أمير الشعر في العصر القديم
الوجه في إفراد شاعر أو كاتب من الماضين بالتأليف، أن تصنع كأنك تعيده إلى الدنيا في كتاب وكان إنسانًا،وترجعه درسًا وكان عمرًا، وتردُّه حكاية وكان عملًا، وتنقله بزمنه إلى زمنك، وتعرضه بقومه على قومك، حتى كأنه بعد أن خَلقه الله خِلقةَ إيجاد يَخلُقه العقلُ خِلقةَ تفكير.
والتجديد في الأدب إنما يكون من طريقتين: فأما واحدة؛ فإبداع الأديب الحي في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة والبيان، وأما الأخرى؛ فإبداع الحي في آثار الميت بما يتناولها به من مذاهب النقد المستحدثة وأساليب الفن الجديدة وفي الإبداع الأول إيجاد ما لم يوجد، وفي الثاني إتمام ما لم يتم؛ فلا جرم كانت فيهما معًا حقيقة التجديد بكل معانيها، ولا تجديد إلا من ثَمَّةَ، فلا جديد؛ إلا مع القديم.
وإذا تبيَّنتَ هذا وحققته أدركت لماذا يتخبط منتحلو الجديد بيننا وأكثرهم يدعيه سفاهًا ويتقلده زورًا، وجملة عملهم كوضع الزنجي الذَّرور الأبيض «البودرة» على وجهه ثم يذهب يدَّعي أنه خرج أبيض من أُمِّه لا من العلبة … فإن منهم مَن يصنع رسالة في شاعر وهو لا يفهم الشعر ولا يحسن تفسيره ولا يجده في طبعه؛ ومنهم من يدرس الكاتب البليغ وقد باعده الله من البلاغة ومذاهبها وأسرارها، ومنهم من يُجدِّد في تاريخ الأدب، ولكن بالتكذُّب عليه والتقحُّم فيه والذهاب في مذهب المخالفة، يضرب وجه المُقبِل حتى يجيء مُدبِرًا، ووجه المدبر حتى يعود مقبلًا، فإذا لكل فريق جديد، وينسى أن جديده بالصنعة لا بالطبيعة وبالزور لا بالحق.
ألا إن كل مَن شاء استطاع أن يَطبَّ لكل مريض، لا يكلِّفه ذلك إلا قولًا يقوله وتلفيقًا يُدبِّره، ولكن أكذلك كل من وصف دواء استطاع أن يَشفِي به؟
وبعد؛ فقد قرأت رسالة امرئ القيس التي وضعها الأديب السيد محمد صالح سمك، فرأيتُ كاتبَها — مع أنه ناشئ بعدُ — قد أدرك حقيقة الفن في هذا الوضع من تجديد الأدب، فاستقام على طريقة غير ملتوية، ومضى في المنهج السديد، ولم يدَّعِ التثبُّت وإنعام النظر وتقليب الفكر وتحصين الرأي، ولا قصَّر في التحصيل والاطلاع والاستقصاء، ولا أراه قد فاته إلا ما لا بد أن يفوت غيره مما ذهب في إهمال الرواة المتقدمين وأصبح الكلام فيه من بعدهم رَجْمًا بالغيب وحكمًا بالظن.
فإن امْرَأ القيس في رأيي إنما هو عقل بياني كبير من العقول المفردة التي خَلَقتْ خِلْقتها في هذه اللغة، فوَضع في بيانها أوضاعًا كان هو مبتدعها والسابق إليها، ونهَجَ لمَن بعده طريقتها في الاحتذاء عليها والزيادة فيها والتوليد منها؛ وتلك هي منقبته التي انفرد بها والتي هي سر خلوده في كل عصر إلى دهرنا هذا وإلى ما بقيت اللغة؛ فهو أصل من الأصول، في أبواب من البلاغة كالتشبيه والاستعارة وغيرهما، حتى لكأنه مصنع من مصانع اللغة لا رجل من رجالها؛ وكما يقال في أيامنا في أمم الصناعة: سيارة فورد وسيارة فيات، يمكن أن يقال مثل ذلك في بعض أنواع البلاغة العربية: استعارة امرئ القيس، وتشبيه امرئ القيس.
ولكن تحقيق هذا الباب وإحصاء ما انفرد به الشاعر وتأريخ كلماته البيانية مما لا يستطيعه باحث وليس لنا فيه إلا الوقوف عند ما جاء به النص.
ولقد نبهْنا في «إعجاز القرآن» إلى مثل هذا؛ إذ نعتقد أن أكثر ما جاء في القرآن الكريم كان جديدًا في اللغة، لم يُوضَع من قبله ذلك الوضع ولم يجرِ في استعمال العرب كما أجراه، فهو يصبُّ اللغة صبًّا في أوضاعه لأهلها لا في أوضاع أهلها؛ وبذلك يحقق من نحو ألف وأربعمائة سنة ما لا نظن فلسفة الفن قد بلغت إليه في هذا العصر؛ إذ حقيقة الفن على ما نرى أن تكون الأشياء كأنها ناقصة في ذات أنفسها ليس في تركيبها إلا القوة التي بُنيتْ عليها، فإذا تناولها الصَّنَعُ الحاذقُ الملهَم أضاف إليها من تعبيره ما يشعرك أنه خَلقَ فيها الجمال العقلي، فكأنها كانت في الخِلْقة ناقصة حتى أتمَّها.
وهذا المعنى الذي بيَّنَّاه هو الذي كان يحوم عليه الرواة والعلماء بالشعر قديمًا، يُحِسُّونه ولا يجدون بيانَه وتأويلَه، فترى الأصمعي مثلًا يقول في شعر لبيد: إنه طيلسانٌ طَبَري. أي محكَم متين، ولكن لا رَوْنق له؛ أي: فيه القوة وليس فيه الجمال؛ أي: فيه التركيب وليس فيه الفن.
والعقل البياني — كما قلنا في غير هذه الكلمة — هو ثروة اللغة، وبه وبأمثاله تعامَلَ التاريخ، وهو الذي يحقق فيها فنَّ ألفاظها وصورها؛ فهو بذلك امتدادها الزمني وانتقالها التاريخي وتخلُّقها مع أهلها إنسانيةً بعد إنسانية في زمن بعد زمن، ولا تجديد ولا تطور إلا في هذا التخلُّق متى جاء من أهله والجديرين به؛ وهو العقل المخلوق للتفسير والتوليد وتلقِّي الوحي وأدائه واعتصار المعنى من كل مادة، وإدارة الأسلوب على كل ما يتصل به من المعاني والآراء، فينقلها من خِلْقتها وصيغها العالية إلى خلقِ إنسانٍ بعينه، هو هذا العبقري الذي رُزق البيان.
وقد ترى الأدباء أوَّلًا يُوازِنون بشعره — يريد: امرأ القيس — فلانًا وفلانًا ويضمُّون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وَازَنوا بين شعر مَن لقِيناه — توفي الباقلاني سنة ٤٠٣ للهجرة — وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضَّلوهم عليه أو سوَّوْا بينهم وبينه أو قرَّبوا موضع تقدُّمه عليهم وبُرُوزه بين أيديهم. ا.ﻫ.
ومعنى كلامه أن امرأ القيس أصل في البلاغة، قد مات ولا يزال يُخلَق، وتطوَّرتِ الدنيا ولا يزال يَجيء معها، وبلغ الشعر العربي غايته ولا تزال عربيتة عند الغاية.
وعرض الباقلاني في كتابه طويلة امرئ القيس فانتقد منها أبياتًا كثيرة، ليدل بذلك على أن أجود شعر وأبدعه وأفصحه وما أجمعوا على تقدُّمه في الصناعة والبيان، هو قبيلٌ آخر غير نظم القرآن لا يمتنع من آفات البشرية ونقصها وعُوارها؛ فرَكِب في ذلك رأسه ورجليه معًا … فأصاب وأخطأ، وتعسَّف وتهدَّى، وأنصف وتحامل؛ وكل ذلك لمكانة امرئ القيس في ابتكاره البياني الذي لا يمكن أن يُدفَع عنه؛ ولما انتقد قوله:
قال: «فقد قالوا: عَنَى بذلك أنها كبيضةِ خِدْر في صفائها ورِقَّتها، وهذه كلمة حسنة ولكن لم يَسْبِق إليها بل هي دائرة في أفواه العرب.» ألا ليت شعري هل كان الباقلاني يسمع من أفواه العرب في عصر امرئ القيس قبل أن يقول: «وبيضة خدر»؟!
فتلك بعض معاني الكلمة وهي كما ترى، وكذلك ينبغي أن يُفسَّر البيان …