شوقي
هذا هو الرجل الذي يُخيَّل إليَّ أن مصر اختارتْه دون أهلها جميعًا لتضع فيه روحها المتكلم، فأوجبتْ له ما لم توجِب لغيره، وأعانته بما لم يتفق لسواه، ووهبته من القدرة والتمكين وأسباب الرياسة وخصائصها على قدر أمة تريد أن تكون شاعرة، لا على قدر رجل في نفسه؛ وبه وحده استطاعت مصر أن تقول للتاريح: شعري وأدبي!
شوقي: هذا هو الاسم الذي كان في الأدب كالشمس من المشرق؛ متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع، ومتى ذُكر في بلد من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها كأنما قيل النيل أو الهرم أو القاهرة؛ مترادفات لا في وضع اللغة ولكن في جلال اللغة.
والناس يُكتَب عليهم الشباب والكهولة والهرم، ولكن الأديب الحق يكتب عليه شباب وكهولة وشباب؛ إذ كانت في قلبه الغايات الحية الشاعرة، ما تنفكُّ يلِد بعضها بعضًا إلى ما لا انقطاع له، فإنها ليست من حياة الشاعر التي خُلقت في قلبه، ولكنها من حياة المعاني في هذا القلب.
•••
أقرر هذا في شوقي — رحمه الله — وأنا من أعرف الناس بعيوبه وأماكن الغميزة في أدبه وشعره؛ ولكن هذا الرجل انفلت من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها المتساير في الجو، فأصبحتْ مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تُذكر قديمًا في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعية ملفَّقة، ولم يستفِضْ لها ذكر بنابغة ولا عبقري، وكانت كالمستجدية من تاريخ الحواضر في العالم، حتى أن أبا محمد الملقب بوليِّ الدولة صاحب ديوان الإنشاء في مصر للظاهر بن المستنصر — «وقد توفي سنة ٣٤١ﻫ»، وكان رزقه ثلاثة آلاف دينار في السنة غير رسوم يستوفيها على كل ما يكتبه — سلَّم لرسول التجار إلى مصر من بغداد جزءين من شعره ورسائله يحملهما إلى بغداد ليعرضهما على الشريف المرتضى وغيره من أدبائها، فيستشيرهم في تخليد هذا الأدب المصري بدار العلم إن استجادوه وارتضَوْه، كأن حفظ ديوان من شعر مصر ونثرها في مكتبة بغداد قديمًا يشبه في حوادث دهرنا استقلال مصر وقبولها في عصبة الأمم …
وهذا أحمد بن علي الأسواني إمام من أئمة الأدب في مصر «توفي سنة ٥٦٢»، وكان كاتبًا شاعرًا يجمع إلى علوم الأدب الفقهَ والمنطقَ والهندسةَ والطبَّ والموسيقى والفلَكَ — أراد أن يدوِّن شعر المصريين، فجمع من شعرهم «وشعر مَن طرأ عليهم» أربع مجلدات، كأن الشعر المصري وحده إلى آخر القرن السادس للهجرة، في العهد الذي لم يكن ضاع فيه شيء من الكتب والدواوين لا يملأ أربع مجلدات … على اختلافهم في مقدار المجلدة، فقد تكون جزءًا لطيف الحجم؛ والأسواني نفسه يبلغ ديوانه نحو مائة ورقة.
وأخوه الحسن المعروف بالمهذَّب «الأسواني المتوفى سنة ٥٦١» قال العماد الكاتب إنه لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه، وسارت له في الناس قصيدة سموها النوَّاحة، وصف فيها حنينه إلى أخيه وقد رحل إلى مكة وطالت غيبته بها وخيف عليه؛ فالرجل أشعر أهل مصر في زمنه، وحادثة النواحة تجعله في هذا المعنى أشعر من نفسه، على أنه مع هذا لم يقل إلا من هذا:
ولولا ابن الفارض والبهاء زهير وابن قلاقس الإسكندري وأمثالهم، وكلهم أصحاب دواوين صغيرة، وليس في شعرهم إلا طابع النيل، أي الرقة والحلاوة — لولا هؤلاء في المتقدمين لأجدب تاريخ الشعر في مصر؛ ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين؛ وكلهم كذلك أصحاب دواوين صغيرة، لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي؛ على أن كل هؤلاء وكل أولئك لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر، ووضعه شوقي وحده!
والعجب أن دواوين المجيدين من شعراء المصريين لا تكون إلا صغيرة، كأن طبيعة النيل تأخذ في المعاني كأخذها في المادة، فلا فيضَ ولا خصبَ إلا في وقتٍ بعدَ أوقات، وفي ثلاثة أشهر من كل اثني عشر شهرًا؛ ومن جمال الفراشة أن تكون صغيرة، وحسبها عند نفسها أن أجنحتها منقَّطة بالذهب، وأنها هي نكتة من بديع الطبيعة!
على أنك واجد في تاريخ الأدب المصري عجيبة من عجائب الدنيا لا تُذكَر معها الإلياذة ولا الإنيادة ولا الشاهنامة ولا غيرها، ولكنها عجيبة ملأتها روح الصحراء إن كانت تلك الدواوين الصغيرة من روح النيل؛ وهي قصيدة نظمها أبو رجاء الأسواني المتوفى سنة ٣٣٥ﻫ، وكان شاعرًا فقيهًا أديبًا عالمًا كما قالوا، وزعموا أنه اقتصَّ في نظمه أخبار العالم وقصص الأنبياء واحدًا بعد واحد، قالوا: وسئل قبل موته كم بلغتْ قصيدتُك؟ فقال: ثلاثين ومائة ألف بيت … وما أشك أن هذا الرجل وقع له تاريخ الطبري وكتب السير وقصص الإسرائيليات فنظمها متونًا متونًا … وأفنى عمره في ١٣٠ ألف بيت حوَّلها التاريخ إلى خبر مُهمَل في ثلاثة أسطر.
•••
كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء، ولكن شوقي جزء من كل، والفرق بين الجزءين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكُّنه واتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل؛ ولم يترك شاعر في مصر قديمًا وحديثًا ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه؛ وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده، فساوى الممتازين من شعراء دهره وارتفع عليهم بأمور كثيرة هي رزق تاريخه من القوة المدبِّرة التي لا حيلة لأحد أن يأخذ منها ما لا تُعطي، أو يزيد ما تنقص، أو ينقص ما تزيد؛ وقد حاولوا إسقاط شوقي مرارًا فأراهم غباره ومضى متقدِّمًا، ورجع مَن رجع منهم ليغسل عينيه … ويرى بهما أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر، وما هو بمنزلة شاعر وشعره.
وُلِد شاعرنا سنة ١٨٦٨ في نعمة الخديو إسماعيل باشا، ونثَرَ له الخديو الذهب وهو رضيع في قصة ذكرها شوقي في مقدمة ديوانه القديم، ثم كَفَلَه الخديو توفيق باشا وعلَّمه وأنفق عليه من سَعَة، وأنزل نفسه منه منزلة أب غني كما يقول شوقي في مقدمته، ثم تولَّاه الخديو عباس باشا وجعله شاعره وتركه يقول:
وإذا أنت فسَّرتَ لقب شاعر الأمير هذا بالأمير نفسه في ذلك العهد، خرج لك من التفسير: شاعر مُرهَف مُعانٌ بأسباب كثيرة؛ ليكون أداة سياسية في الشعب المصري، تعمل لإحياء التاريخ في النفس المصرية، وتبصيرها بعظمتها، وإقحامها في معارك زمنها، وتهيئتها للمدافعة، وتصل الشعر بالسياسة الدينية التي توجَّهت لها الخلافة يومئذٍ لتضرب فكرة أوروبا في تقسيم الدولة بفكرة الجامعة الإسلامية ولا يخرج لك شوقي من هذا التفسير على أنه رجل في قدْر نفسه، بل في قدْر أميره ذلك؛ وكان ممتلئًا شبابًا يغلي غليانًا، ومُعَدًّا يومئذٍ لمطامع بعيدة ملففة حشوها الديناميت السياسي …
كنت ذات مرة أكلِّم صديقي الكاتب العميق فرح أنطون صاحب «الجامعة» وكان معجبًا بشوقي إعجابًا شديدًا، فقال لي: إن شوقي الآن في أُفُق الملوك لا في أفق الشعراء! قلت: كأنك نفيتَه من الملوك والشعراء معًا؛ إذ لو خرج من هؤلاء لم يكن شيئًا، ولو نفذ إلى أولئك لم يُعَدَّ شيئًا، إنما الرجل في السياسة الملتوية التي تصله بالأمير، هو مرة كوزير الحربية، ومرة كوزير المعارف.
وهذه السياسة التي ارتاض بها شوقي ولابَسها من أول عهده، واتجه شعره في مذاهبها، من الوطنية المصرية، إلى النزعة الفرعونية، إلى الجامعة الإسلامية، فكانت بهذا سبب نبوغه ومادة مَجدِه الشعري — هي بعينها مادة نقائصه؛ فلقد ابتلتْه بحب نفسه وحب الثناء عليها، وتسخير الناس في ذلك بما وسعته قوته، إلى غَيْرة أشد من غَيْرة الحسناء تقشعرُّ كل شعرة منها إذا جاءها الحسن بثانية، وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالأدباء الذين لذَّعوه بالجَمْر — ونحن منهم — غير أنها ممدوحة في موضعها من طبيعته هو؛ إذ جعلتْه كالجواد العتيق الكريم ينافس حتى ظِلَّه، فعارض المتقدمين بشعره كأنهم معه، ونافس المعاصرين ليجعلهم كأنهم ليسوا معه، ونافس ذاته أيضًا ليجعل شوقي أشعر من شوقي؛ وعندي أن كل ما في هذا الرجل من المتناقضات فمرجعه إلى آثار تلك السياسة الملتوية التي رُدَّت بطبيعة القوة عن وجوهها الصريحة، فجعلت تضطرب في وجوه من الحيل والأسباب مُدبِرة مُقبِلة، مُتهدِّية في كل مجاهلها بإبرة مغناطيسية عجيبة لا يُشبِهها في الطبيعة إلا أنف الثعلب المتَّجه دائمًا إلى رائحة الدجاج.
ومؤرخ الأدب الذي يريد أن يكتب عن شوقي لا يصنع شيئًا إن هو لم يذكر أن هذا الشاعر العظيم كان هدية الخديو توفيق والخديو عباس لمصر، كالدلتا بين فرعي النيل؛ وما أصابه المتنبي من سيف الدولة مما ابتعثَ قَرِيحَتَه وراشَ أجنحتَه السماوية وأضفى ريشها وانتزَى بها على الغايات البعيدة في تاريخ الأدب — أصاب شوقي من سمو الخديو عباس أكثر منه، فكان حقيقًا أن يُساوِيَ المتنبي أو يتقدَّمه، ولكنه لم يبلغ منزلته؛ لأن الخديو لم يكن كسيف الدولة في معرفته بالأدب العربي ورغبته فيه؛ وسر المتنبي كان في ثلاثة أشياء: في جهازه العصبي العجيب الذي لا يقل في رأيي عما في دماغ شكسبير، وفي ممدوحه الأديب الملك الذي ينزل من هذا الجهاز منزلة المهندس الكهربائي من آلة عظيمة يُديرُها بعلم ويقوم عليها بتدبير ويحوطها بعناية، ثم في أُفق عصره المتألِّق بنجوم الأدب التي لا يمكن أن يظهر بينها إلا ما هو في قدْرها، ولا يتميز فيها إلا ما هو أكبر منها، ولا يتركها كالمنطفئة إلا شمس كشمس المتنبي تتفجَّر على الدنيا بمعجزاتها النورانية.
ولقد — والله — كان هذا المتنبي كأنه يوزِّع الشرف على الملوك والرؤساء؛ وهل أدلَّ على ذلك من أن أبا إسحاق الصابي شيخ الكُتَّاب في عصره يُراسله أن يمدحه بقصيدتين ويعطيه خمسة آلاف درهم، فيرسل إليه المتنبي: ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكني إن مدحتك تنكَّر لك الوزير — يعني المهلبي — لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تُبالي هذا الحال فأنا أجيبك ولا أريد منك مالًا ولا من شعري عوضًا! فأين في دهرنا من تُشعِره عِزَّة الأدب مثل هذا الشعور ليأتي بالشعر من نفس مستيقنة أن الدنيا في انتظار كلمتها؟
واجتمع لشوقي في ميراث دمه ومجاري أعراقه عنصر عربي، وآخر تركي، وثالث يوناني، ورابع شركسي؛ وهذه كثرة إنسانية لا يأتي منها شاعر إلا كان خليقًا أن يكون دولة من دول الشعر، وإلى هذا وُلد شاعرنا باختلاله العصبي في عينيه، كأن هذا دليل طبيعي على أن وراءهما عينين للمعاني تزاحمان عينَيِ البصر؛ وما لم يكن التركيب العصبي في الشاعر مهيَّأً للنبوغ، فاعلم أنه وقع من تقاسيم الدنيا في غير الشعر، وليس في الطبيعة ولا في الصناعة قوة تجعل حنجرة البلبل في غير البلبل؛ ومع كل ما تقدم فقد أُعين شوقي على الشعر بفراغه له أربعًا وأربعين سنة، غير مشترك العمل، ولا مُتقسِّم الخاطر، على سَعَة في الرزق وبَسْطة في الجاه وعُلُوٍّ في المنزلة، وبين يديه دواوين الشعر العربي والأوروبي والتركي والفارسي؛ وإن تنسَ فلا تنسَ أن شاعرنا هذا خُصَّ بنشاط الحياة، وهو روح الشعر لا روح للشعر بدونه، فسافَرَ ورحل وتقلَّب في الأرض، وخالط الشعوب واستعرض الطبيعة يتخلَّلها ببصره ما بين الأندلس والأستانة، وظهيرُه على ذلك مالُه وفراغُه، وإنما قوة الشعر في مساقط الجو، ففي كل جو جديد روح للشاعر جديدة؛ والطبيعة كالناس؛ هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء، وهي في موضع نائمة تحلم وفي موضع قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشده إلا إذا أطعمْتَه مع صنوف الأطعمة اللذيذة المفيدة، ألوان الهواء اللذيذ المفيد.
وعندي أنه لا أمل أن ينشأ لمصر شاعر عظيم في طبقة الفحول من شعراء العالم، إلا إذا أُعيدَ تاريخ شوقي مهذَّبًا منقَّحًا في رجل وهبَه الله مواهبه، ثم تَهَبُه الحكومةُ المصرية مواهبها.
•••
تحول شوقي بهذا الشعر لا إلى طريقة البارودي، فإنه لا يُطيقُها ولا تتهيَّأ في أسبابه، وخاصة في أول عهده، وكأن لغة البارودي فيها من لَقَبِه، أي فيها البارود … ولكن تحوُّل نابغتنا كان عن طريقة معاصريه من أمثال الليثي وأبي النصر وغيرهما، فترك الأحياء وانطلق وراء الموتى في دواوينهم التي كان من سعادته أن طُبِع الكثير منها في ذلك العهد؛ كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري، ثم أهل الرقة أصحاب الطريقة الغرامية؛ كابن الأحنف والبهاء زهير والشاب الظريف والتلَّعْفَرِيِّ والحاجري، ثم مشاهير المتأخرين؛ كابن النحَّاس والأمير منجك والشرقاوي. وقد حاول شوقي في أول أمره أن يجمع بين هذا كله، فظهر في شعره تقليدُه وعملُه في محاولة الابتكار والإبداع وإحكام التوليد، مع السهولة والرقة وتكلُّف الغزل بالطبع المتدفِّق لا بالحب الصحيح.
وأنا حين أكتب عن شاعر لا يكون همي إلا البحث في طريقة ابتداعه لمعانيه، وكيف ألمَّ وكيف لَحَظ، وكيف كان المعنى مَنْبَهَةً له، وهل أبدع أم قلَّد، وهل هو شعر بالمعنى شعورًا فخالط نفسه وجاء منها، أم نقله نقلًا فجاء من الكتب؛ وهل يتسع في الفكرة الفلسفية لمعانيه، ويدقِّق النظرة في أسرار الأشياء، ويُحسن أن يستشفَّ هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري ويتصل بها ويستصحب للناس من وحيها؛ أم فكرُه استرسال وترجيم في الخيال وأخذ للموجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملة هل هو ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتُخلَق فتكون لها مع الحياة في نفسِها حياةٌ من نفسه، أم هو تبعيَّة كالسمسار بين طرفين؛ يكون بينهما، وليس منهما ولا من أحدهما؟ في هذه الطريقة من البحث تاريخ موهبة الشاعر، ولا يؤدِّيك إلى هذا التاريخ إلا ذلك المذهب إليه إن أطقته، أما تاريخ الشاعر نفسه فما أسهلَه؛ إذ هو صورة أيامه وصلته بعصره، وليس في تأريخ ما كان إلا نقله كما كان.
وإذا عرَضْنا شوقي بتلك الطريقة رأيناه نابغة من أول أمره، ففيه تلك الموهبة التي أسميها حاسة الجو؛ إذ يتلمَّح بها النوابغُ معانيَ ما وراءَ المنظور، ويستنزلون بها من كل معنًى معنًى غيرَه.
انظر أبياته التي نظمها في أول شبابه وسِنُّه يومئذٍ ٢٣ سنة على ما أظن، وهي من شعره السائر:
دع غلطتَه في قوله «تميل عني»، فإن صوابها: تَمِلْ؛ إذ هي جواب إنْ الشرطية؛ ولكن تأمل كيف استخرج معانيه؛ وأنا كنت دائمًا وما أزال معجبًا بالبيتين الثاني والرابع، لا إكبارًا لمعناهما، فهما لا شيء عندي، ولكن إعجابًا بموهبة شوقي في التوليد، فإنه أخذ البيت الثاني من قول أبي تمام:
فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضِه، وجاء نسيمًا يترقرق بعدما كان كالريح السافية بترابها؛ لأن الزحام في بيت أبي تمام حقيق بسوق قائمة للبيع والشراء، لا بقلب امرأة يحبها، بل هو يجعل قلب المرأة شيئًا غريبًا كأنه ليس عضوًا في جسمها، بل غرفة في بيتها … وقد سبق شاعرنا أبا تمام بمراحل في إبداعه وذوقه ورقته.
والبيت الرابع من قول الشاعر الظريف:
وهذه «فاءات» تجرُّ إلى القبر ونعوذ بالله منها … ومما كنتُ أعيبه على شوقي ضعفُه في فنون الأدب، فإن المويلحي الكاتب الشهير انتقد في جريدته «مصباح الشرق» أبيات «خدعوها» عند ظهور الشوقيات في سنة ١٨٩٩، فارتاعَ شوقي وتحمَّل عليه ليُمسِك عن النقد، مع أن كلام المويلحي لا يُسقِط ذبابة من ارتفاع نصف متر … ومن مصيبة الأدب عندنا، بل من أكبر أسرار ضعفه، أن شعراءنا لا طاقة لهم بالنقد، وأنهم يفرُّون منه فرارًا ويعملون على تفاديه وأنهم لا يحسنون غير الشعر؛ فلا البارودي ولا صبري ولا حافظ ولا شوقي كان يُحسن واحدٌ منهم أن يدفع عن نفسه أو يكتب فصلًا في النقد الأدبي، أو يُحقِّق مسألة في تاريخ الأدب.
ومن معاني شوقي السائرة:
وكرره في قصيدة أخرى فقال:
والبيتان في شعر صباه أيضًا، وهما من قول ابن الرومي:
فصحح شوقي المعنى وأبدل المواثبة بالجدال، وذلك هو الذي عجز عنه ابن الرومي؛ ومن إبداعه في قصيدته «صدى الحرب» يصف هزيمة اليونان:
وهذا خيال بديع في الغاية، جعل هزيمتهم كأنها ليست من هول الترك، بل من هول القيامة؛ وهو مع ذلك مولَّد من قول أبي تمام في وصف كرم ممدوحه أبي دُلَف:
فقاس شاعرنا على ذلك؛ وإذا كادت الدار تركب إلى الراكب إليها من فرحها، فهي تكاد تفر مع المنهزم من ذعرها؛ ولكن شوقي بنى فأحكم وسما على أبي تمام بالزيادة التي جاء بها في البيت الثاني.
ومن أحسن شعره في الغزل:
وهو من قول القائل:
غير أن شوقي قال: لو ذهبتَ تزيدها في الوهم … والشاعر قال: لو استزادتْ هي؛ فلو خلا بيت شوقي من كلمة «في الوهم» لما كان شيئًا، ولكن هذه الكلمة حقَّقَتْ فيه المعنى الذي تقوم عليه كل فلسفة الجمال؛ فإن جمال الحبيب ليس شيئًا إلا المعاني التي هي في وهم محبه؛ فالزيادة تكون من الوهم، وهو بطبيعته لا ينتهي؛ فإذا لم تبقَ فيه زيادة في الحسن فما بعد ذلك حُسن، وقد بسطنا هذا المعنى في صور كثيرة في كتبنا: «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر»، و«أوراق الورد»؛ فانظره فيها.
ومما يُتمِّم ذلك البيت قول شوقي في قصيدة النفس:
وهذا المعنى يقع من نفسي موقعًا وله من إعجابي محلٌّ؛ فهذه الزيادة التي فيه كزيادة العُمر لو أمكنتْ، وهي في موضعها كما ينقطع الخط ثم يتصل، وكما يستحيل الأمل ثم يتفق ويسهل؛ وقد علمتَ مأخذ الشطر الأول، أما الثاني فهو من قول ابن الرومي:
وفي القصيدة التي رثى بها ثروت باشا وهي من أحسن شعره تجد من أبياتها هذا البيت النادر:
وشوقي يعارض بهذه القصيدة أبا خالد بن محمد المُهلَّبي في داليته التي رثى بها المتوكل، وكان المهلبي حاضرًا قَتْلَه هو والبحتريُّ، فرثاه كل منهما بقصيدة قالوا: إنها من أجود ما قيل في معناها؛ وبيت شوقي مأخوذ من قول المهلبي:
أي لم يُحِسَّ موتَهم أحدٌ؛ ولكن البيت غير مستقيم؛ لأن الذي يموت فلا يفقد هو الخالد الذي كأنه لم يمُتْ؛ فاستخرج شوقي المعنى الصحيح وجعل العدم الذي هو آخر الوجود في الناس، أول الوجود ووسطه وآخره في هؤلاء الذين هانوا على الحياة فوُجدوا وماتوا كأنهما ماتوا وما وجدوا.
•••
وإلى ما علمتَ من قوة هذه الشاعرية، ودقَّتها فيما تتأتَّى له، ومجيئها بالمعاني النادرة مستخرجة استخراج الذهب، مصقولة صقل الجوهر، معدَّلة بالفكر، موزونة بالمنطق — تجد لها تهافُتًا كتهافت الضعفاء، وغِرَّةً كغرة الأحداث؛ حتى لتحسب أن طفولة شوقي كثيرًا ما تنبعث في شعره لاعبة هازلة، أو كأن للرجل شخصيتين كما يقول الأطباء، فهما تتعاوران شعره كمالًا ونقصًا، وعلُوًّا ونزولًا، أو قُلْ: هي العربية واليونانية في ناحية من نفسه، والتركية والشركسية في ناحية أخرى؛ لتلك الابتكار والبلاغة والمنطق، ولهذه التهويل والمبالغة والخلط؛ وشوقي هو بهما جميعًا؛ تفتنه القوية منهما فيُعجَب بها إعجاب القوة، وتخدَعه الضعيفة فيُعجَب بها إعجاب الرقة؛ ما أعجب ببيته الذي قاله في الحنين إلى الوطن من قصيدته الأندلسية الشهيرة:
وهذا البيت مما يتمثل به الشبان وكُتَّاب الصحافة، ولم يفطن أحد إلى فساده وسخافة معناه؛ فإن الخُلدَ لا يكون خُلدًا إلا بعد فناء الفاني من الإنسان وطبائعه الأرضية، وبعد أن لا تكون أرض ولا وطن ولا حنين ولا عصبية؛ فكان شوقي يقول: لو شُغلتُ عن الوطن حين لا أرض ولا وطن ولا دول ولا أمم ولا حنين إلى شيء من ذلك — فإني على ذلك أحن إلى الوطن الذي لا وجود له في نفسي ولا في نفسه … وهذا كله لغو … والمعنى بعدُ من قول ابن الرومي:
ومنازعة النفس هي الحنين، ومعنى ابن الرومي وإن كان صحيحًا غير أنه لا يصلح لفلسفة الوطنية في زمننا.
وإن في شوقي عيبين يذهبان بكثير من حسناته: أحدهما: المبالغات التركية الفارسية مما تنزعه إليه تركيته، ولا مبالغة في الدنيا تُقارِبها، كقول بعض شعرائهم إن النملة بزَفْرتها جفَّفتِ الأبحرَ السبعة … وهو إغراق سخيف لا يأتي بخيال عجيب كما يتوهمون، بل يأتي بهذيان عجيب؛ وإذا كان الصدق يأنف من الكذب، فإن الكذب نفسه يأنف من هذا الإغراق؛ ومن هذه التركية في شوقي إضافات وهمية، هي من تلك المبالغات كذيل الحمار من الحمار؛ قطعة فيه ودليل عليه وآخر لأوله ولا محل لها في ذوق البلاغة العربية، كقوله:
وقوله في سعد باشا في حادثة الاعتداء عليه:
ويدخل في جنايات هذه التركية على شعره تكراره الأسماء المقدسة والأعلام التاريخية؛ كيوشع وعيسى وموسى وخالد وبدر وسيناء وحاتم وكعب وغيرها مما هو شائع في نظمه ولا تجده أكثر ما تجده إلا السحر كله والبلاغة كلها، على شرط أن يكون القلب هو الذي وضعها في موضعها، وأن لا يضعها إلا على هيئة قلبية، فيكون كأنه وضع نفسه في الشعر ليخفق خفقانه الحي في بضعة ألفاظ، وهذا ما لم يُحسنه شوقي — والعيب الثاني: أن ألفاظ شاعرنا لا يثبُت أكثرها على النقد؛ لضعفه في الصناعة البيانية، ثم لضعف الموهبة الفلسفية فيه واعتباره التهويل شعرًا والمبالغة بلاغة وإن فسدت بهما البلاغةُ والشعرُ؛ انظر إلى قوله من قصيدته الشهيرة ٢٨ فبراير:
قلنا: فإذا قُطع «رأس الحماية» وبقيت منها بقية ما ذَنَبٌ أو يدٌ أو رِجلٌ؛ فإن هذه البقية في لغة السياسة التي تنقذ الألفاظ وحروفها ونقط حروفها … لن تكون ذنبًا ولا يدًا ولا رجلًا، بل هي «رأس الحماية» بعينه … على أن شوقي إنما عكس قول الشاعر:
وهذا كلام على سياقه من العقل، فما غَناءُ قطع ذنب الأفعى إذا بقي رأسها، وإنما الأفعى كلها هي هذا الرأس.
ولقد ظهر لي من درس شوقي في ديوانه أمرٌ عجبتُ له؛ فإني رأيته يأخذ من أبي تمام والبحتري والمعري وابن الرومي وغيرهم؛ فربما ساواهم وربما زاد عليهم، حتى إذا جاء إلى المتنبي وقع في البحر وأدركه الغرق؛ لأنه نشأ على رهبة منه كما تشير إليه عبارته في مقدمة ديوانه الأول؛ وقد وصف خَيْلَ الترك في قصيدة أنقرة بقوله:
وشعره هذا كأنه يرتعد أمام قول المتنبي:
فانظر أين صناعة من صناعة وأين شعر من شعر؟ وقال في «صدى الحرب» يصف مدافع الدردنيل:
وهناك ضرب آخر من المبالغة يجيء من سقوط الخيال؛ لأن في الأسفل مبالغة كما في الأعلى، وإن كانت مبالغة الأسفل زيادة في السخرية منه والهزء به؛ وهذه المبالغة تأتي من جمع أشتات مختلفة وإدماجها كلها في معنى واحد، كهذا الذي حاول أن يدمج الطبيعة كلها في حبيبته فزعم أن فيها من كل شيء، ونسي أن كل قبيح وكل بغيض هو من كل شيء …
ومن سخيف الإغراق في شعر شوقي قوله في رثاء مصطفى باشا كامل، وهي أبيات يَظُنُّ هو أنه أوقع كلامه فيها موقعًا بديعًا من الإغراب:
وفي الشوقيات صفحات تكاد تغرِّد تغريدًا، وفيها صفحات أخرى تنِقُّ نقيق الضفادع؛ وفي هذا الديوان عيوب لا نريد أن نقتصَّها؛ فإن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه إذا ذهبنا نأتي بها ونشرح العلة فيها ونخرج الشواهد عليها، ولكن من عيوبه في التكرار أن له بيتًا يدور في قصائده دوران الحمار في الساقية، وهو هذا البيت:
بل هذا البيت:
بل هو هذا:
بل هو هذا البيت:
وقد تكرَّر — فيما قرأته من ديوانه — ثلاث عشرة مرة، فعاد المعنى كطيلسان ابن حرب الذي جعل الشاعر يرقعه ثم يرقعه حتى ذهب الطيلسان وبقيت الرقع … والبيت الأول من العين النادر، ولكن أفسده في الباقي سوء ملكة الحرص في شوقي، أو ضعف الحس البياني، أو ابتذاله الشعر في غير موضعه، أو وهن فكرته الفلسفية من جوانب كثيرة؛ وهذه الأربعة هي الأبواب التي يقتحم منها النقد على شعر صاحبنا، ولو هو كان قد حصَّنها بأضدادها لكان شاعر العربية من الجاهلية إلى اليوم، ولكان عسى أن ينقل الشعر إلى طور جديد في التاريخ؛ ولكن الفوضى وقعت في شوقي من أول أمره؛ فأُرسِل إلى أوروبا لدَرْس الحقوق وكان الوجه أن يُرسَل لدرس الآداب والفلسفة، وغامر في سياسة الأرض، وكان الحق أن يشتغل بسياسة السماء، وتهالك في مادة الدنيا، وكان الصواب أن يتهالك في معانيها.
إن الفوضى ذاهبة مذاهبها في الأدب والشعر، فكل شاعر عندنا كمؤلف يضع رواية ثم يمثلها وحده وعليه أن يمثلها وحده، فهو يخرج على النظارة في ثياب المَلِك فيُلقِي كلامًا ملكيًّا، ثم ينفتل فيجيء في ثواب القائد فيُلقِي كلامًا حربيًّا، ثم ينقلب فيعود في هيئة التاجر فيُلقِي كلامًا سوقيًّا، ثم يروغ فيرجع في مباذل الخادم، ثم … ثم … يتوارى فيظهَر في جلدة بربري … وهذه الفوضى التي أهملتها الحكومة وأهملها الأمراء والكبراء هي حقيقة مؤلمة، ولكن هي الحقيقة!
•••
وشوقي على كل هذا هو شوقي؛ أول من احتفى بتاريخ مصر من الشعراء، وأول من توسَّع في نظم الرواية الشعرية فوضع منها ست روايات، وهو صاحب الآيات البديعة في الوصف، وهذه الناحية هي أقوى نواحيه، ولقد ألهمتني قراءة البارع من شعره في أغراضه وفنونه المختلفة أن الله — تعالى — ينعم على الآداب الجميلة بأفراد ممتازين في جمال أرواحهم وقوتها، تجد الآداب لذتها فيهم وسموها بهم، كأن الأمر قياس على ما يقع من عشق الناس لبعض المعاني، فيكون في المعاني ما يعشق بعضَ الناس، ومتى بلغ عشق المعنى لإنسان مبلغَ الاختصاص والوجْد ظهر الفن أبدع ما يُرى، كأن المعنى الأدبي يتجمل ويتحبَّب ليستميل هذا الإنسان الحاكم عليه حكم الحب.
فيا مصر، لقد مات شاعرك الذي كان يحاول أن يخرج بالجيل الحاضر إلى الزمن الذي لم يأت بعد، فإذا جاء هذا الزمن الزاخر بفنونه وآدابه العالية، وذكرتِ مجد شعرك الماضي، فليَقُلْ أساتذتُك يومئذٍ: كان هذا الماضي شاعرًا اسمه شوقي!