قصَّةُ زواجٍ وفلسفةُ المَهْر
قال رسول عبد الملك: ويحك يا «أبا محمد»! لكأن دَمَكَ — والله — من عدوِّك؛ فهو يفور
بك
لتَلِجَّ في العناد فتُقتل، وكأنِّي بك — والله — بين سَبُعَيْن قد فغرا عليك؛ هذا عن
يمينك
وهذا عن يسارك، ما تفرُّ من حتفٍ
١ إلا إلى حتفٍ، ولا ترحمك الأنيابُ إلا بمخالبها!
ها هنا هشام بن إسماعيل عامل أمير المؤمنين، إن دخلَتْهُ الرحمة لك استوثق منك في
الحديد،
ورمى بك إلى دمشق، وهناك أمير المؤمنين، وما هو — والله — إلا أن يُطْعِمَ لحمَك السيفَ
يَعضُّ بك عضَّ الحيَّة في أنيابها السُّم؛ وكأنِّي بهذا الجنب مصروعًا لمضجعه، وبهذا
الوجه
مضرَّجًا بدمائه، وبهذه اللحية معفَّرة بترابها، وبهذا الرأس محتزًّا في يد «أبي
الزُّعَيْزِعَة» جلَّاد أمير المؤمنين، يُلقيه من سيفه رمي الغصن بالثمرة قد ثقلت
عليه.
وأنت يا «سعيد» فقيه أهل المدينة وعالمها وزاهدها، وقد عَلِم أمير المؤمنين أن عبد
الله
بن عمر قال فيك لأصحابه: «لو رأى هذا رسول الله
ﷺ لسَرَّه.» فإن لم تَكْرُمْ عليك
نفسُك فَلْيَكْرُمْ على نفسك المسلمون؛ إنك إن هلكتَ رجع الفقه في جميع الأمصار إلى
الموالي؛ ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوُس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه
البصرة
الحسن، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني،
وإنما يتحدث الناس أن المدينة من دون الأمصار قد حرسها الله بفقيهها القرشي العربي «أبي
محمد بن المسيَّب» كرامةً لرسول الله
ﷺ. وقد علم أهل الأرض أنك حججت نيِّفًا وثلاثين
حجَّة، وما فاتتك التكبيرة الأولى في المسجد منذ أربعين سنة، وما قمتَ إلا في موضعك من
الصف
الأول، فلم تنظر قط إلى قفا رجلٍ في الصلاة؛ ولا وَجَد الشيطان ما يعرض لك من قِبَله
في
صلاتك ولا قفا رجل. فاللهَ اللهَ يا أبا محمد، إني — والله — ما أغشُّك في النصيحة؛ ولا
أخدعك عن الرأي، ولا أنظر لك إلا خير ما أنظر لنفسي؛ وإن عبد الملك بن مروان مَنْ علمتَ؛
رجلٌ قد عمَّ الناسَ ترغيبُه وترهيبُه، فهو آخذك على ما تكره إن لم تأخذه أنت على ما
يحب؛
وإنه — والله — يا أبا محمد، ما طلب إليك أمير المؤمنين إلا وأنت عنده الأعلى، ولا بعثني
إليك إلا وكأنه يسعى بين يديك؛ رعايةً لمنزلتك عنده، وإكبارًا لحقِّك عليه؛ وما أرسلني
أخطب
إليك ابنتك لولي عهده إلا وهو يبتذل نفسه ابتذالًا ليصل بك رحمه، ويوثِّق آصرته؛
٢ وإن يكن الله قد أغناك أن تنتفع به وبمُلكه وَرَعًا وزهادة، فما أحوجَ أهلَ
مدينة رسول الله
ﷺ أن ينتفعوا بك عنده، وأن يكونوا أصهار «الوليد» فيستدفعوا شرًّا
ما به عنهم غنًى، ويجتلبوا خيرًا ما بهم غنى عنه. ولستَ تدري ما يكون من مصادر الأمور
ومواردها، وإنك — والله — إن لججتَ
٣ في عنادك وأصررتَ أن تردَّني إليه خائبًا، لتُهَيِّجَنَّ قَرَم
٤ سيوف الشام إلى هذه اللحوم، ولحمُكَ يومئذٍ من أطيبها، ولأمير المؤمنين تارتان:
لينٌ وشدة؛ وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية …
•••
وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأنَّ الكلام لا يخلص إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط
معانيه
في الأرض؛ هيبةً منه وفرقًا
٥ من إقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظن عند نفسه أنه ساغ
٦ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامئ، واشتد في وعيده حتى ما يشكُّ أنه
قد سقاه ماءً حميمًا فقطَّع أمعاءه؛ والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو
تحوَّل
الناس جميعًا كَنَّاسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت
السماء ضاحكة صافية تتلألأ.
وقلَّبَ الرسولُ نظرَه في وجه الشيخ، فإذا هو هو ليس فيه معنى رغبة ولا رهبة، كأن
لم يجعل
له الأرض ذهبًا تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجو سيوفًا على رأسه في الحالة الأخرى؛
وأيقن
أنه من الشيخ العظيم كالصبي الغِرِّ
٧ قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمع فيه، فجاء من تحتها يناديه: أن انزل إليَّ
حتى آخذك وألعب بك …
وبعد قليل تكلَّم أبو محمد فقال: يا هذا، أمَّا أنا فقد سمعتُ، وأما أنتَ فقد رأيتَ،
وقد رُوينا أنَّ هذه الدنيا
لا تعدِل
٨ عند الله جناحَ بعوضة، فانظر ما جئتني أنت الراوي: فكان فيما قاله الشيخبه، وقِسْهُ
إلى هذه الدنيا
كلها، فكم — رحمك الله — تكون قد قسمتَ لي من جناح البعوضة …؟ ولقد دُعيتُ من قبلُ
إلى نيِّف وثلاثين ألفًا لآخذها، فقلتُ: لا حاجة لي فيها ولا في بني مَرْوَان، حتى
ألقى اللهَ فيحكم بيني وبينهم، وها أنا ذا اليوم أُدعى إلى أضعافها وإلى المزيد
معها؛ أفأقبض يدي عن جمرةٍ ثم أمدُّها لأملأها جمرًا؟! لا — والله — ما رَغِبَ عبد
الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجلٌ من سياسته إلصاق الحاجة بالناس؛ ليجعلها مَقَادة
لهم فيصرفهم بها، وقد أعجزه أن أبايعه؛ لأن رسول الله
ﷺ نهى عن بيعتين، وما
عبد الملك عندنا إلا باطل كابن الزبير، ولا ابن الزبير إلا باطل كعبد الملك، فانظر
فإنك ما جئت لابنتي وابنه، ولكن جئت تخطبني أنا لبيعته …
قال الرسول: أيها الشيخ، دع عنك البيعة وحديثها، ولكن من عسى أن تجد لكريمتك خيرًا
من هذا
الذي ساقه الله إليك؟ إنك لراعٍ وإنها لرعية وستُسأل عنها، وما كان الظن بك أن تسيء رِعْيَتَها
٩ وتبخس
١٠ حقها، وأن تعضلها وقد خطبها فارسُ بني مروان، وإن لم يكن فارسهم فهو وليُّ عهد
المسلمين؛ وإن لم يكن هذا ولا ذاك فهو الوليد بن أمير المؤمنين؛ وأدنى الثلاث أرفع الشرف؛
فكيف بهنَّ جميعًا، وهن جميعًا في الوليد؟!
قال الشيخ: أما إني مسئول عن ابنتي، فما رغبتُ
١١ عن صاحبك إلا لأني مسئولٌ عن ابنتي، وقد علمتَ أنت أن الله يسألني عنها في يومٍ
لعل أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين وألفافهما
١٢ لا يكونون فيه إلا وراءَ عبيدها وأوباشها ودُعَّارها وفجَّارها،
١٣ يخرجون من حساب الفجرة إلى حساب القتلة، ومن حساب هؤلاء إلى الحساب على السرقة
والغصب، إلى حساب أهل البغي، إلى حساب التفريط في حقوق المسلمين. ويخفُّ يومئذٍ عبيدُها
وأوباشها ودعَّارها وفجَّارها في زحام الحشر، ويمشي أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين
ومن
اتصل بهما، وعليهم أمثالُ الجبال من أثقال الذنوب وحقوق العباد.
فهذا ما نظرتُ في حسن الرعاية لابنتي، لو لم أضنَّ
١٤ بها على أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين لأَوْبَقتُ،
١٥ لا — والله — ما بيني وبينكم عمل، وقد فرغتُ مما على الأرض، فلا يمر السيف مني
في لحمٍ حي.
•••
ولما كان غداةُ غدٍ جلس الشيخ في حلقته في مسجد رسول الله
ﷺ للحديث والتأويل، فسأل
رجلٌ من عُرْضِ المجلس، فقال: يا أبا محمد، إن رجلًا يلاحيني
١٦ في صَداق بنته ويكلِّفني ما لا أُطيق. فما أكثر ما بلغ إليه صداق أزواج رسول
الله
ﷺ وصداق بناته؟
قال الشيخ: رَوَينا أن عمر — رضي الله عنه — كان ينهى عن المغالاة في الصداق، ويقول:
«ما
تزوَّج رسول الله ﷺ ولا زوَّج بناته بأكثرَ من أربعمائة درهم.» ولو كانت المغالاة
بمهور النساء مَكْرُمَةً لسبق إليها رسول الله ﷺ.
ورَوَينا عنه ﷺ أنه قال: «خير النساء أحسنهن وجوهًا، وأرخصهنَّ مهورًا.»
فصاح السائل: يرحمك الله يا أبا محمد، كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر،
وحُسنُها هو يُغليها على الناس؛ تكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟!
قال الشيخ: انظر كيف قلتَ، أهم يساومون
١٧ في بهيمة لا تعقل، وليس لها من أمرها شيء إلا أنها بضاعة من مطامع صاحبها
يُغليها على مطامع الناس؟ إنما أراد رسول الله
ﷺ أن خير النساء مَن كانت على جمال
وجهها، في أخلاقٍ كجمال وجهها، وكان عقلُها جمالًا ثالثًا؛ فهذه إن أصابت الرجل الكفء،
يَسَّرَتْ عليه، ثم يسَّرت، ثم يسَّرت؛ إذ تعتبر نفسها إنسانًا يريد إنسانًا، لا متاعًا
يطلب شاريًا، وهذه لا يكون رُخْصُ القيمة في مهرها إلا دليلًا على ارتفاع القيمة في عقلها
ودينها. أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفةَ الثمنِ لحسنها؛ أي لحمقها! وهي بهذا المعنى
من شرار النساء، وليست من خيارهن.
ولقد تزوَّج رسول الله
ﷺ بعضَ نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت، وكان الأثاث: رحى
يد، وجرَّة ماء، ووسادة من أدمٍ حشوها ليف، وأولم على بعض نسائه بمُدَّين من شعير، وعلى
أخرى بمدَّين من تمر ومدَّين من سَوِيق.
١٨ وما كان به
ﷺ الفقر، ولكنه يشرِّع بسنَّته ليُعلِّم الناس من عمله أن
المرأة للرجل نفسٌ لنفس، لا متاعٌ لشاريه؛ والمتاع يقوَّم بما بُذِلَ فيه إن غاليًا وإن
رخيصًا، ولكن الرجل يُقَوَّمُ عند المرأة بما يكون منه؛ فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه
قبل أن تُحمَل إلى داره، ولكنه الذي تجده منه بعد أن تُحمَل إلى داره؛ مهرها معاملتها،
تأخذ
منه يومًا فيومًا، فلا تزال بذلك عروسًا على نفس رجُلها ما دامت في معاشرته. أما ذلك
الصداق
من الذهب والفضة، فهو صداق العروس الداخلة على الجسم لا على النفس؛ أفلا تراه كالجسم
يهلك
ويبلى؟ أفلا ترى هذه الغالية — إن لم تجد النفس في رَجُلها — قد تكون عروسَ اليوم ومطلقةَ
الغد؟!
وما الصداق في قليله وكثيره، إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء، ولكن الرجل
قبْلُ. إنَّ كلَّ امرئ يستطيع أن يحمل سيفًا، والسيف إيماءٌ إلى القوة، غير أنه ليس كل
ذوي
السيوف سواء، وقد يحمل الجبانُ في كل يدٍ سيفًا، ويملك في داره مائة سيف، فهو إيماء،
ولكن
البطلَ قبْلُ، ولكن البطل قبْلُ.
مائة سيفٍ يَمْهَرُ بها الجبانُ قوَّته الخائبة، لا تُغني قوَّته شيئًا، ولكنها كالتدليس
١٩ على مَن كان جبانًا مثله. ويوشك أن يكون المهر الغالي كالتدليس على الناس وعلى
المرأة؛ كي لا تعلم ولا يعلم الناسُ أنه ثمن خيبتها؛ فلو عقلت المرأة لباهت النساء بيسر
مهرها، فإنها بذلك تكون قد تركت عقلها يعمل عمله، وكفَّت حماقتها أن تُفسد عليه.
فصاح رجل في المجلس: أيها الشيخ، أفي هذا من دليل أو أثر؟
قال الشيخ: نعم؛ أما من كتاب الله فقد قال الله — تعالى:
خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا،
٢٠ فهي زَوْجُهُ حين تجده هو لا حين تجدُ مالَه، وهي زوجه حين تتمِّمه لا حين
تُنقصه، وحين تلائمه لا حين تختلف عليه. فمصلحة المرأة زوجةً ما يجعلها من زوجها، فيكونان
معًا كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه؛ يريد من جسمه الحياةَ لا غيرَها.
وأما من كلام رسول الله ﷺ فقد رُوينا: «إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه؛
إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير.»
فقد اشترط الدينَ على أن يكون مَرْضِيًّا لا أيَّ الدينِ كان؛ ثم اشترط الأمانة،
وهي مظهر
الدين كله بجميع حسناته، وأيسرها أن يكون الرجل للمرأة أمينًا، وعلى حقوقها أمينًا، وفي
معاملتها أمينًا؛ فلا يبخسُها
٢١ ولا يُعْنتها،
٢٢ ولا يسيء إليها؛ لأن كل ذلك ثَلْمٌ
٢٣ في أمانته؛ فإن ردَّتِ المرأة مَن هذه حالُهُ وصفتُهُ من أجل المهر، تقدَّم
إليها بالمهر من ليست هذه حاله وصفته، فوقعت الفتنة، وفسدت المرأة بالرجل، وفسد هو بها،
وفسد النسل بهما جميعًا، وأُهْمِلَ مَنْ لا يملك، وتعنَّسَتْ من لا تجد، ويرجع المهر
الذي
هو سبب الزواج سببًا في منعه، ويتقارب النساء والرجال على رغم المهر والدين والأمانة؛
فيقع
معنى الزواج، ويبقى المعطَّلُ منه هو اللفظ والشرع.
هل علمتِ المرأةُ أنها لا تدخل بيت رجلها إلا لتجاهد فيه جهادَها، وتبلو فيه بلاءها؟
وهل
يقوم مال الدنيا بحقها فيما تعمل وما تجاهد، وهي أم الحياة ومُنْشِئَتُها وحافظتُها؟
فأين
يكون موضع المال ومكان التفرقة في كثيره وقليله، والمال كله دون حقها؟
ولن يتفاوت
٢٤ الناس بالمال تختلف درجاتهم به، وتكون مراتبهم على مقداره، تكثُر به مرة وتقلُّ
مرة، إلا إذا فسد الزمان، وبطلت قضية العقل، وتعطَّل مُوجِب الشرع، وأصبحت السجايا
٢٥ تتحول، يملكها من يملك المال، ويخسرها من يخسره؛ فيكون الدين على النفوس
كالدخيل المزاحم لموضعه، والمتدلي في غير حقه؛ وبهذا يرجع باطلُ الغَنِي دِينًا يتعامل
الناس عليه، ودينُ الفقير بهرجًا
٢٦ لا يروج
٢٧ عند أحد. وليس هذا من ديننا؛ دين النفس والخلق، وإن ألف بعير يقنوها
٢٨ الرجل خالصةً عليه، ثابتةً له، لا تزيد في منزلة دينه قدر نملة ولا ما دونها.
والحجران: الذهب والفضة، قد يكون شعاعهما في هذه الدنيا أضوأ من شمسها وقمرها، ولكنهما
في
نور النفس المؤمنة كحَصَاتَيْن يأخذهما من تحت قدميه، ويذهب يزعم لك أنهما في قدر الشمس
والقمر.
وهلاكُ الناسِ إنما يُقْضَى بمحاولتهم أن يكونوا أناسًا بعيوبهم وذنوبهم؛ فهذا هو
الإنسان
المدْبِر عن الله وعن نفسه وعن جنسه، لا يكون أبوه أبًا في عطفه، ولا أمُّه أمًّا في
محبَّتها، ولا ابنه ابنًا في برِّه، ولا زوجته زوجة في وفائها؛ وإنما يكونون له مهالك،
كما
رُوينا عن رسول الله ﷺ: «يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه
وولده؛ يعيِّرونه بالفقر، ويكلِّفونه ما لا يُطيق؛ فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينُه
فيهلك.»
•••
وصاح المؤذن، فقطع الشيخ مجلسه وقام إلى الصلاة، ثم خرج إلى داره، فتلقَّته ابنته وعلى
وجهها مثل نوره، قالت: يا أبتِ كنتُ أتلو الساعةَ قولَه تعالى:
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً،
٢٩ فما حسنة الدنيا؟ قال: يا بُنيَّة، هي التي تَصلُح أن تُذْكَرَ مع حسنة الآخرة،
وما أراها للرجل إلا الزوجة الصالحة، ولا للمرأة …
وطُرِق الباب، فذهب الشيخ يفتح، فإذا الطارقُ «عبد الله بن أبي وداعة»؛ وكان يجالسه
ويأخذ
عنه ويلزم حلقته، ولكنه فقده أيامًا؛ فدخل فجلس. قال الشيخ: «أين كنت؟»
قال: «تُوفِّيتْ أهلي فاشتغلتُ بها.»
قال الشيخ: «هلَّا أخبرتنا فشهدناها.» ثم أخذ يُفيض في الكلام عن الدنيا والآخرة؛
وشعر
ابن أبي وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم، فقال «سعيد»:
«هل استحدثْتَ
٣٠ امرأةً غيرها؟»
قال: «يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو
ثلاثة؟»
قال الشيخ: «أنا …»
أنا، أنا، أنا … دوَّى الجوُّ بهذه الكلمة في أُذُن طالبِ العلمِ الفقيرِ، فَحَسِبَ
كأن
الملائكة تُنْشِدُ نشيدًا في تسبيح الله يَطِنُّ لحنُه: «أنا، أنا، أنا …»
وخرجتِ الكلمة من فم الشيخ ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمةٌ زوَّجتْهُ
إحدى الحور العين.
فلما أفاقَ من غَشيَةِ أُذنِهِ … قال: «وتفعل؟!»
قال «سعيد»: «نعم.» وفسَّر «نعم» بأحسن تفسيرها وأبلغه؛ فقال: «قم فادعُ لي نفرًا
من
الأنصار.» فلمَّا جاءوا حمد الله وصلى على النبي ﷺ وزوَّجه على ثلاثة دراهم (خمسة
عشر قرشًا).
ثلاثةُ دراهم مهرُ الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهبًا
لو
شاءت.
وغشَّى
٣١ الفرح هذه المرة عينَي الرجل وأُذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يَطنُّ لحنه:
«أنا، أنا، أنا …»
ولم يشعر أنه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحِهِ ما يصنع، وكأنه في يومٍ جاءه
من
غير هذه الدنيا يتعرَّف إليها بهذا الصوت الذي لا يزال يَطنُّ في أُذنيه: «أنا، أنا،
أنا
…»
وصار إلى منزله وجعل يفكر: ممن يأخذ؟ ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاءً من الإنسان،
وليس
فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في أذنيه: «أنا، أنا، أنا …»
وصلَّى المغرب وكان صائمًا، ثم قام فأسرج،
٣٢ فإذا سراجُهُ الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوعَ القمر، وكأن في نوره وجه عروس
تقول له: «أنا، أنا، أنا …»
وقَدَّمَ عشاءه ليُفطر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا الباب يُقرَع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق:
سعيد …
سعيد؟ سعيد! مَنْ سعيد؟ أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن؟ فكَّر الرجل في كل مَن
اسمه
سعيدٌ إلا سعيدَ بن المسيب؛ إلا الذي قال له: «أنا …»
لم يخالجْهُ
٣٣ أن يكون هو الطارق؛ فإن هذا الإمام لم يَطرق باب أحدٍ قطُّ، ولم يُرَ منذ
أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.
ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينُهُ حتى رجع القبرُ فهبط فجأةً
بظلامه
وأمواته في قلب المسكين، وظنَّ أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر،
ويتعذَّر إصلاح الغلطة! فقال: «يا أبا محمد، لو … لو … لو أرسلتَ إليَّ
لَأَتَيْتُكَ!»
قال الشيخ: «لأنت أحق أن تُؤتَى.»
فما صكَّتِ الكلمةُ
٣٤ سمعَ المسكين حتى أَبْلَسَ
٣٥ الوجود في نظره، وغَشِيَ
٣٦ الدنيا صمتٌ كصمتِ الموت، وأحسَّ كأن القبر يتمدَّد في قلبه بعروق الأرض كلها!
ثم فاءَ لنفسه، وقدَّر أن ليس محلُّ شيخه إلا أن يأمُرَ، وليس محلُّه هو إلا أن يُطيع،
وأنَّ من الرجولة ألا يكون معرَّة على الرجولة، ثم نكَس وتنكَّس وقال بِذِلَّةٍ ومسكنةٍ:
«ما تأمرني؟»
تفتَّحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ: «إنكَ كنتَ رجلًا عزبًا فتزوَّجتَ، فكرهتُ
أن
تبيتَ الليلة وحدَك؛ وهذه امرأتُك!»
وانحرف شيئًا، فإذا العروسُ قائمةٌ خلفَهُ مستترةٌ به، ودفعها إلى الباب وسلَّم
وانصرف.
وانبعث الوجود فجأة، وطنَّ لحن الملائكة في أذن أبي وداعة: «أنا، أنا، أنا …»
•••
دَخَلَتِ العروسُ البابَ وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه،
ثم خطا
إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ وأغمض السراجُ
عينَه
ونشر الظل …
ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحُصيَّات؛ ليعلموا أن له شأنًا اعتراه، وأن قد وجب
حقُّ
الجار على الجار (وكانت هذه الحُصَيَّاتُ يومئذٍ كأجراس التليفون اليوم) فجاءوه على سطوحهم
وقالوا: «ما شأنك؟»
قال: «ويحكم! زوَّجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم؛ وقد جاء بها الليلة على غفلة.»
قالوا: «وسعيدٌ زَوَّجَكَ؟! أهو سعيدٌ الذي زوَّجك؟! أزوَّجك سعيدٌ؟!»
قال: «نعم.»
قالوا: «وهي في الدار؟! أتقول: إنها في الدار؟!»
قال: «نعم.»
فانثال النساء عليه من هنا وها هنا حتى امتلأت بهنَّ الدار، وغشيت الرجلَ غشيةٌ أخرى،
فحسب داره تتيه على قصر عبد الملك بن مروان، وكأنما يسمعها تقول: «أنا، أنا، أنا …»
•••
قال عبد الله بن أبي وداعة: «ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله
—
تعالى — وأعلمهم بسنة رسول الله ﷺ وأعرفهم بحق الزوج. لقد كانت المسألةُ المعضلةُ
تُعيي الفقهاءَ فأسألُها عنها فأجد عندَها منها علمًا.»
قال: ومكثت شهرًا لا يأتيني سعيدٌ ولا آتيه، فلما كان بعدُ الشهر أتيته وهو في حلقته
فسلَّمت، فردَّ عليَّ السلام، ولم يكلِّمني حتى تفرَّق الناس من المجلس وخلا وجهه، فنظر
إليَّ وقال: «ما حال ذلك الإنسان …؟»
•••
أما ذلك «الإنسان» فلم يعرف مِن الفرق بين قصر ولي العهد ابن أمير المؤمنين، وبين
حجرة
ابن أبي وداعة التي تُسَمَّى دارًا …! إلا أن هناك مضاعفةَ الهم، وهنا مضاعفةَ
الحبِّ.
وما بين «هناك» إلى القبر مدة الحياة، ستخفِتُ الروح من نور بعد نور، إلى أن تنطفئ
في
السماء من فضائلها.
وما بين «هنا» إلى القبر مدة الحياة، تسطع الروحُ بنور على نور، إلى أن تشتعل في السماء
بفضائلها.
وما عند أمير المؤمنين لا يبقى، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
•••
ولم يزَلْ عبدُ الملكِ يحتال «لسعيد» وَيَرْصُدُ غَوائلَهُ
٣٧ حتى وقعت به المحنة، فضربه عامله على المدينة خمسين سوطًا في يوم بارد، وصبَّ
عليه جرَّة ماء، وعرَضَهُ على السيف، وطاف به الأسواق عاريًا في تُبَّان
٣٨ من الشَّعر، ومنع الناس أن يجالسوه أو يخاطبوه. وبهذه الوقاحة، وبهذه الرذيلة،
وبهذه المخزاة، قال عبدُ الملكِ بنُ مروان: «أنا …؟»