المقتطف والمتنبي
المقتطف شيخ مجلَّاتنا؛ كلُّهن أولاده وأحفاده؛ وهو كالجد الأكبر؛ زمن يجتمع، وتاريخ يتراكم، وانفراد لا يُلحق، وعلم يزيد على العلم بأنه في الذات التي تفرض إجلالها فرضًا وتجب لها الحرمة وجوبًا ويتضاعف منها الاستحقاق فيتضاعف لها الحق.
وهل الجد إلا أبوَّةٌ فيها أبوَّةٌ أخرى. وهل هو إلا عرشٌ حيٌّ درجاته الجيل تحت الجيل، وهل هو إلا امتدادٌ مسافاتُه العصر فوق العصر؟
وقد بدأ المقتطف مجلده الثامن والثمانين بعددٍ ضخم أفرده للمتنبي. ولئن كانت الأندية والمجلات قد احتفلت بهذا الشاعر العظيم، فما أحسب إلا أن روح الشاعر العظيم قد احتفلت بهذا العدد من المقتطف.
ولستُ أغلو إذا قلت: إن هذه الروح المتكبِّرة قد أظهرتْ كبرياءها مرة أخرى، فاعتزلتِ المشهورين من الكُتَّاب والأدباء، ولزمتْ صديقَنا المتواضع الأستاذ محمود شاكر مدة كتابته هذا البحث النفيس الذي أخرجه المقتطف في زُهاء ستين ومائة صفحة، تدلُّه في تفكيره، وتُوحي إليه في استنباطه، وتُنبِّهه في شعوره، وتُبصِّره أشياء كانت خافية، وكان الصدقُ فيها، ليردَّ بها على أشياء كانت معروفة، وكان فيها الكذبُ، ثم تُعِينه بكل ذلك على أن يكتب الحياة التي جاءت من تلك النفس ذاتها، لا الحياة التي جاءت من نفوس أعدائها وحُسَّادها.
ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيتُ في قراءة هذا العدد — أن المؤلِّف جاء بما يصح القول فيه إنه كتبَ تاريخ المتنبي ولم ينقله؛ ثم لم أكَدْ أُمعِن في القراءة حتى خُيِّل إليَّ أنه قد وضع لشعر المتنبي بعد تفسير الشُّرَّاح المتقدمين والمتأخرين تفسيرًا جديدًا من المتنبي نفسه، وما الكلمة الجديدة في تاريخ هذا الشاعر الغامض إلا الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم.
إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فإن الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ وقد كان نفسًا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت، فكأنما جعلها بذلك زمنًا يمتد في الزمن.
وكان الرجل مطويًّا على سرٍّ أُلقِي الغموضُ فيه من أول تاريخه، وهو سر نفسه، وشر شعره، وسر قوته؛ وبهذا السر كان المتنبي كالمَلِك المغصوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعًا، فهو يتقي السيف بالحذر والتلفُّف والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والأمل.
ومن هذا السر بدأ كاتب المقتطف، فجاء بحثه يتحدَّر في نسق عجيب، متسلسلًا بالتاريخ كأنه ولادة ونمو وشباب؛ وعرض بين ذلك شعر أبي الطيب عرضًا خيل إليَّ أن هذا الشعر قد قيل مرة أخرى من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها؛ وبذلك انكشف السر الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم، إذ كانت في واعية الرجل دولة أضخم دولة، عجز عن خَلْقها وإيجادها فخَلَقها شعرًا أضخم شعر، وجاءت مبالغاته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحقِّقة في صورة من صور الإمكان اللغوي.
ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبه، فقال: إنه كان يحب خَوْلة أختَ الأمير سيف الدولة، وكتب في ذلك خمس عشرة صفحة كبيرة، وكأنها لم تُرضِه فقال: إنه كان يؤمل أن يكتب هذا الفصل في خمسين وجهًا من المقتطف؛ وهذا الباب من غرائب هذا البحث، فليس من أحد في الدنيا المكتوبة — أي: التاريخ — يعلم هذا السر أو يظنه، والأدلة التي جاء بها المؤلف تقف الباحث المدقِّق بين الإثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفيًا ولا إثباتًا في خبر جديد يكشفه الباحث ولم يهتدِ إليه غيرُه، فهذا حسبُك إعجابًا يُذكر، وهذا حسبه فوزًا يُعَدُّ.
ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنبي من سيف الدولة لقلتُ إن المؤلف قد صدق … فهناك موضع لا بد أن يُبحَث في القلب الشاعر الذي وَضَعتْ فيه الدنيا حِكْمتها، وطوَتْ فيه القوة سرها، وبثَّ فيه الجمال وحيه؛ وأصغرُ هذه الثلاث أكبر من الملوك والممالك، ولكن الحبيبة أكبر منها كلها …