القديم والجديد
وزعم الأستاذ أنه لا يفهم من كلامي هذه الجملة «وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا …» ثم دار بهذه الكلمات دورة العاصفة وجعلها مسألة كمسألة الدور والتسلسل المشهورة، بل جعلها من قبيل «قصة وقضية» … فتراه يقول: ذوقٌ هو الفهم، وفهمٌ هو الذوق، وفهم ليس بالذوق، وذوق ليس بالفهم، وهلمَّ صاعدًا ونازلًا؛ وضرب لنا مثلًا بالموسيقى فقال: «ما نظن أن الذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا.» وأنا أفسِّر كلامي بهذا المثل نفسه، أقتصِر عليه ولا أعْدُوه.
نأتي الآن بأستاذ قد برع في الموسيقى وخالطَتْ أعصابَه ولحمه ودمه، وندفع إليه قطعة ملحَّنة ونقول له: اسمع وافهم واحكم وانتقد؛ يسمعها مرة بعقله أو لعقله يتبيَّن ما يكون فيها صوابًا وما يكون خطأ، ثم ما يعلو عن الصواب من الإجادة والإتقان، وما ينحطُّ عن الخطأ من الإساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم.
ويسمعها مرة ثانية بحسِّه أو لحسِّه، فيرى أثرَ ما فهم، ويُديرها في ذَوْقه ليعرف كيف موقعها من الغرض الذي وُضعت له، فإنها لم تُوضع لتكون أصواتًا، بل لتَخلُق من الأصوات شيئًا؛ فهذا هو الذوق، وهو كما تراه بعدَ الفهم وناشئ عنه. ومثلُ الأستاذ طه حسين لا يخفى عليه أن مَن يقول: إن الذوق في شيء إنما هو فهمه، أو إنما هو عن فهمه، أو إنما ينشأ عن فهمه، فالعبارة في باب المجاز واحدة لا تختلف.
ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتين، أو مرة كمرتين إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان، يستفتي ذوقَه الفني ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق.
الآن قد حكم الأستاذ وانتقد وجزم برأيه، فنُدبَ له فلان يقول: أخطأتَ وأسأتَ وجهلت وغفلت، أو تعصَّبتَ وحططتَ في هوى صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلاف وكيف وقع هذا القول؟ بل كيف ساغ للثاني أن يُجهِّل الأول ويرى غير رأيه ويحكم غير حكمه، إلا إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوقًا وأحدث له الذوق حكمًا وجاءت من هذه المقدمات تلك النتيجة التي نسميها النقد، وما هي في الحقيقة إلا الذوق والفهم جميعًا، فالذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها ولا يفهمونها فقد فهموها على مقدار ما استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم من المطاوعة لهذه العاطفة؛ أَوَلا تراهم يقولون في أمثال هؤلاء: إن لهم آذانًا موسيقية؟ فهذه الأذن هي الفهم بعينه، لأنها حاسة اجتمعت من مران طويل، وقد تقوم في بعض الناس على جهله بالموسيقى مقام علم برأسه.
ويقول الأستاذ طه: إنه قد يقرأ كلامي ويفهمه ولا يذوقه، ولكن عدم الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي: «ومَن يكُ ذَا فمٍ مُرٍّ …»
ولو كان الأستاذ وأمثاله هم في هذا القياس المتر والكيلومتر، لوجب ألَّا أجد مَن يذوق كلامي ويعجب به ويُغالِي فيه ويكون ذَنْبًا من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالاة، وأنا واجدٌ بكل واحد مثل الأستاذ طه عشرة ومائة من غيره، ولو خرج هو إلى العالم لرأى وسمع، وفيهم مَن هم أعلى منه كعبًا وأمدُّ عنقًا وأضخمُ هامة وأبدعُ بديعًا وأبلغُ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات.
وعجبتُ للدكتور يريد أن لا يفهم من عبارتي كما يقول إلا أن «الذوق هو نفس الفهم، فاللفظان يدلان على معنًى واحد، وإذن وإذن وإذن …»
فهل يرى إذا قلت له: رأيت القمر وفلانة ليلة كذا فكانت إنما هي القمر — أني أقصد بهما معنًى واحدًا فيقول لها: «وإذن» فليسا شيئين مختلفين وإنما هو شيء واحد، وإذن فكيف صار لها وجه في السماء ووجه في الأرض وبقيتْ مع ذلك امرأة من الإنس؛ وإذن فهذا كلام لا يُفهَم …
قال بعضهم إن «لو» تفتح عمل الشيطان، يريد أنها أداة التمنِّي، والمذهب الجديد سيضم «إذن» إلى «لو» ثم ما هي الكلمة الثالثة يا ترى؟
أنا — مع إعجابي بالدكتور الفاضل — أرى أنه مستهتر بأشياء، وأن من خُلُقه أن ما لا يرضى عنه وما لا يفهمه «ليسا شيئين مختلفين». فإذا لم يكن من الفهم بُدٌّ قال: إنه لا يقتنع، فإذا ضايقتَه وضيقتَ عليه لم يبقَ إلا ما يقول النحاة في «أيٍّ» التي حيَّرهم إعرابها وبناؤها: أيٌّ كذا خُلِقتْ …
وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لأنها أساس الأمة الإسلامية فلا نرضى إلا أن يكون هذا الأساس ثابتًا متينًا لا يزعزعه شيء ولا يثلمه شيء ولا يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثاله لا يبالون أن تكون هذه الأمة كبُيوتِ أمريكا المتحركة …
لستُ أُنكِر التجديد، بل لعل الدكتور يذكر مناقشتي إياه في «الجريدة» وإصراره يومئذٍ أن ليس لأحد أن يُدخِل في اللغة كلمة، وأن قول الناس تنزُّهٌ ومتنزَّهٌ ونُزهة إلخ كلها من الكلام العاميِّ، وتعلُّقه بنصِّ ابن سِيدَهْ في ذلك، واستخراجي له نصَّ ابن قُتيبة وكلامًا كثيرًا من استعمال العلماء، ثم قوله أحسنتَ، ولكن لو جئتني باللفظة في كلام المُبرِّد والجاحظ وفلان وفلان ما اقتنعتُ.
إنما أُنكِر شيئًا واحدًا، وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقد وسَّع الله على الناس فيما علموا وفيما جهلوا، ولكن أصحابنا يريدون ألا نكتب إلا نمطًا بعينه، ولا نذهب إلا مذهبًا بعينه؛ لأن كل ذلك هو الجديد؛ فأيهما خيرٌ لنا ولهم وللذين سيُخرِجون تاريخهم من قبورنا: أن نعتدَّ اللغةَ والأدبَ كلَّ ما اجتمع من قديم وجديد ونُحكِم هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء في أثوابها وفي ألوانها دون تشويهٍ ولا مسخ ولا مس الجسم الجميل، أم نقول: هذه الشفةُ وهذا الأنفُ وهذا الموضع الممتلئ الخَدِل وهذا الموضع الهضيم الناحل وتعالَ يا دكتور هاتِ المِبْضَعَ والمِشْرَط والمِقَصَّ والمنشار والإبرة والخيط وإذن …؟
ويقول الدكتور طه: إن هناك قومًا ينصرون المذهب الجديد وليس لهم من اللغات الأجنبية وآدابها حظٌّ، وحظهم من اللغة العربية وآدابها موفور؛ ثم طلب رأيي في هؤلاء وما أصلُ مذهبهم الجديد؛ فأقول: إني أعرف بعضهم، وأعرف أن أدمغتهم لا يشبهها شيء إلا جلود بعض الكتب التي ليس فيها إلا متنٌ وشرحٌ وحاشية؛ جلد ملفوف على ورق، وورق ينطوي على قواعد محفوظة، وهم أفقر الناس إلى الرأي؛ وهذه علة حُبِّهم للأساليب الجديدة القائمة على الترجمة ونقل الآراء من الغرب إلى الشرق، وبالمعنى الصريح المكشوف: من الأدمغة المملوءة إلى الأدمغة الفارغة، وفيهم بعض أذكياء، ولكن ذكاءهم في حواسِّهم، فإن لم يكن هذا فليقولوا هم لماذا؟
ولو أنك سألتَ العنكبوتَ: ما هي الظبية الحَوْارء العَيْناء التي تطمعِينَ فيها وتنصبين لها كل هذه الأشراك والحبائل؟ لقالتْ لك: مهلًا حتى تقع فتراها! فإذا وَقَعَتْ رأيتَها ثَمَّةَ ورأيتَها ذبابة …
ولكن ماذا يقول الدكتور في الأستاذ الإمام الكبير الشيخ محمد عبده؟ أكان يدعو إلى مذهب جديد في اللغة والأدب ويفتتن بالروايات الغرامية وبأسلوب «إميل زولا» في روايته المعروفة وبمثل رواية «ألا جَرْسُون».
إن كان الناس عند الدكتور من بعض الحجج فإن الشيخ وحده بأمة كاملة ممن يعنيهم.
وأختتم هذه الكلمة بالشكر للأستاذ طه حسين والثناء عليه، ثم إني مسترسل في عملي، وهذا عذري إليه.