كلمات عن حافظ
ذهبتُ بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين، أين أذهب بك؟
وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام! فضحك وقال: أو كأنني أحلم بغير نوم …
ولقد عرفته منذ سنة ١٩٠٠ إلى أن لحق بربه في سنة ١٩٣٢، فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم؛ محكومًا بروح القبر، وفي القبر أوله؛ ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانيًّا؟ … فقال: أَوَتراني لم أمُتْ بعدُ في مصر؟ … إن الذي بقيَ هيِّن!
•••
ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قويَّ المَلَكة في فن الضحك، كأن القدر عوَّضه به؛ ليوجِده في الناس عطفَ الآباء ومحبة الإخوة. ولم يخلُ مع فقْرِه من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حِشْمَت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن «حافظ» يقابِل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة؛ تميلُ بها موجةٌ وتعدلها موجة، وهي بهذه وبهذه تمر وتسير.
وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظامًا في زمن حافظ، كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحًا في عيشهم وكانوا إصلاحًا في عيشه؛ ولو أن الأقدار تُشبَّه بالمدارس المختلفة، لقلنا إن «حافظ» تخرَّج منها في مدرسة التجارة العليا … فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة.
•••
رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه، وكان يَعُدُّ قروشًا في يده، فقلت: ما هذه القروش؟
قال: كنت أُقامِر الساعةَ فأضعتُ ثلاثين قرشًا ولم يبقَ لي غير هذه القروش الملعونة، فهلمَّ نتعشَّ. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية، فزعمتُ له أني تعشَّيْتُ … فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش؛ وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ حين دعاني «حافظ» إلى مطعمِ بار اللواء وقد فاضَتْ أنامله ذهبًا وفضة، وكان — رحمه الله — قد أصدر الجزء الثاني من «البؤساء» ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب، وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزَّه، أي: خرجنا نقرأ …
وكان على وجه «حافظ» لونٌ من الرضا لا يتغير في بؤس ولا نعيم، كبياض الأبيض وسواد الأسود؛ وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فنًّا من الفوضى الإنسانية، حتى لكأنه حُلمٌ شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وتُرك لِتُتَمِّمه الطبيعة!
ومن نظر إلى «حافظ» على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلًا جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والبرق والرعد وأشباهها؛ وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي جزلًا مطهَّمًا، وأرى في شكله هندسة كهندسة الكون؛ تُتَمَّمُ محاسنُها بمقابِحها وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القَفْر …
أما هو فكان يرى نفسه دميمًا شنيع المَرْآة متفاوت الخَلْق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه …
وقد سألته مرة: هل أحبَّ؟
فقال: النساء اثنتان: فإما جميلةٌ تنفُر من قُبْحي، وإما دميمة أنفِرُ من قبحها! ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئًا يسمى شيئًا؛ وبقي شاعرًا غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم؛ هي وحدها التي تعطيه بحبها عالمًا جديدًا لم يكن فيه، وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلًا …
•••
وتهدَّم حافظ في أواخر أيامه من أثر المرض والشيخوخة، وكان آخر العهد به أن جاء إلى إدارة «المقتطف» وأنا هناك، فلم يرني حتى بادرني بقوله: ماذا ترى في هذا البيت في وصف الأمريكان:
فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضِّن وقلت له: لو كان فيك موضع قُبْلةٍ لقبَّلْتُك لهذا البيت! فضحك وأدار لي خدَّه؛ ولكن بقي خدُّه بلا تقبيل.
•••
وقد أذكرتني «القوافي» مجلسًا حضرته قديمًا في سنة ١٩٠١ أو ١٩٠٠، وكان «مصباح الشرق» قد نشر قصيدة رائية لابن الرومي، فتعجَّب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة ابن الرومي في قوافيه، فقال له «حافظ»: هلمَّ نتساجَل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا؛ وكانت القافية من وزن: قدَّرَها، أحمَرَها، أخضَرَها … إلخ، وجعلتُ أنا أُحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلًا ثم ينطق باللفظ، ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيرًا وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب.
أما في النوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة ١٩١٢ ومديرها يومئذٍ المرحوم «محمد محب باشا» وكان داهية ذكيًّا وظريفًا لبقًا، وكنتُ أُخالِطه وأتصل به، فدعا «حافظ» إلى العشاء في داره؛ فلما مُدَّت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ، قال: وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة!
فتهلَّل حافظ وقال: نعم، لك عليَّ ذلك، ثم أخذ يقصُّ ويأكل، والعَشَاء حافلٌ، وحافظ كان نهمًا، فما انقطع ولا أخلَّ حتى وفَى بالشرط؛ وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك، فيُسرِع حافظ ويُغالِط بفمه …
•••
ولكن هذه المضحكات أضحكت من «حافظ» مرة كما أضحكت به؛ فلما كان يترجم «مكبث» لشكسبير — وهي كأعماله الناقصة دائمًا — دعَوْه لإلقاء «محاضرة» في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذٍ يجمع خير الشباب حَمِيَّة وعلمًا وكان صاحب السر فيه «السكرتير» زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي؛ فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظمًا عن شكسبير، ومثَّله تمثيلًا أفرغ فيه جهده، فأطربَ وأعجبَ، ثم سألوه «المحاضرة» فأخذ يُلقِي عليهم من نوادره، وبدأ كلامه بهذه النادرة: عُرِضتْ على المعتصم جارية يشتريها، فسألها أنت بِكْرٌ أم ثَيِّب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم …
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها … وبقيتْ هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تُفلِح!
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبُّه «حافظ» إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد؛ ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى أم لا؛ فقد عُرضتْ جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنتِ بِكْرٌ أم إيش؟
فقالت: أنا «أم إيش» يا أمير المؤمنين …
•••
وفن «الشعر الاجتماعي» الذي عُرف به حافظ، لم يكن فنه من قبل، ولا كان هو قد تنبَّه له أو تحرَّاه في طريقته؛ فلما جاءتْ إلى مصر الإمبراطورة «أو … يني» نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
ولقيتُه بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مُدِلًّا معجِبًا، شأنه في كل شعره؛ فانتقدتُ منها أشياء في ألفاظها ومعانيها، وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها الإمبراطورة؛ فكأنني أغضبته؛ فقال: إن الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين — أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر، وقالوا لي: إذا نظمتَ فانظم مثل هذا «الشعر الاجتماعي»، ثم كأنه تنبَّه إلى أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها، إن كل قصائد شوقي الآن غزل ومدح، ولا أثر فيها لهذا الشعر، على أنه هو الشعر.
وتتابعت قصائدُه الاجتماعية، فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لي: إن الشاعر الذي لا ينظم في الاجتماعيات ليس عندي بشاعر. وأردتُ أن أَغِيظَه فقلت له: وما هي الاجتماعيات إلا جعل مقالات الصحف قصائد؟ …
فالأستاذ الإمام وسعد زغلول وقاسم أمين؛ أحد هؤلاء أو جميعهم أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ، وهو كثيرًا ما كان يقتبس من الأفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبده، من حديثه أو حديث غيره، فيبني عليها أو يُدخِلها في شعره، وهو أحيانًا رديء الأخذ جدًّا حين يكون المعنى فلسفيًّا؛ إذ كانت مَلَكة الفلسفة فيه كالمعطَّلة، وإنما هي في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها …
•••
وكنتُ أولَ عهدي بالشعر نظمتُ قصيدة مدحت فيها الأستاذ الإمام وأنفذتها إليه، ثم قابلت «حافظ» بعدها فقال لي: إنه هو تلاها على الإمام، وإنه استحسنها؛ قلت: فماذا كانتْ كلمتُه فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها …
فاضطرب شيطاني من الغضب، وقلت له: إن الشيخ ليس بشاعر، فليس لرأيه في الشعر كبير معنًى! قال: ويحك! إن هذا مبلغ الاستحسان عنده.
قلت: وماذا يقول لك أنت حين تُنشِده؟ قال: أعلى من ذلك قليلًا … فأرضاني والله أن يكون بيني وبين حافظ «قليل» وطمعتُ من يومئذٍ.
وأنا أرى أن «حافظ إبراهيم» إن هو إلا ديوان «الشيخ محمد عبده»، لولا أن هذا هذا، لما كان ذلك ذلك.
ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائمًا في حاجة إلى مَن يسمعه، فكان إذا عمل أبياتًا ركب إلى إسماعيل باشا صبري في القصر العيني، وطاف على القهوات والأندية يُسمِع الناس بالقوة … إذ كانت أُذُن الإمام هي التي ربَّت الملكة فيه؛ وقد بينَّا هذا في مقالنا في «المقتطف».
وكان تمام الشعر الحافظي أن يُنشِده حافظ نفسه؛ وما سمعتُ في الإنشاد أعرب عربية من البارودي، ولا أعذب عذوبة من الكاظمي، ولا أفخم فخامة من حافظ، رحمهم الله جميعًا.
وكان أديبُنا يُجِلُّ البارودي إجلالًا عظيمًا، ولما قال في مدحه:
قلت له: ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنًى فارسيٍّ وما هو بفارسي؟ قال: إنه يعرف الفارسية، وقد نظم فيها، وعنده مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة التي وقف عليها؛ قلت: فكان الوجه أن تقول له: أَعِرْني المجموعة التي عندك …
أما الكاظمي فكان يُجافِيه ويُباعِده، حتى قال لي مرة وقد ذكَّرْتُه به: «عقَقْناه يا مصطفى!»
وما أنسى لا أنسى فرَحَ حافظ حين أعلمتُه أن الكاظمي يحفظ قصيدة من قصائده، وذلك أنهم في سنة ١٩٠١ — على ما أذكر — أعلنوا عن جوائزَ يمنحونها مَن يجيد في مدح الخديو، وجعلوا الحكم في ذلك إلى البارودي وصبري والكاظمي، ثم تخلَّى البارودي وصبري، وحَكَمَ الكاظميُّ وحده، فنال حافظٌ الميدالية الذهبية، ونال مثلَها السيدُ توفيقٌ البكري.
•••
وشاع يومئذٍ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي على رأس الشعراء فيه، فغضب حافظ لذلك غضبًا شديدًا، وما كاد يراني في القاهرة حتى ابتدرني بقوله: وربِّ الكعبة أنت كاتب المقال، وذمة الإسلام أنت صاحبه!
ثم دخلنا إلى «قهوة الشيشة»، فقال في كلامه: إن الذي يَغِيظني أن يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رءوسنا نحن المصريين! فقلت: ولعل هذا قد غاظك بقدر ما سرَّك ألَّا يكون الذي على رأسك هو شوقي …
وغضب السيد توفيق البكري غضبًا من نوع آخر، فاستعان بالمرحوم السيد مصطفى المنفلوطي استعانةً ذهبية … وشمَّر المنفلوطي فكتب مقالًا في «مجلة سركيس» يعارض به مقال «الثريا»، وجعل فيه البكري على رأس الشعراء … ومدحه مدحًا يرنُّ رنينًا.
أما أنا فتناولني بما استطاع من الذم، وجردني من الألفاظ والمعاني جميعًا، وعدَّني في الشعراء ليقول إني لست بشاعر … فكان هذا ردَّ نفسه على نفسه.
وتعلَّق مقال المنفلوطي على المقال الأول فاشتهر به لا بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية، فكتب إليَّ كتابًا يذكر فيه تعسُّف هذا الكاتب وتحامله، ويقول: قد وكلتُ إليك أمر تأديبه …
فكتبتُ مقالًا في جريدة «المنبر»، وكان يُصدِرها الأستاذان محمد مسعود وحافظ عوض، ووضعتُ كلمة المنفلوطي التي ذمَّني بها في صدر مقالي أفاخر بها … وقلت: إني كذلك الفيلسوف الذي أرادوه أن يشفع إلى مَلِكه، فأكبَّ على قَدَم المَلِك حتى شفَّعه؛ فلما عابوه بأنه أذال حُرمة الفلسفة بانحنائه على قدم الملك وسجوده له، قال: ويحكم! فكيف أصنع إذا كان الملك قد جعل أذنيه في رجليه …
•••
ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين حين ظهر مقال «الثريا»، ومع ذلك أصبح كل شاعر يريد أن يعرف رأيي فيه؛ فمررتُ ذات يوم «بحافظ» وهو في جماعة لا أعرفهم، فلما اطمأن بي المجلس قال حافظ: ما رأيك في شعر اليازجي؟ فأجبته: قال: فالبستاني؟ فنجيب الحداد؟ ففلان؟ ففلان؟ فداود عمون؟ قلت: هذا لم أقرأ له إلا قليلًا لا يسوغ معه الحكم على شعره. قال: فماذا قرأتَ له؟ قلت: ردَّه على قصيدتك إليه:
قال: فما رأيك في قصيدته هذه؟ قلت: هي من الشعر الوسط الذي لا يعلو ولا ينزل.
فما راعني إلا رجل في المجلس يقول: أنصفتَ — والله. فقال حافظ: أقدِّم لك داود بك عمون! …
رحم الله تلك الأيام!