ذيلُ القصَّة وفلسفةُ المال
ذهب الناس يمينًا وشمالًا فيما كتبناه من خبر الإمام سعيد بن المسيب وتزويجه ابنته من طالب علم فقير، بعد إذ ضنَّ بها أن تكون زوجًا لولي عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ وقد جعلتْ قلوبُ بعض النساء العصريات المتعلمات تصيحُ وتُوَلْوِلُ … وحدَّثَنا أديبٌ ظريف أن إحداهن سألت عن عنوان عبد الملك بن مروان …!
أَفَتُراها ستكتب إليه أنها تقبل الزواج من ولي عهده؟
على أن للقصة ذيلًا؛ فإن الطبيعة الآدمية لا عصر لها، بل هي طبيعة كل عصر، والفضيلة الإنسانية يبدأ تاريخها من الجنة، فهي هي لا تتجدد ولا تزال تلوح وتختفي، أما الرذيلة فأول تاريخها من الطبيعة نفسها، فهي هي لا تتغير ولا تزال تظهر وتَسْتَسِرُّ.
•••
وانتهى كلام الناس إلى الإمام العظيم، فلم يَجِئْهُ إلا من الظن خفيًّا خفيًّا، كأنما هي أقوالٌ حسبها تُقال عنه بعد خمسين وثلاثمائة وألف سنة (في زمننا هذا) حين يكون هو في معاني السماء، ويكون القائلون في معاني التراب النجس الذي نَفَضَتْهُ على الشرقِ نِعالُ الأوروبيين …
قال الراوي: فكان فيما قاله الشيخ: إذا هُدي المرءُ سبيلَه كانت السبلُ الأخرى في الحياة إما عِداءً له، وإما معارضةً، وإما ردًّا، فهو منها في الأذى، أو في معنى الأذى، أو عُرْضَةٌ للأذى. لقد وجد الطريقَ ولكنه أصاب العقبات أيضًا، وهذه حالة لا يمضي فيها الموَفَّقُ إلى غايته، إلا إذا أعانه الله بطبيعتين: أولاهما العزم الثابت، وهذا هو التوكل على الله؛ والأخرى اليقينُ المستبصِر، وهذا هو الصبر على الأذى.
ومن ثم لا تكون الحياة لهذا المؤمن مهما تقلبت واختلفت، إلا نفاذًا من طريق واحدة دون التخبُّط في الطرق الأخرى، ثم لا يكون العمر مهما طال إلا مدة صبرٍ في رأي المؤمن.
•••
قال: لا.
قال الشيخ: فإذا سمعتَ بأذنك وحدها فإنما سمعتَ كلامًا يمر بأذنك مرًّا، وإذا أردتَ الكلام لنفسك سمعتَ بأذنك ونفسك معًا؟
قال: نعم.
قال الشيخ: فكلُّ ما لا تنفرد به حاسة واحدة، بل تشارك فيه الحواس كلها أو أكثرها، لا يكون إلا موضع اهتمام للنفس؟
قال: نعم.
قال الشيخ: فمِن هنا يكثر الفرح والحزن كلاهما إذا شاركتْ فيهما الحواس، فيأتي كلٌّ منها كثيرًا مهما قل، وتزيد كل حاسة في اللذة لذةً، وفي الألم ألمًا، فتعمل النفس في ذلك أعمالًا تسحر بها، فيكون الشيء لصاحبه غير ما هو للناس، كالصوت الباكي أو الضاحك في لسان طفلك، تسمعه أنت منه بكل حواسك، فإذا أنت سمعتَ الصوت عينَه من لسان رجل في الناس رأيته غير ذاك؛ أكذلك هو؟
قال: نعم.
قال الشيخ: أفيكون السرور بالغًا عجيبًا أكثرَ ما هو بالغ، حين يجدُ المالَ والغنى في الإنسان، أم حين يجد القوة النفسية وطبيعةَ المرحِ والرضا؟
قال: بل حين يجد في النفس …
قال الشيخ: أرأيتَ الإنسان يكون سعيدًا بما يتوهَّم الناس أنه به غني سعيد، أم بشعوره هو، وإن كان بعدُ فيما لا يتوهم الناس فيه الغنى والسعادة؟
قال: بل بشعوره.
قال الشيخ: أفلا توجد في الدنيا أشياء من النفس تكون فوق الدنيا وفوق الشهوات والمطامع؛ كالطفل عند أمه، كلُّ ما تعلَّق به من شيء وُزن به هو لا بغيره، وكان الاعتبار عليه لا على سواه. أتعرف أمًّا ترضى أن يُذبح ابنها في حِجرها؛ لِقاء أن يُملأ حجرُها ذهبًا وإن كانت فقيرة معدمة؟
قال: لا.
قال الشيخ: فإذا كانت النفس تشعر أكثر مما ترى؛ أفيذهب ما تراه فيما تشعر به، ويكون شعورها هو وحده الذي يلبس ما حولَها ويصوِّرُه ويُصرِّفه؟
قال: نعم.
قال الشيخ: أفتعرف أن لكلِّ نفس قوية من هذا العالم الذي نعيش فيه عالَمًا آخر هو عالم أفكارها، وإحساسها، وفيه وحده لذات إحساسها وأفكارها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: أفرأيتَ المرأة إذا صحَّ حبها أو فرحها أو عزمها، أرأيتَها تكون إلا في عالم أفكارها؟ أرأيتَ كلَّ ما يتصل برغبتها حينئذٍ يكون إلا من أشياء قلبها لا من أشياء الدنيا؟ أرأيتَها لا تعيش في هذه الحالة إلا بالمعاملة مع قلبها الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يجمع المال ولا يريد إلا الشعور فقط؟
قال: نعم، هو ذاك.
قال الشيخ: أرأيتَ إذا كان الإيمان قد وُلد ونشأ وترعرع في قلب المرأة، ألا يكون هو طفل قلبها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: أرأيتَ إذا كانت الخمر عند مُدمنها شيئًا عظيمًا، وكانت ضرورةً من ضرورات وجوده الضعيف المختلِّ، فلا يستقيم وجوده ولا سَفَهُ وجوده إلا بها؛ أفيلزمُ من ذلك أن تكون الخمر من ضرورات صاحب الوجود القوي المنتظم؟
قال: لا.
قال الشيخ: أفمُوقنٌ أنتَ لا بدَّ من آخِرٍ لأيام الإنسان ولياليه في هذه الدنيا، فينقطع به العيش؟
قال: نعم.
قال الشيخ: أَفَيؤرَّخُ الإنسان يومئذٍ بتاريخ معدته وما حولَها، أم بتاريخ نفسه وما فيها؟
قال: بل بتاريخ نفسه.
قال: بل الحياة عندئذٍ وهْمٌ وباطلٌ.
قال الشيخ: فَتَفِرُّ في تلك الساعة إلى الحياة ولذَّاتها في خيالك، أم تفرُّ منها ومن لذاتها؟
قال: بل الفرار منها، فإن خيالها يكون خَبَالًا.
قال: بل أستشعر اللذة.
قال الشيخ: إذن فهي كبرياء الروح العظيمة على مادة التراب والطين في أي أشكالها؛ ولو في الذهب.
قال: هي تلك.
قال الشيخ: إذن فبعض أشياء النفس تمحو في بعض الأحوال كل أشياء الدنيا، أو الأشياء الكثيرة من الدنيا؟
قال: نعم.
قال الإمام: يرحمك الله؛ كذلك مُحِيَ عندنا أميرُ المؤمنين وابنُ أمير المؤمنين، ومُحي المال والغنى، ولم يكن ذلك عندنا إلا سعادة؛ ومن رحمة الله أنَّ كلَّ مَن هُدي سبيلَه بالدين أو الحكمة، استطاع أن يصنع بنفسه لنفسه سعادتها في الدنيا، ولو لم يكن له إلا لُقيمات؛ فإن السَّعَةَ سَعَةُ الخُلُقِ لا المال، وإن الفقر فقرُ الخُلُق لا العيش.
•••
ثم قال الإمام: وأنا فقد دخلتُ على أزواج رسول الله ﷺ ورأيتهنَّ في دُورهنَّ يُقاسينَ الحياة، ويعانين من الرزق ما شحِّ دَرُّه فلا يجيء إلا كالقطرة بعد القطرة، وهنَّ على ذلك، ما واحدةٌ منهنَّ إلا هي ملكةٌ من ملكات الآدمية كلها، وما فقرهنَّ إلا كبرياء الجنة نظرتْ إلى الأرض فقالت: لا …!
يجاهدْنَ مجاهدةَ كلِّ شريف عظيم النفس، همُّهُ أن يكون الشرف أو لا يكون شيء؛ ويرى الغافل أن مِثْلَهُنَّ هالكاتٌ في تعب الجهاد، ويعلمنَ من أنفسهنَّ غير ما يري ذلك المسكين؛ يعلمنَ أن ذلك التعبَ هو لذةُ النصر بعينها.
كانت أنوثتُهُنَّ أبدًا صاعدة متسامية فوق موضعها بهذه القناعة وبهذه التقوى؛ ولا تزال متسامية صاعدة، على حين تنزل المطامع بأنوثة المرأة دون موضعها، ولا تزال أنوثتها تنحدر ما بقيت المرأة تطمع. ورُبَّ ملكةٍ جعلتْها مطامعُ الحياة في الدَّرك الأسفل، وهي باسمها في الوهم الأعلى …!
ونفسُ الأنثى ليست أنثى، ولكن شغلها بذلك التبرج وذلك الحرص وذلك الطمع، هو يخصِّصها بخصائص الجسد، ويعطيها من حُكمه، وينزلها على إرادته؛ وهذه هي المزلَّة، فتهبط المرأة أكثر مما تعلو، وتضعف أكثر مما تقوى، وتفسد أكثر مما تصلح. إن نفسَ الأنثى لرجل واحد؛ لزوجها وحدَه.
أفٍّ أفٍّ! أتريدون أن أزوِّج ابنتي من ابن أمير المؤمنين فيُخزيها الله على يديَّ، وأدفعها إلى القصر وهو ذلك المكان الذي جمع كلَّ أقذارِ النفس ودَنَس الأيام والليالي؟! أَأُزوجها رجلًا تعرف من فضيلة نفسها سقوطَ نفسه، فتكون زوجة جسمه ومطلَّقة روحه في وقت معًا؟!
ألا كم من قصرٍ هو في معناه مقبرةٌ، ليس فيها من هؤلاء الأغنياء؛ رجالهم ونسائهم، إلا جِيَفٌ يُبلي بعضُها بعضًا!
•••
وتناولها الإمام في يده وهي في رجفتها من زلزلة الهواء، وكانت كالعروس مُسَرْوَلة قد غابت ساقاها في الريش، وعلى جسمها من الألوان نمنمة وتحبير، ولها روح العروس الشابة يُهدونها إلى من تكره، ويزفُّونها على قاتلها الذي يسمَّى زوجها.
وأدناها الشيخ من قلبه، ومسح عليها بيده، ونظر في الهواء نظرة … وهو يقول: نجوتِ نجوتِ يا مسكينة!