الشعر العربي في خمسين سنة
ولهذا لا تكاد تجد شعرًا عربيًّا بعد القرن التاسع إلى أول النهضة الحديثة، إلَّا رأيته صُوَرًا ممسوخة مما قبله؛ وكل شعراء هذه القرون ليسوا ممن وراءهم إلا كالظل من الإنسان؛ لا وجود له من نفسه، وهو ممسوخ أبدًا إلا في الندرة حين يسطع في مرآة صافية؛ ومتى كان الشعراء لا ينشئون إلا على فنون البلاغة وصناعاتها، وكانت هذه كلها قد فَرَغَ منها المتقدمون؛ فما ثَمَّ جديد في الأدب والفن إلا ولادة الشعراء وموتهم، وإلا تغيُّر تواريخ السنين … وهذا إذا لم نعدَّ من الأدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون مما سنشير إلى بعضه: كالتاريخ الشعري وغيره.
•••
إن الفكر الإنساني لا يسيِّر التاريخ، ولا يقدِّر قدَرًا فيه، ولا ينقله من رسم إلى رسم؛ لأنه هو نفسه كما خُلِق مُصلِحًا خُلِق مُفسِدًا وكما يستطيع أن يُوجِد يستطيع أن يُفنِي، وكما تطَّرد به سبيل تلتوي به سبيل أخرى؛ وما أشبهَ هذا الفكرَ في روعته بقطار الحديد؛ يطير كالعاصفة ويحمل كالجبل ويُدهِش كالمعجزة، وهو مع كل ذلك لا شيء لولا القضيبان الممتدان في سبيله، يحرفانه كيف انحرفا، ويسيران به أين ارتميا، ويقفان به حيث انتهيا، ثم هو بجملته ينقلِب لِأَوْهَى اختلال يقع فيهما.
لا جرم كانت العصور مرسومة معيَّنة النمط ذاهبة إلى الكمال أو منحدرة إلى النقص، حسب الغايات المحتومة التي يسير بها الفكر في طريق القدَر الذي يقوده.
فهذه علوم البلاغة التي أحدثت فنًّا طريفًا في الأدب العربي، وأنشأت الذوق الأدبي نشْأتَه الرابعة في تاريخ هذه اللغة، بعد الذوق الجاهلي، والمُحدَث والمُولَّد — هي بعينها التي أضعفت الأدب وأفسدت الذوق وأصارتْه إلى رأْيِنا في شعر المتأخرين، كأنما انقلبتْ عليهم علومًا من الجهل، حتى صار النمط العالي من الشعر كأنه لا قيمة له؛ إذ لا رغبة فيه، ولا حفل به؛ لمباينته لما ألِفوا وخلوِّه من النكتة والصناعة؛ وحتى كان في أهل الأدب ومدرِّسيه مَن لا يعرف ديوان المتنبي!
ولا يصف لك معنى الشعر في رأي أدباء ذلك العهد كقول الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة ١٨٧١:
ونشأتِ العصابة البارودية وفيها إسماعيل صبري وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ به، واتصل الشعر بعضه ببعض، وسارتْ به الصحف، وتناقلته الأفواه، وأُنسِي ذكرُ البلاغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة التي جعلت من ترك البلاغة بلاغةً؛ لأنها صادفت أوائل الانقلاب ليس غير؛ وبذلك بطَلَ في مصر عصرُ أبي النصر والليثي والساعاتي والنديم وطبقتهم، وفي الشام عصرُ اليازجي والكستي والأنسي والأحدب وأضرابهم، وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والتميمي وسواهم؛ واستقلَّ الشعر عربيًّا وخرج كما يخرج الفكر المخترَع ماضيًا في سبيل غير محدودة.
•••
وما أقضي العجبَ من غفلة بعض الكُتَّاب في هذا الزمن إذ يُناهِضون العربية ويُزْرون على الفصاحة ويعملون على انكماش سوادها وتقليل أهلها، وما يدرون أنهم بذلك يُسقِطون الشعر قبل الكتابة على خطأ أو عَمْدٍ وقلما تجد واحدًا من هؤلاء يُحسن معالجة الشعر، فإن أصبتَ له شعرًا وجدته لا غَناء فيه أو في أكثره، وأين وضعتَ يدَك منه لم تخطئ أن تقع على مَثَل مما يُمثَّل به لِعَيْبٍ من عيوب البلاغة.
وهذه النهضة التي نحن في صدد الكلام عنها أوسع مدى وأوفر أسبابًا من تلك التي كانت في الدولة العباسية، بما دخلها من أدب كل أمة، وما اتصل بها من أساليب الفكر، ولكن أين رجال الفصاحة المتمكنون منها، المتعصبون لها العاملون على بَثِّها في الألسنة، مع أن عصرهم أوسع من عصر الرواة، بكثرة ما أخرجت المطابع من أمهات الكتب والدواوين، حتى أغنتْ كل مطبعة أدبية عن راويةٍ من أئمة الرواة.
•••
ومن ها هنا نشأ في أيامنا ما يسمونه «الشعر المنثور»، وهي تسمية تدل على جهل واضعها ومَن يرضاها لنفسه؛ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب؛ ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب، ولا يُوفَّق إلى سبك المعاني فيها إلا مَن أمدَّه الله بأصحِّ طبعٍ وأسلمِ ذوقٍ وأفصحِ بيانٍ؛ فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف، ولا تستوي فيه أسمى المعاني مع شيء من هذه العلل وأشباهها، وتراه يُلقِي بمثل «السعدي» من الفَلَك الأعلى إلى الحضيض، لا يُقيم له وزنًا ولا يرعى له محلًا ولا يقبل فيه عذرًا ولا رخصة؛ غير النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة إلى أن تنتهي إلى العامي الساقط والسوقي البارد؛ ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من الحُسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يغني؛ فمن قال: «الشعر المنثور» فاعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى.
•••
- أولًا: هذا النوع القصصي الذي تُوضَع فيه القصائد الطوال، فإن الآداب العربية
خالية منه، وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة ألمُّوا بها اقتضابًا١٨ وجاءوا بها في جملة السياق على أنها مَثَل مضروب أو حكمة مرسلة
أو برهان قائم أو احتجاج أو تعليل، وما جرى هذا المجرى مما لا ترِدُ فيه
القصة لذاتها ولا لتفصيل حوادثها؛ وهو كثير في شعر الجاهليين والإسلاميين،
والجيد منه قليل حتى في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين
جاءوا به من العصريين لا يجِدون منه إلا قِطَعًا تعرض في القصيدة وأبياتًا
تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجري على أصله في سائر الشعر طال أو قصر.
والسبب في ذلك أن القصة إنما يتم تمامها بالتبسُّط في سردها وسياقة حوادثها وتسمية أشخاصها وذِكْر أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يُداخِل ذلك أو يتصل به، وإنما بني الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير لا على السرد، وعلى الشعور لا على الحكاية؛ ولا يريدون منه حديث اللسان ولكن حديث النفس؛ فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بها مقادير من الطرب والاهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والفخر والاستطالة، ونحوها من المعاني التي هي بسبب من أسباب الانفعال والنزعة؛ فلا جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد لا الإطلاق، وضبط المقادير لا الإسراف؛ إذ كان من شأن هذه الأمور في طبيعة النفس أن ما زاد منها عن مقداره تحول وانقلب في تأثيره، وذلك هو السبب أيضًا في أن هذا الشعر ما لم يكن قائمًا على اختيار اللفظ وصنعة العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكر على ما يلْفِتُ من ضروب المجاز والاستعارة ونحوها — سقطَ وركَّ بمقدار ما ينقصه من ذلك؛ وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمن الشعراء من نظم رويًّا واحدًا في أربعة آلاف بيت، ومنهم من نظم تفسير القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر … وما أخملَ ابنَ الرومي على جلالة محله إلا طولُ قصائده وسياقُه الكلام فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجُها مخرج المقالة يتحدث بها، فلم تَحْيَ له إلا مُقطَّعات وأبيات ومات سائر شعره وهو حيٌّ وميتٌ على السواء، حتى قال فيه صاحب الوساطة: «ونحن نستقرئ القصيدة من شعره وهي تُناهِز المائة أو تربي أو تضعف، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين، ثم قد تنسلخ قصائد منه وهي واقفة تحت ظلِّها جارية تحت رسلها لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي …»
والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن لا تحقيق لهم في مثل هذه المسائل، يعدُّون أحسن محاسن ابن الرومي ما هو أقبح عيوبه، وقاتَل اللهُ صناعةَ الكتابة، فكما أنها لملء الفراغ هي كذلك لإفراغ الملآن …
- ثانيًا: صياغة بعض الشعر على أصل التفكير في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من
لغات الأمم، فيخرج الشعر عربيًّا وأسلوبه في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما
يأتي هذا النوع من أمريكا، وأنا أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة
والحُسن.
وما زالتْ أجناس الأمم يضيق بعضها بأشياء ويتسع بعضها بأشياء فلسنا مقيدين بالفكر العربي ولا بطريقته، وعلينا أن نضيف إلى محاسن لغتنا محاسن اللغات الأخرى؛ ولكن من غير أن نفسدها أو نَحِيف عليها أو نبيعها بيع الوَكْس؛١٩ ومتى كان هذا النوع من الشعر رصينًا محكمًا جيد السبك رشيق المعرض، كان في النهاية من الرقة والإبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إلا من هذه الناحية، كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفع من نمط الأداء في اللغة الفارسية.
- ثالثًا: الانصراف عن إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء، وذلك بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح، بل على سقوط نفس المادح؛ وتراه مدحًا حين يُتلَى على سامعه، ولكنه ذم حين يُعزَى إلى قائله! وما ابتُلِيَتْ لغة من لغات الدنيا بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب لا محل لتفصيلها.
- رابعًا: الإكثار من الوصف والإبداع في بعض مناحيه والتفنُّن في بعض أغراضه الحديثة، وذلك من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا، ولما وصف الشيخ أحمد الكردي — من شعراء القرن الثاني عشر — السفينة واستهلَّ بهذا الوصف مدْحَ الوزير راغب باشا، عدُّوا ذلك حادثة من حوادث الأدب في عصره فتأمل!
- خامسًا: إهمال الصناعات البديعية التي كان يُبنى عليها الشعر، فيُنظَم البيت؛ ليكون جناسًا أو طباقًا أو استخدامًا أو تورية … إلخ، أو ضربًا آخر من صناعة العدد والحساب، كالتاريخ الشعري بأنواعه، أو صناعة الحرف، كالمقلوب والمهمل وغيرهما، أو صناعة الفِكْر، كاللغز والمعمَّى؛ أو صناعة الوضع كالتشجير والتطريز، إلى ما يلتحق بهذا الباب الذي ذهب أهلُه فلا يتيسَّر لأحد من بعدهم أن يجاريهم فيه، وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصيناها بالتدوين في موضعها من «تاريخ آداب العرب»؛ بَيْدَ أن إهمال صناعة البديع شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه في بعض الشعر الحديث «والشعر المنثور» من الإغراق السخيف الذي لا يقوم على أصل من التعدي في ضروب الاستعارة، والبُعد في المجاز، والإحالة في الوضع، ونحوها مما يرجع إلى الجهل بطبيعة البلاغة، ومما لا نعدُّه إلا ضربًا من الفساد يلتحق بما كان في العصور الماضية وإن كان على الضد منه.
- سادسًا: النظم في الشئون الوطنية والحوادث الاجتماعية، مما يجعل الشعر محيطًا بروح العصر وفكره وخياله، وهو باب لا ينهض به إلا أفراد قلائل، ولا يزال ضعيفًا لم يستحكِم؛٢٠ وقد قالوا: إن للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليه، ولكن لا أحسب أن فيها مائة من نحو ما يُنظَم في هذا العصر مما أدَّى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويُعَدُّ من وسائلها، وفي طرق التربية ويُعَدُّ من أسبابها.
- سابعًا: اسخراج بعض أوزان جديدة من الفارسية والتركية، وهو قليل، جاء به شوقي في
قصيدتين ولم يُتابِعه أحدٌ؛ لإفراط ذلك الوزن في الخِفَّة حتى رجع إلى
الثقل … ثم نظم بعض الشعر من أوزان مختلفة قريبة التناسق على قاعدة
المُوشَّح، ولكنه شعر لا توشيح، كما ينظم بعض شعراء أمريكا وسوريا؛ ولم
يحدث مثل ذلك في العربية، فإن القصيدة كانت تُنظَم من بحر واحد، وقد يخرج
منه وزن آخر، ولا نعرف في تاريخ الأدب قصيدة تتألَّف من وزنين إلا الذي
قالوا إن حسين بن عبد الصمد المتوفى سنة ٩٨٤ﻫ/١٥٧٦م قد اخترعه ونظم فيه
أبياته التي مطلعها:
فاحَ عَرْفُ الصَّبا وصاحَ الدِّيكْوانثنى البانُ يشتكي التحريكْقم بنا نجتلي مُشعشعةًتاهَ من وصفه بها النِّسِّيكْ٢١
وعارضها ولدُه الإمام الشهير بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول بأبيات قالوا: إنها سارت في عصره مسير المثل، ونسج عليها شعراء ذلك العصر، كالنابلسي وغيره، ومطلعها:
يا نَديمي بمُهْجتي أفديكْقمْ وهاتِ الكئوسَ من هاتيكْخمرةٌ إن ضَلَلْتَ ساحَتَهافسَنَا٢٢ نورِ كأسِها يَهديكْعلى أن هذا الوزن بشطريه مستخرج من الخفيف، فليس باختراع كما زعموا، وإنما هو ابتداع في التأليف الشعري؛ وقد اجتزأنا بما مرت الإشارة إليه، فإنه كل ما تغيَّر به الرسم في هذه الصناعة؛ وتركنا الأمثلة تفاديًا من الإطالة.
وبعدُ؛ فلا ريب أن النفس البشرية في حاجة أبدًا مع دينها الروحي إلى دين إنساني يقوم على الشعور والرغبة والتأثير، فيفسِّر لها حقائق الحياة، ويكون وسيلة من وسائل تغييرها؛ ليجعلها ألْطَفَ مما هي في اللطف؛ وأرقَّ مما تكون في الرقة، وأبدع مما تتفق في الإبداع؛ ذلك الذي يصل بظهوره وإبهامه بين الواضح والغامض، والخالد والفاني؛ ذلك الذي لا يجمُل الجمالُ إلا به، ولا تسكن النفس إلا إليه؛ ذلك هو الشعر!
صرُّوف اللغوي
وثبتَ شيخنا على ذلك عُمْرَ دولة من الدول في خمسين سنة ونيِّف، يضرب قلمه في السهل والصعب، وفي الممكن والممتنع؛ وإنه لَيَمُرُّ في كل ذلك مرًّا لا ينثني، ويحذو حذوًا لا يختلف، كأن الصعب عنده نسق السهل، والممتنع صَوْغُ الممكن؛ فلو قلتَ: إنه بُني في أصل خَلْقه وتركيبه على أن يكون قوة من قوى التحويل لتحقيق المشابهة العقلية بين الشرق والغرب لما أبعدتَ، ولو زعمتَ أن ذلك القلم الحي لم يكن إلا عِرْقًا في جسم الإنسانية لكان عسى …
وانتهى شيخنا في العهد الأخير إلى أن صار يُعَدُّ وحده حُجَّة اللغة العربية في دهر من دهورها العاتية، لا في الأصول والأقيسة والشواذ وما يكون من جهة الحفظ والضبط والإتقان، بل فيما هو أبعد من ذلك وأرَدُّ بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها، بل فيما لا تنتهي إليه مطمعةُ أحد من علمائها وكُتَّابها وأدبائها؛ إذ وقع الإجماع على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سَعَة العربية وتصرُّفها وحسن انقيادها وكفايتها، وأنها تؤاتي كلَّ ذي فن على فنه، وتمادُّ كل عصر بمادته؛ وأنها من دقة التركيب ومطاوعته مع تمام الآلات والأدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات الكثيرة في اللغات الأخرى، كأنها آخر ما انتهت إليه الحضارة قبل أن تبدأ الحضارة.
عرض لي يومًا أحد هؤلاء اللغويين فانتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد، وتمحَّل في نقده ودلَّل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه لفظا «الأزاهر والورود»، فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان من ردِّي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجَمَل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه، وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها، فالزهر والورد عند المولَّدين والمحدَثين أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين؛ ثم هما من خاص الألفاظ المولدة، فلنا أن نجمعهما على كل صور الجمع التي يُسوِّغها القياس؛ لأن ها هنا العلة الموجبة التي لم تكن مع العرب فيهما؛ فمن الصحيح أن تقول: زهور، وأزهار، وأزاهر، وأزاهير إلخ، فلما لقيتُ الدكتور بعد نشر هذا الرد هنَّأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة وليس غير ما استجمل وما استنوق … أما هذا الدهر الطويل العريض فليس عندهم شيئًا، وهم يستطيعون أن ينكروا على المولَّدين ألف كلمة، ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرَّره أبو علي الفارسي في العربي الصحيح نفسه من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع، فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب وأمَّ مذهبهم فلا يُسأَل ما دليله وما أسماعه وما روايته، ولا يجب عليه من ذلك شيء، حتى قال أبو علي: لو شاء شاعر أو متَّسِع أن يبني بإلحاق اللام اسمًا وفعلًا وصفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خَرْجَجٌ أكثر من دَخْلَل، وضرببَ زيد عمرًا، ومررتُ برجل ضرببٍ وكرممٍ، ونحو ذلك. قال تلميذه ابن جِنِّي: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم فهو إذن من كلامهم.
والجاحظ يقول في مثل ذلك: إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها على أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود — يعني: اللفظ العلمي الاصطلاحي — وأدَع التكلف لما عسى ألَّا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة … ولكل صناعة ألفاظ قد جُعلتْ لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات.
فأنت ترى الجاحظ لا يمتنع من الألفاظ الأعجمية والعامية كما هي ما دامت المعاني قائمة، وقاعدتُه هي الأخفُّ والأدلُّ والأفهَم والأشيَع، وهذا بعينه يقول الدكتور فيه: «يُشتَرَط في حُسن التعبير أن يؤدِّي المعنى المراد إلى ذهن السامع بأقل ما يكون من الوقت والكلفة والإسراف في القوة العصبية.»
بَيْدَ أن مِن تلك القواعد أن الأستاذ يترخَّص في الألفاظ العامية وهو يجد فصيحها، ويقول في ذلك: «إذا أسمعتَ الفلاحَ المصري كلمة بِذَارٍ مرةً في الأسبوع أو في الشهر، سمع كلمة «تقاوي» مائة مرة وألف مرة، فرأيُنا أن محاولة تغيير لغة العامة في هذه الكلمات وأمثالها ضرب من العبث وإضاعة للوقت وتضييع للفائدة، فجاريناهم فيما نكتبه لهم.» وهذا ما كنت أجادله فيه ولا أسلِّم له بشيء منه؛ لأنه أغفل أصلًا اجتماعيًّا عظيمًا، فإن عاميتنا غير منقطعة من العربية الفصحى، ولا يزال فيهم ميراثها من القرآن والحديث وكلام العلماء في أمور دينهم، وهذه هي وسائل مزجهم بالفصيح وردهم إليه، ولا تزال هذه الوسائل تفعل ما تفعله النواميس المحتومة ولولاها لما بقي للفصحى بقية بعدُ.
وقد كان جاء إلى مصر من بضع سنين رجل من أمريكا هو من تلاميذ الدكتور القُدَماء، فنزح إلى ذلك البر فاتَّجَر فأثْرَى وفشَتْ له نعمة عظيمة؛ ولما لقيتُه لقيتُ في يده صحيفة وضع فيها مسائل في اللغة والنحو، وكأن أعدَّها ليسأل عنها؛ وفي أولها هذا السؤال: لماذا يقال: فصُح الرجل فصاحة فهو فصيح، ثم يقول: شعُر شعرًا فهو شاعر؟ ألم يكن القياس أن يقال: شعُر شَعارة فهو شعير، والفصاحة والشعر من باب واحد؟
وهذا السؤال وإن كان في ظاهر الرأي لغوًا وعبثًا ولكنه دقيق في تاريخ اللغة وأقيستها، ولا محل لبسط الكلام عليه في هذا الموضع، غير أني أنهيتُ الخبر للدكتور صرُّوف وقلت له: إن صاحبك هذا يضع قواعد اللغة في الميزان الذي في حانوته … وأنت كذلك تعالج بعض الألفاظ أحيانًا ببعض الغازات والحوامض.
قلت هذا؛ لأني لم أسلِّم له قط فيما كان يراه في مثل البِذار والتقاوي، على أنه قيَّد الكلام بقوله: «فيما نكتبه لهم.» وهذا احتراس يُدافِع عنه بقوة كما ترى.
ولا يمتري أحد في أن هذه النهضة اللغوية التي أدركناها وعملنا فيها لم تكن سوى نمو طبيعي لعمل رجال أفذاذ نظن الدكتور صروف في طليعتهم؛ لأنه كان أطولهم جهادًا وأكثرهم عملًا وأظهرهم أثرًا؛ وكان المقتطف يجيء لها كل شهر كأنه قطعة زمنية مسلَّطة بناموس كناموس النشوء، حتى لَألمَّ هذا المقتطف أن يكون عصرًا من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقد كاشفني الدكتور في آخر أيامه أنه كان يودُّ لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصلح أن يقال فيه: إنه معجم الشعب، وفصَّل لي طريقته؛ إذ كنتُ أكلمه في كتاب لغوي افتتحتُ العمل فيه من زمن ولا يعرف أحد من أمره خبرًا فقال لي: خذ بين طريقتي وطريقتك، وامضِ أنت في هذا العمل؛ فإني لو وجدتُ فراغًا لما عدلتُ بهذا الأثر شيئًا، وما كل سهل هو سهل …
على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرَّغ للغة وتوفَّر عليها واجتمع لها بذلك العمر وتلك العلوم والأدوات، لكان فيها بأمة من الأشياخ الماضين من لدُن أبي عمرو بن العلاء إلى الدكتور يعقوب صرُّوف، ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هو أوسع من أن يضيق … لإمام آخر كأبي علي الفارسي، يُفرِغ سبعين سنة لفرع واحد من علوم اللغة هو علم القياس والاشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه وسدَمَه على ما قال تلميذه ابن جِنِّي: «لا يعتاقُه عنه ولدٌ، ولا يُعارضه فيه متجرٌ، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا؛ فكأنه إنما كان مخلوقًا له.»
وهذا باب يحتاج إلى التسمُّح والتساهُل؛ إذ لا يمكن تحقيقه، ولا تتفق الحيطة فيه، وليس إلا أن يتلوَّح شيء منه ويسنَح شيء وتتلامَح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور في بعض الدلالة على استحكام ملكة الوضع فيه، ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويستخرج من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضعة آلاف سنة، وأنا الساعة أُعانُّ ذاكرتي وأُدِيرها من ها هنا وها هنا لأجد، كلمة، قال لي مرة في تاريخها: إن العرب أخذوها عن اليونان حين كانت مكة نفسها جارية في حكمهم، ولكن أُنسيتُ هذه الكلمة؛ إذ لم أرتبطها، وإذ كنتُ لا أرى هذا المذهب ولا أُحسن أن أقول فيه قولًا، وأعدُّ كلَّ ما يقال فيه من باب تلفيق الأدلة، كأنه ذئب ذلك الأعرابي الذي يريد أن يجعل في الناس منه مثل غرائز الغنم … فيقول: «إلَّا ترَهْ تظُنَّهْ.»
وكان شيخنا في آخر مجالسي معه قبل وفاته بشهر أو نحوه، أطلعني على كل ما نشره في مجلدات «المقتطف» من شعره، فأعجبتُ بأشياء منه، وأشرتُ على صديقنا الأستاذ فؤاد صروف أن يُعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عن الإنجليزية في نسق سَلِس موشَّح القوافي، والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي المدنية:
وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره: في أي طبقة تعدُّني من شعرائهم؟ ففكرتُ قليلًا ثم قلت له: في طبقة الدكتور صروف! فضحك لها كثيرًا.
وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها في آخر عهده، ومما قاله لي مرة: إن الذي يريد أن يَخلُد ذكرُه في هذا الشرق فلا يُنسَى، لا ينبغي له أن يطمع في هذا إلا إذا بَنى هرمًا كهرم الجيزة! وهي كلمة فلسفية كبيرة تنطوي على شرح طويل يعرفه من يعرفه.
وإنه ليحضرني بعد هذا كلام كثير في فضائل الدكتور وآدابه وشمائل نفسه الزكية ومنزعه في الأخلاق الطيبة الكريمة، ولو ذهبتُ أفصِّل لخرجتُ إلى الإفاضة في فنون مختلفة، ولكني أجتزئ من كل ذلك بأنه كان يَظهَر لي دائمًا كأنه في ظل من محبة الله.