كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة
أكتب إليك متعجِّلًا بعد أن قرأتُ «كلمة كافرة» في «كوكب الشرق» الصادر مساء الجمعة ٢٧ من أكتوبر؛ كتبَها متصدِّر من نوع قولهم: حبَّذا الإمارةُ ولو على الحِجَارة … وسمَّى نفسَه «السيد»، فإن صدقَ فيما كتبَ صدقَ في هذه التسمية.
طعنَ القرآنَ وكفرَ بفصاحته، وفضَّل على آية من كلام الله جملةً من أوضاع العرب، فعقدَ فصلَه بعنوان «العَثَرات» على ذلك التفضيل، كأنَّ الآية عثرة من عثرات الكتاب يُصحِّحها ويقول فيها قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة؛ وبَرْقَعَ وجهَه وجبُن أن يستعلن، فأعلنَ بزندقته أنه حديث في الضلالة.
غلى الدمُ في رأسي حين رأيتُ الكاتب يلجُّ في تفضيل قول العرب: «القتلُ أَنْفَى للقتل.» على قول الله — تعالى — في كتابه الحكيم: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، فذكرتُ هذه الآية القائلة: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ وهذه الآية: شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ؛ثم هممتُ بالكتابة فاعترضني ذِكْرُك، فألقيتُ القلم؛ لأتناولَه بعد ذلك وأكتبَ به إليك.
ففي عنقك أمانةُ المسلمين جميعًا لتكتبَنَّ في الردِّ على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إنْ تُرِكتْ تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلت اِلبَرَّ فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً.
والسلام عليكم ورحمة الله.
قرأتُ هذا الكتابَ فاقشعرَّ جسمي لوعيد النبي ﷺ، وجعلتُ أُردِّد الحديث الشريف أستكثر منه وأملأ نفسي بمعانيه، وإنه لَيَكثُر فيَّ كل مرة، فإذا هو أبلغ تهكُّم بالعلماء المتجاهلين، والجهلاء المتعالمين؛ وإذا هو يُؤخَذ من ظاهره أن العالِم الذي يكتم عِلْمَه النافع عن الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا، ويُؤخَذ من باطنه أن الجاهل الذي يبثُّ جهلَه الضارَّ في الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا مبرذعًا … أي: فهذا وهذا كلاهما من حمير جهنم!
ولَعَمْري وعَمْرُ أبيك — أيها القارئ — لو أن كاتبًا ذهب فأكل فخلط فتضلَّع فنام فاستثقل فحَلَم … أنه يتكلم في تفضيل كلمة العرب على تلك الآية، واجتهد جهده، وهو نائم ذاهب الوعي فلم يألُ تخريفًا واستطالة، وأخذ عقلُه الباطنُ يَكْنُس دماغَه ويُخرِج منه «الزبالة العقلية» ليُلقيها في طريق النسيان أو في طريق الشيطان — لَمَا جاء في شأوِه بأسخفَ ولا أبرد من مقالة «السيد» فسواءٌ أَوَقَع هذا التفضيل من جهة الهذيان والتخريف كما فعل كاتب النوم، أم وَقَع من جهة الخلط والخبط ما فعل كاتب الكوكب — فهذا من هذا، طِباقُ سخافةٍ بسخافة …
نعم إن مقالة «الكوكب» أفضل من مقالة الكاتب الحالم … ولكن قليل الزيت في الزجاجة التي أُهدِيتْ لِجُحَا لا يُعَدُّ زيتًا ما دام هذا القليل يطفو على ملء الزجاجة من … من البول!
فإن اشتبه على متأدِّب أو متشاعر أو ناشئ أو مُرْمَدٍ فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه، إنما يُخبِر عن نفسه، ويدل على عجزه، ويُبِين عن جهله، ويُصرِّح بسخافة فهمه وركاكة عقله. ما علينا …
قالت العرب قديمًا في معنى القصاص: «القتلُ أنفَى للقتل.» ثم أقبلَ القرآن الكريم على آثار العرب (هكذا) فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وقد مضتْ سُنَّة العلماء من أساطين البيان أن يعقدوا الموازنة بين مقالة العرب هذه وبين الآية الحكيمة أيتهما أشبه بالفصاحة (هكذا)، ثم يَخلُصون منها إلى تقديم الآية والبيان القرآني … ثم قال: مِن رأيِ كاتب هذه الكلمة تقديمُ الكلمة العربية على الآية الغرَّاء، (اللهم غفرًا) على ثَلْجِ الصدْر بإعجاز القرآن (كلمة للوقاية من النيابة … وإلا فماذا بقي من الإعجاز؟!) وقد عجزتِ الآية؟ زِهْ زِهْ يا رجل.
ثم قال: إن فيما تُقدَّم به الكلمة العربية على الآية الحكيمة (اللهم غفرًا) مزايا ثلاثًا: أولى هذه المزايا الثلاث: هذا الإيجاز الساحر فيها؛ ذلك أن: «القتلُ أنفى للقتل» ثلاث كلمات لا أكثر، أما الآية فإنها سبع كلمات (كذا) وعلى تلك فهي أقدم عهدًا وأسبق ميلادًا من آية التنزيل (تأمل) حاشا كلامَ الله القديم، والإيجاز مِيزةٌ أيَّةُ ميزة. الميزة الثانية للكلمة: الاستقلال الكتابيُّ وفَقْدُ التعاقُد بينها وبين شيء آخر سابقٍ عليها، حتى إن المتمثِّل بها المستشهِد يبتدئ بها حديثًا مُستتِمًّا ويختتمه في غير مزيد ولا فضل، فلا يتوقَّف ولا يستعين بغيرها، أما الآية فإنها منسوقة مع ما قبلها بالواو، فهي متعاقِدة مترابِطة معه، لا يَتمثَّل بها المتمثِّل حتى يستعين بشيء سواها، وليس الذي يعتمد على غيره فلا يستقل كالذي يعتمد على نفسه فيستقل. الميزة الثالثة: أن الكلمة ليست متصلة في آخرتها بفضلٍ من القول تُغنِي عنه، على حين تتصل الآيةُ بما تُغني عنه من القول. ويُعتَدُّ كالفضل وهو كلمتا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وإن كان لا زيادة في القرآن ولا فضول.
ثم قال: إنَّ مُدَرِّسًا جاءه بالفصل الذي عقده الإمام السيوطي في كتابه «الإتقان» لتفضيل الآية على الكلمة وفيه قرابة خمسة وعشرين حُجَّة؛ قال: إنها انحطَّت بعد أن رماها بنظره العالي إلى أربع: «أما الباقيات فمن نسج الانتحال والتزيد»، قال: وأولاها: أن الآية أوجز لفظًا، والكاتب يرى الآية: «سبع كلمات في تحديد ودقة»، قال: إذن لقد بطلَتْ حجةُ الإيجاز في الآية (اللهم غفرًا). قال: والثانية: «أن في الكلمة العربية تكرارًا لكلمة القتل سَلِمَتِ الآية منه»، وردَّ الكاتب أن هذا التكرار: «يتحلَّل طلاوة ويقطر رقة، «قال»: وهذا فمي فيه طعم العسل.» «قلنا: وعليه الذباب يا سيدنا …» والثالثة: أن في الآية ذكرًا للقصاص بلفظه على حين لا تذكر الكلمة إلا القتل وحده، وليس كل قتل قصاصًا؛ ودفع الكاتب هذا بأن الكلمة انطوت على قتلين أحدهما ينفي صاحبه، فذاك هو القصاص؛ قال: «إذن فالكلمة والآية في قصد القصاص يلتقيان فرَسَيْ رِهان.» والرابعة: أن القصاص في الآية أعمُّ يشمل القتلَ وغيره. وأقرَّ الكاتب أن للآية فضلًا على الكلمة من هذه الناحية، ولكن الكلمة حِكْمةٌ لا شريعة، وهي من قضاء الجاهلية، فليس عليها أن تُبيِّن ما لم يعرفه العرب ولم يُخلَق بعدُ، قال: «إذن فليست الكلمة مُقصِّرة عن بيان، مُتبلِّدة عن إحسان.»
هذا كلُّ مقالِه بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما لا طائل تحته، ونحن نستغفر الله ونستعينه ونقول قولنا، ولكنا نُقدِّم بين يدي ذلك مسألة، فمن أين للكاتب أن كلمة: «القتل أنفى للقتل» مما صحَّتْ نسبتُه إلى عرب الجاهلية، وكيف له أن يُثبِت إسنادها إليهم وأن يوثِّق هذا الإسناد حتى يستقيم قوله: إن القرآن أقبلَ على آثار العرب؟ …
أنا أُقرِّر أن هذه الكلمة مولَّدة وُضعتْ بعدَ نزول القرآن الكريم وأُخذتْ من الآية، والتوليد بيِّن فيها، وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلى الكاتب أن يَدفَع هذا بما يُثبِت أنها مما صحَّ نقله عن الجاهلية؛ ولقد جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله:
«الدم يحرسه الدم» هذه هي الصناعة وهذه هي البلاغة لا تلك، ومع هذا فكلمة الشاعر مولَّدة من الآية، يدل عليها البيت كله؛ وكأن أبا تمام لم يكن سمع قولهم: «القتل أنفى للقتل»، وأنا مستيقنٌ أن الكلمة لم تكن وُضعتْ إلى يومئذٍ.
ولو أن متمثلًا أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فانتزع منه هذا المثل «الدم يحرسه الدم»، أيكون حَتْمًا من الحتم أن يقال له: كلَّا يا هذا فإن البيت سبع كلمات فلا يصح انتزاع المثل منه ولا بد من قراءة البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في الآية الكريمة ليزعم أنها لا تقابل الكلمة العربية في الإيجاز؟
إن الذي في معاني الآية القرآنية مما ينظر إلى معنى قولهم «القتل أنفى للقتل» كلمتان ليس غير، وهما «القصاص حياة»؛ والمقاتلة في المعاني المتماثلة إنما تكون بالألفاظ التي تؤدي هذه المعاني دون ما تعلَّقت به أو تعلَّق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصل غيره به؛ إذ الموازنة بين معنيين لا تكون إلا في صناعة تركيبهما، ويُخيَّل إليَّ أن الكاتب يريد أن يقول إن باقي الآية الكريمة لغو وحشو، فهو حميلة على الكلمتين: القصاص حياة، يريد أن يقولها، ولكنه غصَّ بها، وإلا فلماذا يلجُّ في أنه لا بد في التمثل، أي: لا بد في المقابلة، من رد الآية بألفاظها جميعًا؟
فإذا قيل: إنه لا يجوز أن يتغيَّر الإعراب في الآية، ويجب أن يكون المثل منتزعًا منها على التلاوة، قلنا: فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذٍ هو هذا: «في القصاص حياة.» وجملتها اثنا عشر حرفًا، مع أن الكلمة أربعة عشر، فالإيجاز عند المقابلة هو في الآية دون الكلمة.
وأما قوله — تعالى: يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لو كان الكاتب من أولي الألباب لفهمها وعرف موقعها وحكمتها، وأن إعجاز الآية لا يتم إلا بها؛ إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشير إليه، ولكن أنى له وهو من الفن البياني على هذا البعد السحيق؛ لا يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها؛ ما فيه من شيء يُظهِره إلا ومن ورائه سرٌّ يُحقِّقه؟!
ثم إن الإيجاز في الكلمة العربية ليس من «الإيجاز الساحر» كما يصفه الكاتب، بل هو عندنا من الإيجاز الساقط؛ وليس من قبيل إيجاز الآية الكريمة ولا يتعلق به فضلًا عن أن يُشبِهه؛ إذ لا بد في فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضَّل عليه، فيكون المعنى «القتل أكثر نفيًا للقتل من كذا»، فما هو هذا «الكذا» أيها الكاتب المتعثِّر؟
أليس تصوُّر معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها إلى الكلام السوقي المبتذل وأوقع فيها الاختلال؟ وهل كانت إلا صناعة شعرية خيالية ملفَّقة كما أومأنا إلى ذلك آنفًا، حتى إذا أجريتَها على منهجها من العربية رأيتَها في طريقة هذا الكلام العربي الأمريكاني كقول القائل: «الفرَحُ أعظمُ من التَّرح»، «الحياة هي التي تُعطَى للحياة» …؟
بهذا الردِّ الموجَز بطلتِ الميزات الثلاث التي زعمها الكاتب لتلك الكلمة، وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الآية ميزة واحدة فضلًا عن ثلاثة.
- (١)
إنها تُشبِه قولَ مَن يقول لك: إن قتلتَ خصمك لم يقتلك. وهل هذا إلا هذا؟
وهل هو إلا بلاغة من الهذيان؟
- (٢)
يخرج لشأنه إلا مُقرِّرًا في نفسه أنه إما قاتلٌ أو مقتول، ولذلك تكرر فيها القتلُ على طرفيها، فهو من أشنع التكرار وأفظعه.
- (٣)
إن فيها الجهل والظلم والهمجية، إذ كان من شأن العرب ألَّا تُسلِّم القبيلة العزيزة قاتلًا منها، بل تحميه وتمنعه، فتنقلب القبيلة كلها قاتلة بهذه العصبية؛ فمن ثَمَّ لا ينفي عار القتل عن قبيلة المقتول إلا الحرب والاستئصال قتلًا قتلًا وأكل الحياة للحياة، فهذا من معاني الكلمة: أي: القتلُ أنفى لعار القتل، فلا قصاص ولا قضاء كما يزعم الكاتب.
- (٤)
إن القتل في هذه الكلمة لا يمكن أن يُخصَّص بمعنى القصاص إلا إذا خصصَتْه الآية فيجيء مقترنًا بها، فهو مفتقر إليها في هذا المعنى، وهي تُلبِسه الإنسانية كما ترى، ولن يَدخُله العقلُ إلا من معانيها؛ وهذا وحده إعجازٌ في الآية وعجزٌ من الكلمة.
وقبل أن نُبيِّن وجوه الإعجاز في الآية الكريمة ونستخرج أسرارها، نقول لهذا الطفيلي: إنه ليس كل من استطاع أن يُطيِّر في الجو ورقةً في قصبة في خيط جاز له أن يقول في تفضيل ورقته على منطاد زبلين، وأن فيما تتقدَّم به على المنطاد الكريم ميزات ثلاثًا: الذيل، والورق الملوَّن، والخيط …
- (١) بدأ الآية بقوله وَلَكُمْ، وهذا قَيْدٌ يجعل هذه الآية خاصة بالإنسانية المؤمنة التي تطلب كمالَها في الإيمان، وتلتمس في كمالها نظام النفس، وتُقرِّر نظام النفس بنظام الحياة؛ فإذا لم يكن هذا متحققًا في الناس فلا حياة في القصاص، بل تصلح حينئذٍ كلمة الهمجية: القتل أنفى للقتل، أي: اقتلوا أعداءكم ولا تدعوا منهم أحدًا، فهذا هو الذي يُبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالآية الكريمة بدلالة كلمتها الأولى موجَّهة إلى الإنسانية العالية، لتوجِّه هذه الإنسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة.
- (٢) قال: فِي الْقِصَاصِ ولم يقل في القتل، فقيَّده بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة، فلا يمكن أن يكون منه المبادأة بالعدوان، ولا أن يكون منه ما يخرج عن قدْر المجازاة قلَّ أو كثُر.
- (٣)
تفيد هذه الكلمة «القصاص» بصيغتها — صيغة المُفَاعَلة — ما يُشعِر بوجوب التحقيق وتمكين القاتل من المنازعة والدفاع، وألَّا يكون قصاص إلا باستحقاق وعدْل؛ ولذا لم يأتِ بالكلمة من اقتصَّ مع أنها أكثر استعمالًا؛ لأن الاقتصاص شريعة الفرد، والقصاص شريعة المجتمع.
- (٤)
من إعجاز لفظة القصاص هذه أن الله — تعالى — سَمَّى بها قتل القاتل، فلم يسمِّه قتلًا كما فعلت الكلمة العربية؛ لأن أحد القتلين هو جريمة واعتداء، فنزَّه — سبحانه — العدلَ الشرعي حتى عن شَبَهِه بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السموِّ الأدبي في التعبير.
- (٥)
ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضِّرة عصرٌ لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شرًّا من قتل المقتول؛ لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة، على حين أن أخذ القاتل لقتله ليس فيه إلا نية قتله؛ فعبرتِ الآية باللغة التي تُلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يُراد بها من فلسفة العقوبة.
- (٦)
ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كل ضروب القصاص من القتل فما دونه، وعجيب أن تكون بهذا الإطلاق مع تقييدها بالقيود التي مرَّت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة، في حين أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق في صراحة أنها لغة الغريزة البشرية بأقبح معانيها؛ ولذلك كان تكرارها في المثل كتكرار الغلطة؛ فالآية بلفظة «القصاص» تضعك أمام الألوهية بعدْلها وكمالها، والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظُلمها.
- (٧)
ولا تنسَ أن التعبير بالقصاص تعبير يدع الإنسانية محلَّها إذا هي تخلَّصت من وحشيتها الأولى وجاهليتها القديمة، فيشمل القصاص أخذ الدية والعفو وغيرهما؛ أما المثل فليس فيه إلا حالة واحدة بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إلا أن يفترس.
- (٨)
جاءت لفظة القصاص مُعرَّفة بأداة التعريف، لتدل على أنه مقيَّد بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قوى التدمير الإنسانية فلا تصلح الإنسانية بغير تقييدها.
- (٩)
جاءت كلمة «حياة» منوَّنة، لتدل على أن ها هنا ليست بعينها مقيدة باصطلاح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية، وقد يكون فيه حياة سياسية، وقد تكون الحياة أدبية، وقد تعظم في بعض الأحوال عن أن تكون حياة.
- (١٠)
إن لفظ «حياة» هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير «بنفي القتل»؛ لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي: تَرْكُ الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئًا من المعاني السامية، وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج؛ وتعبير الكلمة العربية عن الحياة «بنفي القتل» تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق لا محل فيه لِعِلمٍ ولا تفكير، كالذي يقول لك: إن الحرارة هي نفي البرودة.
- (١١)
جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب ما في الشعر يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالًا، بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة.
- (١٢) فإذا تأمَّلتَ ما تقدَّم أنعمتَ فيه تحققتَ أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله: يَا أُولِي الْأَلْبَابِ فهذا نداء عجيب يسجد له مَن يفهمه؛ إذ هو موجَّهٌ للعرب في ظاهره على قدْر ما بلغوا من معاني اللُّبِّ،٥ ولكنه في حقيقته موجَّهٌ لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع، هم هؤلاء الذين يرون إجرامَ المجرم شذوذًا في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة، إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثَمَّ يرون أن لا عقاب على جريمة؛ لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى؛ وهذه فلسفة تحملها الأدمغة والكتب، وهي تُحوِّل القلب إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبَّههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم، كأنه يُقرِّر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي قبل ذلك باللُّبِّ والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا.
- (١٣) وانتهت الآية بقوله — تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن: يا أولي الألباب، إنه برهان الحياة في حكمة القصاص تسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبةَ خِلافه فاجعلوا وِجهتَكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد.
وبعدُ؛ فإذا كان في الآية الكريمة — على ما رأيتَ — ثلاثة عشر وجهًا من وجوه البيان المعجِز، فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسقطت الكلمة العربية ثلاث عشرة مرة.