رأي جديد في كتب الأدب القديمة
أدب الكاتب لابن قتيبة من الدواوين الأربعة التي قال ابن خلدون فيها من كلامه على حد علم الأدب: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي «أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«كتاب الكامل» للمُبَرِّد، و«كتاب البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «النوادر» لأبي علي القَالِي البغدادي؛ وما سوى هذه الأربعة فتَبَعٌ لها وفروع عنها.»
وقد يظن أدباء عصرنا أن كلمة ابن خلدون هذه كانت تصلح لزمنه وقومه، وأنها تتوجَّه على طريقة مَن قبلهم في طبقة بعد طبقة إلى أصول هذه السلسلة التي يقولون فيها: حدثنا فلان عن فلان إلى الأصمعي أو أبي عبيدة أو أبي عمرو بن العلاء وغيرهم من شيوخ الرواية ونَقَلَة اللغة. ولكنها لا تستقيم في آدابنا ولا تُعَدُّ من آلاتنا ولا تقع من معارفنا، بل يكاد يذهب من يتغرَّر منهم بالآراء الأوروبية التي يسميها عِلْمه … ومن يسترسل إلى التقليد الذي يسميه مذهبه … إلى أن تلك الكتب وما جرى في طريقتها هي أموات من الكتب، وهي قبور من الأوراق، وأنه يجب أن يكون بيننا وبينها من الإهمال أكثر مما بينها وبيننا من الزمن، وأن بعث الكِتاب منها وإحياءه يوشك أن يكون كبعث الموتى؛ علامة على خراب الدنيا …
وقلما تنبَّه أحدٌ إلى السبب في هذا؛ والسبب في حقارته وضعفه «كالمكروب»؛ بذرةٌ طامسةٌ لا شأن لها، ولكن متى تُنبِتْ تُنبِتْ أوجاعًا وآلامًا وموتًا وأحزانًا ومصائب شتَّى.
وما أخطأ المتقدمون في تسميتهم هذه الكتب أدبًا؛ فذلك هو رسم الأدب في عصرهم، غير أن هذا الرسم قد انتقل في عصرنا نحن، فإنا نحن المخطئون اليوم في هذه التسمية، كما لو ذهبنا نسمي الجمل في البادية «الإكسبريس»، والهودج عربة «بولمان».
ومن هذا الخطأ في التسمية ظهر الأدب العربي لقصار النظر كأنه تكرار عصر واحد على امتداد الزمن، فإن زاد المتأخِّر لم يأخذ إلا من المتقدم؛ وصارت هذه الكتب كأنها في جملتها قانون من قوانين الجنسية نافذُ الجنسية نافذٌ على الدهر، لا ينبغي لعصر يأتي إلا أن يكون من جنس القرن الأول.
هذه الكتب من هذه الناحية كالخلِّ: يُسمَّى لك عسلًا ثم تذوقه فلا يجني عليه عندك إلا الاسم الذي زُوِّر له؛ أما هو فكما هو في نفسه وفي فائدته وفي طبيعته وفي الحاجة إليه، لا ينقص من ذلك ولا يتغير.
ومن ثَمَّ جاءت هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد لا يختلف في الجملة فهي أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيق وتمحيص، وإنما تتفاوت بالزيادة والنقص والاختصار والتبسط والتخفيف والتثقيل ونحو ذلك فما هو في الموضوع لا في الوضع، حتى لَيُخيَّل إليك أن هذه كتب جغرافية لِلُّغة وألفاظها وأخبارها؛ إذ كانت مثل كتب الجغرافية؛ متطابقة كلها على وصف طبيعة ثابتة لا تتغير معالمُها ولا يَخلُقُ غيرَها إلا الخالقُ — سبحانه وتعالى.
وإذا تدبَّرتَ هذا الذي بيَّناه لم تعجب كما يعجب المتطفِّلون على الأدب العربي والمتخبِّطون فيه من أن يَرَوْا إيمان المؤلِّفين متصلًا بكتبهم ظاهر الأثر فيها، وأنهم جميعًا يقررون إنما يريدون بها المنزلة عند الله في العمل لحياطة هذا اللسان الذي نزل به القرآن وتأديتِه في هذه الكتب إلى قومهم كما تُؤدَّى الأمانة إلى أهلها، حتى لولا القرآنُ لما وُضع من ذلك شيء البتة.
وأنا أتلمَّح دائمًا العامل الإلهي في كل أطوار هذه اللغة وأراه يُديرها على حفظ القرآن الذي هو معجزتها الكبرى، وأرى من أثره مجيءَ تلك الكتب على ذلك الوضع، وتسخير تلك العقول الواسعة من الرواة والعلماء والحفَّاظ جيلًا بعد جيل في الجمع والشرح والتعليق بغير ابتكار ولا وضع ولا فلسفة ولا زيغ عن تلك الحدود الموسومة التي أومأنا إلى حكمتها، فلو أنه كان فيهم مجددون من طراز أصحابنا من أهل التخليط، ثم تُرِك لهم هذا الشأن يتولَّوْنه كما نرى بالنظر القصير والرأي المعانِد والهوى المنحرف والكبرياء المصمِّمة والقول على الهاجس والعلم على التوهم ومجادلة الأستاذ حيص للأستاذ بيص … إذن لَضربَ بعضُهم وجهَ بعض وجاءت كتبهم متدابرة، ومُسِخ التاريخ وضاعت العربية وفسد ذلك الشأن كله، فلم يتسق منه شيء.
ومما تردُّه على قارئها تلك الكتبُ في تربيته للعربية أنها تُمكِّن فيه للصبر والمعاناة والتحقيق والتورُّك في البحث والتدقيق في التصفُّح، وهي الصفات التي فقدها أدباء هذا الزمن، فأصبحوا لا يتثبَّتون ولا يُحقِّقون، وطال عليهم أن ينظروا في العربية، وثقُل عليهم أن يستبطِنوا كتبَها؛ ولو قد تربَّوْا في تلك الأسفار، وبذلك الأسلوب العربي لتمَّت الملاءمة بين اللغة في قوتها وجزالتها وبين ما عسى أن يُنكِره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته وكانوا أحقَّ بها وأهلها.
وذلك بعينه هو السر في أن مَن لا يقرون تلك الكتب أول نشأتهم، لا تراهم يكتبون إلا بأسلوب منحطٍّ، ولا يجيئون إلا بكلام سقيم غثٍّ، ولا يرون في الأدب العربي إلا آراءً مُلْتَوية؛ ثم هم لا يستطيعون أن يقيموا على درس كتاب عربي؛ فيُساهِلون أنفسهم ويحكمون على اللغة والأدب بما يشعرون به في حالتهم تلك، ويتورَّطون في أقوال مضحكة، وينسَوْن أنه لا يجوز القطع على الشيء من ناحية الشعور ما دام الشعور يختلف في الناس باختلاف أسبابه وعوارضه، ولا من ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها؛ وهم أبدًا في إحدى الناحيتين أو في كلتيهما.
•••
وهذا شرح الجواليقي من أمتع الكتب التي أشرْنا إليها، وصاحبه هو الإمام أبو منصورٍ موهوبٌ الجواليقي المولود في سنة ٤٦٥ للهجرة، والمتوفَّى سنة٥٤٠، وهو من تلاميذ الإمام الشيخ أبي زكريا الخطيب التبريزي؛ أول مَن درَّس الأدب في المدرسة النظامية ببغداد، وقرأ الجواليقي على شيخه هذا سبع عشرة سنة، استوفى فيها علوم الأدب من اللغة والشعر والخبر والعربية بفنونها، ثم خَلَف شيخَه على تدريس الأدب في النظامية بعد علي بن أبي زيد المعروف بالفصيحى.
وما نشُكُّ أن هذا الشرح هو بعض دروسه في تلك المدرسة، فأنت من هذا الكتاب كأنك بإزاء كرسي التدريس في ذلك العهد، تسمع من رجل انتهت إليه مما هو بسبيله من الشرح، معنيٌّ بالتصريف ووجوهه مما انتهى إليه من أثر الإمام ابن جِنِّي فيلسوف هذا العلم في تاريخ الأدب العربي، فإن بين الجواليقي وبينه شيخين كما تعرف من إسناده في هذا الشرح.
وكان ورعًا قوي الإيمان، انتهى به إيمانه وعلمه وتقواه إلى أن صار أستاذ الخليفة المقتفي لأمر الله، فاختصَّ بإمامته في الصلوات، وقرأ عليه المقتفى شيئًا من الكتب، وانتفع بذلك وبان أثره في توقيعاته كما قالوا.
فالمسموع من هذه الألفاظ عن العرب لا يتجاوز سبعًا فيما نرى، والباقي كله أجراه علماء اللغة وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس منها أربعًا وثلاثين كلمة، ولو تدبرت كيفية استخراجها ورجعت إلى الأصول التي أخذت منها لأيقنت أن هذه العربية هي أوسع اللغات كافة، وأنها من أهلها كالنبوة الخالدة في دينها القوي؛ تنتظر كل جيل يأتي كما ودَّعت كلَّ جيل غبر لأنها الإنسانية، لهؤلاء وهؤلاء.
إن ظهور مثل هذا الشرح كالتوبيخ لأكثر كُتَّاب هذا الزمن أن اقرءوا وادرسوا وخصوا لغتكم بشطر من عنايتكم، وتربَّوْا لها بتربيتها في مدارسكم ومعاهدكم، واصبروا على معاناتها صبر المحب على حبيبته، فإن ضعفتم فصبر البار على مَن يَلزَمه حقُّه؛ فإن ضعفتم عن هذا فصبر المتكلِّف المتجمِّل على الأقل!