِّ المستولي عليه من جميع جهاته؛ إذ كان يتيمًا فقيرًا مُشرَّدًا، ويرى نفسه شاعرًا تصدُّه الحياة عن منزلة الشاعر وعن أمكنة الشعر، كالذي غُصب ميراثَه من عَرْش ومُلْك، ونُفي إلى غير أرضه، ووُضعت روحه بإزاء روح الفقر وقيل لها: عدوٌّ ما مِن صداقته بُدٌّ.
ثم جاء إلى مصر واتصل بالإمام الشيخ محمد عبده، واستقال من الجيش وفرغ للأدب؛ فبدأ من ثَمَّ تكوينُه الأدبي المندمج المحكَم، أما قبل ذلك إلى سنة ١٩٠١ التي طبع فيها الجزء الأول من ديوانه، فكان شعره قليلًا ظاهر التكلُّف، وأكثره يدل على طريقة مضطربة لم تستحكِم، وفكر لم ينضج، وموهبة في التوليد الشعري بينها وبين الاستقلال أمدٌ قريب.
ودرس في مدرسة الشيخ محمد عبده من سنة ١٨٩٩ إلى سنة ١٩٠٥، وهذا الإمام — رحمه الله — كان من كل نواحيه رجلًا فذًّا، وكأنه نبي تأخَّر عن زمنه؛ فأُعطي الشريعة، ولكن في عزيمته، ووُهب الوحي ولكن في عقله، واتصل بالسرِّ القدسي ولكن من قلبه؛ ولولا هو ولولا أنه بهذه الخصائص، لكان حافظ شاعرًا من الطبقة الثانية، فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب الإلهام من كل عظيم يعرفه، وكان له من أثرها هذا الشعر المتين في وصف العظماء والعظائم وهو أحسن شعره.
ولم يجد حافظ من قومه ما يجعله لسانهم حتى تُنطِقه بالوحي نفسيتُهم التاريخية الكبرى، ولا تولَّاه ملِك أو أمير يرغب في أدبه رغبة أديب ملِك، أو أديب أمير، ليظهر منه عبقرية جديدة في التاريخ؛ ولا عَرَف الحبَّ الذي يجعل للشاعر من سحر الحبيب ما يجمع النفسية التاريخية والملكية معًا ويزيد عليهما؛ وهذه الثلاثة التي لم تتفق لحافظ، هي التي لا ينبغ الشاعر نبوغًا يفرده ويميزه إلا بواحد منها أو باثنين أو بها كلها؛ غير أن «حافظ» وجد في الإمام ما هو أسمى من كل هؤلاء في النفس والجاذبية، وعرف فيه من ذوق الأدب والبلاغة ما لم يعرف شاعر في ملِك ولا أمير؛ وقد حضر درسه في المنطق وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وخرج منها بذوقه الدقيق وأسلوبه المتمكِّن، وحضر مجالسه وخرج منها بمواضيعه الاجتماعية وأغراضه الوثَّابة، وحضر نظرات عينيه وخرج منها بروحانية قوية هي التي تنضرم في شعره إلى الأبد، فحافظٌ إحدى حسنات الشيخ على العالم العربي، وهو خُطَّةٌ من خُطَطِه في عمله للإصلاح الشرقي الإسلامي والنهضة المصرية الوطنية وإحياء العربية وآدابها؛ وإذا ذُكِرتْ حسناتُ الشيخ أو عُدَّتْ للتاريخ، وجب أن يقال: أصلحَ وفعل وفعل وفسَّر القرآن وأنشأَ حافظَ إبراهيم …
•••
وحضرْتُه مرة يترجم أسطرًا من الجزء الأول «في قهوة الشيشة» يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف، فاجتمعتْ له ثلاثة أسطر في ثلاث ساعات، وهذا لا يعيبه ما دام يريد قسط الفن، وما دام يحاول أن يخرج الكلمات من عالَمِها إلى عالَمِه هو المتموِّج من الألفاظ والعبارات بمثل الكواكب في الاستواء والجاذبية والشعاع والرونق والجمال.
ويرى مع الصناعة أن يكون سبْكُ شعرِه سبكَ البدوي المطبوع؛ جزلًا سهلًا مشرقًا ممتلئًا متعادل الأجزاء والتقاسيم، يرنُّ رنينًا كأنما قَذَفَتْ به سليقةُ أعرابي فصيح، تحت ضوء كواكب البادية، على برد الرمل، في نَسَمات الليل، حين تمتلئ تلك النفس البدوية بحنين الحب، أو شوق الجمال، أو عظمة القوة؛ وهذا هو الأصل الذي اتَّبعه، وَقَفَنِي عليه هو بنفسه في سنة١٩٠٢، وقرَّظني به في الجزء الأول من ديواني فقال:
وقد قررتُ له أن للألفاظ ما يشبه الألوان، فليست كلها زرقاء ولا صفراء ولا حمراء، ورُبَّ لفظة رقيقة تقع ضعيفة في موضع فيكون ضعفها في موضعها ذاك هو كل بلاغتها وقوتها، كفترة السكوت بين أنغام الموسيقى؛ هي في نفسها صمت لا قيمة له، ولكنها في موضعها بين الأنغام نغم آخر ذو تأثير بسكونه لا برنينه؛ وهذا من روح الفن في الأسلوب.
وأدرك شاعرنا من يومئذٍ ما سميتُه «قوة الضعف»، ولعل هذا هو السبب في أن طبعه رجع يعدل به إلى التسهيل، حتى إنه لَتَقعُ في شعره أبيات متهافتة فيأتي بها ولا ينكرها؛ ولقيَنِي مرة فأنشدني قول الشاعر:
وجعل يُعجِّبني من بلاغة قوله «لم أُرزق» وأنها مع ذلك ضعيفة مبتذلة تجري في منطق كل عامي، قلت: ولكن «محبتها» جعلتها كمحبتها …
•••
وهذا المعري يقول:
ويقول في شعر آخر:
وهذان البيتان تراهما صعلوكين إذا قِسْتَهما بقول حافظ في رثاء الشيخ محمد عبده:
مع أن معنى حافظ مأخوذ منهما، ولكن انظر كيف جاء به؟ ويقول المعري في رثاء أبيه:
ويقول في رثاء غيره:
وهذان أيضًا كالصعاليك عند قول حافظ في البارودي:
مع أن «حافظ» ألمَّ بقول المعري. ومن بديع ما اتفق له في قصيدة «الأُمَّتان تتصافحان» قوله يصف السوريين:
فاقرأ هذين وأقرأ بعدهما قول المتنبي في سيف الدولة:
فإنك تجد بيت المتنبي صعلوكًا على بيتّيْ حافظ، مع أنه المبتدع السابق.
وأعجب ما عجبتُ له هذا البيت من شعر صاحبنا في مقطوعة يخاطب بها الأمريكان، نشرها في المقطم من ثلاث سنوات أو نحوها، قال:
واتفق يومئذٍ أن كنتُ جالسًا في زيارة الصديق الأستاذ فؤاد صروف محرِّر المقتطف، فجاء حافظ، فلم يكد يصافحني حتى قال: كيف ترى هذا البيت: وتَخِذْتُم مَوْجَ الأثيرِ بَرِيدًا … إلخ؟ فأثنيتُ عليه الذي يهوَى، وهنَّأته بهذا المعنى، وأظهرت له ما شاء من الإعجاب، ولكني أضمرتُ عجبي من حُسن ما اتفق له فإن الجمال الشعري في البيت إنما هو في استعارة الكَسَل للبروق، وهذا بعينه من قول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة:
غير أن «حافظ» نقل المعنى إلى حقه، ومكَّن له أحسن تمكين في صدر كلامه، وأتم جماله في قوله «حين خِلْتُم»، فاقتطع المعنى وانفرد به، وعاد معنى السعدي كالصعلوك على باب بيته؛ وكانت هذه المقابلة في المقتطف آخر عهدي بحافظ، فلم أره من بعدها؛ رحمه الله!
وما مر بك إنما كان من صناعة الشعر في غير الجزء الأول من ديوانه بعد أن استفحل وتخرَّج في مدرسة الإمام، أما في الجزء الأول فله هو صعاليك … كقوله في الخمر:
فهذا البيت صعلوك عند قول ابن الجَهْم:
وقول حافظ: «عصروها من خدود الملاح» كلامُ مَن لم ينضج في البيان ولا الذوق، لا يكاد يتوهم معه إلا أن في خدود الملاح «خُرَّاجات» عُصِرتْ …
وعلى ضد هذا قول ابن الجهم: «تناولَها مِن خَدِّه» فهي كلمة أكثر نعومة من ذلك الخَدِّ وأجمل نضرة.
وقول حافظ في مدح الخديو:
فهو صعلوك على بيت أبي تمام:
ولا نطيل الاستقصاء، فإنما نريد التمثيل حسْبُ.
وكان الشاعر أول نشأته يأخذ في طريقة المعري الذي عَمِيَ عن الطبيعة فجعل يخلقها من فكره ومحفوظه بمبالغات كاذبة يُغرِق فيها يحسب أنه بذلك يعظِّم الحقائق فتخرج له الأخيلة الكبيرة، وما يدري أنه بهذا الغلو لا يجيء إلا بالأباطيل الكبيرة … ولكن حافظ في مزاجه وتركيبه ونشأته كان رجلًا مبنيًا على الوضوح والقصد. فلم يُفلِح في طريقة المعري؛ ووضوحُه كذلك باعده من الفلسفة وإبهامها، ومن الطبيعة وألغازها، ومن الغَزَل ووساوسه؛ وهو الذي أدَّاه إلى الشغف بالحقيقة واستخلاصها في كل أغراضه التي أجاد فيها؛ ومن ثَمَّ خلا شعرُه — أو كأنه خلا — من أوصاف الطبيعة في جمالها بلغة الفكر المتأمل، ومن أوصاف الجمال في سحره بلغة القلب العاشق.
•••
إن الغزل وأوصاف الجمال موهبة في الشاعر أو الكاتب تُسخَّر لها قُوًى هي أشبه في معجزاتها بما سُخِّر لسليمان من قوى الجن والريح، غير أنها قوى آلام ولذَّات ووساوس؛ تلك عظمة في بعض النفوس الشاعرة كعظمة الملوك والأبطال، غير أنها لا تكمل إلا خائبة أو مغلوبة، فإذا انتصرتْ سقطتْ فلا بد لها من تاريخ وحوادث ومزاج عصبي يُهيَّأ لها بروحانية شديدة الحسِّ شديدة الفَوْرة ثائرة أبدًا لا تهدأ إلا على توليد معنًى بديع في جمال مَن تحبه أو كجماله؛ ثم إذا هدأت بذلك أثارها أنها هدأت، فتعود إلى التوليد، فلا تزال تبتدع وتصف كأنها آلة تعبير تدور بقلب وعصب؛ هناك قوتان: إحداهما تؤتَى الحب كما يصلح غرامًا وعشقًا، والأخرى فوق هذه تؤتَى الحب كما يصلح فكرًا وتعبيرًا؛ والأولى تجعل صاحبها عاشقًا يحب ويدرك ليس غير، والثانية تجعله محبًا عمله أن ينقل من لغة ما في نفسه إلى ما حوله، ومن لغة ما حوله إلى ما في نفسه؛ فهو مترجم النفس إلى الطبيعة، ومترجم الطبيعة إلى النفس؛ والذي أعرفه أن «حافظ» لم يُرزَق لا هذه ولا تلك، فلا طبيعةَ فيه للغزل وفلسفة الجمال؛ ثم إن التاريخ حصره في «الشاعر الاجتماعي» الذي اختار أن يمتاز به، فهو في أكثر شعره كان ليس فيه شخص، بل فيه شعب مأسور غفل عن الجمال وعن الطبيعة وعن النشوة بهما؛ إذ يعيش في معاناة الحرية لا في التأمل الجميل، وفي أسباب القوة لا في أسباب الرقة، ويريد أن يعمل؛ ليوجِد حقيقته قبل أن يعمل؛ ليُبدع خياله.
ومع ذلك فقد جاء في ديوان حافظ غزلٌ قليل كان كله متابعة وتقليدًا في فن يحسن التقليد إلا فيه خاصة؛ عمل صدرًا لقصيدة مدح بها الخديو مطلعها:
وقلَّد ابنَ أبي ربيعة في حكاية حُبٍّ لفَّقها تلفيقًا ظاهرًا، ثم زعم أن الحبيبة قالت له في آخرها:
وكلمةُ صاحبةِ ابن أبي ربيعة:
أهذا سحرك النسوان؟ … هذه كلمة لا تخرج إلا من فم حبيبته آية في الظرف، وفيها تجاهُلُها وعِرْفَانُها وابتسامها وإشراق وجنتيها، وأكاد — والله — أرى فيها تلك الجميلة وهي تدق بيدها على صدرها دَقَّة الاستفهام المُتدلِّل المتظاهر بالدهشة؛ ليتنهَّد فيه الكلام والمتكلم معًا، أما قول حبيبة حافظ الخشبية، أو الحجرية … اذهبْ … قد عرفتُك واقتصِدْ … فهذا خَليقٌ أن يكون من فم قاضٍ وهو ينصح المتهم بعد الأمر بالإفراج عنه … أو مأمور قسم عند ضبط الحادثة!
أكبر ظني أن روح حافظ نفسه هي التي أوْحتْ إليَّ الآن هذه «النكتة»، فإنه — رحمه الله — كان آية في الباب، وله من النوادر محفوظة ومخترعة ما لا يُلحَق فيه؛ ولو كان كاتبًا على قدر ما كان شاعرًا، وزاوَلَ النقدَ واستظهر للكتابة فيه بتلك الملكة المبدعة في التندُّر والتهكُّم، مع ما أوتي من القوة في اللغة والبيان — لكانت النعمة قد تمت به على الأدب العربي، ولقلنا في شعره وكتابته وأدبه ما قال هو في الأستاذ الإمام: فأطلعتَ نورًا من ثلاث جهات.
ومذهب الحس بالكلام هذا وإن صلح أن يكون من بعض معاني النقد، فلا يتهيأ أن يكون هو النقد بمعناه الفلسفي أو الأدبي، وهو في جملة أمره كقولك حسنٌ حسن؛ ورديء رديء، أما كيف كان حسنًا أو رديئًا، وبماذا ولماذا، فذلك ما لا سبيل إليه من مذهب «ذوَّاق» … ولا وسيلة له إلا العلم المستفيض، والاطلاع الواسع، والحس المرهف، والقدرة المتمكنة، مضافة كلها إلى الأدب البارع وفلسفته الدقيقة؛ ولا نعرف لحافظ كتابة في النقد البتة، وقد كان حاول شيئًا من هذا في مقدمة كتابه «ليالي سطيح»، فتناول بعض خصومه بكلمات رأى هو أن يمحوها بعد أن طُبعتِ الكراسة الأولى، فأسقطها وأعاد كتابة المقدمة وطبعها مرة ثانية، وكانت عندي النسخة التي محاها، وهذا ما لا أظن أحدًا يعرفه الآن؛ رحم الله شاعرًا كان أصفى من الغمام، وكان شعره كأنه البرق والرعد …